يقارب الناقد السوري أسئلة الكتابة الشعرية في ديوان الشاعر الأردني موسى حوامدة "سلالتي الريح". والذي يعتبره نموذجا خاصا لتألّق بعض التجارب التي تتابع حمل راية التحديث بمسوغات موضوعية.

حين تكتب عائلة الروح مراثيها

قراءة في ديوان الشاعر موسى حوامدة "سلالتي الريح"

خالد زغريت

منذ أن ظلل صدى القوافي رمال صحراء الجزيرة العربية والشعر ينصب بيتاً لروح العربي الهائمة في مدى لا يحدّ، فكان بلاط الذات العارية تحت الشمس، وعرش الروح التي تحلق في فراغها. وكاد العرب أن يظنوا أن بلاغة الكلام هي الحارس الوحيد لوجودهم فأمنوها تاريخهم الفردي والعام، وورثوا هذا المجد لسلالاتهم، فهانحن وبعد أن أغدقت مبتكرات العصر من الأدوات والأساليب ما لم تكرم به ملايين السنين الغابرة، لكن العربي مازال يجد الشعر مجده العالي وأن الكتابة على ما تيسّر فيها من غواية الوهم هي طلاقته الإنسانية:

نغادر الفاصلة الأولى
لنكتب فاصلة تالية
لانضع نقطة أول السطر
ولا نقطة آخر العمر
كلانا طليق.........

يصر الشاعر على التمزق بالحروف ومصاحبة الوهم، وكأن الكتابة خسارة الروح لفائضها، وطالما كان العربي يخسر الكثير، لكنه كان يدير خدّ حلمه للصفع على يمينه ويساره لأنه كان يربح مديح خسارته، فيحوّل تاريخه من مُرقم أسماء هزائمه ونكباته إلى مغنى مراثيها، وبقى العربي موشوماً بالشعر وشمه بالصحراء، وقافية الحلم الساكنة، ويوماً إثر يوم تتحوّل الحداثة الشعرية بعد رحيل أثافيها إلى أطلال تدرس رويداً رويداً، ويكبر وقوف مريديها في عرصاتها، واقفين موقوفين، باكين مستبكين، لكنها تعي جواباً، فيكاد يجمع أصحاب الحداثة على ندرة انبثاق تجارب حديثة بعد الرواد وتابيعهم الأوائل. وتخرقك هذه التداعيات وأنت تتأمل مجموعة شعرية، تحمل بما أبدعت من أدوات شعرية، أجنحة للتحليق في أجواء الحداثة الضبابية، وثمة بريق يولد من تجارب جادة تزاوج التحديث التعبيري بالشعري الذي يخفق بروح جمالياته الأزلية أي الشعر بأية قبعة اعتمر، والذي يثير هذا الاحتفاء الرثائي بالشعر، هو تألّق بعض التجارب التي تتابع حمل راية التحديث بمسوغات موضوعية، ومن هذه التجارب شعرية موسى حوامدة في ديوانه سلالتي الريح، على أن من التطفيف النقدي النظر إلى تجربة هذا الشاعر من خلال ديوان واحد احتفي به، وكذلك من التطفيف النقدي القول إن الشاعر انقطع عن السائد الشعري وابتكر خصوصية لا قبلها ولا بعدها، لكنه حرق مراكبه ووقف على باب قصيدة، الرواد/ البحر/ من ورائها و/ المسفسطون/ العدو/ من أمامه، وليس لديه إلا أن يؤصل صورته وخطابه الشعريين لتأويه قصيدة تبقي على مساحة لوجوده، وكذلك الشاعر لم يشب عن طوق مأساة الواقع الشعري الذي تولّى يفيض دمعه رثاء على رثاء،ولم يشب كذلك عن خريطة الانهيار العربي والأحلام الذاتية والموضوعية، بل راح يعجن صوته الشعري بماء فجيعة الواقع، ليبقى للرثاء عموده الشعري، ولوقفة الطلل حداثتها اليومية، ولرحيل ظعائن الأحلام قاموسها اللساني، وراح كذلك يعيد تكوين وجوده بتأصل رثائه الأزلي منذ فجر الخليقة:

"قبل أن ترتطم الفكرة بالأرض
قبل أن تفوح رائحة الطين
تجولت في سوق الوشايات
أحمل ضياعي
أقتل نفسي
أنا هابيل وقابيل
أدم أنا وحواء
نسل الخطيئة
وزواج السوسن من بيت الطيوب" 31ص

يكسر الشاعر في هذا المقطع الشعري تاريخ الوجود ويعيد أوراق روزنامة المأساة إلى ما قبل تاريخها، ويسمي الجريمة الوجودية للإنسان، ويتلمّس نسل سكينها في دمه متوهجاً لا طلل لحدّه، ولا فناء لزمنه، فهو يبدأ الحياة موشوماً بإرث قتله الموضوعي والذاتي، ثمة صرخة يطلقها الشاعر احتجاجاً على ميراثه بنسل السكين، وهي صرخة كأنها سلالة هذه السكين فتمتد إلى ما قبل تاريخها، وكأنها كذلك سلالة الريح التي لا لون ولا طعم ولا رائحة ولا تاريخ ولا حدود ولا انتماء ولا لغة لها، لكنه شرط وجوده، وكما هي حال الريح هذه هي حال الشاعر لأنه ورث جيناتها بدمه، فهو القاتل المقتول بالميراث وهو هابيل وقابيل بل حواء وأدم أي هو وارث الموت وكل ثقافاته وأطيافه ومعتقداته، والشاعر لا يعتد بأنه وريث الموت،لأنه مسحوق بظلمات الواقع،وغارق بذات أسرفت بإحساسه فتضخمت وساحت على محيط التكوين، بل لأن الشاعر يرث الألم لإحساسه الشعري بكل ما يهدد أحلامه ووجوده، فهو يعيش والعالم ينتشر في دمه خياماً للمضطهدين:

لعلي من أمم كثيرة ورجال كثيرين
لعل لي جدات روسيات وعمات إسبانيات
واثق أن لغتي ليست جسدي
وأن أصوات الطيور ليست غريبة عن حركة الريح والمطر
كنت طائراً في زمن الفرس
صليباً في عهد قسطنطين
سيفاً في يد صلاح الدين
كأساً في يد الخيام
مَن يدلني علي.

لا يسخر الشاعر بتساؤله عمن يكون، لأنه بلا هوية، ولا خصوصية تفرّده عن غيره، بل لأن الشاعر يريد أن يدل على الأبعاد الإنسانية والثقافية لذاته التي تتخضرم بكل الأزمنة والأمكنة والثقافات، وإن كان الشعر في مثل هذه اللمعات يحسب على الفكرة المبدعة على مهارة الصورة التي تضمر فكراً نفيسة، فتلك طلاقة الشعر حين يتكون وهو يُحتضر في التلوّن بالأجساد الفنية، على أن ذلك ليس بذريعة كافية لأن يطغى جمال المعنى على قائله فيكتفي به، غير أن الشاعر وهو يقف على برزخ النزق والاحتضار النفسي لاختناقه بفساد هواء الأسئلة، يرى الشعر عصا مأربه فيها أن يهش عن نفسه اليأس، وهو يحاصر حصاره الأول، فيريد أن يطلق فضاء للروح، لكنه يفاجأ بأن أجنحتها بقايا زفراتها فلا تقوى على الطيران، فما يبقى له إلا أن يكتب مراثيها بشمالها المرتجفة، فلا تحسن خط حروفها، ولا هو يقدر على تهجئة عروضها ولا عجزها:

أعود خاسراً مثل غيمة تلاشت في الفراغ
خاوياً منك ومني
مليئاً بغيري
يا صوت الجبال
يا صدى الريف
يا حرير الرضا
أين يدفع البحر ماءه
أين يكنز الغريب جثة أبيه
كيف يرتق المكلوم شقوق كلماته
يا غيوم العمر العابرة
ترفقي بالماء
اقطعي زبد السيول
رغوة المنابذة
أصيخي سمعاً لندائه البعيد
نداء الغرقى الأخير
أصيخي سمعاً لثغاء الماعز المذبوح
لوصايا الجسد المسجى.

يكسر الشاعر ضفة البلاغة القديمة بجنسها البلاغي المسكوت عنه في إنشاء نداء الغرقى وطلب الإصغاء لثغاء الماعز المذبوح، والأمر بقطع زبد السيول، فيصل إلى وصايا الجسد المسجى على جسر صدى بلاغة وصف الانمحاء بما تبذّّره اللغة ببكاها على حافة الروح، فالشاعر لا يريد لشعريته أن تسمو بالصورة المصنوعة بمهارة لغتها الموحية،بقدر ما يريد للصورة أن تخلع نعليها الحريريين في وادي الشعور المقدس وتسمع أنين ما تدوسه، فترشق بنعليها قداسة الصورة التي ترتخي على عرش ماضيها وطبقيتها اللغوية، لأن الحالات الشعرية التي تقتضيها الأحداث تتطلب عراء فُجْر اللغة وعهر صورة القاع المرمية على رصيف المشهد كالشهداء يُحصَون ويُسجَون وتُسمى بأسمائهم دوائر الفساد لتسلخ جلود أفعالهم عن لحومهم، فتنسى، ثمة واقع فاجر بغابيته، وأقصى أحلام الشاعر في ظلمات هذه الغابة أن يعثر ببريق عيون الذئاب وهذا ضوءه في آخر النفق، فأي لغة تصلح للمستقبل والحلم، وليس لصداها أظافر ولا لجرسها سكاكين:

أيها المستقبل المعقوف مثل صليب النازي
أما للحروف من أثر
أما للكلمات من مدية أو سيف
أما للحلم من تكويم
على ظل لوحة لماتيس
أو جانب سور
في خيال الجنائز
أما للكهوف من غذاء
سوى الظلمة واللصوص
انتهت متاعب الميت
اجعل حذاءك القديم
مستودعاً للطيبة
تقدم حفلة المغفلين
تلك التي تكشف للخالق
جرائم الحشرات
خديعة المواعظ والنظريات
مبارزة الديوك
تفيض على حاجة المعدم.

لم يعد الشاعر متأملاً للحياة وكوارثها وأحداثها أو واصفاً لها، فالشعر ليس تصويراً وبراعة وصف، لقد أحيل في هذا الواقع عن معاشه وعن كرسيه، وهو عليه كي يدل على نفسه أن يلفظ روحه موقّعة ومغناة، فأية أدوات فنية يبدعها ليبرأ ذاته من هويتها، وينظف زمره الدموية من شاراتها، ويغسل عن يديه دمها، إنه ما لا يلزم هذا الزمن، وإن أدرك الشاعر ذلك فإنه يتعامى عنه لأن الانفصام بين ذاته الخاصة والشعر هو سلخ لملح دمه، ووقع نبضه، لذلك التحم بموته وتسامق به يرثي ذاته قبل أن يبكي موتاه. فلا وقت عنده ليغسل أحلامه من جمرة انتظارها ورعشة ذنوبها، قبل أن يسقط عن فرس هواجسه كالريح الذي يحرسه لا لونه ولا طعمه ولا رائحته، وموسى حوامدة حين يدرك أنه أمام قصيدة غريبة اللسان عن كل اللغات الحية، وغريبة اللون عن كل عمي الألوان، يعرف أن عليه أن يعيد الكتابة تحت درجة تجمّد أسئلته، فيتحرر من لغة الجمال إلى لغة الرثاء التي تفرّق صداها بين الروح والريح، وتوزّع حروفها وهي ترقص على ساقي الريح، بكل هذا الإبهام يدخل الشاعر سراب القصيدة من سفرها وضوء ملح دمعها، فيصير حتى الجمال خياماً من جرس الموت:

سامحيني يا امرأة
ما كنت أدرك رعشة القتيل
ولا أحمل ميراث الأجداد
سامحيني يا مليحة
تحت عينيك أقيم خرابي
ومن بين يديك أصنع تماثيلي
هنا الجمع بين حسرة البلوط ونشيج الكستناء
هنا الفرق بين رقصة النار وشق صدر القبر
هنا لافرق بين أمك التي مضت وأمك التي بين يديك. ص 28.

هكذا تمحو الظلال أشكالها في قصيدة موسى حوامدة وتبقى سر وجودها في إبهام الظل، فتلتقي مع شعريتها المميزة، فالشعر الآن كشف عن الكشف الذي لا يمنح إلا صدى كاشفه فيه، إنها لعبة الشعر الذي من زمن عنترة أدرك الشعراء أنهم غرقى في متردم من سبقهم، وعلى مًن يأبى الغرق ألا يخشى وحشة الطرق فيما يرده أحد وتلك هي حال موسى حوامدة رحيل في لغة تحرسها مفاوزها وكل حروفها غالباً تعود بخفي حنين إلا إذا كان للصمت خفّ أكثر أثر على الهواء، فأية رحلة يرحلها موسى حوامدة في قصيدة وكل أحلامه حافية من بصمات الأمل فهل يمكن للشاعر أن يكتب قصيدة تترك على الهواء بصماتها، وهذا ما يجعل الريح سلالة موسى حوامدة التي لا يمكن إلا أن تصل إلى الروح أو أي حيز جمالي لا يفرغ من هواء الروح.  

ناقد سوري