قال مراقب الصف:
- قيام !
وقفت المعلمة جوار السبورة وواجهت الطلبة وقالت:
- جلوس..
ثم تناولت قطعة صغيرة من الطباشير وراحت تلاعبها بين اصابعها وقالت:
- هيا يا أولاد .. ماذا تنتظرون؟ اخرجوا دفاتر الرسم والألوان بسرعة .. هيا..ها! . وكذلك ضعوا علب الالوان بجانب دفاتركم .. جيد، جيد .. والآن استمعوا.
كانت المعلمة تقف مباشرة، تحت مصباح معلق في السقف، فوق رأسها تقريبا، وكان انفها يطلق ظلا عموديا يتقاطع مع الخطوط الافقية للشفتين .. ويسرح حتى حدود الذقن، فيبدو وكأنه قارب اسود تحيطه الاخاديد .. الشفتان متلاصقتان والقارب ينزلق فوقهما متمايلا بارتجاج خفيف. قارب صغير من الظل، يتأرجح من الانف ويستطيل ويندفع الى الامام ببطء شديد.
صار عريضا الآن، منتشرا فوق الرقبة، ومندفعا بمقدمة مفلطحة تكاد تلامس زر القميص.
تقول المعلمة:
- ان الرسم يا اولادي فن، ولكنه بأيدي الجهلة والأغبياء ليس فنا بل خربشة. ونحن هنا لا نريد ان نخربش بل نرسم. أسمعتم؟ ان الذين رسموا هذه اللوحات الخالدة التي ترونها في المتاحف لم يكونوا .. ماذا؟ اسمع أنت أنتبه لا تتحدث مع زميلك .. صه ..
وتحركت نحو النافذة وأزاحت الستائر وراحت تبصبص من خلال الزجاج الى المطر المنهمر، وقالت وهي تنقل قطعة الطباشير من كف لكف:
- إنه فن، والذي يتعلّمه منكم سيفيد نفسه طبعا، وسيكون في مستقبل ايامه من اصحاب الشأن والنفوذ. ولابد انني بيّنت لكم في دروسي السابقة ما كان عليه المرحوم والدي. ويبدو انكم لم تنسوا كيف كان يرعى فني، وكيف ظل حتى وفاته يفاخر برسوماتي امام معارفه، نعم، لقد حدث في احد الايام ان قمت برسم سيارتنا، فما كان منه إلا ان امسك اللوحة وطار بها- الله يرحمك يا أبتي- أتعرفون؟ لقد ابتهج كثيرا ساعتها وقام لفوره ودار بها على الجيران، وبعد ذلك وضعها في اطار انيق مذهّب، وعلقها في غرفة الاستقبال وكان لا يترك فرصة تمر دون ان يعرضها أمام الضيوف، واغلبهم من اولئك الذين يعرفون قيمة الفن طبعا. وهكذا يا اولادي، وبعد وفاة والدي لم اجد من يهتم برسوماتي اهتماما يوازي اهتمامه، وفقدت برحيل المرحوم افضل المشجعين والمتذوقين، على اية حال لنكتف بهذا القدر، فلابد انكم فهمتم الكثير، والآن الى دفاتركم، اريد رسما جيدا، ولكم حرية اختيار الموضوع.
وفرقعت اصابعها في فضاء الحجرة ووضعت قطعة الطباشير على البروز الخفيف لإطار السبورة وقال:
- عليكم بالهدوء، لا اريد شيطنة وحاولوا ان تختاروا شيئا بسيطا، سيارة جميلة مثلا، او عروسا مزينة أو لنقل شيئا عن فلسطين، وإذا لم يكن فمنظرا طبيعيا.
وصمتت فجأة، وعقدت حاجبيها ثم تناولت قطعة الطباشير الصغيرة وقذفتها على احد الطلبة بقوة وصرخت:
- هيا! انهض، ما بك تتلفت، هل اضعت شيئا؟ ثم لماذا تثرثر وتكركر، ألم تشبع في الساحة؟ هيا تعال هنا. كلا! خذ كتبك معك، لا تترك شيئا.
ولفّت اصابعها على أكرة الباب وأضافت:
- تفضل أخرج، اكمل ثرثرتك هناك في الساحة.
ودفعته من ظهره وأغلقت الباب ثم وقفت قرب النافذة وقالت:
- لاعليكم .. ابن قذر، حاولت أن أعطف عليه مرارا إلا أنه حيوان! مشاكس! ابن خنزير!
وحدّقت من خلال الزجاج المبتل وهي ترتجف.
كانت الغيوم في هذه اللحظة تحتشد فوق البنايات بقطع كبيرة، متداخلة أو متراكبة فوق بعضها، والرعد منطلقا بينها، في حين كانت البنايات تغرز نهاياتها في الفضاء المائي.
ظلت المعلمة برهة قرب النافذة تعدّل ياقة قميصها، واقدامها غاطسة في ظلها المكوّم تحتها، ثم زمّت شفتيها وأطلقت قدمها امامها وراحت تخطر بين الطلاب.
كانت الاقلام الملونة تتراكض فوق الاوراق، والأكف الصغيرة تتخبط في الهواء. مدفع هنا، ودبابة هناك، طائرات حربية فوق نثار من الخيام، اجساد تتحرك بهوس: زحف، انبطاح، تسلق. أجساد كثيرة وقنابل مدوّرة وحريق. تزوغ طائرة وتطل دبابة من خلف تل. تتقدم أخرى وتتفجر ثالثة. يلتهب مدفع بعيد وسط حريق كثيف- خطوط حمر اضافية وتلتهب الماسورة تماما.
ثمة طائرة فوق ورقة تبدو آتية من بعيد بسرعة خارقة يلاحقها قلم اسود، ويحاصرها في كومة من دخان متماسك. طائرة أخرى – قرب النافذة المبتلة- تحلق بجناح مكسور وتخر محترقة .. ثم تصطدم في الزاوية السفلى من الورقة وتتفجر.
تمتد ماسورة مثلومة وتتحرك بسرعة على قاعدة دائرية، ثم تقف قبالة السبورة تماما وتطلق، وينفجر دوي رهيب ينفخ التراب والخيام والأجساد والبنادق وينثرها في الهواء قطعا صغيرة. اشتباك بين السماء والارض: مطر منفلت، أذرع مهشمة، اقلام منطلقة، دماء.
يتأرجح المصباح المعلق في السقف قليلا ثم يكوّر ظل المعلمة تحت قدميها ويسكن.
الشوارع الآن فائضة، ملطخة والمطر متوقف والمياه تنزلق بين الارصفة فوق الاسفلت ببطء شديد فتبدو البيوت وأعمدة الكهرباء مقلوبة فيه، بينما كانت السيارات المارقة تقصم الاعمدة أو تقطعها وتعتلي البيوت والجدران والنوافذ وتمحو انعكاساتها على صفحة المياه. تقف ثلاث سيارات قرب جدار المدرسة وتتقدم عربتان مكعبتان، وتصطفان في المياه قبالة البوابة المفندقة على سعتها.
في تلك اللحظة كانت الاجساد الصغيرة تحوم بين الجدران وسط رنين جاف وبالتدريج راحت تتدفق من الصفوف بأقدام سريعة منطلقة عبر البوابة فوق الارصفة، بلغط عنيف خرجت مجموعة أخرى، وتوزعت في الطرقات والأزقة الناقعة الموحلة. يخرج طالب، ويتبعه آخر، يركض اثنان ويخف اللغط تدريجيا، تنصرف عربتان مكعبتان، وتتحرك بضعة سيارات وتروح تخوض في المياه العكرة بعجلات لماعة وهدير ثقيل.
وقفت المعلمة قرب الباب الموصد وصاحت بوهن:
- كاظم، يا حاج كاظم.
أطل رجل عجوز من البناية الناقعة وبحلق مرتبكا، ثم جرى محدودبا ووقف قرب المعلمة وراح يتفرّس في وجهها من خلال حاجبين متدليين، وبعد لحظة ضيق من حدقتيه وأخذ يطقطق بعلك في فمه وقال:
- عجيب! أنت يا ست؟ أستغفر الله .. كنت اعتقد ان الجميع خرجوا.
- كما ترى، لم اخرج بعد. لقد تأخرت في تصحيح الدفاتر، أنني دائخة قليلا.
طقطق العجوز بعلكه قائلا:
- الله يعينك يا أم خلود، ان لقمتك حلال عليك. هل تريدين الخروج؟
ام خلود هل أفتح الباب؟
- ها، نعم، أريد ان اخرج.
سار العجوز مقوّسا بطيئا، ثم بصق العلك من فمه، وراح يعالج المزلاج الصدئ تحت سماء ضبابية وغيوم مكدسة واطئة.