تواصل دورية المشروع التي تصدرها مؤسسة المشروع للتفكير والتكوين، ويرأس تحريرها الأستاذ كمال عبد اللطيف، حيث صدر العدد رقم 14 خريف 2020، المخصص لمحور: السِّير الذاتية لرجالات الحركة الوطنية المغربية وامتداداتها، وهو يتضمن مجموعة من الأبحاث التي حاولت الاقتراب من جوانب عديدة من تحولات الوعي السياسي المغربي خلال فترة الحماية، كما حاولت أبحاث أخرى داخل الملف تشخيص جوانب من الصعوبات التي واجهت الحركة الوطنية طيلة ما يزيد عن ستة عقود، ونفترض أن محتويات العدد تفتح الأبواب على كثير من الأسئلة والقضايا التي تدعونا إلى مزيد من الاقتراب من فضاءات الوطنية المغربية.
و في ما يلي كلمة العدد التي كتبها كمال عبد اللطيف بعنوان: " في الاقتراب من الحركة الوطنية وامتداداتها" :
نقدم في هذا العدد مجموعة من الأبحاث والمقالات، في موضوع السير الذاتية المكتوبة أو المروية أو المستخرجة من مسارات وأعمال بعض رجالات الحركة الوطنية المغربية. نتوخى منه الاقتراب من بعض أسئلة الحركة الوطنية المغربية، ومن الآفاق السياسية التي رسمت في تاريخنا المعاصر، منذ أربعينيات القرن الماضي وإلى يومنا هذا. حيث يمكن أن نُعَايِن في المؤسسات والأعمال والآثار التي ركَّب الوطنيون المغاربة، كثيراً من المعطيات الدالة على كيفيات تحركهم ومواجهتهم للتحديات، التي اعترضت مشاريعهم وتصوُّراتهم السياسية والثقافية في بناء المغرب الجديد، مغرب الحرية والاستقلاق والتقدم، بمفردات وقاموس السياسة والتاريخ في ستينيات القرن الماضي وما قبلها.
إن ما دفعنا للعناية بالسير الذاتية للنخب الوطنية، التي ساهمت في تكوين وتطوُّر الحركة التحررية ببلادنا، يرتبط بغياب المذكرات والمونوغرافيات التي تكشف مسارات رجال ونساء الحركة الوطنية، وتُحدِّد أدوارهم في ماضينا القريب وفي حاضرنا، خاصة وأن أغلب الوطنيين لم يكتبوا سِيَّرهم الذاتية، ولم يكتبوا يوميات تساعد على فهم وتحليل المبادئ والمعارك، التي انخرطوا فيها طيلة عقود القرن الماضي، عقود سنوات الاستعمار وما تلاها، بمعاركها وشعاراتها وأسئلتها، أي بكل ما ساهم في رسم الملامح السياسية الكبرى لمغرب الاستقلال.
نتطلَّع إلى أن تُقدم مواد ملف العدد، جملة من التشخيصات والخلاصات، المتصلة بحياتنا السياسية في القرن الماضي، ذلك أن المسافة التي أصبحت اليوم بيننا وبين خيارات ومعارك أجيال من الوطنيين ومن سار على دربهم تزداد اتساعاً، ومن حقّ الأجيال الجديدة التي تواصل العمل السياسي اليوم ، أن تكون على بيّنة من تاريخ كل الذين ساهموا في تركيب جوانب من حاضرنا السياسي بطرق وأساليب مختلفة، حيث لا يمكن الفصل في بنية نظامنا السياسي، بين أداء الحركة الوطنية وبين النمط الذي استوى عليها النظام السياسي المغربي، في كثير من تجلياته بعد ذلك في سبعينيات القرن الماضي، مثلما أنه يصعب الفصل بين بنية هذا النظام، وبين بعض آليات الموروث السياسي المرتبط بمرحلة الحماية الفرنسية والإسبانية، في مختلف أدوارهما المرتبطة بتدبير بنية المجتمع والسياسة والثقافة في مجتمعنا.
قسمنا ملف العدد إلى محورين اثنين، خصصنا الأول منها، لمن أطلقنا عليهم نعت المؤسسين، أي رجالات الحركة الوطنية الذين ساهموا في عمليات التأسيس لأفق التحرير والتقدم في مجتمعنا. وقد انخرط أغلبهم في أربعينيات القرن الماضي في إعداد التصوُّرات والمواقف التي بنت الملامح الكبرى للكفاح الوطني من أجل الاستقلال، إضافة إلى انخراطهم بعد الاستقلال في رسم معالم المجتمع الجديد، الذي يتطلعون لبنائه في المغرب المستقل. أما المحور الثاني، المرتبط بامتدادات الحركة الوطنية وتحولاتها، فقد اقتربت مواده من شخصيات في السياسة والثقافة والجامعة والنقابة، شخصيات لا يمكن فصلها عن روح الخيارات والمواقف الوطنية، إلا أنها عاصرت أسئلة وقضايا أخرى، أغلبها يُعَدُّ من ميراث الحركة الوطنية بكل ما لها وما عليها في تاريخنا المعاصر.
نفترض أن محتوى دراسىات وأبحاث هذا الملف، ستفتح الأبواب على كثير من الأسئلة والقضايا المعقَّدة، ونتصوَّر أن مشهدنا السياسي اليوم في حاجة ماسَّة، إلى مزيد من الاقتراب من فضاءات الوطنية المغربية وامتداداتها، التي ما تزال تمارس حضورها بأشكال وظلال مختلفة في مشهدنا السياسي. وإذا كنا نؤمن بأن تطوُّر الوعي السياسي المغربي، يسير في اتجاه بناء مشهد سياسي بمبادئ وقيم مختلفة عن القيم والتصوَّرات، التي ركَّبتها الحركة الوطنية وامتداداتها، فإنه يلزمنا أن نقترب أكثر من ميراث هذه الحركة، من مجموع آثارها في تعدُّده وفي تناقضاته المرتبطة بالإشكالات والتطلعات، التي واكبت تبلورها وتطورها..
نجمع في مساهمات هذا العدد، كثيراً من القضايا المرتبطة بمسار الحركة الوطنية، المكثَّف والمعقد والمليء بالتضحيات، لنفحصه مجدداً وبكثير من الهدوء، في ضوء أسئلته ومعاركه، وفي ضوء أسئلتنا ومعاركنا المؤسَّسة في سياقات معرفية وتاريخية جديدة، لعلنا نتمكن من إنجاز الإنفصال المطلوب، النفي المستوعب لفكر وثقافة ومجتمع ومعارك، تهمنا كجزء من تاريخنا القريب، ونتطلع اليوم في ضوء دروسها، مكاسبها وإخفاقاتها، إلى تركيب تجاوُز إيجابي، يساهم في مأسسة الحداثة وترسيخ قيمها في حاضرنا..
يتوفر العدد على مقاربات متنوعة، يستند البعض منها إلى سير ذاتية مُعَدَّة من طرف أصجابها، وبعضها الآخر، يقدم جملة من المعطيات المروية من طرف صاحب السيرة، وفي الحالتين معاً، نجد أنفسنا أمام قراءة في كثير من أحداث تاريخنا المعاصر، حيث تتم استعادة الأحداث والمواقف بطريقة مُفَكَّرٍ فيها، أي يحضر فيها قليل أو كثير من التهذيب والتشذيب، إن لم نتحدث عن تأويل جديد لوقائع الماضي، زمن إعادة بنائها في الحاضر ومن أجل الحاضر والمستقبل. كما تتم العناية في بعضها الآخر، بسنوات محدّدة أو لحظات بعينها في مسار طويل.. يتوقف الكاتب أمامها واصفاً ومشخصاً، وأحياناً مُشَرِّحاً وناقداً. وهناك محاولات أخرى في المحور، قام أصحابها بتركيب ملامح من السير الذاتية لبعض الوطنيين من السياسيين والمثقفين، ومن الذين جمعوا في مسارهم بين الهم السياسي والهم الثقافي والهم البحثي، وذلك اعتماداً على الآثار النصية التي تركوا أو الوقائع التي صنعوا.
لا ندَّعي أن المجموع الذي تستوعبه مقالات هذا العدد بمحوريه يشفي الغليل، أو يغطي كل ما كنا نتصوَّره ونحن نهيئ لإنجاز هذا الملف، إلا أننا نتصوَّر أن مادته تدعونا كما تدعو غيرنا، إلى مزيد من مواصلة العمل من أجل جمع وترتيب آثار الحركة الوطنية المغربية، لتسهيل عمليات الاقتراب منها، وتعقل مساراتها وتطلعاتها وعوائقها. كما نتصوَّر أن محتويات المواد المنشورة، تمنحنا إمكانية بلورة بعض الأسئلة الكبرى، حول رافد من روافد مشهدنا السياسي، وحول المسارات التي رَكَّب بالأمس واليوم في عالم متغيِّر.
لا أريد أن أنهي هذا التقديم، دون أن أشكر جزيل الشكر، الأخ والزميل عمر بنعياش فقد واكب معي خطوات هذا العمل، منذ أن كان مجرد فكرة ثم تحول إلى مشروع، إلى أن استوى في حُلَّتِه الراهنة، بكل ما تطلَّبه ذلك، من اتصالات وجمع للأبحاث ثم إعدادها للنشر. كما أشكر كل الذين ساهموا في تحريره، وأخص بالذكر الأخ شعيب حليفي، الذي ساعدني كثيراً في جمع عدد من المقالات التي يتضمنها العدد، ساعدني بكثير من الأريحية والسخاء في سَدّ ثغرات عديدة في هذا الملف، في زمن كورونا بكل صوَّر انقباضه، أشكره بحرارة وأشد على يده.