يحيى حقي (17 يناير 1905م - 9 ديسمبر 1992م)
أحد أهم عناصر التأسيس في القصة القصيرة، حتي لو كتب ما اعتبره البعض (رواية) كالبوسطجي، رغم أننا اعتبرناها بتقنية القصة القصيرة الحديثة، بكل معني الحداثة[1]. فضلا عن نشأته في حي السيدة زينب، ودخوله الكُتاب فيها. ثم إلتحاقه سنة 1912 بمدرسة "والدة عباس باشا الأول" الابتدائية بحي "الصليبية" بالقاهرة، في مدرسة مجانية للفقراء والعامة، ليقضى فيها خمس سنوات غاية في التعاسة. إلا أن والدته التي جاهدت معه فى عام 1917 ليحصل على الشهادة الابتدائية. هذه النشأة التي ساهمت كثيرا في تكوين فكره ورؤيته للحياة عامة، وفي بلاده خاصة، وهو ما انعكس علي رؤيته الواضحة في كتاب "تراب الميري"[2]، والذي تحدث فيها عن مشاكل المجتمع المصري، الوظيفية خاصة، والذي يمكن قراءته الآن، وكأنه يتحدث عن واقعنا الآني، رغم مرور كل هذه السنوات.
فنقرأ فيه مثلا عن مشكلة العمالة، التي ضاعفت منها رؤية يوليو 1952، سعيا وراء الكسب الشعبي السريع، دون مراعاة أثر ذلك علي الجانب الاقتصادي العلمي، وما أدي للعديد من المشاكل، التي أصبحت مزمنة. ففي معرض حديثه عن الأوضاع الوظيفية في مصر بعد تصريح 28 فبراير 1922 عن تعويضات الموظفين الأجانب وإحلال المصريين محلهم، حيث لم يختلف الأمر كثيرا، فأصبح الموظف المصري يتقاضي تلك المرتبات العالية التي كان يتقاضاها الأجنبي{تعاقب الأحزاب علي الحكم وحشدهم لأنصارهم في وظائف الحكومة، واصيبت مصر في ذلك العهد بعدد من النوابغ التي تفتقت أذهانهم عن درر لم تكن إلا بمثابة قنابل زمنية وضعوها تحت شباك الحكومة، مثل فكرة تسعير الشهادات لا الوظائف فرأينا من يشتغل تايبست ويقبض مرتب دكتور في الآداب، وفكرة من هم في الذكر ومن هم في النسيان.... وانتفاع المواطنين بأمومة الدولة لهم، فزاد ابتعاد نظام الوظائف عن الصورة التي ينبغي أن تكون له ليصبح جهازا كفؤا قادرا علي خدمة الوطن}.
كما انعكست تلك التنشئة علي إسلوبه فى القصة القصيرة، وما اختلف به عن سابقيه، وهو تواجده بشخصه داخل القصة، وكأنه أحد أفرادها، وهو ما عابه عليه د سيد حامد النساج بقوله: {وهو هكذا فى كل قصصه لايغفل ذاته، فهي حاضرة حضورا أبديا، ومعظم بدايات قصصه تأثيرية ذاتية علي عكس المرحلة السابقة تماما التى كانت "الموضوعية" من أوضح معالمها... ولئن كان الكاتب فى مرحلته الأولي قد جعل الموضوع الخارجى فى المرتبة الأولى ولم يوفق فى تقديم هذا "الموضوع" تقديما فنيا، فإنه رفع من شأن "ذاته" وأخفق – فنيا – فى مزج الواقع الداخلى النفسى له بالواقع المادي الخارجى. حتى غدا هو المحور الرئيسى فى القصة، يُحَدثُ القارئ ويُحادث الشخصية. يتحدث عن نفسه وعن الشخصية. يصف انطباعاته وعواطفه ومشاعره، ولا يتعمق أحاسيس الشخصية ومشاعرها، وهذا يدفع القارئ لقصصه إلى التساؤل بعد قراءتها ماذا يريد الكاتب أن يقول؟ ما الذى فكر فيه قبل كتابة القصة}[3]ص216.
والواقع أننا نختلف مع د سيد النساج فى تلك الرواية، حيث نستمد اختلافنا من مقدمة تلك المجموعة التي أشار إليها د. النساج والتي يقول فيها يحيى حقى:{هذه مجموعة قصص ترجع لعهود مختلفة من حياتى، يتضمن بعضها ذكريات الصبا والشباب، ظلت تسألني، وأنا أتشاغل عنه، أن أجمعها في كتاب، لنعيش معا من جديد كأفراد أسرة يجتمعون بعد تفرق تحت سقف واحد، لا فرق عندي بين صغيرها وكبيرها، جميلها ودميمها، فلست أنا، بل الناس – كدأبهم – هم الذين يحكمون. .. (توقيع: ى. يوليو 1955)}[4]. بمعنى أن الرجل قد أراد أن يُسقط حائط بيرانديللو الرابع. بتماهي المؤلف في عمله، ويسقط عملية الإيهام التي يقدمها الكُتّاب، وكأنهم بمعزل عن شخوصها، وهو ما يؤكده يحيى حقى ذاته في موضع آخر، أن كل قصة تحمل جزءا منى، لكن أحدها لا يتضمنها كاملة. وهو ما يُثبت ما نؤكد عليه دائما، من أن المبدع هو إنسان بالدرجة الأولى، يعيش كأحد أفراد مجتمعه.
وهو ما يفصح عنه – يحيى حقي- في سيرته الذاتية، وما يوضح فلسفته في كتابة القصة { لقد عالجت معظم فنون القول من قصة قصيرة و رواية و نقد و دراسة أدبية و سيرة أدبية و مقال أدبى ، و ترجمت عددًا من القصص و المسرحيات ولكن تظل القصة القصيرة هى هواي الأول، لأن الحديث فيها عندى يقوم على تجارب ذاتية، أو مشاهدة مباشرة، وعنصر الخيال فيها قليل جدَا، دوره يكاد يكون قاصرًا على ربط الأحداث و لا يتسرب إلى اللب أبدًا}.
ولهذا نِعُد ذلك هو إضافة يحيى حقى إلي القصة القصيرة، خاصة وأننا رأينا العديد من الكتاب المحدثين، قد استخدم تلك الوسيلة، في العديد من الروايات تحديدا- مشيرا إلي نفسه، أو إلى بعض أعماله السابقة، وفي الحالتين، هو موجود بذاته داخل العمل.
فإذا ما أخذنا ذات القصة التي أشار إليها د. النساج "أم العواجز" فسنجد أنه يبدأها كواحد من شخوص القصة، يتحدث بما يتحدث به أى إنسان فى مجتمعنا{سبحان الذى وسع ملكه الخلق كله، ولا إعتراض على حكمه}. وقد استخدم الكاتب هنا كلمة "كله" ولم يقل مثلا (الخلق جميعا). فالعامة الذين يتحدث عنهم، لا يقولونها (الخلق جميعا) وإنما ينطقونها بمثل ما كتبها الكاتب، وهو ما يعنى أن الكاتب ينقل (صورة) من ذلك الواقع، المقهور، والمستسلم أما بوابة (أم العواجز/ السيدة زينب). فهم إن كانوا لايعيشون الحياة، التي يجب أن يعيشها الإنسان، فإنهم طامعون في أن يلحقوا بالآخرة، وهو ما وصل إليه "إبراهيم أبى خليل في نهاية القصة، بعد طول معاناة وحرمان، والذى عاش كورقة شجرة {ترفعها الريح قليلا، ولكنها – حتى في ارتفاعها- تنطق بالهبوط المكتوب عليها}. فقد رافقه السارد/الكاتب، عن بُعد، فلا يعلم إن كان حضرى أم أنه ريفى { واعتقادى أنه من أولاد البلد). أي أنه أولا إنسان، وثانيا، أنه (من أولاد البلد) حيث لايعنى بها الكاتب تلك الصفة التي تطلق علي من نريد مدحه، وإنما سيرة حياته تشير إلى أنه واحد من هذه البلدة التي يعاني فيها الكثيرون، من أمثال النماذج التي عرضتها القصة، ولتكشف عن تلك الرؤية (السياسية) النابته من تهميش مثل هؤلاء، أو بمعني أصح تجاهل وجودهم من الأساس، فهم لا يعيشون، وإنما هم يعانون وينتظرون الراحة في عالم آخر.
ويعلم السارد أن "إبراهيم أبى خليل" كان يتيما، وبدأ في السعي للرزق، فعمل كبائع ترمس، ثم بائع قلل، ثم بائع إبر ومشابك غسيل، ثم جلس في أحد نواصي الميدان (أمام السيدة) بمشنة يبيع الفجل والجرجير والكرات. وحتي هذه لم يهنأ بها، حيث ظهرت من تحمل أولادها، بمن فيهم من ترضعه من ثديها الضامر، والذى ينبئ عنه طفلها الذي يبدو كالمسطول، وتبيع ذات بضاعته (الفجل والجرجير والكرات). غير أنه لم يشأ أن تقوم بينه وبينها معركة وجود، وكأنه إيمان بالقدرية، وبتحديد الرزق، ثم يبدأ التقارب معه، لتنفتح عليه، ويعلم أنها ليست مطلقة، وليست أرملة، ولكنها أيضا أشبه بغير المتزوجة، فزوجها يظهر أحيانا، ويختفي أغلب الأحيان، لنعلم أنه من الصعيد، وانه يحمل خرجه يدور به بين البلاد يبيع ما يحويه الخرج من أقمشة. وتبدأ الأحلام في زيارة صاحبنا، في أن يقيم علاقة أسرية بينه وبينها، يحلم بالطعام، ويحلم بالنوم، ويحلم بالصدر الإنسانى.
وفي الوقت الذى تدعوه فيه لزيارتها ليلا، كى تغسل له ملابسه، إذ بالزوج يظهر، وكأنه لا حق له حتي فى الحلم. وتستعرض القصة، طوافه علي المحلات بحثا عن غدائه اليومي، رغيف وطعمية، وغيره ممن زاحمه حتى في تبريك المحلات بالمبخرة يدور بها، فيظهر من ينافسه، ليصل في النهاية إلي ما يجيب عن أسئلة القارئ التي أثارها د. النساج، إلي تلك النهاية التي يلجأ إليها كل أولئك المنسيين في الحياة، حيث كان إبراهيم أبي خليل{قد ملَّ الحياة، وركبه الإعياء والضعف، وزادت سحابات عينيه، وانحني ظهره.. واتجه بخطواط متثاقلة إلى مقام أم العواجز، حوله صفوف من الشحاذين قد جلسوا القرفصاء – حتى تخالهم هكذا خُلقوا- وأسندوا ظهورهم إلى جواره، يحيطون به إحاطة القمل بقبة الفقير هيهات أن يجد له مكانا بالدرجة الأولى بجوار الباب، فتركه ودار حول المسجد حتى وصل الميضأة وجلس على بابها، فالتفت إليه من يسبقه في الأقدمية ووجه إليه نظرة نكراء، فلا يكره الشحاذ إلا شحاذ مثله.
وهناك تركت أبا خليل ونفضت منه اليدين، فقد أصبح من أهل دنيانا، في دنيا لا مخرج لها، بل لها باب واحد للدخول كُتب فوقه "باب الوداع"}[5]. وكأن يحيى حقى يجيب علي د. النساج، بأن هذا ما فكرت فيه قبل الكتابة، أن أقدم نموذجا من تلك العوالم التي استقيت منها "قنديل أم هاشم"، كى أكشف بها عن ذلك العالم المنسي في حسابات الحكام.لا كما ينظر السائح إلى تلك العوالم الغريبة علي نظره، ولكن كواحد عاش تلك العوالم، ونشأ فيها، عوالم أم العواجز، السيدة الطاهرة، السيدة زينب.ذلك العالم الذي حاولت أن أبحث فيه عن سر تخلفنا، وذكرته نصا في "سارق الكحل"{فلو سألتني: من هم الناس لقلت لك هم ناس حَيِنا، أما غيرهم فمخلوقات علي سبيل التجربة، لم تجد وضعها الأخير بعد..
وما هو سكن الإنسان؟ لقلت لك إنه فى لفلفة دروب ضيقة حتي تنتهي إلى آخر بيت فى حارة مسدودة. مستندا إلى التل. فتجد علي يمين الباب مندرة أرضها تراب، هي التى نشأت فيها منذ مولدى إلى أن خرجت منها إلى السجن وأنا فتى يافع.
وما النهار؟ لقلت لك إنه العتمة، والذباب، وأكوام القمامة على الصفين.
وما الليل؟ هو حبسة مع الظلام والبعوض والبراغيث.
وما النور؟ هو لمبة صفيح سهارى بلا زجاجة. ذروة تشهق بذيل طويل من الدخان المهبب
وما وما ..... من أجل هذا الاستسلام نستحق أن نُوصف بالتخلف، بالغباء، بالجهل، بالتواكل، طور الله فى برسيمه}ص18، 19. ذلك الاستسلام الذى قد ينظر إليه القارئ في شخصية إبراهيم أبى خليل. وقد يتجاوب القارئ مع رؤية النساج، بإخفاق حقي فى فنية القصة، بتصور أنها خالية من الحركة. إلا أننا لو تأملنا بذور الأمل في نفسية إبراهيم، عندما بدأت التقارب بينه وبين البائعة، ثم ما أصابه من إحباط، عندما ظهر زوجها، وكأنه هدم لكل الأحلام، والأماني التى منى نفسه بها، لشعرنا بتلك الحركية النفسية، التى تُخرج القصة من السكون- الظاهري-. ثم كل تلك الإباطات التي هاجمته، مع كل فشل في عمل يعمله، واضطراره للبحث عن غيرها، هو أيضا ما يخلق حركية القصة. إلي جانب تلك الحركية التي خلقها الكاتب في القارئ، بالضغط علي عواطفه، في كل مرحلة، التي تؤدي إلى المزيد من التعاطف، لتحرك ساكنه، وتدفعه لرفض حياة كل أولئك المنسيين، والسعى، ولو نفسيا، لتغيير تلك الأوضاع، وهو السعى الذى يسعاه أي عمل إبداعى، محمولا علي أجنحة اللغة، والسرد الهادئ، الخالى من الإنفعال، فضلا عن إحساس القارئ بأن من يسرد عليه تلك المأساة، أو المأسى – التي تصل حتى الحسد والحقد علي الجلوس أمام المراحيض -، واحد من ذات البيئة، وليس مفتعلا لها، كما يسعي أحد للتأكيد علي سامعه بأن ما يرويه حقيقى فيقول (لقد رأيت ذلك بعيني، ولم أسمعه من أحد).
يوسف إدريس (19 مايو 1927- 1 أغسطس 1991)
فى العام 1954 أصدر يوسف إدريس أولى مجموعاته القصصية "أرخص ليالى"، وهو نفس العام الذي اصدر فيه يوسف الشارونى مجموعته الأولى :العشاق الخمسة". غير أن تفاوتا ملحوظا حدث فى استقبال، كل من المجموعتين، ولا شك أن بعضا من أسباب ذلك قد يرجع إلى العوامل الشخصية لكل من الكاتبين، إلا انه علي الرغم من مواصفات إدريس الشخصية، المثيرة للجدل، فإنه يظل أكبر علامة فى مسيرة القصة المصرية، والعربية، القصيرة. حيث كان معه أكبر تحول، وتطور فى مسيرتها، لأسباب عدة، لعل أبرزها وأوضحها ما ذكره الناقد فاروق عبد القادر، الذي أوضح الأرضية التي كانت عليها القصة قبيل دخوله إلى عالمها، وهو ما يبرز دوره المعروف فيها {وتميز يوسف إدريس في فن القصة القصيرة له أسبابه الموضوعية وبواعثه الذاتية كذلك.
فحين نشر قصته الأولى "أنشودة الغرباء" في 1950 – لم يضمها لأى من مجموعاته- كان نجوم القصة القصيرة هم محمود كامل وإبراهيم الورداني ومحمود البدوى وسعد مكاوى وأمين يوسف غراب وسواهم (أما يحيى حقى- هذا الرائد العظيم- فقد كان كعادته متواريا "في الظل" وكان ابتعاده الدائم عن القاهرة سببا آخر لحضوره المحدود). وكانت قصصهم – فى معظمها - ذات طابع رومانسي شاحب، تدور حول "عذاب المحبين" أو تحكى حكاية ذات أحداث غريبة، لا تخلو من مفاجأة يخفيها الكاتب وراء ظهره حتى اللحظة الأخيرة، وكثير منها يدور فى أرض غريبة، أو داخل القصور والفيلات فى أحياء القاهرة الجميلة، وأبطالها دائما من الطبقة العليا من المجتمع، أو التى تليها في السلم الاجتماعى، وهي مكتوبة على الأغلب بلغة فصحى تلتزم قواعد البلاغة التقليدية السائدة، ويدفعها طابعها الرومانسى إلى المبالغة في تصوير المشاعر والمواقف، مبالغة تنأى بأبطالها عن أن يرى القارئ فيهم أناسا يعرفهم، أو مشاعر يمكن له ولسواه من صغار الناس، أن يمارسها}[6]ص15. حيث رأى يوسف إدريس أن مثل هذه القصص أقرب للترجمة عن الغرب، لأنها لا تلامس أرض الواقع المصري، مدفوعا بإتجاهه الأيدولوجي (اليسار) فجاءت قصصه منحوتة من طين الفلاح، مروية بعرق العامل، مصهورة بلهيب الكفاح المسلح الذى عايشه فى الجزائر، بداية حياة الشباب.
فضلا عن إضافة (شكلية) أضافها إدريس إلي الشكل القصصى، فلم تعد القصة تقدم حياة ممتدة، أو زمنا يتخطى اللحظة، أو الموقف، منطلقا من إيمانه بأن القصة القصيرة، ما هي إلا طلقة، غير أن الطلقة، وإن كانت تصيب نقطة واحدة، إلا أن أثرها يفتح موضع الإصابة طولا وعمقا، حيث تبدو اللحظة كحجر تم إسقاطه في المياه الراكدة، لا تلبث أن تخلق العديد من الدوائر حول موضع سقوطها، على أن هذه الدوائر هى إضافات إيضائية، تساهم في تعميق رؤية النقطة الأساسية. فقد تكون هذه الدوائر إضافة لمعرفة الدوافع، أو الأسباب التي أدت لاختيار ذلك الموقف، أو تلك الشخصية.
وإذا ما أردنا دراسة السياسة داخل الأعمال القصصية ليوسف إدريس، فسوف لا يحتاج منا ذلك الكثير من المجهود، فسجل حياته (الطلابية) به الكثير من الحركات الثورية، وروايات ومسرحياته، ناطقة بالرؤي والانتقادات السياسية، ناهيك عن مقالاته التي جمعها في نحو تسعة عشر كتابا، كانت كلها – تقريبا – مشحونة بالآراء السياسية.
فإذا أخذنا –على سبيل المثال -، قصة "حمَّال الكراسى"[7]. حيث كتبت القصة أواخر 1968، أي بعد نكسة يونيو 1967. الأمر الذي يكشف قصدية الرمز، من جانب، ويكشف جزءً أيضا من شخصية الكاتب، الذي رغم كتابة مثل هذه القصة، وغيرها كما سنري، هو الذي عاد بعد موت زعيم النكسة، يمتدحه، مثلما غيره كثير. فلا أظننا فى حاجة لتأويل، أو تفسير، للرمز الذى يعنيه إدريس ب"حمَّال" الكراسى الذي هو الشعب المصرى، ممثلا فى ذلك المخلوق المسحوق الذى يحمل الكرسى على ظهره منذ قديم الزمان، الذى عبر عنه فى {ولكن فى آخر وقت ألمح بين الأرجل الأربعة الغليظة المنتهية بحوافر مذهبة تلمع، ساقا خامسة ضامرة، غريبة على الفخامة والضخامة، ولكن لم تكن ساقا، كانت إنسانا نحيفا معروقا قد صنع العرق على جسده ترعا ومصارف وأنبت شعرا وغابات وأحراشا}. أما الكرسى نفسه الذى رآه السارد يسير، أو تصوره فى البداية أنه يسير وحده، ليدل علي ضآلة الإنسان حامله/ المصرى، {كرسى هائل تراه فتظن أنه قادم من عالم آخر أم أقيم من أجل مهرجان. ضخم كأنه مؤسسة، واسع القاعدة، ناعم، فرشه من جلد النمر، ومسانده من الحرير. وحلمك كله إذا رأيته أن تجلس عليه مرة أو لحظة.
كرسى متحرك، يتقدم بتؤدة كأنه موكب المحمل حتى لتظن أنه يتحرك من تلقاء نفسه}. فإذا ما قرأنا القصة دون الإشارة إلي التاريخ، فسنظن أننا أمام رؤية لكل العروش العربية، التى استعبدت شعوبها وسخرتها لخدمة ذاك العرش الخرافى. وإذا ما استكملنا القراءة، لنعلم أن حامل الكرسى، يحمله من أيام "بتاح رع"، أى من أيام الفراعنة، فسيذهب تفكيرنا إلى أن هذا المشهد يحمل علي عاتقه التاريخ المصرى الحافل بتقديس الكرسى(لا الجالس عليه)، خاصة أن العنوان "حمَّال" وليس "حامل" . غير أن تحديد الكاتب للتاريخ {كُتبت فى أواخر 1968) وكأن الكاتب يدعونا ألا نذهب بعيدا، فنحن في المشهد الحاضر (نسكة يونيو 1967)، وكان المسؤل عن النكسة لم يزل حاضرا. لنجد الرؤية جد واضحة، وأننا ذهبنا في تمجيد الكرسى، الذى تضاءل أمامه الإنسان المصرى، وأصابه الهزال والضمور، هو ما أصابنا بما وصلنا إليه من هزيمة مذلة. ولتبقى القصة تعبيرا ورفضا لذلك الكرسي، برمزيته، ورؤيتنا له.
ومن الأمور التى يمكن أن نرجعها ليوسف إدريس، استخدامه للرمز، كما فى قصة "الخدعة"[8]، التى تتناول ظهور رأس الجمل، والرأس فقط {لا أرى له جسد، وإنما رقبة غليظة طويلة مقوسة، حادة، من أسفل كأنها مخروطة.. رقبة تنتهى من أمام برأس .. ذلك الرأس، ولا جسد}. حيث يظهر الرأس لصاحبنا فجأة بينما كان الوقت{ليلا، وهناك قمر ينشر سلاما فضيا، والنبع صاف يتدفق ماؤه علي مهل وبخرير حنون، ولا تملك حين ترى الماء وقد ذاب فيه القمر ذوبانا طازجا يحدث أمامك، وفي الحال، إلا أن تظمأ وتحاول أن تشرب أو على الأقل تتذوق}وبينما الدنيا فى هذا الصفاء والهدوء والسكينة، يظهر الرأس، راس طويل ممتد، لينقلب المشهد {راس طويل ممتد إلى الأمام وكأنما امتدت يد جذبت ملامحه كلها بعنف إلى خارج وجهه.... راس جمل لابد.. بلا صوت، بلا ضجة، بلا حركة.. كان القمر قد اختفى والنبع والخرير ولا فضة..... رأيت ذلك الجمل مسحوبا وساحبه صاحبه، وعلى وقع متئد وكأنما كل خطوة حدث وتاريخ يمضيان}.
ونتبين أن هذه الرأس بدأت في الظهور للسارد فى كل مكان وفى كل زمان {وفى الصباح – أى صباح – فلازمن}، فى الحمام حين الاستحمام، فى اللقاء الحميم مع الزوجة، فى الجريدة التى يقرأها، في المكتب وسط الزملاء في العمل، وفى الأتوبيس، رغم الزحام، بينما السارد لا يعرف إن كان وسط الزحام من يراه، أم أن الجميع يراه، غير أنهم لم يعودا يبالون، أو يلقون له بالا. فقد اصبح وجوده بين الناس جميعا، حتى تعودوه، فلم يعد يثير الدهشة {كان واضحا أنهم من زمن يعانون نفس الشعور، وأن رأس الجمل يظهر لهم فى كل مكان وفى أى ساعة}. وتزداد مرات ظهور الرأس في كل الأزمنة، وفى كل الأماكن التى لم يكن السارد يتوقع ظهوره فيها (كلما تلفت، أينما سرت، اينما ذهبت، من أمامى وورائى، ويمينى ويسارى، بل – وهذا هو المرعب – أحيانا أراه داخلى أنا}حيث يصير وجود الرأس هوسا، نفسيا داخليا.وهو ما يعبر عن أن، الرعب، والخوف، وصل النفوس، وعشش فيها.
ثم يصل بنا الكاتب إلى سر إستمرار ظهوره، تعبيرا عن الاستكانة، والاستسلام {ويتم هذا كله دون أن يثير دهشة أحد أو استغرابه، أو حتى يفكر لحظة ويتأمل. وربما لهذا فرأس الجمل لا يكف عن الظهور! ربما لو اندهشنا، فقط اندهشنا، كلنا اندهشنا كلما ظهر، لما ظهر}.
ولنلاحظ أن هذه القصة أيضا من القصص القليلة التى تمت الإشارة إلى تاريخ كتابتها (كُتبت فى أبريل 1969 وكانت أول قصة نشرت بعد إلتحاق الكاتب بالأهرام). لنصبح أمام أكثر من إشارة لابد من اتخاذها فى الاعتبار في الدخول لهذه القصة. فالتاريخ يدلنا على أن آثار يونيو 67، كانت لم تزل حاضرة (وما زال حتى يومنا هذا)، إلا ان الجرح كان قد هدأ واستقرت النفوس بما يسمح لها تدارس الأسباب التى أدت للنتائج. أما استخدام رأس الجمل – تحديدا – فهو ما يستدعينا للنظر في طبيعة هذه الرأس، التى درج العرب على عدم تقديمها على وجبة الضيوف، في الوقت الذي يمكن أن يقدموا فيه رأس الغنم مثلا، وبالبحث يتبين أن هناك من يقول بأن رأس الجمل به دود، ومن يرى أن الجمل يُنحر ولا يذبح، وعملية النحر، تؤدى لتجلط الدم فيه، وهو ما يجعله مقززا.
ومن يرى أن راس الجمل ليس فيها إلا العظم، ولا يوجد بها لحم يؤكل، فهى عديمة القيمة. أي أن راس الجمل (فساد في فساد). أما لماذا اختاره الكاتب؟ فهو يجيبنا في نهاية القصة {ينظر أمامه يتطلع ولا يتحرك، لايغضب ولا يرضي، لايحفز ولا يثبط، لا يفعل شيئا أبدا إلا أن يطل، مجرد طل}. ومن هنا، يمكن رؤية تلك الرأس على رمزيتها للمخابرات، التي تسيدت تلك الفترة، وأدت لتجسس الأخ على أخيه وأمه وأبيه. لترفع تقاريرها، المصبوغة برؤيتها، والتى أفسدت الحياة، وفرقت الجماعات، وشككت كل واحد فى الآخر، وزرعت الخوف فى النفوس، فهجرت الإبداع والابتكار، وخلقت أناسا مرتجفين. فلا رأي يوضح أو يعلن سوءات ما يحدث، فكان طبيعيا أن تحدث النكسة. وكأننا أمام كاميرة الأخ الأكبر في رواية "جورج أوريل (1984)[9]، التى زرعها الأخ الكبير/ الرئيس، ليحصى على الناس أنفاسهم.
ولتتكشف "الخدعة" التي حاول يوسف إدريس أن يخدعنا بها، على أن ظهور رأس الجمل، ليس إلا "خدعة" نفسية" أو هلوسة ذاتية، وهو يقودنا إلى أبعد من تلك الرؤية المحدودة، الرؤية الفردية، إلى الرؤية الجمعية، أو الرؤية السياسية بامتياز.
وبعد وفاة عبد الناصر، كتب يوسف إدريس: {أصبحت الدنيا لأول مرة بلا عبد الناصر، ونحن لم نتعود أبدا أن نتنفس هواء لا يتنفسه هو، ولا أن ننام إلا ونحن نحس أنه هناك فى كبرى القبة، ولا أن نستقبل الصباح إلا على صورة له وابتسامة}[10]
وأشار فاروق عبد القادر، إلى أن قراءة شخصية يوسف إدريس الحقيقية، يجب أن تكون من خلال قصصه. تلك الرؤية التى نراها تصلح مع أى كاتب، وليس يوسف إدريس وحده، هى التى تجعلنا نقف قليلا أمام قصة "الرحلة" من ذات المجموعة[11]. والتى صدرت في حياته، أي ان كل ما ورد بهذه الطبعة، إما أنه يعنيها، لهدف، او انه موافق عليها، حيث كتب عن هذه القصة {هذه القصة بالذات كتبت فى يونيو 1970}. حيث تتناول القصة - بما لايدع مجالا للشك- الرحلة الأخيرة لعبد الناصر، على الرغم من موته الفعلى في 28 سبتمبر 1970. وهذا يعنى أحد الاحتمالات. إما أن إدريس وصل من الشفافية التى جعلته يستبصر الوفاة قبل وقوعها، على الرغم من أن الرجل كان يعمل حتي الساعة الأخيرة من عمره "مؤتمر القمة العربية بالقاهرة". وإما انه اعتبر أن ما حدث في 1967 الوفاة المعنوية للرجل، غير أن القصة تشير إلى الموت الفعلى. أما الاحتمال الثالث – وهو الأقرب لشخصية يوسف إدريس، والتى معها نصدق هذا الاحتمال، أكثر من غيره، وهو أن القصة كُتبت بعد الوفاة الفعلية، غير أنه أراد – لشئ في نفسه – أن ينسب كتابتها لتاريخ سابق على الوفاة.
والقصة تعكس رؤية جيل كامل، عاصر عبد الناصر في مستقبل حياته، وعاش فيه طموحاته، ورؤاه الثورية، التى كانت نفوسهم مشبعة بها فى ذلك العمر، وهو الجيل الذى عُرف فى الدراسات الأدبية ب"جيل الستينيات". ذلك الجيل الذي تحمس للرجل، فى البدايات، ثم غضب عليه في منتصف المسافة بين عامى 1954و 1966. ثم ثار عليه فى الفترة من 1967 إلى 1970، وبعدها راح ينظر إليه، كما أنه لم يمت، وأنه حى لم يزل، ورفض أن تنتقل الراية لللاتجاه العكسى، وهو ما فسرناه – فى دراسة سابقة[12]، أنهم رأوا التنازل عما دعا إليه عبد الناصر، هو هزيمة شخصية لحلمهم هم. كما توضح القصة، تلك النظرة الأبوية التي رأوا بها عبد الناصر، وليس كرئيس – المفترض – أنه مُنتخب من الشعب لإدارة شئون البلاد.
تروي القصة، رحلة شاب توفي والده- بالإشارة دون تصرح- يحمله فى سيارته (الصغيرة،) بعد أن ألبسه تلك الملابس التي كانت محببة له، ويوهم الجميع بأنه حي. وفى طريق الرحلة، يواجه كمين الشرطة، ليسأله رجل الشرطة، فيدور هذا الحوار الخيالى في داخل السارد {نعم يا سيدى، البطاقات. هذه بطاقتى، وهذه رخصة قيادتى. من هذا؟ أين بطاقته؟ أنا بطاقته. ألا ترى أنفى من أنفه؟ حواجبى لها استدارة حواجبه؟ عرقى حتى له طعم عرقه؟ شكرا يا سيدى العسكرى، شكرا! جميل شاربك والله العظيم جميل}. ثم يكشف – الكاتب- عن تلك الفترة التي وُصِمَ بها عهد عبد الناصر { رجل بوليس آخر يقترب. كشك. أنا لاأخاف شيئا مادمت معى. أنت الوحيد فى الدنيا الذى كنت أخافه. كنت دائما هناك فى بيتنا تربطنى، تشدنى أنى أذهب، ألف وأعود وكأن لى فى بيتنا جذر.. الأن جذرى معى. أنا النبات الذى تحرر وانطلق. رجل البوليس يشير بيده كالسيمافور الأبيض والأسود تشير. لم أضق قبلا برجال البوليس مثل أن أضيق بهم الآن. لماذا هم كثيرون؟ لماذا دائما يقطعون الطريق؟ أفندم! الرقم والرخصة والبطاقة. أفندم! لماذا تمد أنفك في العربة وتتشمم؟ وتبلغ بك الجرأة أن تسأل؟ لماذا يا سيدى لا أشم رائحة، لا رائحة هناك. أين هى الرائحة؟}.
ثم يكشف عن ذلك الخلاف الذي جعل ذلك الجيل- وغيره – يُضمر الغضب علي الرجل، غير أن الغضب لم يخرج للعلن {الآن أنا فى حاجة إلى سيجارة. ألا تلاحظ أننا لا نختلف وأنك لأول مرة توافق أن أدخن أمامك؟ لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيى وأقبل رأيك؟ لماذا كنتُ دائما أتمرد؟ لماذا كرهتك أحيانا؟ لماذا تمنيت فى لحظات أن تموت لأتحرر؟}غير أن الرحلة تطول، وتبدأ رائحة الجثة فى الازدياد، ويبدأ العالم يؤكد أن من بالسيارة إنسان ميت { هذه المدينة فقدت العقل. أنى نذهب يفتح الناس أفواههم خلفنا دهشة، ويمدون عيونهم إلى آخر المدى يبصرون. قبل أن نغادرهم يسرعون خلفنا يصرخون.. الجثة! تصور! يريدونك أنت الحى جثة. يدفنونها. مستحيل، يقتلوننى قبل أن يأخذوك، ففى أخذك موتى، فى اختفائك نهايتى، وأنا أكره النهاية كما تعلم.. اكرهها أكرهها.... يكفى أن تكون معى ليكون العالم كله معى.. ولتحترق القرى والنجوع، يكفى أنك معى.. أنت أنا.. أنت تاريخى وأنا مجرد حاضرك. والمستقبل كله لنا} }. وفي النهاية ينطق السارد بما يترجم المثل الشعبى (يا روح ما بعدك روح) فينجو بنفسه، تاركا الجثة في الطريق، فرحا بالنجاة، فقد فاقت رائحة الموت، قدرته على الحياة بجوارها {عفوك! ولكنى لم أعد أستطيع.. الرائحة تخترق خياشيمى، وتتلوى مع تلافيف أنفى وعقلى، وتكتم أنفاسى. والمرعب أنك أيها العزيز الغالى مصدرها. الناس من حولنا يهربون.. أنا نفسى لم أعد أستطيع..... ولقد تركتك... عامدا فى الطريق تركتك.. فى العربة نفسها تركتك وتركتها لك قبرا ولحدا. وهأنذا أكملها وحدى، وعلى قدمى أسير، حزين للفراق تماما. ولكن، وهذا هو المؤلم سعيد بالخلاص منك،، سعيد أنى تركتك وتركت العربة لك. سعيد أنى حتى على أقدامى أسير، وأستنشق الهواء النقى الذى ليس فيه أبدا تلك الرائحة الملعونة الغالية.. رائحتك}. وعلى الرغم من إمكانية القراءة بشكل فردى إنسانى، يمكن أن يعيشه الكثيرون، خاصة إذا كان الأب قاسيا، أو غير عادل، أو اختص نفسه بكل شئ، حارما الأولاد، إلا انه – حتى – هذه القراءة ستقودنا أيضا إلي تلك الرؤية السياسية، التي فاضت بها كلمات القصة، والتى معها تركناها تسرد نفسها، فلا أظن أنها في حاجة لشرح أو تأويل، لتظل شاهدة علي شخص يوسف إدريس، وجيل بأكمله، اتخذ اليسار، الذي تسيد المرحلة، إتجاه حياة له.
وإذا كانت الرؤية السياسية، قد كانت محور ما تناولناه من قصص، كما غاب الكثير من خصائص القصة عند يوسف إدريس فيها، فلنلجأ إلى قصة أخرى، من مجموعة أخرى، غابت فيها الإشارة إلى تاريخ الكتابة، لنقرأ معا قصة "العملية الكبرى"[13]. والتي تتناول المواجهة بين البداية والنهاية، أو لحظة خروج الحى من الميت، والميت من الحى. فنتعرف علي دكتور الامتياز "عبد الرءوف" الذى أحب عمله (الجراحة) من أستاذه ورئيس القسم ووظائف أخرى"أدهم شفيق" الذى يهابه الجميع، والذى حدد وشخص مرض إحدى المريضات، دون تحليل أو اشعة، بانها ورم على العمود الفقر، بعد أن كانت المريضة قد قضت شهران بالمستشفى، ويقرر الأستاذ دون أن يسمع رأي الآخرين أو ينتظر الفحوص، أن يجرى عملية استكشافية للورم، غير أنه أثناء العملية، يحدث خطأ وينفجر شريان الأورطى، الأمر الذى معه كان يجب التوقف، إلا أن الأستاذ الذى يرفض الفشل، اصر علي إجراء عملية كبيرة، باستئصال جزء من الأورطى، واستئصال الورم، رغم عدم جاهزية، لا المساعدين، ولا حجرة العمليات لها، غير أن الأمر قد صدر {كان الخاطر الذى هبط بثقله على الجميع هو ان السيدة قد حكم عليها –هكذا- بالموت، وأن العملية التى بدأت لعبة واستكشافا قد انقلبت إلى مأساة، وأن لا حل.. ما فيش فايدة. قالها الأستاذ المساعد باستسلام. والمفاجأة كانت حين ارتفع صوت الأستاذ: مافيش فايدة إزاى؟ الكلام ده يحصل مع واحد تاني غير أدهم شفيق. مش أدهم شفيق اللى تموت منه عملية. الأورطى انقطع حا نشيله ونشيل الورم كمان ونحط بداله وصلة من شريان الفخذ}. ويستمر الكاتب في تشخيص الجبروت الذى يمارسه الأستاذ على الجميع، والإصرار المؤدى للتضحية بالإنسان، حين يصف تلك اللحظة حيث صب الأستاذ أدهم الآمر الناهى جام غضبه على الجميع، وقرر استكمال العملية باسئصال الورم، بعد أن كان مجرد عملية استكشافية {بأسرع سرعة تفرق الجمع الملتم حول المريضة الراقدة بلا حول، وتلاحقت سلسلة الأوامر تبعثرهم فى كل اتجاه، بينما باشمئناط خلع الأستاذ أدهم قفازه وطلب سجائره وولاعته وانتحى ركنا قريبا من غرفة الاغتسال، ومضى في حجرة العمليات يدخن، والسستر الطليانية ترقبه بغضب لايراه}. وفى أثناء العملية الثانية يحدث خطأ جديد، ربما لا يقع فيه طالب بكلية الطب. فبعد خمس ساعات مدة إحراء العملية، وتوقع الجميع أن المريضة لابد ماتت أثناء العملية، إلا أنها لم تمت، وإن كان حتما ستموت، لينطق الأستاذ أدهم:{ اللي علىّ عملته، وماكانش يخرج من إيد أى جراح فى العالم أنه يعمل أكثر م اللي عملته. إنما حنعمل إيه بقى لوزارة الصحة؟ فالمستشفى في رأيه خال من الخيوط الحريرية ذات السمك المضبوط، والإبر أصغر مما يجب، وغرفة العمليات ليس بها أجهزة تكييف هواء تساعد على هدوء الأعصاب
-وأهو كده ولاكده كان الورم هيموتها، يبقى العلم اللى كسب. فمصر كسبت عملية عمرها ما اتعملت، وعملية ناجحة قدامكم أهو. والست لسه عايشة أهه، ولو كانت الإبر مضبوطة والخيط مضبوط كانت تعيش عشرين سنة كمان.. إنما حظها كده}.
وبالتضفير مع تلك الحكاية، نتعرف علي تكليف "عبد الرءوف" بالنوبتجية مع السيدة المنتظرة الموت، تصحبه الممرضة "إنشراح" سليطة اللسان، والنافرة أبدا، لتزداد المهمة صعوبة على الدكتور الشاب، غير أن الليل، وطول الانتظار، وما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، فيخرج الشاب عن صورته ويسأل انشراح عن سماعها آخر نكتة. ويستمر شخير الموت يتصاعد من السيدة الراقد فى انتظاره، ويستمر الطبيب فى تأملاته، وكأنه لأول مرة يواجه الموت، يقترب من انشراح، ليجد رهبة الموت يجتاح كيانها، ويمسك يديها، ودون أن يعيا ماذا يفعلان، انسحبا إلى (الترولى) وخلعا ملابسهما في لقاء (البداية) فى ذات اللحظة التى كانت المريضة أيضا تعلن لحظة النهاية { وكأنه أيضا للحظة قد توحد كل شئ، واشتبكت إغماءة النهاية بإغماءة البداية، أول البداية ونهاية النهاية.. لحظة خروج الحى من الميت والميت من الحى}. ولتضعنا القصة على أكثر من مستوى للقراءة.
أولى تلك القراءات، هى الرؤية الوجودية التي تربط الموت بالحياة، أو الحياة بالموت، ذلك اللغز الأبدى الذي يقف أمامه الإنسان على مدى وجوده على الأرض. والتى نرى معها أن الكاتب قد نجح، بما قدمه في هذا السياق من خلق للحظة اللقاء، وتمهيد لها، كان مقنعا إلى حد بعيد، جعل القارئ يعيشها وكأنها واقع فعلى.
كما يمكن قراءة نموذج كثيرين فى المجتمع، لا يسعدهم إلا التسيد والرئاسة، التى يرون ممارستها لا تكون إلا بإهانة الآخرين من حوله، وهو ما تابعناه في شخصية "أدهم" الذى يرفض الهزيمة، حتى لو بقتل الآخرين { وهكذا أدخلت الحالة ليس لعلاجها أساسا، وإنما لإجراء الفحوص وليثبت بها الأستاذ أدهم لنفسه ولمجموعة الأطباء التى تعمل معه أنه كان على حق وأن رأيه لا يخيب.. ولم تكن هذه أول حالة تدخل القسم لهذا السبب}. وهذا النموذج هو ما يقودنا أولا إلي القراءة الثالثة للقصة، والتي من أجلها كُتبت القصة – فى تصورنا -، لتتوارى الرؤية الأخرى (السياسية) إلى الخلفية، وإن كانت –كما نراها- هي الرؤية الأولى التي عنيها الكاتب. فبالرجوع إلي تاريخ نشر المجموعة، مع غياب تاريخ الكتابة، والذى دون في 1969. أى بعد النكسة، وربما بفترة ليست بالقصيرة، مما أتاح للكاتب عملية الاستبصار، التي رأيناها في قصة "الخدعة"، وباستبصار قصة "الرحلة"، وفقا لقراءتنا لها، مضافا إليهما ذلك الذى ذكره السارد "عبد الرءوف" معقبا على إصرار الأستاذ رغم فشل العملية حين يتدخل الكاتب/ السارد ليفتح لنا نافذة جديد للرؤية، حيث يعلق على فشل الأستاذ الذى راح يبرر فعلته { والحقيقة أن لا الإبر ولا الخيوط ولا أجهزة التكييف هى السبب، والسيدة مازالت لم تمت –هذا صحيح- ولكن الدم يتسرب من مكان الوصلة وبكميات ضخمة، فليس هكذا توصل الشرايين بالشرايين، فالطريقة خاطئة والفكرة من أولها خاطئة. والخطأ ممتد وبادئ من اللحظة التى قرر فيها أن يحيل عملية الاستكشاف إلى عملية استئصال كبرى، بل الخطأ – هكذا يدرك عبد الرءوف الآن – يمتد إلى أبعد، إلى ذلك اليوم الذى أصبحت الجراحة عند أساتذة تزاول من أجل الجراحة، وأصبحت العمليات وأصحابها وهم غالبا من الفقراء الذين بلا حول، ميدانا لإثبات القدرة والأستاذية}.
فهنا يمكن الوصول إلى تلك الرؤية التى تشير إلى النكسة، التى دخلها المتسلط بالرأى، وغير القابل لأى رأى آخر، فكانت النتيجة هى، النكسة، والتي رغم مرارتها، وفداحتها، إلا ان الحديث لم ينقطع عن الخديعة، والمؤامرة، ودورهما فى حدوث تلك الفاجعة، خاصة ما انعكس على رؤية (الناس) الذين خرجوا يعلنون رفض الهزيمة، ورفض التنحى، فلم يكن الرجل مسئولا عنها. خاصة إذا رجعنا إلى "حمَّال الكراسى" وإلقاء اللوم علي المستسلمين، والحاملين للكراسى، في كل العصور.
وقد ساعد ذلك التنوع في التناول، فى إظهار بعض خصائص القصة القصيرة عند يوسف إدريس. حيث نحد أن الإطار الزمنى للقصة، لم يستغرق أكثر من بضع ساعات( هى زمن إنتظار السارد والممرضة داخل إطار النوبتجية الليلية)، رغم إتساع الزمن الداخلى للشخوص، الذي استخدمه للكشف عن تاريخ الشخصية، ومنحها بعدا أعمق. كما قطع الكاتب التسلسل الروتينى للحكى. فتبدأ القصة بالنهاية، حيث الانتظار، بعد العملية، ثم نستبطن الشخصية، لنسترجع تاريخ السارد منذ تخرجه، ثم العودة لإنشراح، ثم العودة لاستكمال قصة العملية وحكاية الأستاذ.. وهكذا، مع تبدل الضمائر بين ضمير المتكلم، وضمير الغائب، وضمير المخاطب، الأمر الذى يخلق ديناميكية الفعل.
لقد حمل يوسف إدريس، الكثير من التناقضات –الظاهرية- إلا أن رؤية أعماله الإبداعية، تنفى هذه التناقضات، والتي نبعت من رؤيته الإيدويلوجية اليسارية، التي أحب فيها الفترة اليسارية فى مصر، إلا أنه رفض – كمثقف، ثائر، تلك المآخذ التي حملتها تلك الفترة، فكان لزاما أن تُقرأ قصصه القصيرة –تحديدا – كوحدة واحدة، أو أجزاء يكمل بعضها بعضا، لتنفى تلك الرؤية المباشرة.
إدوار الخراط {16 مارس 1926- 1 ديسمبر 2015)
بدأ إدوار الخراط الكتابة منذ أربعينيات القرن العشرين (1943). غير أنه توقف لفترة تقترب من السنوات العشر، أثناء وبعد فترة اعتقاله فى 15 مايو 1948،لاشتراكه فى الحركة الوطنية بالإسكندرية. حتى أن أولى مجموعاته "حيطان عالية" لم تخرج للنور إلا فى 1959. أى بعد المجموعة الأولى لكل من يوسف إدريس ويوسف الشارونى، الصادرتان فى العام 1954.
برز نشاطه الثقافى، الذى منحه الشهرة الأكبر، بتبنيه رؤية جديدة في الإبداع، والتى حاول بثها، واستخلاصها فى جيل الشباب – فى ذلك الحين- ومن خلال كتبه، خاصة كتابه الحساسية الجديدة، وإشرافه واشتراكه فى إصدار "جاليرى 68" التى لم يصدر منها إلا ثمانية أعداد على مدار سنتين، غير أنه كان لها من التأثير ما فاق تلك السنوات الثمانية، فاصبحت تاريخا يشار إليه فى مسيرة الإبداع المصرى. متبينا فكرة "الحساسية الحديثة" أو "الحداثية". والتى فيها رفض فكرة الواقعية الاجتماعية التى سيطرت على كتابات الأربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، حيث الرؤية الجديدة، أو التيار العضوى، كما اسماه، فى مقدمة كتابه "القصة والحداثة"[14] {التيار العضوى، تيار الرؤية الداخلية والاتجاه الباطنى، وهو كما يتضح من هذه التسمية يفسر نفسه بنفسه. ليست العين الداخلية وحدها هى التى تلعب دورها هنا، بل الحياة الداخلية كلها تبتعث، سواء كان على مستوى الحدس أو الأحشاء، أو على مستوى الإدراك والرؤية الحلمية الهفهافة. هنا يتصور الإنسان وبيئته فى واقع الأمر، باعتبارهما نبضا متذبذبا، كتلة دائمة الحركة من الأحاسيس والخواطر لا تنتظمه إلا حيلة الفن}. كما برزت تلك الرؤية فى قصصه فى مجموعته الأولى "حيطان عالية"، والتى أبرزت أيضا الاتجاه الحسى، الذى استخدمه كنوع من الهروب المجتمعى، الذى عبر عنه، ليس قصصها فقط، وإنما عنوانها، الذى يشير إلى (الحيطان) أو الجدران العالية، سواء المادية أو المعنوية، والتى كان لاعتقاله فى مطلع الشباب، تأثيره الغالب، على تلك الرؤية، - التى تسامى بها، حد الشاعرية – حيث كان أيضا شاعرا وروائيا وفنانا تشكيليا – وهو ما أشار إليه غالى شكرى ضمن مقدمات "حيطان عالية" {يضع ما ندعوه البداية وسط الكيان اللغوى الشامل، وفقا لاحتياجات الإطار الدرامى الذى يقوم بتركيبه من الأزمنة والأمكنة والشخوص والمواقف. وهو التركيب الدلالى الأخير الذى تكتمل فيه ومن حوله أنساق "حيطان عالية". مركزها المخاض العسير لرؤية جيل يشق طريقه فى جدار الهيمنة والعجز. هذا الجدار من "الأبوة" أو السلطة الاجتماعية –الثقافية – والسياسية التى تستدعى القتل من سكين "الفعل الجنسى" وهى أطروحة الخيال الخلاق الذى أبدع عناصر الرؤية ليدل على الثالوث المأساوى للمثقف المصرى: الحصار. القمع. العزلة}. وهى الرؤية التى تكشف البعد السياسى فى "حيطان عالية"- بل فى كل أعمال الخراط القصصية - رغم حديث إدوار الخراط، وتبنيه رفض الرؤية الاجتماعية المستخرجة من الواقعية النقدية، أو الواقعية الاشتراكية، التى سادت العقود السابقة.
ولقد كان للخراط رؤية خاصة فيما حدث في ليلة الثالث والعشرين من يولية 1952. حددها – نظريا – في كتابه "القصة والحداثة" { إن التغيرات العريضة والعميقة التى وقعت فى مصر وفى بلاد عربية أخرى بعد العام 1954-وهو عام حاسم- لا تتطلب منا الآن إلا إشارة سريعة، فهى معروفة للكافة. فقد سحقت المقاومة التى قامت بها القوى المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ضد السلطة العسكرية فى مصر، ولفترة طويلة قادمة سوف تقمع الدعوة إلى ديمقراطية ليبرالية "من الطراز الغربى. أما الأحداث التاريخية المتعاقبة على نحو درامى سريع، بعد ذلك، فقد تركت آثارها المحتومة على المشهد الأدبي}.
ثم عبر عنها –تطبيقيا- فى قصة "سُحُب ملتبسة" من متواليته القصصية "أمواج الليالى"[15] والتى نركز عليها فى قراءتنا الحالية، حيث سبق أن تناولنا "حيطان عالية" في "البواكير في القصة القصيرة"[16]. فنتعرف على صيغة القصة عند الخراط، حيث تدور القصة فى "جوانية" السارد، وكأنه منولوج مطول، فاختفى إلى حد كبير الحوار، لذا نجد عنده وصف الأجواء المحيطة بالشخصة، والتى تساعد فى الوصول للرؤية الكلية للقصة، والدوافع النفسية للشخصية. فتبدأ القصة بالوصف العام { دقدقة قطرات المطر متواترة فوق سقف التاكسى، وهو يمرق ببطء وحرص فى الشارع الصامت الفسيح بين الشلالات والجبانات} ف(دقدقة قطرات المطر متواترة) وكأن اللغة تلعب دور الموسيقى الجنائزية الوئيدة، ثم يأتى المشهد بين الجبانات، ليتزايد الإحساس بالموت. ثم نتعرف على أنه ليس بالتاكسى، وحده. وإنما هناك من تجلس معه، ثم يبدأ الإحساس (الحسى)، والذى سنتعرف على دوره في السياق {هذا الدفء يأتى إليَّ من جلد المقاعد، ومن فخذها الملتصقة بساقى، ويدها الممسكة بيدى، كأنها تطلب نجدة، ساكنة فوق حجرى، قريبة جدا من نبضى المنتظم الحار فى توترى المشدود} لنتعرف على أن العلاقة ليست حسية صرفة، وإنما حضور {نبض القلب} يكشف أن علاقة قلبية تربط بين السارد، والراكبة إلى جواره، والتى يزيد وصفها فى التأكيد على ذلك، بذات لغة وصياغة الخراط المتسترة بغلالة الشعر {قلت: كم هى جميلة حقا، حقا، وجميلة حد الإيلام. صارمة وقاسية فى حبها، جارحة، حاد قاطع وحلو وكهربى}، فليست هذه مواصفات امرأة يسير بها السارد لنيل شئ مادى. يسيران بالتاكسى، بين المقابر، التى لا نجد فيها إلا نخلة وحيدة، تبسط (سعفها) جدائل. وأحراش من ورق التين الشوكى الدسمة العريضة. وكأنهما فى زيارة لساكنى تلك المقابر. الذين نتعرف عليهم، حين يسترجع السارد ما كانت تحكيه {طرق الباب، فى ليلة، وبعيد عنك، كان واقفا وقفة عسكرية، زنهار، وحيى تحية عسكرية، صاغ وعلى كتقه النسر الفخور، وكان وحده، استغربت. قال لى أنه مندوب القيادة. عرفت بعد ذلك أن العسكرى المراسلة الذين نشروا فى الصحف والراديو أنهم ألغوه، كان تحت، على دكة البواب فى مدخل البيت. فتش الشقة بدون مبالاة، وحده، فخورا بنفسه، فتح الأدراج، وبص فى الدولاب – توقف لحظة عند الكيلوتات والسوتيانات- كأنه يؤدى مهمة، دون قناع. دعوته إلى فنجان قهوة، وقبل، وعاد مرة ومرة، وكثيرا، قال إنه الحب من أول نظرة – كما قال – ولم تكن هناك مشكلة أن ننتهى فى السرير. الكوميدى قليلا – الكوميدى جدا – أنه كان بعد أن يخلع ملابسه يعود فيلبس الجاكته الكاكى، بالنسر اللامع، والكاب، فقط، حتى ونحن فى السرير}. فساكنى القبور إذن من العسكريين. إلا ان ذلك وحده، قد يجعل من القصة، رؤية إجتماعية، حتى ولو أدانت فصيل من المجتمع، العسكريين. وهو ما يدعونا إلى مسايرة الكاتب وسط ضباب الكلمات، وهلامية الأجواء المحيطة، لنتلصص عليها، ولنتعرف على من يكون ذلك الضابط، ذو النسر، مندوب القيادة. حيث تكشف (هى) عن الرؤية الأوسع حين تبوح { انقطعت عن رؤية الزملاء مؤقتا، تعرف، وعن كل نشاط، ولبدت في الذرة، كما يقال، بتربص وتدبر. كانوا قد قتلو خميس والبقرى من أسابيع وكانوا يفاوضون دالاس على توريد الأسلحة وفلوس السد}. وكأن الستار قد رُفعت عن ضباط يولية 52، حيث هم من قتلوا خميس والبقري العاملين فى مصنع كفر الدوار، وقاما بإضراب سلمى في 12 أغسطس 1952. أي قبل ان يكون قد مر شهر واحد على الحركة المباركة، وكأنما أرادوا أن يظهروا العين الحمرا من البداية. فهل نجحوا بعد ذلك فى القيادة؟ القصة تخبرنا بالإجابة: { لم يكن قد أكمل صنع الحب. لم يُكمل صنع الحب أبدا، يعنى،، تعرف.. لم يصل إلى الغاية.. لم يتمه .. نهايته} ثم {قالت: أطفأ سيجارته فى ظهري، مرة، واثنتين، وبلا نهاية ... لم أشعر بشئ ساعتها. ولا شئ. خالص. لم أتحرك، حتى، من فوق رجليه. شممت فقط الرائحة وسمعت صوت إحتراق اللحم}. وكأنه الصمت الذى صاحب تلك الأفعال، خاصة حين نتعرف على هذه السيدة،الرمز. ويستكمل الكاتب رسم صورة (الثورة) بحيادية، حيث تذكر البدايات، قبل أن تتحول إلى هذه النهايات {ومع ذلك كان طيب النية، كان يريد لى الخير أساسا، وإن هزمته إرادته نفسها. كانت حمايته لى من غوائل كثيرة، غوائل فى دخيلتى، ومن ضربات العالم على السواء، لا يمكن أن تُنسى او تُغفل}.
فإذا كانت المجموعة قد صدرت فى 1991، اى أننا كنا قد مررنا بالكثير من مراحل القصة القصيرة، إلا انه بالتأكيد كان الإبداع قد بدأ فى استخدام الحيل الرمزية، ولم يعد بعيد المنال، التعرف على رمزية الصاغ أبو نسر، ومن هي تلك المفعول بها. ويدخل الكاتب –فى النهاية- فى نوبة صوفية، يتوحد فيها مع تلك التى ليس له سكن غيرها. ليَصْلُح المعنى على كلا الحالين.. فهو ما قد يكون السكن المادى، وقد يكون السكن الروحى (السكينة). وكأنى بالكاتب يتمثل الحديث القائل( إن المُنّبَت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى} فى رؤية شاملة لثورة يوليو، حيث المُنّبت، هو الذاهب إلى هدف معين، بهرولة ودون ترو، فشق علي البعير (الظهر) حتى قسمه، فلا هو أبقى علي البعير، ولا وصل إلى مبتغاه. لتصبح الرؤية السياسية قريبة المنال، سهل الوصول إليها، رغم تهويمات الكاتب، وكأننا نستخلص الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وتظل الوحشة والغربة حاضرة فى قصة "شوارع موحشة" تلك التى يسير فيها الخراط سيرا عرضيا، بمعني أن سير القصة يتم أفقيا- مع استمرار التصاعد النفسى الداخلى، راسيا. فيسير السارد في جوانب المحروسة، يستعرض فيها الكثير من المشاهد الحياتية، مغروسة وسط عرض مشهدى، يجعل من الوصف عامل أساسى في توصيل الرؤية. فنرى فى البداية {تحت الحائط الجانبى، المصمت، السامق، المطل على حارة ضيقة رأيت هذا الشاب، نائما، جلابيته المتربة التى كانت بيضاء ياقتها معووجة مفتوحة على صديرى قديم لامع مخطط بألوان كثيرة باهتة الآن. الجلا بية المغبرة مفروشة على كوم من رمل البناء الأصفر خشن الحبيبات، وقد تعرى جانب من ساقيه العجفاوين الكالحتين. مقطوع، فى هذه الغيبة، عن كده وضنكه.... مرمى فى بيداء النوم، هل النجدة آتية؟ أم لا ضرورة لها، ولا حتى معنى، حتى؟} . وبجوار النائم.. كان الخروف مربوط على الرصيف بجوار الجرانيت الجميل والرخام الناصع، وكان زير ماء إخضرت جوانبه من نشع الماء، وجاءت سيدة عجوز، وقفت تنهج قليلا وضعت شنطة كانت تحملها وراحت تشرب من الزير، وراحت {تشق طريقها، منفية وحدها، فى القاهرة الموحشة}. ثم ينتقل السارد إلى نيل حى الزمالك حيث {كراسى الكازينوهات البذيئة الشكل، والأتوبيسات الكبيرة والصغيرة عكرة السطوح والنوافذ وأكوام الحجارة البازلت المنزوعة من الأرصفة}. وسور مستشفى العجوزة للتأهيل، يحمل شفرة كل المستشفيات، واقع على حافة المرض والموت والضرب{بأيد مصممة ومتشبثة، على سطح موج الألم، و الشارع خاو، مازال ترابيا مدكوكا بحجارة رمادية صغيرة، وغير مشذبة الحواف، بيوت واطئة من دور أو دورين، وغيطان متناثرة ومحبوسة بين البيوت، عمارة جديدة عالية وحيدة قائمة بلا أنيس بين الجناين وصغار البيوت}. كما نقرأ عن الكلب الخضم النابح في أحد الحدائق، والفلاح الصامت أبدأ، منكب على عمله منذ قديم الزمان، لم يتغير، باصابعه الغليظة سوداء الأظافر، وهو الذى راح يلهث وراء طائرات ليبيا والسعودية والعراق { جريا وراء حتة المصاغ لامرأته وبيت الطوب الأحمر لعياله وجاموسته والفيديو والتليفزيون والمزاج} ونري البنت التى تفرش الفجل والبصل الأخصر على قفص الجريد مغطى بخيشة مبلولة دائما. والكهل الذى يفترش الشارع لعرض المجلات والكتب القديمة، كتب السحر والطب وعلم الروكة وتذكرة داود. ثم يظهر السارد ليعلن عن نفسه، وموقفه من كل هذا التخبط وعدم الانساجم والعشوائية، والتى اكتفى للتعبير عنها، بعرضها مشفوعة باللغة، والوصف الدقيق للتفاصيل {المنفى هو قانونى، وهو موطنى، صمت الحروف .. مدفونة لأُ بعث فيها}. وليس هذا وحده، بل ينقلنا إلى تاريخ محدد {أخر شهور عام 1964) حيث وصل إلى زيوريخ، حيث {كانت ندف الثلج المتطايرة تنزل بصمت، وأنوار النيون الملونة فى قهوة الأوديون تلمع تحت سماء داكنة يشع منها نور أزرق شاحب} وحيث كان الولد الأشقر والبنت الشقراء {جالسين متعانقين على الكنبة الجلد العريضة، يقبلان أحدهما الآخر قبلة طويلة لا تريد أن تنتهى .. تحت وطأة نور الفلورسنت، والواجهة الزجاجية العريضة طُهريّة النظافة مزركشة الأطراف... وحدهما ... وحدى ... أما الرغبات فكأنها ليست منى}. لتكشف عن الرغبة الدفينة الناتجة عن المقارتة، او المفارقة التى حتما تدور بالأعماق الساكنة السطح، والمتقدة الفوارة بالأعماق. ثم يتاح له أن تأخذه إمرأة إلي بيتها ليدخل البيت الذى فيه {ساد داخل البيت سكون مبطن وعميق، وصعدنا سلالم رخامية مكسوة ببساط أحمر ناصل قليلا وبَرتُه نحلت والرخام لامع على جانبى البساط} ثم {وكان سريرها أبيض الملاءات بارد الملمس قليلا، وموحشا. ولم يكن فى عناقنا إلا وِحدة كل منا} فقد حدث اللقاء الجسدى، غير أنهما لم يمتزجا، وكأنه التعبير عن التباين، او عدم التوافق بين الثقافتين، العربية والغربية، بين ما عاشه السارد فى مصر، وما رآه في سويسرا، بعد جولاته والعديد من مظاهر الهدوء والتناسق والجمال. ثم ليعود ثانية إلى مصر، ويذهب للتفاوض على شراء قطعة أرض لبناء مدفن، حيث بدأت المساومة على ثلاثة آلاف دولار، وانتهت بألف، {وقال لى أن أقابل سيدنا، ولما استفسرت بنظرة، قال بنفاد صبر.. الأنبا ألكسندروس وكيل البطرخانة، قل له أنها ماتت من أكثر من سنة، لأنه غير مسموح لنا نقل أحد إلا بعد مرور سنة على الأقل. وقال قل له إنك ستتبرع للكنيسة بألف على الأقل أو كما تريد، اصل التربة ببلاش لكن الأعمال الخيرية إنت وما يخرج من ذمتك...... كانت غرفة مكتبه واسعة أرضها مكسوة بسجاد ثمين عريق الشكل، مسدلة الستائر الكثيفة على النوافذ ومنيرة بنجفة كبيرة} ويسأل سيدنا السارد عما دفعه لمسيحة، لكنه كما اتفق مع مسيحة، اجاب بلا شئ. { عارفا وكأنه متواطئ : ألفين مش كده؟ ولم ينتظر ردا وقال بصوته الملئ بالسُلطة والحُكم: هات الطلب يا سيدى وروح ادفع فى الخزنة}.وكأن الكاتب أراد أن يقول، ان الفساد، وخراب الذمم، وصل حتى فى تجارة الموت، بمعرفة من منحهم العامة، سُلطة غير مسترده... ثم ينهى الكاتب قصته، باستحضار الحب الغائب، الحب الذي لا مفر منه إلا إليه، لذا فهو يشعر بالوحشة لغيابه، وسط كل تلك العشوائية {أما الوحشة فهى نزول التوجس فى دخيلتى وجفول القلب أمام مُثولكِ. مع ازحامه بهواك}. لتنبثق كل خصاص القص عند الخراط. اللغة القاطعة، والتهويم بالوصف الدقيق لكل الأبعاد، وغياب الحوار، ليظل العل، ورد الفعل، داخليا. ثم لا مفر من (البلد) رغم كل ما نعانيه فيها. فهى القدر المكتوب، كما الحب، الذى لايد لنا فيه.
فى تعليقه على رواية "قبل وبعد" لتوفيق عبد الرحمن، يشير الخراط، إلى ما يمكن إعتباره –أيضا- الرؤية النظرية في كتابه "القصة والحداثة"[17]. وكأن الخراط يُنّظر لفلسفته في كتابة القصة {ولعله لم يُشر إلى أن "العدالة" فى روايته ليست قاصرة على البعد الاجتماعى الطبقى – وهو ماثل بقوة ومن غير تناول مباشر- بل يتعدى معنى العدالة إلى مستوى فردى، إذ يُحس الراوى بمرارة أن العدل قد تجاوزه فهو يوشك أن يُنهى حياته دون أن يُنجز شيئا، بل يُفسد إحدى مرؤساته، ويدين نفسه فى ذلك، كما لعل معنى العدالة يذهب إلى افتقادها فى موت الأب بمرض عضال لا جريرة له فيه، وشأن كل الأمراض والألام. ثم افتقاد لما يمكن أن نسميه (العدالة الكونية)}. وهو ما يمكن أن يكشف عن الرؤية التطبيقية في قصصه، التى ابتعدت قليلا عن (الواقعية) التى اعترض عليها في قصص الأربعينيات والخمسينيات، وحيث يمكن القول بأنه (انكمش) داخل ذاته، فاصبحت القصص تنبع من الذات، وتتحدث إلى الذات، وكأنه فى حالة انفصال عن الخارج، وكأنه نوع من الهروب من المجتمع، والذى نراه نوع من الاعتراض، الذى يدخله في صميم الكتابة (السياسية)، رغم عدم ذكرها المباشر.
وهو ما نجده، كتطبيق لرؤيته حول (العدالة الكونية) في قصته – من ذات المجموعة "أمواج الليالى" – "شجرة مضطربة الثمر".حيث تبدأ القصة {قلت: اتفق لى أن أدخل فى شجرة لا أدرى ما ثمرتها... قلت: ولا أدرى ما المخرج منها} حيث تضعنا تلك البداية فى طول الحياة، ما بين دخولها، والخروج منها، أى أننا أمام رؤية إنسانية بحتة، ليس لها علاقة بالواقع الاجتماعى. مع ملاحظة أن (قلت) في الحالتين، لم يكن لها من يقابلها، أو يرد عليها. فالسارد قد قال لنفسه. ثم يكمل { أمسكت المطلق بين يدىَّ ..أمسكت به ... يداى مشتعلتان. لم تكن وقدته بردا ورَوْحا على روحى.. جمرته، دائما، لا تطاق. أقبض عليها بيدى كلتيهما} فيخرج السارد من المحدود إلى اللامحدود، إلى المطلق، وكأنه يمسك بالجمر، وهو الإحساس الذى يتعرض له أى إنسان ينظر إلى الكون، إلى الوجود، غير أنه مجبر على الإمساك به، بكلتا يديه. ويبدأ طوافه فى الحياة (تاريخيا)، وكأنه يبدأ السير فى دروب الحياة، حيث يمسك بالزمن، فيرى الحاضر بعيون الماضى، وكأنه ينظر بالعمق التاريخى { كان وجهها عندى وعندئذ يشبه وجوه النساء فى العشرينات}، كما يراه بعرض الجغرافيا { أم هو غيطان الصعيد، أعواد الذرة المتكاثفة، وحرشات النخل والشمس الثقيلة فادحة الوطأة؟}.
ثم ينظر للإنسان، كإنسان، فى أى مكان، وأى زمان {المدن والساحات التى تقوم داخلى لم أرها قط، ولم تفارقنى قط. تلك القباب، والقلاع كثيفة الجدران، فى ساحة ما، فى مدينة ما، فاطمية أو مملوكية لا زمن فيها، فى قلب القارة الباردة أو فى الأحراش الاستوائية اللاتينية، يدور حولها الترام بصمت، ملونا تلوينا خفيفا، مركبة عتيقة وطازجة لا تنتمى إلى تاريخ، يدور، يدور دون توقف تحت شجرة يتفطر لها قلبى، توجد لى، أنا وحدى ساكنها} { فى لحظات الهناءة والرضى العميق بعد تفجر الجسد السخن المهتاج، حتى بعد الأوبة إلى اكتفاء وامتلاء، هناك ظل مسبق بالفقدان، بالوحشة القابعة التى لابد قادمة..... غور الوحدة المضروبة التى لا مجانبة لها}.إلا ان السارد يعود من تطوافه، على سطح الأرض، كل الأرض، ليكشف التربة عن الجذر الممتد داخل الأرض (المصرية). فمن بين غلالة الضباب التي يصنعها الخراط، حين يدخلنا فى حلم منفلت من المنطق، نخرج منها بتلك الإفاقة { بين أعمدة فيلة لم يبق فى عينىّ إلا أثارة ملح ..... .. بين الأعمدة القصيرة مكتنزة الربلة فى هواء النيل الذى بردته رطوبة الصخر المنحوت، عرفت بيقين مشوب، أن التنين مسجون فى الأرض، تحت أحد هذه العمدان الكثيفة الراسخة منذ ألف ألف عام، لا أعرف متى .. متى يحطم قيوده، ويفك الرصد}.
ثم يتم الربط بين الماضى (الفرعونى) والحاضر المنبثق عنه، وما يعيدنا إلى الرؤية الاجتماعية (السياسية) وكأنه ومهما (إنكمش) الإنسان داخل ذاته، وعاش بالحنين و التجرد، فإنه لا يمكن أن يبتعد عن أمه الأرض، المحيط والبيئة. فها هو يستحضر الزمان والمكان، الذين لا وجود لهما دون وجود الإنسان {أطفال البلد، بجلابية باهتة من قلوع المراكب قد اخترقتها خروم وما زال نسيجها خشنا شكله قوىّ الأسر، يجرون فى موج الليل، يركبون الكباش التى ظلت شاخصة للغيب، عبر الدهور، ثم ينامون تحتها ويلعبون حولها ويطاردون بعضهم بعضا ويشدون قرونها المعقوفة أو المكسورة ويضحكون بمتعة حقيقية ... أهلى وأقربائى وبلدياتى، معتمرين العمم والطرابيش والطواقى واللبد. النساء والبنات فى الملايات والبِرَد السوداء كالخيام .. }. ثم ينحدر بنا إلى صميم الصعيد، وعمقه، وكأنه يعود بنا إلى ذلك اليوم الذى صنعه الرب، متمثلا فى الغناء الذى يصل الأعماق{ يا ساجية العشج، سواّجك ضنا حالى، روحوا اسعلوا الثريا والسبع نجمات، ونجمة الصبح تُنبيكم على حالى، دا العشج غدَّار لا فيه شفجة ولا حنية}.
وليمتزح الفردى بالجمعى، فى وحدة واحدة، متوحدة المصير، متوحدة المشاعر { تحلق حمامة سوداء، من صميم خلقى، وجهها محبوب إلى الأبد، جناحاها مطويان علىّ وعلى جسمها الناعم معا، أطلقتها الآن بين يدىّ، تحوم وتحوم ثم تعلو فوق شجرة العالم الذى أصبح فجأة صغيرا، هديلها لا ينقطع}. فإذا كان السارد قد دخل (شجرة) فى البداية، تشعبت فروعها على مساحة الأرض، واتساع الزمن، إلا ان جذورها منغرسة فى أرض مصر، مصر التى توحد فيها السارد، وهى الرؤية التى تكررت فى أكثر من موضع من أعمال الخراط، واستدعى فيها رموز الدين المسيحى {ضحكت قليلا عندما تذكرت القديس ايسذوروس .... وكان يبكى بدموع غزيرة} . والدين الإسلامى { قيل أيضا أن أبا بكر الصديق كان بكاءً، وكان يبكى حتى تخضل لحيته}. والآباء { وكان أبى – على صعيديته وصلابة عوده – سريع الدموع}، وكأنه يدين كل الحاضر، حين تكون الرؤية أن الأديان، والتاريخ، بكى عليها. أو تكون الرؤية أنه إذا كان كل هؤلاء بكوا، فليس من العيب أن يبكى هو عليها، الآن. ولتبرز الرؤية (السياسية) المندمغة في هالات التمويه، والتجريد، المحسوب،التى يصنها الخراط، والتى تؤكد أن تلك الرؤية، إن لم تكن ظاهرة في القصة، فإنها لابد مستكنة في أعماقها.
فاروق منيب وأحزان الربيع
من الأسماء التي يعجب الإنسان، لما لم تأخذ حظها لدي الدراسات النقدية، رغم عمق وحداثة الشكل القصصي، والذي لا يقل موهبة عن موهبة يوسف إدريس الجبارة، الأمر الذي قد يصدق معه شعبان يوسف فيما ذهب إليه في كتابه "ضحايا يوسف إدريس" والذي اعتبر فاروق منيب أحد هؤلاء الضحايا الذين غاب ضياؤهم وسط سطعة شمس يوسف إدريس. فإذا كان إعتمادنا في رؤية فاروق منيب، من خلال مجموعته الفذة "أحزان الربيع"[18]، والصادرة 1967، فلا نملك إلا فى وضعها الزمنى، بعد أولى مجموعات يوسف إدريس "أرخص ليالي" الصادرة في العام 1954. حيث نجد فيها من التشابه بينهما، سواء من حيث الشكل، أو من حيث استبطان الذات الإنسانية، وإن كان منيب قد مس الجانب الإنسانى البحت، بينما وضح الجانب الأيدولوجى في قصص إدريس. فإذا ما تأملنا مجموعته "أحزان الربيع" والتى يزيد من صعوبة الربط بينها وبين المشهد القصصى عامة، أن أيا من قصصها لا تشير إلي تاريخ كتابتها، أو نشرها في دورية من الدوريات، فيصبح لدينا فقط تاريخ النشر(13 / 2 / 1967)، إلا ان روحا واحدة تسرى بين عروقها جميعا، الأمر الذي يوحى بأن قصصها متقاربة الكتابة.
تبدأ المجموعة بمعالجة موضوع، أول مرة أقرأ عمن تناوله، رغم أنه أصبح يوما مشهودا في تاريخ مصر، بعد ذلك، إلا أن القصة تتناول إغفاله، إن لم يكن تجاهله، وهو يوم 25 يناير 1952. ذلك اليوم الذى هجمت فيه القوات الإنجليزية المحتلة علي مركز الشرطة ومبنى محافظة الإسماعيلية، بعد أن رفض رجاله الإنذار الإنجليزى بإخلائه، وإعلانهم رفض الإنذار. واستنجدوا بالجهات المسؤلة حينها، غير أن الروتين – ربما – حال دون وصول الإمدادات في فترة المهلة – على الرغم من إقرار وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لموقفهم، وطلب منهم الصمود والمقاومة، وعدم الاستسلام، ولم تكن قوتهم تزيد علي ثمانمائة فرد، فتم الهجوم الإنجليزى، بقوة تقدر بسبعة آلاف جندى وست دبابات، بينما لم يزد تسليح رجال الشرطة سوى البنادق العادية. فكان ضحايا القوات المصرية خمسين قتيلا، ثمانون مصابا، وألف من الأسري. إلا انه يبقي ذلك اليوم رمزا للمقاومة والتحدى. وهو ما استلهمه فاروق منيب في قصته "ذكريات مؤلمة". حيث نتعرف علي أحد ضباط الشرطة في ذلك اليوم، وقد انتقل للعمل بالصحافة، وفي ذكري ذلك اليوم، تُعِد الجريدة، بعض الإشارات إليه، كعمل روتينى سنوى، ولما لم يستجب، يقول له زميله فى الجريدة {إنت لسه بدبج. ما قلتلك عندك الأرشيف}. إذن فقد تحول هذا اليوم في نظر الصحافة، والمجتمع، إلى ذكرى أرشيفية، وليس حياة عاشها ذلك الضابط، ولازالت ذكرياتها تُلح عليه، ولا زالت رائحة الدم، وصور الموت، تعايشه، ممثلة في زميله الضابط الذى استشهد فيها {وزكمت أنفه الدم القديم فأحس بانقباض مر فى حلقه ...... وبرزت أمامه صورة زميله ضابط الدورية كالتمثال المرمرى المتجسد.. يمسك القوس بإحدى يديه.. والرمح بيده الأخرى.. لا... إن هذه الصورة ليست حقيقية. لم يكن عزت تمثالا من المرمر. كان إنسانا بسيطا. عندما قابله فى ذلك اليوم، كان يضحك. قال له معاك سجاير؟
- معاى
- مجيب يا أخى}.
وبينما (صابر) – والإسم هنا له دلالته، حيث ينفتح علي جموع الشعب المصرى - مستغرق في ذكرياته عن اليوم {دخل الصالة رجل وامرأة. من الواضح أنهما ممثلان معروفان.. تطلع الزملاء جميعا إليهما.. نحن فى فصل الشتاء، والموسم المسرحى على أشده.. الجميع يهتمون بالممثلين والممثلات.. ما قيمة بطولة رجل البوليس.. ماتوا وانتهوا، ولم يبق إلا ذكراهم تتردد بطريقة تقليدية ميتة}. ليتكشف حجم الهوة بين البطولة (الحقيقية) والواقع الغارق في التفاهة والسطحية، الأمر الذي أصاب صاحبنا بالإحباط { الكتابة لاطعم لها ولا لون ولا رائحة.. شبع الناس منها. ملوا الكلمات المنمقة. الصبار نبت وترعرع فوق قبور الشهداء. زوجاتهم كبرن، واقتربت الشيخوخة من وجوههن، لم يخلعن أثواب الحداد بعد}. ويستمر التجاهل عقودا من الزمن، تصل إلي نحو سبعين عاما، لتقرر الدولة الاحتفال بذلك اليوم، وجعله عيدا قوميا في العام 2009. ولا يمر إلا عامان بعد ذلك ليتحول ذلك اليوم إلي ثورة 25 يناير 2011، للثورة علي تجاوزات الشرطة. وكأننا أمام مشهدين في المواجهة، يعبران عن نوعية الحكم، وسلوك أدواته، التى تأتى الشرطة علي رأسها.
وإذا كانت الرؤية السياسية هنا (مباشرة)، حتى لو تغلفت بالهم الفردى الإنسانى، إلا انها، تظل مُستَبطَنة في جوف شخصيات القصص الأخرى، مثلما رأينا القضية الأساسية في "تأملات حزينة" مستبطنة في قاع نفس السارد، وكأننا أمام عملية كشف للذات الفردية في مواجهة العالم الخارجي، وهو ما نعيشه في باقى قصص المجموعة، وكأن الكاتب يفرش عنوانها العام "أحزان الربيع" – رغم أنها عنوان إحدي قصصها، حيث المقابلة التي يوحى بها هذا العنوان يكشف عن ذلك السر المدفون في الإعماق، رغم ما يوحيه (الربيع) من بهجة وتفتح، وما يوحيه ذلك الإسلوب من كمون النار تحت الرماد، أو البركان تحت مياه المحيط. إذ ليس الظاهر دائما يعبر عن الباطن، وهو ما يؤكد أن الجموع التى تسير وفق التيار، ليست دليلا علي الرضا، بل ربما تحمل في جوانيتها، ما يعبر عن الاستنكار والرفض، وهو ما تكشف عنه تلك القصة التي منحت المجموعة عنوانها "أحزان الربيع" والتي نتعرف فيها علي اثنين من الأصدقاء، الفلاحين، بطول العِشرة بينهما، يذهب أحدهما إلي صديقه "عبده" في بدايات فصل الربيع ليجده علي غير ما عهده منه، فبقدر ما كان عليه من فرح ومرح، وجده الآن يحمل سرا دفينا {لا أدرى سر هذا الصمت الدفين الذى انتابه فجأة. في كل مرة كان يسعدنا بنكاته وقفشاته الطريفة الحلوة. لكنه اليوم هادئ كالطير.. عميق كالبحر.. صوته منخفض إلى حد الضعف والاستسلام}. يحاول الصديق أن يُخرجه مما هو فيه، أو التعرف على سر تغيره، رغم أن {الربيع علي الأبواب، وأيام الشتاء الأخيرة تودع الأرض والشجر والإنسان}، فيفشل في فتح صندوقه المغلق. فيحاول أن يجره في حديث آخر، ذلك الحديث الدال والموحى { قلت وأنا أخبط ساق العنبة الملتفة التى تستعد للإنعاش: بعد كام سنة تطرح المانجو يا عبده.. ثلاث سنوات؟
قال وهو بعيد عنى يمسح ظهر حماره: ليس في كل الأحوال.. ربما ثلاث سنوات أو سنتان.. أو شهور.. حسب الشتلة التى تضعها فى الأرض
وهل عندك شجرة مانجو؟
وسكت وقد قهره نوع من الهروب الضجر..}. ليدخل في حديث آخر عن مقتل "خديجة" فلا يبدى "عبده" أى اهتمام، ويقال بأن ابنها هو من قتلها... لا اهتمام.... وسرق صيغتها ودفنها في أرض السنباطى.. فتظل اللامبالاة هي رد فعل "عبده". ليدخل مباشرة "عبده" فى حديث عن ذلك الكلب، الذى تأتى أمه، من بلد بعيد، كل يوم، تحمل له "رغيفا" واحدا، تطعمه، ثم تعود. وكلما حاول الصديق الدخول في حديث {ماذا يقصد عبده؟ هل يريد أن يضللنى؟! أنا أعرف وفاء الكلاب.. ولكنه ينتقل من موضوع إلى آخر، وحمله لايزال في باطنه، لا يريد التخلص منه}. ولا يظل تساؤل الصديق فى باطنه وحده، وإنما ينتقل لباطن القارئ الذي يتساءل بدوره عن السر وراء كل من شجرة المانجو، وقصة الكلب، التى رغم أنهما برزا دون مقدمات في الحديث، إلا أن الكاتب يرسل رسالة من خلال هذه الإشارات.
وعاد "عبده فجأة إلي حديث المانجو، وشجرته التي { ظلت عشر سنوات عاقرا. حاولت أن أعرف ضعفه، فلم أستطع.. وأخيرا بعد أن يئست، فاض بالبشرى}. ويسعى من جديد لإخراج صديقه. يسأله عن الشاى، فيتم عمل الشاى، ليزيد الكاتب الضوء علي المشهد القاتم، وكأنه يُخرج أعماق "عبده" إلى الوجود الخارجى { وقعدنا نرتشف الشاى في آخر أيام الشتا. طعمه كالعلقم. لونه أسود كسوادالليل. لا أثر فيه للنعناع أو السكر}. ولتنتهى المقابلة دون أن يبوح "عبده بسره" {وحط علينا نحن الأثنين صمت كئيب. كتمت أنفاسنا حيرة غريبة مذهلة، اختفت شعاعات الشمس الواهنة المتحجبة تماما، ضاعت أمنيتى في أن ألمس أوراق الكرنب الزرقاء بخدى. تبخرت حلاوة الربيع القادم من قلبى.. طار سرب الحمام بعيدا عنا.. خذلنى عبده فلم أعرف سره}، وليترك لنا الكاتب البحث عن سر ذلك التغير، وذاك السواد القابع في الأعماق، رغم ما يشير إليه قدوم الربيع.
نحن إذن إزاء قصة إنسانية، تعرض لحظة سارت فيها سحابة شتوية علي نفس الفرد فأصابته بالكآبة، وجعلته غريبا عمن حوله، فبدا غريبا، على غير طبيعته. وهو ما يمكن التوقف عنده، وتأملها – القصة - علي ذلك. غير أن القصة الأولي في المجموعة، التى أشرنا إليها "ذكريات حزينة" بما ألقته من رؤية مجتمعية، سياسية، وكذلك قصة "لقاء الرجل المهم"، والتي اهتمت بالرياء، كمرض إجتماعى أصاب المجتمع وقصة "انتظار" التي تتحدث عن التقوقع والهروب، واللامبالة إزاء حدث كبير كغرق أربع شبان بالنيل ليقف الجميع عند الجسر(وكان عشرات العيون تتطلع إلى المياه المائجة بلا جدوى، يبدو أن الفجيعة لا تهزهم} وتقف السيارات تستطلع الأمر، ثم تمضي، وكأن شيئا لا يعنيهم.، بينما كان السارد يستأذن (قوقعته) في قضاء بعض الوقت مع الأصدقاء، ومعهم انخلعوا من الحياة الآنية، المجتمعية، فغني أحدهم {باللهجة الصعيدية، فأثار فينا حبنا لبلدنا}، في إشارة لذلك الحب الغئى، والذى استحضرته أغنية الزميل، وليصرخ أحدهم وسط الضحك والبكاء {- السطحية منتشرة . قلنا لاتذكرنا بالواقع.. نحن في حالة نسيان.
-والزيف
-يا حبيبى نحن مسرورون الآن.
-السطحية والتزييف والانتهازية تطغى علي كل شئ}. وأعتقد أن الأمر هنا لا يحتاج إلى المزيد من الكشف، فالرؤية جد واضحة.
وفي قصة "الفخ" حيث نصب العساكر الفخ لاصطياد الكلبة التي أظهرت تفوق فى التدريب{ إنها كلبة ذكية مقدامة، تعرف هدفها جيدا، حافظت على مدة التدريب واتقنته قبل رفقائها بمدة طويلة، حنون ماثل، لا تعرف الفوضى والتمرد.. لكن للأسف ثارت في وجهنا أخيرا، من يدرى بهذا التحول الغريب الذى أصابها؟!}، وهى إشارة واضحة إلى المثل القائل (إتق شر الحليم إذا غضب). وهى الإشارة التى يكشف عنها التعرف علي أن هذا الفخ، قد تم نصبه في الريف {إياكم أن تطلقوا النيران، أرجو من السادة (الفلاحين) أن ينحدروا بعيدا عن الفخ الذى نصبانه}. ليتضح أن الكاتب يرمي إلي ثورة الفلاحين، المكبوتة، الذين صبروا وظنتهم السلطة مستسلمين، إلا أن طول الصبر، والمظهر الهادئ الذى يبين عليهم، يخبئ تحته الثورة، والغضب.
كل ذلك وغيره بالمجموعة هو ما يفرض علينا قراءة الكاتب في مجمله.لنستبصر قصة العنوان" أحزان الربيع".
فإذا عدنا إلي قصة" تأملات حزينة" فنقرأ حديثا دار بين السارد "صابر" وزميله "عزت" الضابط الذي استهد، عندما أتى لصديقه فوجده مكتئبا ليسأله عن أحواله {- مالك يا صابر؟
- مفيش والله.
- إيه؟! إذا كان على الحالة المادية كلنا زيك يا حظ}.
وكذلك بوضع ذلك الكلب الذي تأتى أمه من البلد البعيد لتحضر له مجرد رغيف، فنحن إذن أمام (جوع) يعانيه أهل أبناء القرية، حين تصبح الكلبة، الأم، التى يمكن تماهيها هنا في (السلطة)، ومدى مسؤوليتها عن رعيتها. فنحن إذن أمام تقصير من السلطة، تجاه هؤلاء الذين نظنهم فى ربيع الحياة فى الريف. أى أننا أمام رؤية (سياسية). خاصة إذا تأملنا، إصرار "عبده" علي الحديث عن شجرة المانجو، رغم أن صديقه كان يضع يده على شجرة العنب، بما يدعونا للتعرف على شجرة المانجو، لنعرف أنها تتميز بتحملها للجفاف وظروف الطقس (الصبر والتحمل)، فضلا عن أنها لا تتحمل الرياح الشديدة، الأمر الذى تتطلب معه أن تقام لها مصدات للرياح، تحميها. بينما تقول القصة أن شجرة المانجو تُثمر بعد سنتين أو ثلاث، بينما شجرته أثمرت بعد عشر سنوات.. أي طال (الصبر). وملت النفس من الانتظار، فما كان من صابر إلا أن يشعر بتلك اللامبالاة، تجاه حدث كبير كقتل الإبن لأمه من أجل سرقة مصاغها، وكأننا أمام عملية طول هجر السلطة، لهؤلاء الصابرين الصامتين، هو ما دفع بالفلاح أن تكون اللامبالاة، هي النتيجة الطبيعية، لذلك التجاهل، وتلك الحالة الدفينة التي أصبح عليها "عبده" فتبدلت حاله من البهجة والسرور، إلى الجهامة وصمت القبور.
[1] - يرجع في ذلك لكتابنا البواكير في القصة القصيرة – مركز الحضارة العربية 1999.
[2] - يحيى حقي – تراب الميري – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1986.
[3] - د سيد حامد النساج – اتجاهات القصة المصرية القصيرة – مكتبة غريب ط2 – 1988.
[4] - يحيى حقي – أم العواجز – الهيئة المصيرة العامة للكتاب –مهرجان القراءة للجميع - صيف 1999.
[5] - مجلة الكاتب المصري العدد 20 مايو 1947.
[6] - فاروق عبد القادر – البحث عن اليقين المراوغ قراءة فى قصص يوسف إدريس – كتاب الهلال العدد 572 أغسطس 1998.
[7] - يوسف إدريس – مجموعة بيت من لحم – الأعمال الكاملة ج 1 – دار الشروق – ط1 1990.
[8] - من مجموعة بيت لحم – المصدر السابق.
[9] - جورج أويل – 1984 ترجمة أنور الشامى – المركز الثقافى العربي- 2006 – (صدرت الرواية 1949).
[10] - فاروق عبد القادر_ المصدر السابق.
[11] - يوسف إدريس – بيت من لحم – عالم الكتب 1971.
[12] انظر كتابنا الرواية فى أكتوبر73 – كتاب الهلال – العدد 799 – أكتوبر 2017.
[13] - يوسف إدريس – مجموعة النداهة" – روايات الهلال العدد 249 – سبتمبر 1969.
[14] - إدوار الخراط – القصة والحداثة - كتب عربية – 2005.
[15] - إدوار الخراط – أمواج الليالى - دار شرقيات – ط1 – 1991.
[16] - كاتب هذه السطور – البواكير فى القصة القصيرة – مركز الحضارة العربية –ط1 1999.
[17] - إدوار الخراط – المستند السابق.
[18] فاروق منيب – أحزان الربيع – دار الكاتب العربى للطباعة والنشر – 1967.