يقدم الكاتب العراقي، في هذه الإطلالة الملتبسة على الماضي، كاتبا عراقيا موهوبا، غضبان عيسى، أُعدم في شرخ الشباب ثمانينيات القرن الماضي، وإن راود أسرته، كما تكشف مقالة ابن عمه، أمل بقائه حيا في أقبية «أبي غريب» بلا جدوى. تنشر (الكلمة) في هذا العدد له قصتان لمرور عشرين عاما على نهايته الفاجعة.

غضبان: إطلالة من نافذة مضببة على الماضي

حـيـدر الكعـبي

 

غضبان عيسى لفتة الجراح، الوسيم، المعتد بنفسه، المتعدد المواهب والمهارات، القاص، الرسام، المصور، الخطاط، الشطرنجي، الخياط، المقاول، السياسي، إلخ— كان شيوعياً. لكنه، كما بدا لي منذ أول لقاء لي به، في النصف الثاني من عام 1975، كان شيوعياً مشاكساً، غير أورثوذوكسي، غير مؤمن بـ "الجبهة الوطنية"، التي انبثقت قبل ذلك بسنتين، ولا بطريق "التطور اللارأسمالي" (الوصفة الرائجة لتحقيق الاشتراكية حينذاك)، ولا بديكتاتورية البروليتاريا حتى— لا أعرف بماذا يؤمن. وقد اتضح لي منذ ذلك اللقاء أن غضبان كان يصنفني شيوعياً "تقليدياً". ما الذي جعله يرسم هذه الصورة عني؟

قبلها، في مايس من العام نفسه، وُجدتْ جثة صديقي الشاعر مهدي طه ملقاة في نهر الحكيمية (أو الرباط) في منطقة تحيط بها مؤسسات سلطوية عديدة (المقر الرئيسي لحزب البعث الحاكم، ومديرية الاستخبارات، ومديرية المخابرات). وكان صديقنا المشترك، الشاعر كاظم حسن سعيد، في الوقت الذي التقيت فيه بغضبان، سجيناً في أبي غريب بتهمة "القذف"، لأنه، حسب الدعوى الموجهة ضده، كان قد اتَّهم جهاتٍ بعثية معينة باغتيال مهدي. كنا، أنا وغضبان، نجلس على المصاطب الخارجية لمقهى في الطريق المتفرع من شارع الوطن (لم أعد أذكر اسمه)، والمنتهي بكورنيش شط العرب، قرب مرسى الطبكة (العَبَّارة، وكانت وسيلة المواصلات الرئيسية بين ضفتي شط العرب، ضفة التنومة، حيث تقع جامعة البصرة، وضفةِ العشار). وكانت اللجنة المحلية للحزب الشيوعي تواجه المقهى الذي نجلس فيه.

كنا نجلس على مصطبتين خشبيتين مصبوغتين حديثاً بلون أزرق فاتح، مفروشتين بحصيرين من الخوص. تفصلنا مسافة ذراع. كان صباحاً مشرقاً، ربيعياً (رغم أننا كنا في منتصف الصيف)، والسماء زرقاء. ولا شك أن الجو كان سيبدو لعيني سائح أوربي عابر في غاية الصفاء والجمال. ولكنه للمواطن المقيم كان شيئاً آخر. فالشوارع والحارات وأكشاك الجرائد والمقاهي مزروعة بالرقباء والمخبرين ووكلاء النظام.

كان غضبان وسيماً، ذا بشرة نحاسية، وفودين طويلين، وشعر سبط فاحم يفرقه إلى الجانب، فيغطي جزءاً من جبينه، ووجه حليق، وشفتين باسمتين، ابتسامة شبه ثابتة. لم أره مقطباً قط. كانت الابتسامة، إذا اختفت من الشفتين، أطلت من العينين السوداوين، الواثقتين. كانت هيأته عموماً تضفي عليه مظهر المعتد بنفسه، المتأكد من صوابه. وبدا رأسه كبيراً (ثقيلاً، ربما) بالمقارنة مع جسمه الأقرب إلى النحافة —الرشيق بالأحرى، وقامته المتوسطة، وأصابعه الدقيقة، أصابع الرسام أو عازف الكمان. وكان، في ذلك اليوم، يرتدي قميصاً مبقعاً بألوان شاحبة، أقرب إلى البياض، مطوي الردنين. وبنطلون جينز، وحذاء رياضياً. وإلى جانبه محفظة أو ملزمة أوراق.

بادرني بالتحية فرددتها. قال، رافعاً استكان الشاي في منتصف الطريق إلى شفتيه: "ما أخبار كاظم؟". قلت بسرعة: "في أبي غريب". كان يعرف هذا. قال، بعد أن أخذ رشفة : "أرجو ألّا يكون مصيره مصير لوركا"، مضمناً نظرته رسالة، كأنه يقول: "أتفهمني؟" وقد فهمت أنه يقصد بـ "لوركا" صديقنا مهدي سابق الذكر. كان الزمن زمن الشفرات، زمن انعدام الثقة. (وهل مر على العراق زمن ثقة، يا ترى؟). لكن غضبان سرعان ما فتح، بشكل مفاجئ جداً، موضوع تحالف الشيوعيين والبعثيين. لم يكن سعيداً بهذا التحالف. هذا واضح. ولم أكن أنا سعيداً بهذا التحالف أيضاً. كنت أظنه فخاً. وقد اتضح فيما بعد أنه كان فخاً فعلاً. لكنني لم أكن أرغب في الخوض في موضوع كهذا، مع شخص ألتقي به للمرة الأولى، رغم أن وجه غضبان كان مألوفاً لي، وكان لنا أصدقاء مشتركون. كنت أقول لنفسي: "الشك في غير محله أهون من الثقة في غير محلها".

حين عدت من بغداد إلى البصرة عام 1980 كنت متخلفاً عن الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية بعد فصلي من كلية الشريعة، وزوال أعذار تأجيلي. وكنت قبلها قد أمضيت بضعة أشهر معتقلاً في مديرية الأمن العامة. وكنت أتوقع أن تكون الحملة على الشيوعيين قد هدأت في البصرة بعد مرور عامين على بدئها هناك. لكني اكتشفت أن بيتنا كان مراقباً. وقد تعقبني رجال الأمن إلى البيت ذات ليلة فأفلتُّ منهم بصعوبة. وكان جارنا المباشر يعمل في المقر الرئيسي لحزب البعث. فرحت أبحث عن مكان آمن أختبئ فيه. في هذه الفترة كان غضبان عيسى قد افتتح محلاً للخياطة أسماه "خياطة التربية"، قرب مديرية التربية آنذاك، في منطقة السعودية، بالعشار.

تقع خياطة التربية هذه في مدخل زقاق فرعي يقود إلى سينما الرشيد آنذاك. ولم تكن هناك محلات أخرى في الزقاق، باستثناء عيادة طبيب، وربما أخرى لمحام. ولهذا كان الزقاق شبه خال. كان إسم المحل مكتوباً بخط الرقعة في أعلى واجهة المحل هكذا "خياطة التربيه" بسقوط نقطتي التاء المربوطة في "التربية". وكانت للمحل واجهة زجاجية، وستارة من الحديد الرقيق، أو الصفيح المضلَّع (الكبنك)، تُدفع إلى الأعلى عند الفتح، فتطوى ملتفة حول نفسها كطيّ الحصير، وتُسدل بسحبها إلى الأرض عند الغلق، ثم تقفل بتمرير قفلين في حلقتين حديديتين مدفونتين في الأرض الخرسانية عن يمين وعن يسار الدكان. في واجهة الدكان عُرضتْ سترات رجالية، ومانيكان نصفي بلا رأس من الجبس الأبيض يرتدي صدارية (سترة داخلية عديمة الأردان) داكنة اللون. والسقف الثانوي أسفل العِلِّية مخرم في مواضع المصابيح السقفية جاعلاً المكان، لولا ازدحامه بالكراكيب، يبدو أشبه بغرفة في مكتبة عامة جيدة الإنارة، وخصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك ما تسبغه على الجو مصابيح النيون الإنبوبية الحليبية الطويلة الممتدة على الجدارين المحيطين بماكنة الخياطة (الصنكر ذات اللونين الأزرق والأبيض) من نورٍ صباحي على داخل المحل. لكن تلك الكراكيب تجعل المحل، بالأحرى، أشبه بسوق هرج مصغر منه بغرفة في مكتبة. فالركن الذي تحتله ماكنة الخياطة مزركش بأشلاء القماش. وطاولة الخياطة مغطاة بقطع لا تنتمي إلى بعضها البعض. ياقة هنا، وكم هناك. والراديو البني دائم الثرثرة في الزاوية دون أن يصغي إليه أحد. الثلاجة قرب درج العِلّية لا تكاد تغلق إلا لتفتح. والجرارات نصف مفتوحة عارضة أحشاءها من بكرات الخيوط والإبر والدبابيس والأزرار مختلفة الأشكال والألوان والحجوم، عظمية وبلاستيكية وخشبية، برتقالية وصدفية وخضراء، بثقبين أو ثلاثة أو أربعة. ومساطر بلاستيكية مستقيمة ومنحنية، وأقلام تحديد، وشريط قياس، اعتاد أن يسنده إلى قفا عنقه تاركاً طرفيه يتدليان على جانبي صدره. ودفاتر لتسجيل القياسات وأسماء الزبائن ومعلوماتهم. وكان غضبان لا يكف عن الكلام، حتى وهو يأخذ قياسات الزبون. يدون تارة في دفتر، وأخرى على ورقة، وحتى على راحة يده طول الزبون، وعرض كتفيه، ومحيط فخذيه وأكمامه، وخصره، ويناقش في الوقت نفسه، تأثير هرمان ميلفل في إرنست هيمنغواي.

صار محل الخياطة هذا أشبه بملتقى لأصدقاء غضبان، وبينهم عدد من الأدباء والفنانين، كالنحات الراحل منقذ الشريدة. بعضهم يلجأ إليه كمحطة استراحة. وكان صديقي عدنان عبود، (أو عدنان الأسود، كما كنا نسميه)، والذي سيُعدم هو أيضاً، يعمل مع غضبان، في محل الخياطة هذا. فأصبحت أتردد عليهما عصراً، فنشرق ونغرب في الحديث. وكان للأدب حصة كبيرة في أحاديثنا. لم يكن غضبان متحفظاً معي في حديثه في السياسة. كنت أفترض، دون أن أشعره بذلك، أنه لا بد أن يكون قد أجبر على التوقيع على قرار 200 سيء الصيت، وعلى الانضمام إلى ما يسمى بـ "الصف الوطني". وإلا لما أمكنه أن يزاول حياته اليومية وعمله بأمان. لكن المؤكد أنه كان يكره نظام البعث في سره، ولا يتردد في التعبير عن هذه الكراهية أمام من يثق بهم. كان يسمي البعثي "بعيعي" (أو بعيجي، وهو طائر أسود أكبر من الزرزور وأصغر من الغراب يكثر في جنوب العراق).

أما عدنان فقد بدا لي النقيض المباشر لغضبان، حتى أنني كنت أستغرب من اجتماعهما. فعدنان ميال إلى الصمت، ونادراً ما يبادر بالحديث. حزين حتى حين يبتسم. حذر، متحفظ، شكاك. كان عدنان يقوم بالأعمال التكميلية. كف البنطلونات، تزرير السترات، كي الطيات وتسوية التجاعيد. كان علي أن أنتزعه من صمته أحياناً. مرة بدا أنه كان يصغي لأمل خضير، وهي تغني في الراديو "سلم على اليهواك، يا زين من تمر"، قلت معلقاً: "جميل صوتها". قال بعد تردد: "نعم، فيه .." وتوقف يبحث عن الكلمة المناسبة قبل أن يضيف "نكهة .. خاصة". كان يذهب إلى بيته سراً ويغادره سراً. كان بيته في جزيرة في منتصف شط العرب، تسمى "الشلهة"، في الجهة المقابلة لمركز قضاء أبي الخصيب. كان يعبر من جهة أبي الخصيب إلى الشلهة بزورق من الصفيح مشاع لسكان المنطقة يسمونه "الجينكوة".

وقد اصطحبني معه ذات ليلة، وشاء الحظ أن ينقلب بنا الزورق. فنغطس في مياه الجرف، ونتصارع مع الزورق لكي نجلسه على قاعدته، ثم ننجح بعد محاولات فاشلة عديدة. ونصل الجزيرة مبتلين. فتعطينا أم عدنان، ولم يكن في البيت سواها، دشداشتين نظيفتين، وتغسل ثيابنا المبتلة وتنشرها لتجف. وتخبز لنا خبزاً كثيراً، الرغيف الواحد منه بسعة "الطبق" الذي وضع فيه. وهو "طبق" مستدير بقطر ذراع مصنوع من خوص النخيل. وأم عدنان تقول، وتكرر: "كلوا لكم لقمة، يمه". ثم نغادر فجراً.

لقد نجح غضبان، سواء قصد هذا أو لم يقصده، في أن يترك لدي انطباعاً بأنه طلّق السياسة، وأصبح همه الأول أن يجمع ثروة، ويكوّن أسرة، ويعيش حياة "اعتيادية". لكنني كنت أحياناً أستشف طموحاً آخر يعتمل في داخله. مرة سألني فجأة: "ما الذي يحمي الرأس؟" بدا السؤال جزءاً من حديث صامت كان يحدث به نفسه، حديث لم أسمع بداياته. قال معقباً على نظرتي المستفهمة: "الجسد تحميه سترة واقية من الرصاص. هل هناك شيء يحمي الرأس؟" قلت : "لا أظن. الرأس لا يمكن حمايته. لكن الرأس هدف صغير مقارنة بالجسد." قال مكرراً السؤال: "يعني، لا شيء يحمي الرأس؟" كان كلامه تقطعه تكتكة ماكنة الخياطة أحياناً، أو خيط يمرره أفقياً بين فكيه، أو طقطقة المقص. قلت "لا، لا أظن". قال مفسراً سبب سؤاله: "أفكر في كتابة رواية فيها مشهد اغتيال، وأحتاج معلومات لكتابة المشهد."

لكنني لم أستطع منع ذهني من ربط السؤال بزيارة صدام حسين للبصرة في تلك الأيام. قلت: "في ظروف كظروفنا" وكنت أفكر في سرية الزيارات التي كان يقوم بها صدام، والحماية المشددة، والتفتيش، واحتلال المباني القريبة للأماكن التي يتوقف فيها، وأجهزة فحص الأسلحة، والكاميرات إلخ. "الاغتيال عملية انتحارية." لم يكن غضبان لينقطع عن عمله أثناء الحديث، فتارة يغرز إبرة، وأخرى يقطع خيطاً، وتارة ثالثة يصلح وضع بكرة الخيوط، أو يبدلها، أو يبسط قطعة القماش التي في يده على منضدة الخياطة ويطبق المقياس عليها ثم يرسم خطاً هنا أو نقطة هناك، أو يسحب جراراً وينظر فيه، أو يضغط الدواسة بقدمه فتجأر الماكنة لحظات، ثم يسحب القماش ويتأمله، فتهدأ الماكنة، ثم تعود فتجري، وهكذا. واسترسلت أنا قائلاً: "في ظروف كظروفنا، الأمر يحتاج إلى بندقية خاصة مزودة بناظور، لكي يمكن التسديد عن بعد." قال: "واضح، طبعاً." ثم بعد هنيهة صمت: "يمكن الحصول على مثل هذه البندقية من البحارة، لكنْ كل شيء بثمنه طبعاً." ومرت فترة صمت قطعها بقوله: "الآن بدأ يتضح المشهد في ذهني. سأطلعك عليه حين أكتبه."

أصبحت خياطة التربية واحداً من الأماكن التي أختبئ فيها ليلاً. كان عدنان هو من يفتح الدكان صباحاً ويغلقة ليلاً. حين يحدث أن نكون أنا وعدنان وحيدَين في الدكان في نهاية الدوام، أبقى أنا في الداخل، ويغلق هو المحل من الخارج ويذهب إلى بيته. وحين لا نكون وحدنا، نذهب أنا وعدنان بعد غلق الدكان وتوديع الآخرين (بينهم غضبان أحياناً)، فنأكل شيئاً (لفة فلافل مثلاً)، ثم نعود بعد ذهاب الجميع، فيفتح عدنان الدكان لي ثم يغلقه عليّ. ويعود فيفتحه صباحاً لأخرج.

كان في المحل، كعادة محلات الخياطة في العراق، عِلِّيَّة يُصعد إليها بواسطة درج خشبي ضيق. كنت أبيت الليل هناك، في ظلام لا يبدده إلا خيط ضئيل من الضوء يمر من أعلى الدكان ويرتسم على سقفه، وأحياناً عود ثقاب أشعل به سيجارتي. وكان علي أن أصعد الدرج تلمساً، ثم أتحسس طريقي إلى فراش قديم مشوش، مكون من بساط إسفنجي وحشوة قطنية مغلفة بكيس قماشي أستخدمها كوسادة. وكنت أخلع ثيابي وأضعها جانباً كيلا تتجعد. ولم يكن ثمة صوت، سوى أنين الثلاجة في زاوية في أسفل الدرج. كنت أنام متأخراً وأنهض مبكراً لأنتظر عدنان وهو يفتح الدكان. هل كان غضبان يعلم أنني كنت أمضي الليل في دكانه؟

لم يعد بالإمكان الإجابة على هذا السؤال. فسرعان ما جاء اليوم الذي سيختفي فيه غضبان إلى الأبد. فجأة انقطعت أخباره. ثم سمعت خبراً بدأ يتأكد يوماً بعد يوم عن اعتقاله وإعدامه. لماذا؟ كيف؟ بأية تهمة؟ بقي هذا لغزاً حتى الآن. لقد رأيت أرملته الشابة مع طفلها مرة، فحييتها من بعيد. لم أشأ أن أقترب منها خشية أن أعرضها للمساءلة. قيل لي إنهم سلموها ورقة تثبت إعدامه. كان هذا عام 1981.