فيروس كورونا، هذا الوحش المجهري الذي لا نراه ولا نسمعه، وربما لا نشعر به، فرض على كوكب الأرض عدالة استثنائية؛ أشبه ما تكون بالعدالة في جمهورية أفلاطون، غير آبه بالدولة أو الجنس أو العرق أو المعتقد أو الوظيفة وطرح أسئلة تسائل الإنسانية في الخيارات التي اجترحتها، وفي الطرائق التي ابتدعاها، وفي العادات التي دأبت عليها، وفي العمران الذي شيدته.
تضمن كتاب "الجوائح في الأزمنة المعاصرة رؤى دينية وفلسفية"؛ الصادر حديثا (2020) عن مركز أفكار للدراسات والأبحاث، تسع أوراق بحثية متباينة، من حيث الحجم والمقاربة والمرجعية؛ حيث نجد الباحث في الفلسفة رديف خبير علم السياسة والدراسات الدولية ويحضر المشتغل في الدراسات الحضارية والثقافية الى جانب المختص في الأديان المقارنة والفكر الإسلامي.
ونجح التقديم الذي وضعه الباحثان المغربيان عبد العالي المتقي وعبد الله الهداري في تحويل ذاك التباين، من شرخ وعائق معرفي إلى عنصر جذب وقوة في الكتاب. فالاستهلال كان بمثابة فرش إشكالي، رسم خطوط التماس بين أوراق الكتاب، وضبط حدود التقاطع ومستويات التداخل عند معالجة جائحة القرن.
حضر النقاش عن وحول جائحة كورونا على جبهات مختلفة، فجاءت الأوراق منجّمة بين ثلاثة مجالات كبرى؛ "الإنسان والمجال والعمران" من خلال ورقتي "الحجر والعزاء رؤية فلسفية لأصل معاناة الحجر" و"المدينة وصيرورات الحياة تأملات على هامش الجائحة". ثم "الدين والأخلاق والقيم" بثلاثة عناوين، هي: "الإنسان بين رعب الكورونا وعطالة القراءات المخلصة" و"الكون العابد شريك مكافئ للإنسان في الحياة" و"الصحبة وآفاق الإنسان فيما بعد الوباء". فيما أثارت بقية الأوراق الأسئلة الكبرى حول "مستقبل الإنسان والأنا والهوية" في زمن كورونا، فطرحت موضوعات "إدارة الألم زمن الجوائح" و"الكورونا والحركة نحو الإنسانية أو الكورونا لا تقتل على الهوية" و"فيروس كورونا من الأنا إلى النحن" و "أي تربية لما بعد الكورونا؟".
لقد حاول المساهمون في الكتاب، بانتماءاتهم العربية والغربية، ومشاربهم العلمية والفكرية، دراسة هذه الحالة الفريدة، غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، التي يعيشها العالم من أقصاه الى أقصاه، بإثارة الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة.
فهذا الوحش المجهري الذي لا نراه ولا نسمعه، وربما لا نشعر به، فرض على كوكب الأرض عدالة استثنائية؛ أشبه ما تكون بالعدالة في جمهورية أفلاطون، غير آبه بالدولة أو الجنس أو العرق أو المعتقد أو الوظيفة أو المركز الاجتماعي... فالظاهر أن الجميع سواسية عنده كأسنان المشط. أسئلة تسائل الإنسانية في الخيارات التي اجترحتها، وفي الطرائق التي ابتدعاها، وفي العادات التي دأبت عليها، وفي العمران الذي شيدته.
كورونا لحظة عالمية فارقة
أجمع المشاركون في الكتاب على أن فيروس كوفيد 19 مثّل لحظة فارقة في مسار البشرية، فالعالم قبل هذا الوباء قطعا لن يكون ذاته بعده. ففي غضون أشهر، لا بل خلال أسابيع فقط، قلبت كورونا إيقاع الحياة اليومية، رأسا على عقب، في مختلف أصقاع العالم. فجأة، ارتدت الإنسانية على عقبيها، فاختفت ظواهر وتوقفت أنشطة وعُلقت عادات. مقابل ذلك ظهرت أخرى؛ قديمة أو جديدة، تُجارِي إيقاع الفيروس، في محاولة لاستغلال ما تركه من هوامش محدودة أمام الإنسان.
كورونا -بحسب التونسي محرز الدريسي- ليست فيروس فقط، وإنما "مفهوم" يتَشكل ويُشكل، ينتج لحظات تفكير/ تأمل، تراودنا فيها متوالية من الأسئلة، من قبيل "ما معنى أن أعيش؟ ما معنى أن أحيى؟ ما هي قيمي؟ ما معنى أني إنسان؟ تتجاوز معنى العقل إلى سؤال الإنسانية؟ وما معنى البشرية؟ وما معنى الخصوصية والكونية؟ أمام ألاف الأموات التي حصدها الفيروس نطرح سؤالا هل نعيش فعلا الآن في عصر مستنير؟ ألم تفضح هشاشة الإنسانية ولزوجة الحداثة ووهم ما بعد الحداثة، مفاهيم المتعة التحليلية تتقلص لتبحث عن مفاهيم الجدوى الحمائية، ونحن لا نواجه الموت الفردي – وهو حق – بل نواجه الموت الحشودي والفناء الجماهيري، لحظة نوح دون سفينة".
صحيح، أن الإنسانية تعيش موعدا مع أسئلة كبرى، يُتوقع أن تشكل العناية بها، كما جاء في جل أوراق الكتاب، منعطفا لتدارك الخِلال ومعالجة الأعطاب. نظير ذلك، قد يقود الاستغراق في النزعة التشاؤمية والإفراط في الخوف، إلى تفويت فرصة تاريخية على إنسانية القرن الحادي والعشرين، لاستخلاص الدروس والعبر، وقبل ذلك لاستغلال الإمكانات والفرص التي تظهر في أوج هجوم كورونا على العالم.
عن قنطرة