تفتتح الشاعرة المصرية، ديمة محمود، باب شعر بنص نابض بالسؤال، حيث التشظي الذي أمسى يسم العالم اليوم، وحيث صوت الشاعر المتفرد يواجه وحيدا العدم من كل جانب. في زحمة هذا التيه تأتي القصيدة هنا مثخنة بمفارقات الراهن وتضاده، حيث لا أفق للشاعرة إلا أن تتخلص من كائن يثقلها بالتفكير وبالسؤال المتكرر عن جدوى الوجود.

رأسٌ أبيض

ديمة محمود

 

صحوت بعد زمنٍ طويل

لأجد رأسي التي انفصلت عنّي دون أن أنتبه

رأيتها في الطريق الذي يصل بيني وبين عتبةٍ في الحسين

قرب قبةٍ خضراء تتكوّم حذرةً إلى جوارها

وهي التي لم تكترث يوماً ببركات الصالحين ولا بكراماتهم

عرفتها من ندبةٍ في أسفل الجبين

تلمع كخثرات الجزّ الباتر بسكينٍ تترجف من البرد.

 

صحيحٌ أنني لم أفتقد هذه الرأس

لكن منذ رأيتها هناك 

صرت أتّخذ الذهاب إلى الحسين حجّةً لأراها

وربّما كان العكس

ربّما كنت أتحجّج بها لألصق ذاتي بالقاهرة الفاطميّة

ملاذي في نوبات الوحدة.

 

على أية حال لم أكن أواجهها

لم أحدثها علناً ولا مرّة

وكنت أتجنّب أن تشعر بي

ظللْت زمناً أروح وأرقبها بخفّة

لا أطيل المكوث

وأقضي وقتي جلّه بين أزقّة وعطفات المعزّ

هل كنت أخشى مثلاً من تعلّقي بها

أنا بالأساس لم أكن أعرف

هل أنا مرتاحةٌ بدونها

أم أنني أريدها أن تعود.

 

الطفل الذي رأيته مرةً

يدحرج رأسي بقدمه سعيداً

وأمّه تلاحقه فرحة

جعلني أتأمّل

أليس هذا أفضل بكثير

من أن تبقى تلك الرأس عبئاً عليّ

تثقلني بالتعب والصحو

بينما هما فرحان

وأنا خفيفةٌ الآن، خفيفةٌ جداً.

 

يمكنني مثلاً أن أصحو فارغةً

لا أفكر بالتحديد بقائمة ما ينبغي عليّ فعله

لا بمواعيد أبنائي

ولا تحضير الغداء

ولا موعد العامل الذي سيصلح الحمّام

ولا بالخضار التي يجب علي شراؤها

ولا بما عليّ دفعه من فواتير كهرباء وماء وغاز

ولا بالطعنة التي سدّدها لي أحدهم

ولا بالتعليق السمج عن صورتي

ولا بالشمس لماذا تصرّ أن تظهر علينا كلّ يوم

ولا بالله لماذا لا يحلّ مشاكلنا

ومشاكل العالم.

 

في اليوم الذي رأيت فيه الصبية

يلعبون كرة قدمٍ برأسي قهقهتُ بجنون

ولما انتبهت لطمت فمي بقوّة

توجّعت برهةً ثم ظللت فرحانةً 

ماذا لو (شات ) محمد صلاح رأسي بقدمه

هل ستصبح رأسي عالميّةً كقدمه

أم أنها ستبصق عليّ لو تمكنتْ من لقائي

وتقول لي:

موتي بغيظك يا بنت الكلب

أفرغتِني طوال أربعين عاماً

من الاهتمامات الكرويّة

وبركلةٍ من حذاء صلاح صرتُ أثمن منك.

 

في خان الخليلي

علّقها بائعٌ مع معروضاته

بعد أن وضع فيها لمبةً خافتةً من الداخل

ياه كم بدت رقيقة

صارت مناسبةً لمدخل بيت حسام علوان في المقطم

أو لمدخل فندق في تشياباس

وتحتها تمثالٌ ضخم للنمر الأسود

أو أمام بابٍ أزرق

من أبواب أصيلة التي تطلّ على البحر

أو تتدلّى من سقف مغارة هرقل

يلامسها رذاد الموج المتلاطم أو الموج ذاته.

 

هي طارت إلى حدود جواتيمالا

أنتِ قابلتِ العمّ حسونة الذي يشبه عمّك

هي صارت ضوءاً 

أنت تطاردين أحلامك في النهار

قبل أن ينتهي

هي (داهْية) تلعب بالبيضة والحجر

أنت تمسكين قوس كمانك الجديد.

 

في شارع في سان كريستوبال

معلّقةً إلى جوار قناني التكيلا 

والبوتش الفارغة

ملئت بنباتٍ أخضر بأسنان حادة يشبه الصبار

اقتربت من النبات لألمسه أو أشمّه

ثم قلت لنفسي:

إياكِ وارتكاب الأخطاء وتكرارها

الاقترابُ تعب والبعدُ خفّة

راقبيها، راقبيها فقط

سترينها دائما

وتظلّين خفيفةً كغزال .....