واصلنا جولتنا أنا ورفيقة الجولة الإعلامية منى عساف في بلدة برهام الفائقة الجمال، ببساتينها وموقعها وجمالها ومساحات الزيتون المنتشرة على مساحات واسعة اضافة للأشجار الحرجية برفقة مضيفنا الأستاذ زياد بكر والتي نسقت لنا الجولة برفقته المرحومة نادرة باكير التي توفيت منذ فترة ببلاد الاغتراب والشتات وهي تحلم بزيارة بلدتها برهام فلروحها الرحمة، فقد كانت زيارة برهام رغبة قديمة منذ تجولت ووثقت مناطق بير زيت وأطللت على برهام منها اضافة انها بلدة صديق العمر في عمَّان منذ نصف قرن العزيز حسن عثمان وقد وعدته بزيارة بلدته حين تسمح الظروف بذلك ووفيت بالوعد، وبعد أن أنهينا الجولة في البلدة التراثية وهي جذر برهام الذي كان يحيط بمقام أحمد برهان الهاشمي، متجهين الى بقايا الكنيسة البيزنطية التي كانت في البلدة في الفترة التي انتشرت بها الكنائس البيزنطية في فلسطين بشكل عام وفي منطقة رام الله والبيرة بشكل خاص، والكنيسة ما زال جدارها قائما ومبنيا بالحجارة التي تم قطعها من المحاجر بالشكل المربع والمستطيل الكبير الحجم وهو الذي ميز نمط البناء للأديرة والكنائس البيزنطية، وقد ظهرت بأطراف الكنيسة "البازليكا" التي كانت تزين بها الأديرة والكنائس وتحيطه أشجار الصبار وشجرة بالموقع نفسه، ويظهر أن عدم الاهتمام بالتنقيب وإظهار تفاصيل ما تبقى من الدير أدى لتراكم الأتربة والحجارة عبر القرون الماضية، ومن جوار بقايا الدير كنا نتجه بجولة في البلدة والتي ذكرت في الفترة الصليبية بإسمDarchiboam .
جولة جميلة في البلدة واتجهنا الى بيت أهل المرحومة نادرة أبو بكر التي كانت قد نسقت الزيارة والجولة، والبيت يعود بتصميمه لفترة الخمسينات من القرن الماضي، حيث أصبح الحجر مع الاسمنت وأصبحت السقوف مستوية وإسمنتية، لكن هذا البيت لم يكن له درج داخلي أو خارجي للصعود للسطح، بل اعتمد على فوهة في جدار السقف يتم الصعود اليها بواسطة السلم الخشبي المتحرك، والنوافذ الطولية بدون قوس علوي كما البيوت التراثية، ولها واقي من المطر من الشمس والمطر من المعدن "اباجور" بفتحات فنية تسمح بدخول الضوء نسبيا وتمنع دخول المطر، وإن حافظ هذا النمط من البناء على سماكة الجدران التي تتكون من 3 طبقات، الحجر الخارجي وحجر جيري بالمنتصف ليقوم بالعزل وجدار داخلي، وعملية العزل كانت تحافظ على برودة البيت بالصيف والدفء في الشتاء ولكن بدرجة أقل من بيوت العقود المتقاطعة التي تحدثت عنها بالمقال السابق، واتذكر ان هذا التصميم من البيوت كنا نسكنه في مدينة رام الله قبل خروجنا القسري منها بعد هزيمة حزيران 1967م.
من هناك كنا نكمل التجوال بالبلدة حيث تمازج القديم التراثي مع ابنية الخمسينات مرورا بالأبنية الحديثة، لنتجه إلى عين الماء المعروفة بإسم بئر رمانة التي كانت تسقي البلدة في الزمن السابق والتي أصبحت جافة وأحيانا وحسب موسم الأمطار قد تعطي القليل من الماء، ولكن بكل أسف أن مبنى عين الماء الحجري مهمل جدا وحين زرته كان به أنقاض وقمامة مختلفة بدلا من المحافظة على نظافته، اكملنا جولتنا في البلدة باتجاه المدرسة التي روى لي حكايتها مضيفنا الأستاذ زياد بكر حيث كانت ما قبل عودة م.ت.ف وتشكيل السلطة الفلسطينية عبارة عن مدرسة صغيرة ومن غرفة واحدة تضم أربعة صفوف، ويشرف عليها أستاذ واحد يقوم بكل المهام، وفي عهد السلطة كان المجلس القروي والذي تأسس عام 1964م والذي كان الأستاذ زياد بكر عضوا فيه يضع على رأس أعماله تأسيس مدرسة حديثة تخدم أبناء برهام وجيبيا، فتم بالتعاون مع المرحوم والصديق الغالي سليمان النجاب "أبو فراس" عضو اللجنة التنفيذية في م.ت.ف رفع كتاب للشهيد ابو عمار الذي وافق على منح أهالي البلدتين مساحة 3 دونمات من الأراضي الأميرية وستون ألف دولار للبناء، فتم بناء "مدرسة برهام وجيبيا الأساسية المختلطة" في موقع جميل وفسيح وذو طبيعة جميلة والتي أصبحت تضم أبناء وبنات البلدتين للمرحلة الأساسية اضافة لمدرسة الأمير حسن الثانوية.
من المدرسة كنا نتجه الى بلدة جيبيا، هذه البلدة الساحرة بجمالها وهدوئها وقبل الوصول للبلدة كنا نزور القرية التاريخية "خربة صيا" والتي تعود بتاريخها الى الفترة البيزنطية حيث آثار الدير البيزنطي ما زالت ظاهرة للعيان، وهذه الخربة تم التنقيب بها وكشفها عام 1999م من خلال الدكتور حامد سالم بالتعاون مع متخصصين من جامعة بير زيت وطلبتها مع بعض المتخصصين الأجانب، وكشفت هذه التنقيبات في الأراضي المملوكة لآل النجاب عن كشف الخربة والدير، فهذه الخربة بقايا لقرية مهمة من العهد البيزنطي على مساحة 45 دونم من الأرض وكانت تعتمد على الزراعة وخاصة الزيتون والعنب والمحاجر ذات الحجر العالي الجودة، وأثناء تجوالنا في المنطقة وخاصة بالدير كنا نشاهد بعض من قطع الفسيفساء البيزنطية "البازيلكا" اضافة لمعصرة النبيذ والزيتون، وما بين الدير البيزنطي والقرية يوجد العديد من هذه المعاصر الحجرية التاريخية ومنها ما تم حفره بالصخور بشكل هندسي متميز بدقته، إضافة لبقايا أعمدة حجرية منقوشة وبقايا القرية وقواعد بيوتها التاريخية وسلاسلها الحجرية والمصاطب الزراعية التي كانت، والدالة على حجم الاهتمام بالأرض وحجارة الخربة المتناثرة على الموقع وتحت الأشجار الحرجية التي تشتهر بها جيبيا، والخربة كانت تقع على الطريق التي عرفت بطريق "رومانيا" والممتدة من القدس وصولا لمدينة البيرة وعبر بير زيت والخربة باتجاه الموانئ الفلسطينية على الساحل الفلسطيني حيث قيساريا وحيفا، فموقع الخربة جعل منها موقع مهم بتلك الفترة القديمة مما جعلها تحظى على موقع اقتصادي هام، وهذا الموقع المهمل الآن بحاجة لاهتمام وتنظيف ليكون موقعا سياحيا مهما.
من هناك كنا نتجه عبر الطريق المار بوسط الأراضي الحرجية من السرو والصنوبر والتي زرع معظمها بفترة الحكم الأردني كما اشارت دراسة مهمة من اعداد الأستاذ أحمد حنيطي عام 2016م وبها الكثير من المعلومات عن أحراش جيبيا لمن يعنيه الاستزادة بالمعلومات، حيث أشار بدراسته أن مأمور الحراج بتلك الفترة هو رشيد النجاب والذي بحكم موقعه قام بزراعة اشجار الصنوبر والسرو لتحديد أراضيه واحتذى به باقي السكان، ومع الابتعاد النسبي عن الزراعة بسبب غياب الخدمات والمدارس بتلك الفترة وانتقال الكثير للاقامة بالبلدات المحيطة، وتوفر فرص العمل ذات المردود الاقتصادي تحولت نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية إلى أراض حرجية جميلة منحت جيبيا جمالها الحالي.
في مدخل جيبيا وضع المجلس القروي يافطة تعليمات لزوار البلدة، فأحراش جيبيا هي أراض خاصة ومملوكة لأهل البلدة وليست أراض أميرية مفتوحة، وهذه التعليمات تنظم الزيارات للأحراش المحيطة بجيبيا، وجيبيا تقع على مسافة لا تزيد 16 كم عن شمال رام الله وتمر طريقها عبر برهام بعد الانحراف عن بير زيت، ومساحتها لا تزيد عن 1666دونم ومحاطة بأراضي أم صفا وبرهام وكوبر، وتعرضت اراضيها الحرجية لمصادرة الاحتلال حيث قام الاحتلال في بدايات عام 2018م باعلان مصادرة اراض هي مملوكة بالسجلات الرسمية للسكان وشق طريق فرعي يربط مستوطنة حلميش مع أراضي أحراش جيبيا بمنطقة تل القسطل، وتتعرض جيبيا وأحراشها وأراضيها الزراعية باستمرار لاعتداءات حثالات المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال الغاشم وآخرها من فترة قريبة حيث تعرض اخوين في أرضهم لاعتداءات جسدية كادت أن تودي بحياتهم.
واصلنا السير بالشارع الرئيس لجيبيا حتى وصلنا المسجد القديم، وقبل الوصول اليه وصلنا لقبر المرحوم سليمان النجاب فنزلت وقرأت له الفاتحة وبعض الدعاء فقد كانت تربطني به علاقة صداقة قديمة وكنت على تواصل هاتفي معه وهو في العلاج بالأردن حتى وفاته ومن ثم شاهدت منزله الريفي الجميل، والمسجد قديم نسبيا وهو مسجد صغير أضيف له شكل مأذنة لرفع مكبرات الصوت، وعبر الطريق شاهدنا العديد من البيوت التراثية، وبالبحث عن أصل اسم جيبيا لم أجد الا مصدر واحد يشير انها حملت الاسم بفترة الكنعانيين وتعني المكان المرتفع عن الأرض، وفعليا جيبيا مرتفعة عن سطح البحر بحوالي 870 م وهي محاطة بالعديد من الخرب الأثرية مثل خربة صيا وخربة مسيا وخربة القسطل وخربة القيسي ومقامات دينية لأولياء سكنوا البلدة ومحيطها، وهي رغم تاريخها القديم الا ان الهجرات المتتالية منها تركتها بعدد سكان حسب بعض الاحصائيات لا يزيد عن 200 نسمة.
البيوت التراثية في القرية قليلة بحكم قلة عدد السكان وهي كما باقي المناطق الفلسطينية بيوتات تراثية وعددها سبعة مبنية على نظام العقود المتقاطعة وباقي المباني التراثية على نظام الأسطح المستوية باستخدام الدوامر المعدنية، وفي دراسة ميدانية عام 2001 كانت البيوت التراثية في البلدة فقط 13 منزل فقط منها تسعة مهجورة، وهذه البيوت مختلفة بمستويات أوضاعها ولكن البعض منها يمكن ترميمه والمحافظة على ذاكرة الأجداد وتراث الوطن، وقد حاولت لاحقا زيارة جيبيا لتوثيق كل هذه الذاكرة فيها، لكن بكل أسف لم أتمكن من التواصل مع أحد من سكان البلدة يمكنه التفرغ معي للتجوال واعطائي المعلومات كما في برهام حيث كان مضيفنا والمرشد الأخ زياد بكر، ولكن ستبقى الرغبة قائمة حتى توفر الظروف الملائمة لزيارة أخرى وتجوال كامل بكل خباياها، فعدنا من جيبيا بعد جولة في سحرها وجمالها ونقاء هوائها إلى بيت مضيفنا زياد بكر وفي الحديقة تناولنا الفاكهة والقهوة قبل أن يوصلنا بسيارته لبلدة بير زيت، حيث ودعناه هناك شاكرين له حسن الضيافة وجمال الجولة التي تفرغ لها بالكامل معنا.
صباح مشرق وبارد جدا في عمَّان مع بعض الضباب، استذكر جولتي في برهام وجيبيا بعد مرور خمس سنوات حيث كانت جولتي في 11/11/2015م، وأستمع لشدو فيروز مع فنجان القهوة على مكتبي بشرفتي العمانية مع زقزقة العصافير وهديل الحمام وهي تشدو: " اذكريني كلّما الفجر بدا، واذكري الأيام ليل السهر، اذكريني كلّما الطير شدا، وحكى للغاب ضوء القمر، اذكريني واذكري عهد الهنا، أتُرى أشدو إذا لم تذكري، نحن جمّعنا من الليل الغِنا، وحِكَايات الجمال المُزهر".
فأهمس: صباح الخير يا وطني، صباحكم أجمل..
"عمَّان 20/12/2020"