امتازت كفر عبوش بموقعها بين قرى محافظة طولكرم، وهي بموقعها مطلة على البحر المتوسط أيضا وتقع على ارتفاع 320م عن سطح البحر وتحدها قرية باقة الحطب وكَفر زيباد شرقا وكور وكَفر صور شمالا وجيوس وصير جنوبا، وأينما سرت في أراضيها تجد أشجار الزيتون التي اشتهرت بها ونسبة لعدد سكانها مقابل المساحات المزروعة بالزيتون فقد أصبحت من أكثر قرى المنطقة تصديرا لزيت الزيتون النقي، وكان لها أراض تعرف بإسم غابة العبابشة وتبلغ مساحتها 5000دونم في المغتصب من الوطن عام 1948م، ولتُحتل كّفر عبوش كباقي فلسطين عام 1967م، وعرفت بإسم قلعة الشمال لدورها المميز في مقاومة الاحتلال، فقد قدمت الشهيد تلو الشهيد منذ قبل النكبة وخلالها وفي معارك كفار سابا وبعد هزيمة حزيران، وقد عسكر فيها القائد فوزي القاوقجي وكانت منطلق للهجمات ضد الاحتلال البريطاني وعصابات الصهاينة، وكانت تمثل حالة من التحدي لقوات الاحتلال حيث كانت هناك مجموعات للمقاومة تتواجد في كهوفها وتحظى على دعم السكان الذي يغطون عليها ويقدمون لها التموين والمأكل والمشرب.
من الساحة المبلطة بجوار الديوان ومن جانب مقر الجمعية كنا نصعد حجر حجري تراثي للصعود للعلية التي بناها كما المبنى كله المرحوم الحاج شاكر العوض، برفقة صديقي ومنسق ومرافق جولاتي في منطقتي طولكرم وقلقيلية وغيرها من مناطق صديقي الأستاذ سامح سمحة ومع مضيفنا الأستاذ زيد عوض "الصيفي" أبو محمود ، حيث توقفت على اعلى الدرجات لالتقاط صور للمحيط من هذا المرتفع، ومن ثم بدأت تأمل الجدران الخارجية والنقوش وعملية الترميم التي قامت بتنظيف الحجارة الخارجية باحتراف، والعلية أو العليات بشكل عام وكما أشرت في مقالاتي السابقة عن بلدات أخرى كان يبنيها عادة الأشخاص ذو الوضع الاجتماعي والمكانة في بلداتهم، وكانت تستخدم للضيوف والزوار حتى يأخذوا راحتهم باستقلالية المنامة عن أهل البيت، أو لاستخدام صاحب البيت حين لا يكون بالعلية ضيوف.
وحسب بعض الاشارات والمعلومات فقد كان هذا البيت يعتبر ديوان آل الصيفي بحكم المكانة الاجتماعية للمرحوم الحاج عوض، والبعض أشار أنه أيضا ضم رجال من ثورة 1936 التي عمت فلسطين وكان مركز لقاء للثوار وتزويدهم بالأغذية والاحتياجات، ومركزا لحل النزاعات والاصلاح بين أهل البلدة أو مع القرى المجاورة، والعلية متميزة بجمالها ونقوشها فبوابتها قوسية الشكل من الأعلى ومرتفعة نسبيا وعلى أعلاها زخرف جميل بحجر بارز منقوش عليه 3 زهرات نقشت بشكل جميل وارتفعت قليلا عن القوس الحجري بأعلى البوابة، وعلى يمين البوابة وعلى يسارها تحت قاعدة القوس العلوي حتى الأرض نقش على الحجارة على شكل عامود منقوش بشكل متقن وجميل وأعلاها نقش زخرفي جميل، وأمامها شرفة وممر بنفس الوقت بنيت من الاسمنت على عوارض معدنية اضيفت فوق الطابق السفلي مما يدل أنها بنيت بفترة لاحقة، حيث حجارة البناء أيضا أكثر نعومة وفخامة، وبجوار البوابة نافذتان على اليمين واليسار بنيتا بتصميم مختلف عن نوافذ بيوت العقود المنتشرة في فلسطين، حيث ثلثي النوافذ من الأسفل مستطيلة كما العادة، ولكن بدل القوس في الأعلى كان التصميم على شكل دائرة مفتوحة قليلا من الأسفل لتكون متصلة بالنافذة بشكل جميل، والملفت للنظر أن عتبة البوابة الحجرية منقوشة أيضا وربما لمنع التزحلق عليها مع كثرة الاستخدام حيث تتحول الحجارة الى ناعمة مع الزمان.
العلية رممت من الداخل بشكل متقن ومتميز حيث تمت المحافظة على ذاكرة التراث مع تجديد مناسب، فالباب صمم من الخشب القوي بنفس الاشكال التراثية تقريبا، والنوافذ زودت بالزجاج الملون مما يحافظ على الجمال بدون وضع ستائر، وفي الداخل العديد من النوافذ بين مرتفعة وتقليدية تحافظ على الاضاءة، كما جرى المحافظة على الفوهات بالجدران التي كانت تستخدم لأغراض متعددة منها "مصفط" للفراش وهي عادة فوهة كبيرة الحجم وقوسية من الأعلى وتحيطها فوهات وطاقات أصغر حجما لاستخدامات أخرى، وفوهة صغيرة مرتفعة عن متناول اليد لحفظ الأشياء المهمة كالأوراق وأحيانا المصاغ الذهبي لسيدة البيت، وهذا النمط بالبناء هو المعتاد وخاصة في البيوتات المبنية على نظام العقود المتصالبة كما العلية الجميلة.
من علية الحاج شاكر العوض اتجهنا لاكمال جولتنا مع ضرورة الاشارة لوجود أكثر من علية في كفر عبوش منها علية حسين الدقة وغيرها ايضا، ولكن لم يتح لي إلا زيارة علية الحاج شاكر العوض، فمررنا بعلية أخرى وعبرنا زقاق قريب من المضافة حيث جذر البلدة التراثية والعديد من البيوت التراثية الجميلة، حيث مررنا بالعديد من البيوت التراثية المتروكة والمهجورة والتي تختلف بأنماط البناء بين العادي والبسيط والجيد، إضافة للعديد من الأبواب التراثية الخشبية التي أكل عليها الدهر وشرب، وبعضها ما زال قائما رغم التلف الذي أصابها، حتى وصلنا الساحة التي كان بها معصرة الزيتون التراثية "البد" والتي أزيلت بكل أسف، حتى وصلنا منزل صدقي الحاج عبد الرحمن الصيفي وهو بيت تراثي جميل ومتميز بنمط البناء، مكون من طابقين على نظام العقود المتصالبة وله بوابة خارجية خشبية تراثية قديمة لعب الزمان دوره بتخريبها، والبوابة تعبر من سور مرتفع وهي قوسية الأعلى مع حجر منقوش على أعلى البوابة على شكل نسر، والسور بين الساحة التي كانت بها المعصرة "البد" وبين البيت ويتميز بوجود ثلاث نوافذ بالسور وبوابة خشبية للخروج للساحة، ومن البوابة عبرنا للساحة المبلطة بالحجارة والتي تحولت الى متحف تراثي بسيط ولكن جميل، حيث حجر "البد" الذي كان يستخدم لعصر الزيتون بالطريقة التقليدية قبل دخول المكننة، مع العامود الخشبي الذي كان يستخدم بأعلى المعصرة، إضافة لبعض الأدوات التراثية مثل الشاعوب والمذراة ولوح دراسة القمح وأدوات تراثية أخرى لكن قليلة العدد، وأحد النوافذ معروض بها حجر منحوت، وبوابة المنزل الداخلية متميزة بجماليتها وفي اعلى الواجهة للطابق الثاني نافذتان متجاورتان ومحاطتان بإطار حجري ناعم وبين النافذتين عمود عليه نقش زخرفي طولي جميل، والنوافذ مستطيلة الشكل ومركب عليها حديد حماية على نمط الصناعة الحلبية حيث لا يوجد أي مادة للحم الحديد على بعضه ولا أدوات وصل وتثبيت كالبراغي، وتقوم العملية على صهر الحديد ليرتبط ببعضه بشكل فني. وأعلى الاطار الحجري العلوي حجران منقوشان أيضا بدق الحجارة.
البوابة الداخلية للبيت في الساحة من الخشب التراثي وما زالت بحالة جيدة، والبوابة الحجرية قوسية الأعلى ومبنية بأسلوب جمالي متميز حيث بني الإطار كله من حجارة ناعمة تختلف عن حجارة بناء البيت، وفي أعلى الإطار من الجانبين وعلى المداميك الثلاثة العلوية وجدت نقوش متميزة بعملها الفني حيث الاسفل على شكل زهرة تشابه الكأس، ومن كل جانب 7 منحوتات والأعلى منها على شكل وردة بالمنتصف تحفها اربعة اوراق تتجه لزاوية الحجر، وفي الأعلى ايضا على شكل أوراق نبتة من 3 طبقات بالحجم، وفي وسط القوس العلوي للاطار الحجري حجر منقوش ببروز وجمال وأيضا على أشكال تشابه الورود، وفوق منتصف القوس الحجري بالجدار نرى حجر محفور على شكل ماعون وهو رمز أن هذا البيت بيت كرم وضيافة وإطعام.وعلى الجدار الخارجي توجد فتحة بالجدار كانت تستخدم لتبريد جرة الفخار التي يوضع بها ماء الشرب، وحلقة حجرية بارزة من الجدار كانت تستخدم لربط الخيل، وعلى الجدار المواجه للبوابة الرئيسة الذي يفصل البيت عن الجزء الآخر من البناء توجد بالأعلى حجارة منقوشة بالورود وأشكال مختلفة وحجر مكتوب عليه عبارات وتاريخ البناء ولكن كل ذلك غير واضح، وأعتقد ان هذا القسم العلوي المزخرف والمكتوب عليه أضيف لاحقا للجدار لاختلاف نمط الحجارة ومواد البناء، وربما تكون أخذت من المباني المجاورة التي تركت وهجرت وقسم منها تهدم، وكون البيت مغلق لم يتح لي الدخول اليه ومعاينته وتصويره من الداخل.
واضح أن هذا البيت كان جزءً من حوش متكامل حيث ان نظرة من الاعلى تكشف ذلك ولكن باقي الحوش اهمل وتعرض للخراب، حيث نجد أن البيت المجاور متروك ومهجور وهو من الخارج يشابه ما قبله ولكن بجمالية أقل من حيث النقوش والاهتمام، وبجواره بيت ذو بوابة قوسية تصل للسقف ولكنه مهدوم وربما يكون بيتا لأحد من كبار أهل البلدة أو مضافة من طبيعة البناء والبوابة التي لم يتبق من البناء إلا هي، وبين هذه البيوت بئر ماء كان يعتمد على تجميع مياه الأمطار للاستخدام اليومي، وقد دخلت أحد هذه البيوت التي أصبحت بحالة يرثى لها ووجدته بيت بني على نظام بيوت العقد المتصالبة وعلى نفس النمط من حيث فجوات الجدار التي استخدمت "مصفط" واستخدامات المنزل، لنكمل الجولة بين العديد من البيوت بحالاتها المتعددة بين تالف ومهجور وشبه تالف، فهذه المنطقة كما اشرت سابقا كانت جذر البلدة التراثي حيث مجموعة من البيوت والأبنية التراثية المتروكة بكل أسف وبعضها لم يتبق منه إلا الأطلال.
في دراسة نشرت عام 2000م لرواق "مركز المعمار الشعبي" المهتم بالتراث والترميم نجد انه كان بالبلدة 101 بيت تراثي منها 85 بيت من طابق واحد و15 من طابقين، ومنها 53 بيت منفرد والباقي متصلة ببعضها منها 17 مبنية على نظام الأحواش، وفي تلك الفترة كان 57 مبنى مستخدم بشكل كلي واثنان بشكل جزئي والباقي مهجورة تماما، علما أن الدراسة اشارت أيضا ان معظم المباني كانت بوضع بين متوسط وجيد، وبالتالي كان يمكن لملاكيها ترميمها والعناية بها بدلا من هجرتها وتركها تشكو الوحدة وقسوة الطبيعة والدهر، فإن كانت هذه الدراسة عام 2000م فكيف أصبح الوضع الآن؟ ما رأيته من وضع للمباني التراثية إلا القليل أثار الألم والحزن في داخلي، فهنا ذاكرة الوطن والأجداد وعلينا المحافظة عليها بدلا من تركها لعاديات الزمان، والانتقال للعلب الاسمنتية التي تفتقد الجمال وهندسة العمار التقليدية والتراثية والتي يستمد منها المهندسون الآن فكرة الأبنية المستدامة، فالإبداع العمراني في البيوت التراثية كان يترك البيت دافئا في الشتاء ولطيفا بالصيف ويحافظ على المواد الغذائية بفترة لم يكن بها كهرباء ولا أجهزة تكييف ولا تبريد.
ودعنا مضيفنا المضياف الأستاذ زيد عوض "الصيفي" الذي أصر على ضيافتنا والغداء واعتذرنا بقوة لضيق الوقت، والضيافة والطيبة بعض من صفات العبابشة حتى ان السكان في الماضي تعاونوا على بناء مضافة لاستقبال الزوار للبلدة والمارين بها، حتى منحهم الناس صفة الأمارة لطيبتهم وكرمهم وقمنا بجولة بالسيارة في البلدة وأطرافها، حيث زرنا خربة جفا والتي كما اشرت بالمقال الأول أنها كانت الأساس لكفر عبوش قبل ان تهدم بصراعات عشائرية مع بلدة أخرى في النصف الأول من القرن 19، وما زال بالخربة بعض البقايا التي تشير أنها كانت مسكونة ومأهولة منذ عهود قديمة جدا، ومن الجدير بالذكر انه قد ورد اسم كفر عبوش بأحد سجلات الضرائب العثمانية "كفر عبوس" وربما يكون ذلك خطأ بالكتابة، رغم ان البعض حاول ان ينسب ذلك لعشائر "العبوس"، ومن البعيد كنا ننظر لمغارة الشفاء والتي تدور حول مياهها الأساطير بقدراتها على الشفاء من الأمراض، ولكني اعتقد ان ذلك مرتبط بالخيال الشعبي أكثر من الواقع، فقد شاهدت الكثير من المواقع في بلادنا والتي ينسب اليها قدرات على الشفاء أو منح البركة أو قدرة المكان على سخط من يمارسون أي ممارسة مثل قطع شجرة في مقام النبي غيث، او قطع غصن من شجرة مقام الأسيرة، وغير ذلك من حكايات متوارثة عن العديد من المواقع، لننهي الجولة قبل عودتنا لبلدتنا جيوس ونحن نفكر بالجولة القادمة بأية بلدة ستكون.
صباح بارد في عمَّان رغم الشمس، أجلس لمكتبي في شرفتي العمَّانية مستذكرا جولتي في كفر عبوش، واستمع لزقزقة العصافير وهديل الحمام وهي تأكل مما وضعته لها فتشاركني الصباح وتمنحه جمال آخر يعيدني لصباحاتي في وكني في جيوس، أحتسي قهوتي مع شدو فيروز: " رُبَّ أرضٍ من شذىً وندىً وجراحاتٍ بقلبي عِدى، سكتت يوماً فهل سكتت؟ أجملُ التاريخِ كان غدا، واعدي لا كنتَ من غضبٍ أعرف الحب سنا وهدى"، فأهمس: صباح أجمل يا وطني.. صباحكم أجمل.
"عمَّان 12/12/2020"