يقارب الناقد المصري نصا روائيا يمثل نموذجا لما يسمه الناقد بـ "السرد الكوني"، محاولا من خلاله تقديم خصائصه وسماته النقدية، عبر استقصاء لرؤى النص وللشخصيات والبناء الروائي.

تحقير الذات وإهانتها

فتحي عبد الله

إن التقارب بين الثقافات قد أثر بدرجة كبيرة علي السرد ونوعيته فأفرز أنماطا كثيرة. كل نمط يلبي احتياجات شريحة اجتماعية بعينها في كل الحضارات، ومن أكثر النماذج حضورا ما يسمي بـ «السرد الكوني» أو ما يرتبط بالقيم التي ترسخها الرأسمالية في طورها الأخير، وهو سرد استهلاكي خفيف وسريع، لا يعلي من قيمة البطولة الإنسانية ولا الشخوص الفاعلة ولا يعطي للمكان أهمية إلا باعتباره أداة للسرد إلا إذا كان مكانا ذا طبيعة كونية ويتوافق مع شروط السوق التي تسهل مرور البضائع، أما النمط الثاني فهو "السرد الهجين" الذي يريد أن يقدم ذاته في إطار كوني وهو يعتمد علي ما يحدث في الشرق قديما وحديثا سواء فيما يتعلق بالثقافة المادية أي الرؤية الحاكمة لسلوك تلك الجماعة في قضاء احتياجاتها اليومية من مأكل وملبس وجنس، أو ثقافته الرمزية ممثلة في الأديان والمعتقدات وجميع أشكال التعبير الفني وكل ما هو عقلي أو تجريدي لمواجهة الطبيعة والحياة، وهذا السرد يتماهي مع ما هو غربي في الشكل والأداء فقط، ولهذا فهو مع البطولة المطلقة للإنسان في كل حالاته ومع أهمية المكان لذاته أيضا، أما النمط الثالث من السرد فإنه يسعي إلي خلق خصوصية سردية تتوافق مع حضارته ومورثها الإنساني الكبير، كنوع من المقاومة والرغبة في عدم الاندماج الذي تسعي له الرأسمالية، بما يخدم مصالحها في كل الحضارات، ولهذا فهو يعلي من قيمة المكان حتي تصل إلي القداسة، ويستخدم الطقوس والاحتفالية المفرطة التي تخلق البطولة الجماعية أو البطل الأسطوري، والأنماط الثلاثة في علاقة دائمة بالآخر، فالسرد الكوني يتماهي مع القيم الأمريكية التي تحاول تعميمها علي العالم كله، والهجين مع المنظومة الأوروبية وإن بحث عن أشكال حضارته تتوافق معها، أما السرد المقاوم فإنه في حالة صراع لا تنتهي، وهو أحد أشكال النقاء السياسي والثقافي مما يوحي ببعض العنصرية والحقيقة أن الأشكال الثلاثة هي مجرد استجابة لسيطرة وهيمنة الآخر سياسيا وثقافيا، وبدرجات مختلفة وبأشكال متعددة.

والحالة السردية في مصر الآن لا تخرج عن هذه الأشكال أو عن هذه التركيبة، فهناك السعي للكونية بطرائق كثيرة ومتنوعة مثل اختيار المكان الكوني، كما في رواية «موسيقي المول» لمحمود الورداني أو «عطلة رضوان» لعبده جبير أو فضح الذات الكلية أو العناصر الفاعلة فيها وتقديمها للآخر كمادة للمعرفة الاجتماعية والسياسية، كما في رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني و«تغريدة البجعة» لمكاوي سعيد، أو تحقير الذات والتهكم عليها كنوع من التواصل مع الآخر المتعالي والمتكبر حتي يقبل بوجودي لإضحاكه وإحساسه بأهميته ودونيتي تجاهه، مثل رواية «الفاعل» لحمدي أبو جليل أما الشكل الهجين فهو متن السرد العربي كله منذ «نجيب محفوظ» حتي الستينيات، أما السرد المقاوم أو الباحث عن الخصوصية الضارية فمن أهم رموزه «يحي الطاهر عبدالله» و«الطاهر وطار» و«خيري شلبي» بعوالمهم المتنوعة ورؤاهم المختلفة.

ووجود هذه الأنماط وفاعليتها يرتبط بالصراع العالمي أولا، ثم الداخلي ثانيا، وفي هذه اللحظة يتم التروي للنمط الكوني لأنه يخلق مجموعة من القيم تسهل عمل الرأسمالية بشكل هادئ دون عنف علي المستوي الثقافي والسياسي معا.

وعلي المستوي الداخلي فهو أداة سيطرة وهيمنة للإدارة السياسية التي تمثل الرأسمالية المحلية. ويتم ازدراء النمط الهجين لأنه يمثل الحكايات الكبري التي انتهت من العالم كله. أما النمط «المقاوم» فهو محاصر ومهمش ويتم التقليل من أهميته أو وصفه بالتاريخي أو المتخلف.

ومن الروايات التي تمثل السرد الكوني في الحقبة الأخيرة رواية "الفاعل" للروائي «حمدي أبو جليل» وهي تعتمد علي تقنية الروائي العليم الذي يرتب الأحداث الصغيرة التي تخصه أو هو محورها، والرواية تخلو من الشخصيات الفاعلة أولا بطولة لأحد غيره، والأماكن المختارة للسرد، كلها أماكن هامشية لا خصوصية لها، فهي إما المقهي أو غرفة علي السطوح، والمقهي هنا يخلو من ترفه وطقوسه المعروفة، فهو مكان لالتقاء العمال الذين ينتظرون «المقاول» للذهاب للعمل، والغرفة مكان للنوم فقط، فالمكان في الرواية وسيلة لكشف الذات وبيان ضعفها في المجتمع، كما أنه وسيلة للتعذيب وخلق التوترات، وهو طارد ولا يخلق الطمأنينة والاستمرار.

والبناء يقوم علي سرد الحكايات المتقطعة وكأن الراوي يتكلم، ولا يجمع بينها إلا السيرة الذاتية للكاتب منذ طفولته، إذ يشير في البداية إلي تكوينه الاجتماعي علي أطراف الصحراء فهو «بدوي» تحكمه مجموعة من القيم تتنافس وتتناقض مع قيم المجتمع الزراعي، الذي يقيم فيه، ويمارس الروائي تحقيره لهذه الذات الجمعية «جماعة البدو» ويتهكم منها في سخرية، مريرة، لا ليطورها وإنما لكي تقبله الجماعة الحاضنة «المجتمع الزراعي» وهذا ليس حقيقيا لدي الروائي، وإنما هو نوع من الافتعال الثقافي والاجتماعي لأن روحه طوال الرواية متعلقة بما هو بدوي وصحراوي، وتقوم علي تمجيد الذات بشكل مستبطن.

ويحقر الراوي كذلك «ذاته الفردية» منذ دخوله المدرسة وتصل إلي ذروتها في المعهد فهو يحتقر «المعهد» ويواصل الدراسة به، ويتهكم علي طلابه الفاشلين، وهو أحدهم ويتعاطف مع التيارات الدينية ولا يشاركهم في الفعل أو القول، ويقبض عليه معهم بطريقة عبثية، ويتعرض للتعذيب وينكسر، فهو ذات متناقضة ولا تملك إرادة الاختيار أو الفعل، وهذا التقليل من الذات أو احتقار ما يمارسه الروائي أيضا كوسيلة للاقتراب من الطبقات العليا في المجتمع أو طريقة للصعود الاجتماعي إذ يقدم ذاته علي أنها خاضعة لشروط الذين يحكمون ولا تمارس التمرد أبدا.

ويحقر كذلك فئته وشريحته الاجتماعية في العمل، "شريحة عمال المياومة" ويظهر تناقضاتهم وانكساراتهم دون أن يشير إلي عواطفهم ومشاعرهم الحقيقية تجاه من يستغلونهم، وكأنهم جماعة معزولة لا علاقة لها بما يحدث في المجتمع ويظهرهم كأنهم كائنات بدائية لا هم لها إلا المأكل أو الملبس والأكثر من هذا فإن الروائي يتعالي عليهم ويعطي لنفسه تميزا اجتماعيا عن طريق فعل الكتابة أو النشر في الجرائد والمجلات.

والمجتمع الذي يقدمه الروائي تغلب عليه الذكورية، والعنف والقسوة لأن الرؤية التي تحكمه رؤية تحقيرية زائفة، لا تدرك المجتمع في لحظات تفاعله الخلاقة، وإنما تدركه في لحظة استعراض منتقاة لبيان كل عيوبه وأخطائه لا لكشف ما يحدث في المجتمع وتطويره وإنما لإضحاك الطبقات الحاكمة وتسليتها بهذه العناصر المنقرضة، أو لوضع هذه الجماعة في متحف للفرجة حتي يدرك الغرب وأوروبا مدي قدرتهم علي التطور وقوتهم المذهلة ووجودهم الحي أمام هذه الأنماط البدائية.

إن اللغة المستخدمة لهذه الرؤية خفيفة وسريعة ودقيقة في الوقت نفسه، تبدو أحيانا محايدة وهو في ذلك متأثرا بلغة «إبراهيم أصلان» أو متورطة ساهرة تذكر ببلاغة «محمد مستجاب» إلا أنها أدت الدور المطلوب بمهارة فائقة دون ثرثرة أو افتعال، وإن كانت في مجملها واحدة مع كل الشخصيات وربما يعود ذلك إلي طبيعة البناء، أي تقنية الراوي العليم، ولهذا لم تظهر في الرواية المستويات المتعددة للغة، رغم أن الأحداث تدور في مستوي اجتماعي متدن يحتاج إلي لغة أكثر عنفا وإلي لغة أكثر بدائية وتكون مليئة بالطقوس.

إن معظم الذين يبيعون قوة عملهم في سوق العمل لديهم رغبة أكيدة في الامتلاك أو التحول إلي أعمال خدمية لا تحتاج إلي مجهود عضلي. كالبوابين أو الدعارة، وقد استطاع الروائي أن يكشف عن بعض هذه العوالم دون أن يستغرق فيها أو تكون محوراً أساسيا في الرواية، فقد جاءت علي الهامش. وإن حققت نقلة نوعية في الكتابة لديه.

إن الكتابة عن أي جماعة تحتاج نوعاً من التعاطف لا التوظيف، والروائي هنا لم يتعاطف بل رصد بشكل خارجي، يخدم رؤيته التي تحقر من هذه الفئات وتقدمها كوسيلة ترفيهية للطبقات العليا إن جماعات هذه الأعمال دائمة الهجرة والتنقل مما خلق لها نسقاً واحداً من القيم في كل الحضارات، فهي تعلي من شأن العابر وذات سلوك برجماتي، وليس لها عواطف عميقة أو مستقرة، وتثق فيما هو بشري ولا تطمئن للأساطير كثيراً. مما منح لكتابة «حمدي أبوجليل» بعدا ما بعد حديث، حيث الصلابة والعلاقات المباشرة وانتقاء سطوة الجغرافيا وتخفيض قيمة التاريخ في الفعل اليومي فالشخصيات كما هي في الواقع، عادية لا تملك أي بطولة، وهي مسحوقة في عملها، ولا تستطيع أن تري أكثر من ذلك. كما أن المجتمع في معظم فتراته لا تحكمه الأحداث الكبيرة وإنما الذي يخلق الصراع بشكل دائم هي الأحداث الصغيرة. وهذا ما جعل البناء في الرواية أكثر ليونة إذ يقوم علي الزمن الخارجي البسيط الذي لا تعقيد فيه ووحدته الأساسية هي «الحكاية» والحكاية لا تتطلب شروطاً حادة، وليس لها نهاية أو بداية وإنما تأتي في السياق لتخدم غرضاً ما، فحكاية «المعلم بكر» جاءت لتكريس أن العمل وحده لا يدفع إلي الصعود الاجتماعي، وأمام هذا الفشل لا يملك إلا خلق تخيلات وأساطير حول نفسه حتي يحقق التوازن والوجود إن التهكم وتحقير الذات والقسوة عليها من سمات ما بعد الحداثة في الكتابة شرط أن تحقق ما هو إنساني أو تدفعه إلي منطقة أكثر إنسانية، وألا تكون وظيفية لتخليصه من العنف حتي يكون أكثر اندماجا في المجتمع.

إن ما بعد الحديث في الرواية يكاد يكون جديداً علي الكتابة في مصر، ـ باستثناء تجربة «خيري شلبي» ويسعي نحو الخيال الإنساني المشترك، والشرط الوحيد هو أن تحقق الذات بشكل إيجابي، سواء علي المستوي الفردي أو الجماعي. 

ناقد من مصر