كأن هذا النص المحكم لغة وحبكة-عن زوجة وأطفالها ينتظرون الأب-يقودنا إلى سر غامض، فهل تكون هذه الروح القاتلة البريئة هي روح الجد، التي تحمى أسرة ابنه الضابط بالجيش أثناء غيابه؟ يفتضح سر الجد فتتوقف حمايته للأسرة، ويضطرب التراسل ما بين الأحياء والأموات فتحدث النتيجة الكارثية.

الروح القاتلة البريئة

الخامسة عـلاوي

 

كانت ظروف عمله تحتّم عليه أن يغيب عن بيته وزوجه وأولاده أسابيع كاملة وربما امتد الغياب إلى الشهور، وهو ما جعله يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يؤمّن مداخل البيت ومخارجه جيدا حتى لا يتسرب إلى داخله جنس مخلوق مهما كان.

وفي أحد الأيام وفي غياب الزوج تنبهت الزوجة إلى أمرٍ إمراً؛ إنّه مراصدة رجل على مشارف الخمسين لها كلما خرجت من البيت لجلب الأولاد من مدارسهم... كان يفعل ذلك من بعيد فإذا أحسّ بتنبهها له اختبأ مهلة من الزمن بين الأزقة ثم عاد لمراصدتها من جديد.

ترددت في إخبار زوجها عبر اتصالاته الهاتفية اليومية، وأخيرا قررت أن ترجئ ذلك إلى وقت عودته إلى البيت.

 وتمضي الأيام  وخوف المرأة من ملاحقة الرجل لها يزداد حدّة لدرجة أنّها أوكلت مهمة الذهاب والإياب بالأولاد إلى مدارسهم إلى قريب لهم كان يشتغل على سيارة أجرة مؤكدة عليه أن لا تغيب عينه ولا لحظة عن أطفالها حتى يكونوا في أمان داخل مؤسساتهم ، كما اتصلت بمديري المؤسسات التي يدرس فيها أطفالها وأعلمتهم بأن لا يخرج الأطفال من المؤسسة الا برفقة سائقهم الخاص مهما كانت الظروف ، وهكذا يبدأ الأطفال مرحلة جديدة في حياتهم تغيب فيها الأم  مرافقة لهم ويحل محلها ذاك القريب، الذي كان يعلم أنّ حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه كبيرة لأنّ هذه المرأة ما دعته لهذه المهمة إلا لأنها توجست من أمر ما خيفة لاسيما وزوجها إطار سام في صفوف الجيش.

ولكن هل غاب المراصد ؟؟

لم يغب، بل أصبح يجالس كرسيا في مقهى مقابل بيتها في بعض أوقات اليوم، وفي أوقاته الأخرى يعانق ظلال شجرة سرو كبيرة كانت على الطرف الآخر من الطريق المؤدي إلى بيتها، التي كانت مطمئنة بأنّه لن يجرأ أحد على الاقتراب منه لأنّه مجهز بأحدث كاميرات المراقبة.

وتمرّ أيامُها مثقلة بهاجس الراصد الغريب، وتمتد أسابيع غياب الزوج شهورا نظرا لحالة الطوارئ التي باتت تعيشها البلاد بسبب شغور منصب رئيس الدولة، الأمر الذي جعلها تقرر إخبار زوجها بكل ما يحدث معها، لكنّ قصر فترة المكالمات حال دون ذلك.

وفي ليلة من لياليها الطويلة، وعندما نام الأولاد قررت أن تجلس إلى النظر في تسجيلات كاميرات المراقبة، وهنا شدّ انتباهها أنّ شيئا إدّا يحدث ؛إذ إنّ الكاميرات كلما توجهت وجهة المكان الذي يجلس فيه الرجل المراصد عادة يحدث فيها انقطاع، وعليه فالكاميرات لم تلتقط له أية صورة، فراعها الأمر كثيرا وتشتت عقلها وفكرها، وعندها قررت أن لا يهدأ لها بال حتى تخبر زوجها بما يحدث، حاولت الاستسلام للنوم فلم يجد النعاس لعينيها طريقا، توضأت وقضت هزيع ليلتها سائلة الرحمن العفو والعافية في دينها ودنياها وأهلها ومالها راجية منه أن يستر عوراتها ويأمن روعاتها، وهي على حالتها تلك تناهى إلى سمعها كأنّ المفتاح يدور في قفل الباب، فانزوت في مكانها ولم تستطع الحراك، وماهي إلّا لحظات حتى فُتح الباب في هدوء دون صرير، وخطى الداخل خطوتين في الرواق الطويل ثمّ وضع حزمة المفاتيح على خزانة الأحدية وأشعل أقرب مصباح منه، هناك فقط أدركت أنه لا يفعل ذلك إلاّ رفيق الدرب، فتحركت من مكانها لترتمي بين أحضانه الدافئة.

وبعد حمام دافئ تخلص فيه من أعباء رحلته الطويلة، ركنا إلى النوم في هدوء كبير.

 وفي الصباح وهما على مائدة الإفطار حكت ميرة لزوجها ما حدث لها في غيابه قبل أن يصل السائق لمرافقة الأولاد إلى مدارسهم، فاستحسن تصرفها كثيرا، ثمّ دخل غرفة المكتب ووجهته تسجيلات الكاميرا، وقبل أن يبدأ دخلت عليه ميرة وأكملت له الحكاية مؤكدة له أن الكاميرات لم تسجل ولا صورة للرجل. عندها طلب منها أن تصف له الرجل بكل دقة حتى يتسنى له رسمه على ورقة، وهي تفعل ذلك ذاكرة تفاصيل التفاصيل استوقفه وصفها عند آخر صورة احتفظ بها في ذاكرته لوالده الذي وفاته المنية على إثر حادث وهو يقطع الطريق المؤدي لمحطة الحافلات القريب من بيتهم القديم، فبادر بسؤالها ماذا كان يضع على رأسه ميرة؟

فردت عليه: قبعة رمادية من فرو فاخر، ذات طراز روسي.

هنا توقف الزمن به، حتى راح يقول لها: مهلا ميرة أنت اليوم تردينني بعنف إلى لحظات لم أقدر يوما على تجاوزها في حياتي. هذا الرجل بكل مواصفاته المذكورة هو أبي رحمة الله عليه، ولكن كيف؟ بل ماذا يحدث؟

لم تزد إلاّ أن قالت له: ما رأيت قط صورة لوالدك منذ أن دخلت هذه العائلة. فردّ عليها هل أنت تقصدين ما تقولين؟

ردت عليه: نعم، لا أحد من العائلة يوما تجرأ وتحدث عنه وعن كيفية وفاته، فاحترمت رغبة تكتمكم على الموضوع ولم أفتحه مع أحد. هنا جلس إليها وحدّثها عن فاجعتهم في الوالد الذي خرج لاقتناء حاجات من السوق فلم يعد إليهم إلا محمولا على الأكتاف، ومنه إلى مثواه الأخير، لتسأله ولكن لماذا تطاردني روحه اليوم أنا التي لا أعرفه أصلا، صمت طويلا، ثمّ قال لها لابد أن نتأكد أولا بالصورة. ثمّ قام واتصل بإخوانه واحدا واحدا يطلب منه صورة الوالد بالطقم الذي لقي فيه حتفه فوجدها عند أصغرهم، فطلب منه أن يجعلها له في إطار جميل ويحضرها له إلى منزله...

وفي المساء وقبل أن يغادر البيت عائدا إلى مقر عمله عاود الاتصال بأخيه مؤكدا له ألا ينسى أمر الصورة، كما طلب من زوجته أن تعلق الصورة في غرفة نومهما فوق المرآة وأن تعرّف الأولاد بجدهم.

راصدت ميرة رفقة زوجها طيلة اليوم الطريق الذي بات خاليا من أثر الرجل تماما، وفي المساء عندما غادر الزوج وقبل وصول الصورة إلى البيت، عاد الرجل إلى مكانه المعتاد.

 وقبل المغيب بدقائق دقّ الباب ففتح الأولاد الباب مهللين مرحبين بعمّهم الذي جاءهم بما لذّ وطاب من الحلويات ...بينما راحت الأم لتختلس النظر من النافذة لتكتشف غياب الرجل من على قارعة الطريق، فعادت مسرعة مستقبلة أخ زوجها ومستلمة منه الصورة التي ما إن كشفت عنها حتى راحت تخاطب نفسها سبحان الله يخلق من الشبه أربعين، هذا ذاته مراصدي.

 ترى لماذا اختفى من مكانه لمجرد وصول الصورة إلى البيت؟ وهل يعلم ماذا يجري في بيتي؟ بل لماذا تعود روحه بعد كل هذه السنين لتترصد بيتي وأولادي؟ ما الخطب يا ترى؟ وماذا تخفي لي أقداري؟ وهي تجذف بأسئلتها التي باتت لا تزيدها إلا رعبا وهلعا سألها عم الأولاد لماذا طلب أخي الصورة اليوم أختي ميرة وهو الذي ما فتح منذ وفاة الوالد سيرة للحديث عنه؟

ردت عليه: ربما اشتاقت روحه إليه أخي.

صمت قليلا ثمّ أردف إليها محدثاً بعد وفاة أبي، ولما كان أخي شديد التعلق بأبي تعرّض لصدمة عصبية حادة كنا نظنّ أنّه لن يقوى على الخروج منها، لكنه تجاوزها بعد أشهر لذلك لا أحد منّا يذكر الوالد رحمة الله عليه في جلساتنا العائلية. ولا أخفيك أختي ميرة الكل اليوم يستغرب بحثه عن هذه الصورة بالذات...

وبينما هزّ صوت أطفالها المكان، آثرت هي الصمت رداًّ، حينها قرر العم الرحيل، فاستأذنته أن يعلّق لها الصورة في غرفة النوم ففعل وغادر على عجل، لتبقى هي والصورة ورائحة الدم تملأ أنفها والمكان.

وقبل آذان العشاء الثانية أحسّت كأنّ طيفا يتبع خطواتها في كلّ مكان تتجه إليه في البيت لدرجة أنها ظلت تمشي وتتلفت ذات اليمين وذات الشمال.

 ومع استغراق الليل في الامتداد حلّ الهدوء والصمت فنام الجميع إلاها باتت ليلتها في هلع من رائحة الدم وكعادتها عندما لا يكون زوجها في البيت لا تنام إلا بين أطفالها الثلاثة ومن أجل ذلك أغلقت باب غرفتها بإحكام وتركت سراج الرواق مشتعلا واستلقت آملة أن يلهمها الله راحة العقل والتفكير قبل راحة البدن فلما غفت قليلا وقبل ساعة من آذان الفجر نهضت على صرير باب غرفة نومها.. تبعته خطوات وصوت نعل على أرض الرواق الممتد بين الغرف، قامت بسرعة وأغلقت باب غرفة الأولاد بالمفتاح وعادت أدراجها إلى سرير أصغرهم.

 بعدها سمعت صوت باب الحمام يُفتح، لِيَلِيه خرير مياه الحنفية، وغمغمة لم تكن تفقه فك شيفراتها، بعدها عادت فسمعت صرير باب غرفة نومها وهو يُغلق من جديد.

ورغم أنها لم تكن تدري ما يحدث في الخارج إلاّ أنّها كانت تعيش في داخلها حالة رعب فريدة وكلّها يقين أنّ ما يحدث هو من إفرازات حضور الصورة التي جلبت معها رائحة الدم من جهة وهذه الحركة غير العادية من جهة ثانية...

ولتهدأ نفسها راحت تردد قوله تعالى:" وخشعت الشياطين للرحمن فلا تسمع إلاّ همسا"، وحين استكانت روحها استجمعت كلّ قواها وخرجت ووجهتها غرفة نومها حيث كانت تسمع كأنّ أحدهم يؤدي صلاة ما، فلما فتحت الباب ورمت بعينها إلى داخل الغرفة؛ إذا بالصمت يحل في المكان وبقنديل متوهج على سجاد صلاتها، خطت خطوتين باتجاه القنديل ثمّ رمت بيدها إليه فلما أمسكته انطفأ، وأحدهم يردد: "يا نار كوني بردا وسلاما"، رفعت يدها المرتجفة عاد فتوهج من جديد. لم تصدق ما يحدث وتوجست خيفة، وهي تعود إلى الوراء رمت بعينها إلى مكان الإطار فما كان للصورة وجود. وقبل أن تجري يدها إلى المصباح، ارتفع صوت هزّ أرجاء الغرفة مرتلا قوله تعالى:" وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون". ضغطت على المصباح فإذا بالصورة تعود إلى إطارها والمصحف مفتوح على سورة يس ورجع المرتل يهوي بها إلى عالم آخر، ورغم ذلك حاولت الاقتراب أكثر حيت تقبع الصورة لكنها أحسّت كأنّ جسدا حال بينها والمكان، اقتربت أكثر ولكن دون جدوى.

 وهي تعود إلى الوراء مكسورة خائفة رأت كأنّ صاحب الصورة يحدّثها قائلا: بنيتي، إهدئي...إحفظي  سري وتكتمي...، وهنا لم تدر كيف رمت بالإطار على الأرض، فتطايرت شظاياه في فضاء الغرفة تحت عويل روحين أيقنا أن لا مفر، فراحت النفس تبكي رعبا ورهبة، وهي ترى بين ناظريها يداً حقيقية تحمل بعض شظايا البلور المكسور وتضغط عليها والدماء تتقاطر بين الأصابع، فأغمي عليها ، فما أفاقت إلا على رنين الهاتف الأرضي، وهنا لم تجد في المكان إلا قطرات دمّ تمتد من مدخل الغرفة إلى حوض الحمام الذي كان مملوءاً بدم خالطه ماء، وعلى روعة ما رأت ..سارعت إلى الهاتف.. فجاءها الخبر الصاعقة؛ سقوط الطائرة التي كان عليها زوجها في عرض البحر، ولا أحد منها كُتبت له النجاة.