يُناقش مفهوم الحقيقة ضمن عدة مجالات فكرية منها الفلسفة والأدب، وتعتمد معظم الحكايات والمؤلفات التاريخية على حقائق تختلف من راو إلى آخر، فكلّ يرى المسائل بعينيه ويحللها وفقا لقدراته الفكرية، إلا أن الأعمال الروائية عادة ما تقدم الحقائق من منظورها الفانتازي الذي يطوّع الخيال ليعبّر عن واقع مُتغافل عنه، ويكشف الحقيقة بأسلوب سردي يلامس وجدان القارئ.
وصدرت حديثا، عن منشورات المتوسط بإيطاليا الرواية الجديدة للرّوائي العراقي لؤي حمزة عبّاس بعنوان “حقائق الحياة الصغيرة”. وهي الرواية التي استهلَّها الكاتب بالقول “لا يُنصت الجرذ لحكاية الإنسان بتفاصيلها الحزينة غالبا والمفرحة أحيانا فحسب، بل يعيش فيها، ففي كلّ حكاية جرذٌ ينطّ من سطر إلى سطر، ويقفز من معنى إلى معنى، لو ناديت الجرذان التي تحيا، منذ أول الخلق، في شعاب القصص والحكايات، لتبدّدت القصص وطارت الحكايات مثل دخان تنفخه الريح”.
يفتتح الكاتب العراقي روايته التي جاءت في 120 صفحة متوسطة، بهذا الاستهلال ليضع القارئ في المسافة التي تبدو مزهوّة بالفانتازيا، لكنّها تنبش في الحقائق الصغيرة من حياة العراقي، وتمضي عبر مسالك مُعتّمة وأخرى قليلة الضوء؛ لتكشف عمّا يتوارى خلف أحداث ظاهرها يبدو هو الآخر عاديّا.
وعبر العاديّ والخياليّ نتعرّف، سطرا وراء سطر، على حكاية البطل الصغير؛ شابّ في الثامنة عشرة من عمره، بداية ثمانينات القرن الماضي، في مدينة البصرة، حيث تدور طاحونة الأيام، ومعها تدور القصص التي نعيشها مع بطلنا صديق الجرذان، بين المدرسة والبيت والشارع، بين اختلاط المشاعر الطَّرِيّة وأصوات القنابل البعيدة، بين جرذانه والكائنات الأسطوريّة التي يقرأ حكاياتها على الجدّة، والوجوه وملامحها المنهكة من آثار الحرب وظلالها. “حقائق الحياة الصغيرة” وإن كانت تحتاج إلى حقيقة أولى، فهي تلك التي تكمن في أوّل جملة من الرواية “يُكلّم الجرذانَ منذ تعلَّم الكلام، فتسمعُ منه وتردُّ عليه”.
ويخاطب الفتى صديقه الجرذ مناديا “تعال أيّها الجرذ، تناديك رائحة الجبن، اقترب ولا تخش شيئا، لا تكن جرذا جبانا وتقدّم، سأسمّيك جرذ الحرب، الحرب الجديدة التي بدأت هناك، سيكون اسما نادرا بين أسمائك، اسما لم يذكره أحد من قبل ولم تدوّنه كتب القوارض أو تحفل به وثائق التاريخ الطبيعي، بمقدوري أن أدوّنه تحت صورتك المطبوعة في صفحة منفردة إلى جانب صفحات تضم صور جرذان كثيرة بأسماء تميّزها بحسب ألوانها وأشكالها، أو بحسب حجومها أو سلوكها أو أماكن معيشتها، فوق الأرض أو تحتها، أسماء معروفة طالما تناقلها البشر. سيكون جرذ الحرب الاسم الذي أناديك به من بين سائر الجرذان… أنت ظلي وصورتي، ملاكي الحارس ومرآتي”.
يشار إلى أن لؤي حمزة عبّاس قاص وروائي عراقي حاصل على الدكتوراه في الآداب، أصدر مؤلفات كثيرة في القصة القصيرة والرواية والدراسات البحثية ونال عدة جوائز عن أعماله القصصية.
وأنجز أولى أعماله القصصية مع تسعينات القرن العشرين، واستطاع أن يحقق بعد مسيرة إبداعية حضورا مميزا في المشهدين الأدبي والثقافي في العراق والعالم العربي.
ويرى الروائي العراقي أنّ الروايات كالعطور، منها القوي الأخاذ الذي يهيمن على الفور، ومنها الهادئ الذي يتطلب وقتا لكي يلامس الروح، ومنها ما يتوجّه إلى الحاضر فيعاود معه القارئ الدخول إلى تجربة راهنة فيعيشها كما لو كانت تجربة موازية وعطرا ثالثا يمضي به إلى ما لم يتحقق بعد.
ويهتم عبّاس في أعماله الأدبية بالسرد المنفتح على العوالم المتخيلة وجمالية التعبير عن الواقع والوقائع التاريخية الجمعية وحتى الأحداث اليومية الذاتية عبر مستويات دلالية ومعرفية متنوعة. وتوصف تجربته السردية بأنها مولعة بثنائية الحلم والواقع من خلال اللعب على ثيمات فنية، ويواصل مشروعه القصصي بجهود ذاتية منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، متطرقا إلى الأحداث الكبيرة التي مرّ بها العراق خلال السنوات الثلاثين الماضية، والتي كانت مُلهمة للكثير من الأدباء والفنانين، كما كانت أرضية للعديد من قصص لؤي حمزة عبّاس للتعبير عن فكرة الألم والمأزق الإنساني الذي يتخاطف أبناء بلده.
يذكر أن الكاتب لؤي حمزة عبّاس أصدر في القصة القصيرة: على درّاجة في الليل (1997)، العبيد (2000)، ملاعبة الخيول (2003)، إغماض العينين (2008)، حامل المظلَّة (2014)، قرب شجرة عالية (2017)، مَروِيات الذئب (2019). أما في الرواية فصدر له: الفريسة (2002)، صداقة النمر (2011)، مدينة الصور (2011). وفي التأليف خارج النوع له: كتاب المراحيض (2004)، المكان العراقي (2009)، الكتابة، إنقاذ اللغة من الغرق (2014). كما صدرت له دراسات منها: سرد الأمثال (2003)، بلاغة التزوير (2010)، النوم إلى جوار الكتب (2017).