إلى جانب شهادة حيدر الكعبي، في إطلالته الملتبسة على غضبان عيسى الذي أُعدم في شرخ الشباب ثمانينيات القرن الماضي، نقدم هنا شهادة أخرى لابن عمه، وكيف راود أسرته أمل بقائه حيا في أقبية «أبي غريب» بلا جدوى. كما ننشر في هذا العدد له قصتان لمرور عشرين عاما على نهايته الفاجعة.

عن غضبان عيسى: الغياب حكاية شرقية

وحـيـد غانـم

 

استمدت الحكاية ديمومتها من " قوة الخيال" التي نشّطت البُنى الخلاقة بثنائية جدلية، ازدهرت بفضلها مؤلفات أصيلة ونهضت رؤى فكرية وجمالية. بديهة يمكن أن تمتحنها برهة استلاب، فما ان تحل سلطة الخرافة حتى تصيّر هذه "القوة" لصالحها، تنزّه الديماغوجية وتطلق المحاذير. فتّت الوعي في السنوات الماضية وأهلكت طاقات خلاقة بصورة انتقامية.

ولد غضبان عيسى - وهو ابن عمي وخالتي في الوقت نفسه - الذي أسجل هذه السطور في ذكراه عام (1952) وغيب عام (1981) وفي غضون السنوات الماضية لفحنا أمل/ جنوني بأنه ما زال حيا/ بسيط في العثور على بعض كتاباته غير المنشورة التي فقدت أثناء الظروف المرافقة لاعتقاله. لم يترك لنا سوى قصتين نشرتا في مجلة المرفأ: المزلاج الصدئ التي حازت المرتبة الثانية في مسابقة القصة العدد (53 نيسان 1978) الأقفاص ـ العدد (85 تموز 1979). وهو العدد الأخير حيث عُلق صدور المرفأ، إضافة إلى ذلك لقاء جمعه بالفائزين الآخرين بمسابقة القصة. على الغلاف الأخير نقرأ له ثلاثة أسطر بوبتها المناسبة الاحتفالية. فإذا كان هناك من عمل نشر له في دورية سورية، كما زعم يومذاك، فهو غير مؤكد، مما يعني أن سلة المرفأ تضمنت باكورة قطافه. المرفأ التي لم تكن أكثر من ملحق لمجلة الإذاعة والتلفزيون بكاغد رخيص، لكنها بسبب صعوبة النشر في مجلات بغداد وغياب الدوريات المحلية المتخصّصة مثلت رئة البصرة الأدبية.

أما عن الجانب الشخصي فالحال ربما كان أسوأ. رسائل قليلة نجت من بحر ضياع، نتف تدوينات، إضافة إلى الصور. أرجو أن نتمهل عند هذه النقطة، فطالما شغف غضبان بالفنون البصرية: الخط، الرسم، التصوير، السينما. والتي سيدرك القارئ انعكاسها واضحاً على قصتيه السابقتين. لقد أثارت هذه الفنون مخيلته المتمرّدة مبكراً حتى انه عمل مصوراً جوالاً في فترة من حياته القصيرة.

لكنه كتب قصصاً أخرى وأشعاراً لم تنشر، وكان يعد لرواية كثيراً ما فاجأته يتمتم بحواراتها وسط أزيز ماكنة الخياطة، وكأني به لم يكتف بجداله الخارج. من دون أن يثنيه ذلك عن تطوير اهتماماته المتعددة. حقق يومذاك المركز الثاني في بطولة البصرة للشطرنج، مبرراً خسارته المباراة النهائية بنوبة ربو ألمّت به. كنا نجد متعة بالغة في تصفّح تخطيطاته بالقلم الرصاص، جنباً إلى جنب تخطيطات طيب الذكر الفنان منقذ الشريدة، وفي حين وجد شيئاً من أعمال الشريدة ـ كصيغ نحتية ـطريقه إلى النشرـ مجلة وعي العمال مثلاً ـ اكتفى غضبان بمسرة آنية سرعان ما ضاعت أشكالها الجميلة، كما ضاعت، من بعد، كتاباته التي ضمّها دفتران ـ فولسكاب وكثير من أوراقه.

كان عضواً في الحزب الشيوعي، مع انه يصعب عليّ اليوم أن احدد تاريخ انضمامه إلى صفوف الحزب. مؤشرات قليلة قد تسلّط ضوءاً على مطلع السبعينيات، عندما كان يتسمى بأسماء مستعارة لدى حضوره اجتماعات الخلايا. وفي عام 77/78 كان اسمه الحركي (عايد)، وفي كلتا المرحلتين مثّل انتماؤه جدلاً فكرياً متحرّراً من الصيغ الجامدة. في مطلع عام 1980 كان يحدثني عن نظرية (انتقائية) أو ما شابه، رافقت ذلك بوادر التحولات في الصيغة الرسمية للاشتراكيةـ فترة نقابة التضامن في بولندا وما سبقهاـ على ان المسألة كانت بالنسبة له ذات منحى فكري أولا.

غالباً ما ينتهي المتمرد متفيئاً شجرة العائلة. لحظة يجحدها الكواكبي. تزوج غضبان عام 1979 ويوم اعتقل كان قد رزق بطفلين. بعد سنوات حضر رجل أمن مطالباً بصورة الصغيرين، ربما أراد غضبان قبل نهايته القاء نظرة أخيرة على طفليه، إنه أحد أشكال الحوار الشبحي بين السلطة وضحاياها.

رافقت أخاه في إجازته الدورية للبحث عنه في متاهة أبي غريب. كان مسعىً عفوياً، كنت يومها في سن الـ17، عبّرنا عن يأسنا بركوب القطار الممل والتقاط صورة للمناسبة. احتفالية لا شك أنها كانت ستبهج غضبان كثيراً. لابدّ أن مسؤول السجن الرهيب أو أيّـاً كان قد عاملنا بصبر جاف حين سمح لفتيين هلعين بتصفح السجلات الثقيلة وهو ما يمكن عدّه لطفاً غامراً.

كان غضبان ذا طبيعة إحتفائية وهاجة جذبت إليه الكثير من الأصدقاء والطفيليين. (خياطة التربية) لافتة غامزة علت واجهة محله المجاور لبناية التربية القديمة. في هذا المكان غالباً ما وجدت زمرة تعربد جدلاً! ياللسخرية! فمنقذ الشريدة الذي سيق بعده خرج من جحيمهم وهو يصيح كالممسوس (لقد قطعوا رأسه .. غضبان!) الشريدة الذي شرد من بلاد (التربية) ربما يملك شيئاً تاريخياً، أمراً ما يخص غضبان. انه الحي الذي أرجو أن أتذكر ملامحه بصورة جليّة، على اعتبار ان الشاعر والصحفي رياض إبراهيم قد التحق بالرفيق الأرضي. كانت لرياض سحنة الشاعر - الصحفي الشاحبة. المرة الأخيرة التي التقيته فيها كانت في عام 1994 حيث أبدى دهشته للمصير المجاني الذي انتهى إليه شخص بفطنة غضبان. أقول عسى أن يكون وجد جواباً في نهايته هو الأكثر مجانية وحزنا.

ربما أوحى لنا الأدب أن الخرافة كامنة في نخاع صيرورة التاريخ، لمساماتها القدرة على إفراغ الأفكار والبنى من معانيها. عندما غُيّب غضبان كان زمن الخرافة في مستهلّه - فاجأتنا نذر أدب أميركا اللاتينية آنذاك ـ حيث لم تزل بعض الأشكال والبنى تحتفظ بروحها التي لم تصفّر بعد. قد تتبدى الخرافة في صور مختلفة لكنها على اية حال لن تكون إلا تجاوزاً للمفهوم الإنساني نحو تجريد عام وطوباوي. قصتان بقيتا .. وإزاء ما جرى من طمس للملامح الأصلية، فالشكر للقليل المتبقي.