رسالة المغرب
المسرح والفلسفة
"الفلسفة مسرح يتقنع" نيتشه ككل سنة، يحتفي المسرح المغربي ومعه المسرحيون المغاربة كل 14 ماي باليوم الوطني للمسرح. وهي مناسبة لإعادة تأمل المشهد المسرحي في المغرب والوقوف على ما تحقق كمنجز عروض ومآل الجسد المسرحي في همومه التي اتسعت وتعددت. 14 ماي من كل سنة، محطة لقراءة مسارات تجربة المسرح المغربي، والذي فتحت له "سياسات الدعم المسرحي" نوافذ جديدة. رغم أن البعض، يرى أنها لم تزده إلا تشعبا في أسئلته واستشكالاته. وككل سنة احتفى المسرح المغربي بما تحقق من منجز، ومن هذا المعطى سيعيد النقد المسرحي في المغرب معاودة النقاش حول المنجز الجمالي والفني، حول طبيعة تشكل التجربة المسرحية في المغرب. وربما تعاد نفس الأسئلة. لكن سؤالا ملحاحا يظل قابعا في منعرج المسار. أين اختفى أحد دعامات المسرح وبدون لا تكتمل الفرجة المسرحية: الجمهور. هذا الأخير الذي توزعته أهواء مجتمعية أخرى وصيغ فرجوية محمولة وضغوطة بزر جاهز؟ فهل يكفي حينها أن يوجد ركح ويعبر ممثل ويجلس متفرج واحد ووحيد كي تبدأ الفرجة؟؟ كيف يستمر المسرح المغربي في بناء جسور مستقبله في ظل بنية مهترئة تستدعي أكثر من سؤال.. كيف يمكن لهذه الفرجة أن تتطهر من ولعها بالمتعة وهي دفينة لسلسلة من مكابدات "تتمسرح" كل سنة بلبوس جديد وبآليات دعم لا زالت مفتوحة كل سنة على سؤال إعادة التفكير وتجديد آلياتها التنظيمية والقانونية والتشريعية وحتى الفنية؟.. هذه السنة كان الاحتفاء باردا وباهثا عكس الاحتفاء باليوم العالمي للمسرح. إذ لم تتجاوز مظاهره أنشطة ضيقة ولقاءات تكريم، ويبدو أن هذا البرود عكسته الوزارة الوصية، خصوصا بعد عودة الفنانة الوزيرة الى عملها متعافية من وعكة صحية كانت قد فتحت وأسالت الكثير من المداد على صفحات الجرائد المغربية. في ظل الاحتفاء باليوم الوطني للمسرح، نظمت ندوة وطنية مهمة حول "المسرح والفلسفة". الندوة أشرفت على تنظيمها فرقة همزة وصل للإبداع والمندوبية الاقليمية لوزارة الثقافية بآسفي. وقد احتضن فضاء الخزانة الجهوية فعاليات هذا اليوم، وقد شارك في فعالياتها الأساتذة: محمد زهير، حسن بحراوي، سعيد الناجي، أحمد بلخيري. كما عرفت إلقاء المداخلات التالية: المسرح والفلسفة: أية علاقة. ذ. أحمد بلخيري في تمفصلات الفلسفة والمسرح: تجارب مغربية. د.محمد زهير فلسفة المجتمع والمسرح. د. سعيد الناجي بعض التعاليم الأرسطية بصدد المسرح. د. حسن بحراوي. "اختيار أن ينتظم يوم تحت محور "المسرح والفلسفة"، وأن يكون اللقاء تتويج لسنة من فعل الوجود لفرقة همزة وصل للإبداع والذي يصادف الاحتفاء باليوم الوطني للمسرح. هو تأسيس بتعبير كانط، "خطوة في الحياة". لكن يبدو أننا اضطررنا لقلب المعادلة فاخترنا مقولة "خطوة في الفكر" وبذلك نكون قد وفينا لمقولة فلسفية حقها، في انتظار أن نحقق "فعل الارتياب والذي لا يخلو من شبهات" بتعبير نيتشه، هو الذي اعتبر مفهوم "المسرح" أفضل من يعبّر عن حقيقة المشهد الفلسفي. فالفلسفة في نظره "مسرح يتقنّع"، نيتشه الذي أطاح بصرامة التفكير الفلسفي. ويبدو أننا لن نصل بهذه الدقة، فبتعبير الفلسفة "وحده الحاضر يوجد".." هكذا قدمت ورقة الفرقة اللقاء الهام. في محور يعتبر من أشد المباحث أهمية في الخطاب المسرحي اليوم. وقد اتفقت الإطارات المنظمة على توسيع الندوة الى عقد مناظرة دولية حول الموضوع مستقبلا مع إشراك أطراف دولية وعربية. المسرح والفلسفة: أية علاقة؟ الأستاذ أحمد بلخيري كان أول المتدخلين بورقة وسمها بـ "المسرح والفلسفة"، وقد قدم لها بالتأكيد "لابد أولا من التمييز بين وجود الفلسفة في المسرح، باعتبار الفلسفة هي الحكمة والمسرح قد يكون موضوعه الأساس موضوعا فلسفيا، وبين اهتمام الفلاسفة بالمسرح عموما ومنه التراجيديا.." بالنسبة للشق الأول من هذه المعادلة،أكد الباحث بلخيري أن هناك نصوصا تراجيدية عديدة تتضمن في ثنايا بنياتها الدرامية رؤى فلسفية تلخص رؤى معينة للإنسان والوجود ("أوديب ملكا" لسفوكليس الإغريقي 406 ـ 495 ق م، ـ و "الذباب" لسارتر 1905 ـ 1980"). أما بالنسبة للشق الثاني من المعادلة، فهناك أمثلة عديدة تدل على اهتمام الفلاسفة بالتراجيديا قديما،أي في العصر الإغريقي، وحديثا وبالمسرح عموما. (أرسطو وهيجل ونيتشه وسارتر"). ومن أجل إبراز العلاقة بين التراجيديا والفلسفة واهتمام الفلاسفة بها، تناول الباحث مؤلفا والتر كاوفمان هو "التراجيديا والفلسفة" الكتاب كله مخصص للمسرح. وفيه نعثر على آراء وتحاليل أنجزها عدد من الفلاسفة تتعلق بالمسرح وبالخصوص التراجيديا. وقد ركز المداخل بلخيري على مبحثين في الكتاب هما المبحث الخاص بلغز أوديب، والمبحث الخاص بشكسبير والفلاسفة. في مبحث "لغز أوديب"، أشار والتر كاوفمان إلى الأهمية التي حظي بها هذا النص الدرامي "منذ أرسطو إلى فرويد ووقتنا الراهن" "وقد وضع كاوفمان السؤال التالي: لماذا انحدر أوديب إلى الشقاء؟ وقد عرج موضحا للتفسيرات المتعددة. في المبحث الثاني "شكسبير والفلاسفة"، ذكر والتر كاوفمان أن أفلاطون وأرسطو ونيتشه ركزوا على التراجيديا الإغريقية، لكن لم يغفل نيتشه شكسبير.أما الفلاسفة هيوم وهيجل وشوبنهور فقد انصب اهتمامهم التراجيديا الإغريقية وشكسبير بشكل متعادل. وقد حاول كاوفمان قراءة شكسبير انطلاقا من العناصر الستة المكونة للتراجيديا. ثم شرع في تقديم آراء وخلاصة تحاليل فلاسفة للتراجيديا عامة والتراجيديا الشكسبيرية خاصة. وفي إطار انشغال الفكر الفلسفي أو بعض المفكرين والفلاسفة بالمسرح في القرن العشرين كذلك،الإشارة هنا الى البحث المركز الذي قام به جاك دريدا في كتابه "الكتابة والاختلاف" لمسرح القسوة لأنطونان أرطو. يقدم الباحث بلخيري إشارة تهم المفكر عبدالله العروي فقد ذهب إلى أن العرب لم يبدعوا مسرحا تراجيديا/ مأساويا لأنهم لا يمتلكون وعيا تراجيديا/ مأساويا رغم تاريخهم التراجيدي/ المأساوي. ثمة إذن علاقة بين المسرح والعلوم الإنسانية ومنها الأنثربولوجيا وعلم النفس. والثقافة المسرحية كانت جزء من تكوين فلاسفة ومفكرين، كما قد تنطوي نصوص مسرحية على رؤى فلسفية.وقد تكون الثقافة الفلسفية جزء من تكوين الباحث المسرحي. التكوين الجامع بين الثقافة المسرحية والثقافة الفلسفية، وذلك بسبب العلاقة الرابطة بين المسرح والفلسفة. في مستهل مداخلته "في تمفصلات الفلسفة والمسرح: تجارب مغربية"، أكد الدكتور محمد زهير أن الفلسفة لم تنفصل عن المسرح، في أشكاله الراقية، ولا انفصل المسرح عن الفلسفة، منذ أن كان المسرح وكانت الفلسفة. فبين المسرح والفلسفة علاقة شغف، لأن المسرح يجد في الفلسفة عمق الرؤية والإصرار على المساءلة والنقد والبحث عما يرتقي بالوضع الإنساني... وتجد الفلسفة في المسرح مجالا خصبا للحالات القلقة المتساءلة المنشغلة بإشكالات الوجود الإنساني. ولا يقتصر الأمر على هذا، فالفلسفة تحرك حوافز المسرح للوعي بذاته تنظيرا، فتكون من أسباب ارتقائه عبر التاريخ، وتشكل عمقه الثقافي الخصب. مع التأكيد على أن التفلسف في المسرح حالات مشاهدة ومعاينة، وليس مقولات مقررة على المسرح تقريرا لا يقبله المسرح، لأنه ليس من طبيعته. من هذا المدخل النظري، كان الانتقال الإجرائي الى معاينة وملاحظة ثلاث تجارب من منجز المسرح المغربي، لإبراز العمق الفلسفي فيها، من خلال الحالات التي شخصتها... والتجارب الثلاث هي: مسرحية "القنطرة" لمحمد العربي الخطابي. مسرحية "أبو حيان التوحيدي" للطيب الصديقي. مسرحية "أساطير معاصرة" لمحمد الكغاط. في التناول النقدي لهذه التجارب المسرحية تم الوقوف على حالات وأبعاد التفلسف فيها من خلال الكشف عن رؤى ومواقف وتساؤلات وصراعات الشخصيات المحورية فيها. هي شخصيات ذات طبيعة تركيبية، لأنها ذات عمق فلسفي، وهذه هي بؤر التقاطع بينها.. ولأن هذه المسرحيات كتبت في مراحل تاريخية متغايرة فإن منها ما يلاحظ فيه تصادي الفلسفة الوجودية، ومنها ما يلاحظ فيه التأثير الفلسفي لما بعد الوجودية، أي تأثير راهن الفلسفة اليوم، في انشغالها بالإنسان في تاريخيته وعيانيته، ومشاكله الراهنة. ومنها ما يعالج قضية إشكالية ممتدة، هي إشكالية الصراع بين سلط الإرغام وحوافز التطلع الى الحرية. وإذا كانت بعض التجارب المسرحية المعالجة قد شخصت حالات من الماضي، فإنما ذلك للتعرف على تلك الحالات في سياقها تم اتخاذها وسيلة لإضاءة مشاكل في الحاضر، عبر حالات من الماضي، وهذا هو الهدف الأساس. السؤال الفلسفي عن قلق المسرح الدكتور سعيد الناجي قدم جردا تاريخيا تناول من خلاله رصدا لتشكل الممارسة المسرحية غربيا وعربيا. سواء من خلال تجذر الممارسة المسرحية وما واكبها من تنظير حول المسرح. عبر استقصاء لمختلف الاتجاهات المسرحية. بالتالي إمكانات تمظهر تقاطعات الفلسفي والمسرحي، أو ما وسمه بـ "فلسفة المجتمع والمسرح". ليتوقف عن التأخر التاريخي الذي عرفته الممارسة المسرحية عربيا، وما واكب ذلك من ظهور اهتمام بالأشكال الفرجوية التي توقف عندها بعض المفسرون بنعثها بالأشكال المسرحية. وهكذا وجد صدى المسرحي في فرجات توارثت تاريخيا عند منظومات مجتمعية عربية، رغم أن الاهتمام بالتفكير الفلسفي كان سابقا عنها. لينتقل الباحث الناجي الى رصد راهن الممارسة المسرحية اليوم، عربيا ومغربيا، متسائلا الى أي حد يمكن لها أن تشكل إفرازا جماليا وفنيا متقدما يمكننا من مناقشة بعض الإشكالات النظرية التي تتقاطع مع المسرح. في حين لا زلنا نحبو في أواليات طبيعة حداثة المنجز المسرحي عربيا ومغربيا. وإذا كنا من الفلسفة امتلكنا سؤال القلق، فإن تاريخ المسرح هو جزء من تاريخ تكون الفلسفة. هو أيضا عبور من الاحتفالات الدينية الى النصوص التي تهتم بالإنسان والمجتمع. وإذا كان المسرح الغربي قد عرف بحثا محموما لتأسيس نظريات للمسرح، فإن بداية القرن 21 تم طرح أسئلة جديدة. ثمة هناك انسجام بين المسرح والفلسفة، رغم أن هذه الأخيرة قد توقفت عن إنتاج نظريات كبرى. ومالت الى السينما مبتعدة عن الثالوث ماركس نيتشه وفرويد. أما المسرح فقد أمسى اليوم التفكير في المسرحية الواحدة، انتهى التفكير في النظريات المسرحية. إننا نعيش بتعبير الدكتور الناجي، نوعا من التشظي. الباحث حسن بحراوي كان آخر المتدخلين في هذه الندوة الوطنية، بسرده لحكاية تاريخية وأخرى أسطورية أنهاهما بطرح سؤال فلسفي مستفز للحضور. وقد قدم لمداخلته بإشارة لمقولة التأخر التاريخي إذ أن 25 قرنا يفرقنا بين ظهور المسرح "عندهم" و "عندنا"، هذا التأخر يؤكد الباحث بحراوي لا يحتاج لتفسيرات جاهزة بقدر ما يستدعي التفكير الفلسفي بعمق السؤال الفلسفي. انتقل الباحث الى سرد حكايته الأولى، وهي حكاية تاريخية تهم تشكل المسرح، بدءا من الإشارة الى كتاب فن الشعر لأرسطو الذي قعد للمسرح. وللكهنة أوائل المسرحيين. الترانيم التي تحولت من طابعها الديني الى الدنيوي مقدمة خروج المسرح الى الشارع (العربة التي يمتطيها الممثلون ويطوفون القرى)، مرورا بتيسبيس الذي أدخل الممثل. يواصل الباحث بحراوي سرد الحكاية، حكاية تشكل المسرح. من أصوله المرتبطة بالحوار الذي يكشف الاختلاف، فالمسرح يركز على التوثر. يشير المداخل الى أن المسرح التراجيدي الإغريقي سيضيع أغلبه، بحيث أن المسرح كان يعد للعرض لا القراءة... بعد انتهاء الحكاية الأولى، انتقل الباحث حسن بحراوي الى سرد حكاية أوديب البطل التراجيدي، بتفاصيلها، وبمتعة من خبر الرواة، رواة الحكايا. في النهاية طرح السؤال: هل أوديب مذنبا؟، وبذلك يستعيد الباحث السؤال الفلسفي من القاعة ومن الحضور الذي أكمل الندوة بشهاداته ومداخلاته التي ركزت على "المسرح وعلاقته بالفلسفة"، عن التحليل النفسي والمسرح، وعن المسرح "مذنبا".. وتلك حكاية أخرى. maroc@al-kalimah.com
"الفلسفة مسرح يتقنع" نيتشه ككل سنة، يحتفي المسرح المغربي ومعه المسرحيون المغاربة كل 14 ماي باليوم الوطني للمسرح. وهي مناسبة لإعادة تأمل المشهد المسرحي في المغرب والوقوف على ما تحقق كمنجز عروض ومآل الجسد المسرحي في همومه التي اتسعت وتعددت. 14 ماي من كل سنة، محطة لقراءة مسارات تجربة المسرح المغربي، والذي فتحت له "سياسات الدعم المسرحي" نوافذ جديدة. رغم أن البعض، يرى أنها لم تزده إلا تشعبا في أسئلته واستشكالاته. وككل سنة احتفى المسرح المغربي بما تحقق من منجز، ومن هذا المعطى سيعيد النقد المسرحي في المغرب معاودة النقاش حول المنجز الجمالي والفني، حول طبيعة تشكل التجربة المسرحية في المغرب. وربما تعاد نفس الأسئلة. لكن سؤالا ملحاحا يظل قابعا في منعرج المسار. أين اختفى أحد دعامات المسرح وبدون لا تكتمل الفرجة المسرحية: الجمهور. هذا الأخير الذي توزعته أهواء مجتمعية أخرى وصيغ فرجوية محمولة وضغوطة بزر جاهز؟ فهل يكفي حينها أن يوجد ركح ويعبر ممثل ويجلس متفرج واحد ووحيد كي تبدأ الفرجة؟؟ كيف يستمر المسرح المغربي في بناء جسور مستقبله في ظل بنية مهترئة تستدعي أكثر من سؤال.. كيف يمكن لهذه الفرجة أن تتطهر من ولعها بالمتعة وهي دفينة لسلسلة من مكابدات "تتمسرح" كل سنة بلبوس جديد وبآليات دعم لا زالت مفتوحة كل سنة على سؤال إعادة التفكير وتجديد آلياتها التنظيمية والقانونية والتشريعية وحتى الفنية؟.. هذه السنة كان الاحتفاء باردا وباهثا عكس الاحتفاء باليوم العالمي للمسرح. إذ لم تتجاوز مظاهره أنشطة ضيقة ولقاءات تكريم، ويبدو أن هذا البرود عكسته الوزارة الوصية، خصوصا بعد عودة الفنانة الوزيرة الى عملها متعافية من وعكة صحية كانت قد فتحت وأسالت الكثير من المداد على صفحات الجرائد المغربية.
في ظل الاحتفاء باليوم الوطني للمسرح، نظمت ندوة وطنية مهمة حول "المسرح والفلسفة". الندوة أشرفت على تنظيمها فرقة همزة وصل للإبداع والمندوبية الاقليمية لوزارة الثقافية بآسفي. وقد احتضن فضاء الخزانة الجهوية فعاليات هذا اليوم، وقد شارك في فعالياتها الأساتذة: محمد زهير، حسن بحراوي، سعيد الناجي، أحمد بلخيري. كما عرفت إلقاء المداخلات التالية:
"اختيار أن ينتظم يوم تحت محور "المسرح والفلسفة"، وأن يكون اللقاء تتويج لسنة من فعل الوجود لفرقة همزة وصل للإبداع والذي يصادف الاحتفاء باليوم الوطني للمسرح. هو تأسيس بتعبير كانط، "خطوة في الحياة". لكن يبدو أننا اضطررنا لقلب المعادلة فاخترنا مقولة "خطوة في الفكر" وبذلك نكون قد وفينا لمقولة فلسفية حقها، في انتظار أن نحقق "فعل الارتياب والذي لا يخلو من شبهات" بتعبير نيتشه، هو الذي اعتبر مفهوم "المسرح" أفضل من يعبّر عن حقيقة المشهد الفلسفي. فالفلسفة في نظره "مسرح يتقنّع"، نيتشه الذي أطاح بصرامة التفكير الفلسفي. ويبدو أننا لن نصل بهذه الدقة، فبتعبير الفلسفة "وحده الحاضر يوجد".."
هكذا قدمت ورقة الفرقة اللقاء الهام. في محور يعتبر من أشد المباحث أهمية في الخطاب المسرحي اليوم. وقد اتفقت الإطارات المنظمة على توسيع الندوة الى عقد مناظرة دولية حول الموضوع مستقبلا مع إشراك أطراف دولية وعربية.
المسرح والفلسفة: أية علاقة؟ الأستاذ أحمد بلخيري كان أول المتدخلين بورقة وسمها بـ "المسرح والفلسفة"، وقد قدم لها بالتأكيد "لابد أولا من التمييز بين وجود الفلسفة في المسرح، باعتبار الفلسفة هي الحكمة والمسرح قد يكون موضوعه الأساس موضوعا فلسفيا، وبين اهتمام الفلاسفة بالمسرح عموما ومنه التراجيديا.." بالنسبة للشق الأول من هذه المعادلة،أكد الباحث بلخيري أن هناك نصوصا تراجيدية عديدة تتضمن في ثنايا بنياتها الدرامية رؤى فلسفية تلخص رؤى معينة للإنسان والوجود ("أوديب ملكا" لسفوكليس الإغريقي 406 ـ 495 ق م، ـ و "الذباب" لسارتر 1905 ـ 1980"). أما بالنسبة للشق الثاني من المعادلة، فهناك أمثلة عديدة تدل على اهتمام الفلاسفة بالتراجيديا قديما،أي في العصر الإغريقي، وحديثا وبالمسرح عموما. (أرسطو وهيجل ونيتشه وسارتر"). ومن أجل إبراز العلاقة بين التراجيديا والفلسفة واهتمام الفلاسفة بها، تناول الباحث مؤلفا والتر كاوفمان هو "التراجيديا والفلسفة" الكتاب كله مخصص للمسرح. وفيه نعثر على آراء وتحاليل أنجزها عدد من الفلاسفة تتعلق بالمسرح وبالخصوص التراجيديا.
وقد ركز المداخل بلخيري على مبحثين في الكتاب هما المبحث الخاص بلغز أوديب، والمبحث الخاص بشكسبير والفلاسفة. في مبحث "لغز أوديب"، أشار والتر كاوفمان إلى الأهمية التي حظي بها هذا النص الدرامي "منذ أرسطو إلى فرويد ووقتنا الراهن" "وقد وضع كاوفمان السؤال التالي: لماذا انحدر أوديب إلى الشقاء؟ وقد عرج موضحا للتفسيرات المتعددة. في المبحث الثاني "شكسبير والفلاسفة"، ذكر والتر كاوفمان أن أفلاطون وأرسطو ونيتشه ركزوا على التراجيديا الإغريقية، لكن لم يغفل نيتشه شكسبير.أما الفلاسفة هيوم وهيجل وشوبنهور فقد انصب اهتمامهم التراجيديا الإغريقية وشكسبير بشكل متعادل. وقد حاول كاوفمان قراءة شكسبير انطلاقا من العناصر الستة المكونة للتراجيديا. ثم شرع في تقديم آراء وخلاصة تحاليل فلاسفة للتراجيديا عامة والتراجيديا الشكسبيرية خاصة. وفي إطار انشغال الفكر الفلسفي أو بعض المفكرين والفلاسفة بالمسرح في القرن العشرين كذلك،الإشارة هنا الى البحث المركز الذي قام به جاك دريدا في كتابه "الكتابة والاختلاف" لمسرح القسوة لأنطونان أرطو.
يقدم الباحث بلخيري إشارة تهم المفكر عبدالله العروي فقد ذهب إلى أن العرب لم يبدعوا مسرحا تراجيديا/ مأساويا لأنهم لا يمتلكون وعيا تراجيديا/ مأساويا رغم تاريخهم التراجيدي/ المأساوي. ثمة إذن علاقة بين المسرح والعلوم الإنسانية ومنها الأنثربولوجيا وعلم النفس. والثقافة المسرحية كانت جزء من تكوين فلاسفة ومفكرين، كما قد تنطوي نصوص مسرحية على رؤى فلسفية.وقد تكون الثقافة الفلسفية جزء من تكوين الباحث المسرحي. التكوين الجامع بين الثقافة المسرحية والثقافة الفلسفية، وذلك بسبب العلاقة الرابطة بين المسرح والفلسفة.
في مستهل مداخلته "في تمفصلات الفلسفة والمسرح: تجارب مغربية"، أكد الدكتور محمد زهير أن الفلسفة لم تنفصل عن المسرح، في أشكاله الراقية، ولا انفصل المسرح عن الفلسفة، منذ أن كان المسرح وكانت الفلسفة. فبين المسرح والفلسفة علاقة شغف، لأن المسرح يجد في الفلسفة عمق الرؤية والإصرار على المساءلة والنقد والبحث عما يرتقي بالوضع الإنساني... وتجد الفلسفة في المسرح مجالا خصبا للحالات القلقة المتساءلة المنشغلة بإشكالات الوجود الإنساني. ولا يقتصر الأمر على هذا، فالفلسفة تحرك حوافز المسرح للوعي بذاته تنظيرا، فتكون من أسباب ارتقائه عبر التاريخ، وتشكل عمقه الثقافي الخصب. مع التأكيد على أن التفلسف في المسرح حالات مشاهدة ومعاينة، وليس مقولات مقررة على المسرح تقريرا لا يقبله المسرح، لأنه ليس من طبيعته. من هذا المدخل النظري، كان الانتقال الإجرائي الى معاينة وملاحظة ثلاث تجارب من منجز المسرح المغربي، لإبراز العمق الفلسفي فيها، من خلال الحالات التي شخصتها... والتجارب الثلاث هي:
في التناول النقدي لهذه التجارب المسرحية تم الوقوف على حالات وأبعاد التفلسف فيها من خلال الكشف عن رؤى ومواقف وتساؤلات وصراعات الشخصيات المحورية فيها. هي شخصيات ذات طبيعة تركيبية، لأنها ذات عمق فلسفي، وهذه هي بؤر التقاطع بينها.. ولأن هذه المسرحيات كتبت في مراحل تاريخية متغايرة فإن منها ما يلاحظ فيه تصادي الفلسفة الوجودية، ومنها ما يلاحظ فيه التأثير الفلسفي لما بعد الوجودية، أي تأثير راهن الفلسفة اليوم، في انشغالها بالإنسان في تاريخيته وعيانيته، ومشاكله الراهنة. ومنها ما يعالج قضية إشكالية ممتدة، هي إشكالية الصراع بين سلط الإرغام وحوافز التطلع الى الحرية. وإذا كانت بعض التجارب المسرحية المعالجة قد شخصت حالات من الماضي، فإنما ذلك للتعرف على تلك الحالات في سياقها تم اتخاذها وسيلة لإضاءة مشاكل في الحاضر، عبر حالات من الماضي، وهذا هو الهدف الأساس.
السؤال الفلسفي عن قلق المسرح الدكتور سعيد الناجي قدم جردا تاريخيا تناول من خلاله رصدا لتشكل الممارسة المسرحية غربيا وعربيا. سواء من خلال تجذر الممارسة المسرحية وما واكبها من تنظير حول المسرح. عبر استقصاء لمختلف الاتجاهات المسرحية. بالتالي إمكانات تمظهر تقاطعات الفلسفي والمسرحي، أو ما وسمه بـ "فلسفة المجتمع والمسرح". ليتوقف عن التأخر التاريخي الذي عرفته الممارسة المسرحية عربيا، وما واكب ذلك من ظهور اهتمام بالأشكال الفرجوية التي توقف عندها بعض المفسرون بنعثها بالأشكال المسرحية. وهكذا وجد صدى المسرحي في فرجات توارثت تاريخيا عند منظومات مجتمعية عربية، رغم أن الاهتمام بالتفكير الفلسفي كان سابقا عنها. لينتقل الباحث الناجي الى رصد راهن الممارسة المسرحية اليوم، عربيا ومغربيا، متسائلا الى أي حد يمكن لها أن تشكل إفرازا جماليا وفنيا متقدما يمكننا من مناقشة بعض الإشكالات النظرية التي تتقاطع مع المسرح. في حين لا زلنا نحبو في أواليات طبيعة حداثة المنجز المسرحي عربيا ومغربيا.
وإذا كنا من الفلسفة امتلكنا سؤال القلق، فإن تاريخ المسرح هو جزء من تاريخ تكون الفلسفة. هو أيضا عبور من الاحتفالات الدينية الى النصوص التي تهتم بالإنسان والمجتمع. وإذا كان المسرح الغربي قد عرف بحثا محموما لتأسيس نظريات للمسرح، فإن بداية القرن 21 تم طرح أسئلة جديدة. ثمة هناك انسجام بين المسرح والفلسفة، رغم أن هذه الأخيرة قد توقفت عن إنتاج نظريات كبرى. ومالت الى السينما مبتعدة عن الثالوث ماركس نيتشه وفرويد. أما المسرح فقد أمسى اليوم التفكير في المسرحية الواحدة، انتهى التفكير في النظريات المسرحية. إننا نعيش بتعبير الدكتور الناجي، نوعا من التشظي.
الباحث حسن بحراوي كان آخر المتدخلين في هذه الندوة الوطنية، بسرده لحكاية تاريخية وأخرى أسطورية أنهاهما بطرح سؤال فلسفي مستفز للحضور. وقد قدم لمداخلته بإشارة لمقولة التأخر التاريخي إذ أن 25 قرنا يفرقنا بين ظهور المسرح "عندهم" و "عندنا"، هذا التأخر يؤكد الباحث بحراوي لا يحتاج لتفسيرات جاهزة بقدر ما يستدعي التفكير الفلسفي بعمق السؤال الفلسفي. انتقل الباحث الى سرد حكايته الأولى، وهي حكاية تاريخية تهم تشكل المسرح، بدءا من الإشارة الى كتاب فن الشعر لأرسطو الذي قعد للمسرح. وللكهنة أوائل المسرحيين. الترانيم التي تحولت من طابعها الديني الى الدنيوي مقدمة خروج المسرح الى الشارع (العربة التي يمتطيها الممثلون ويطوفون القرى)، مرورا بتيسبيس الذي أدخل الممثل. يواصل الباحث بحراوي سرد الحكاية، حكاية تشكل المسرح. من أصوله المرتبطة بالحوار الذي يكشف الاختلاف، فالمسرح يركز على التوثر. يشير المداخل الى أن المسرح التراجيدي الإغريقي سيضيع أغلبه، بحيث أن المسرح كان يعد للعرض لا القراءة...
بعد انتهاء الحكاية الأولى، انتقل الباحث حسن بحراوي الى سرد حكاية أوديب البطل التراجيدي، بتفاصيلها، وبمتعة من خبر الرواة، رواة الحكايا. في النهاية طرح السؤال: هل أوديب مذنبا؟، وبذلك يستعيد الباحث السؤال الفلسفي من القاعة ومن الحضور الذي أكمل الندوة بشهاداته ومداخلاته التي ركزت على "المسرح وعلاقته بالفلسفة"، عن التحليل النفسي والمسرح، وعن المسرح "مذنبا".. وتلك حكاية أخرى.
maroc@al-kalimah.com