رسالة القاهرة

وداعا وليد منير.. وروح تعزف الموسيقى

شوكت المصري

الغياب.. وثلاثون يوما في الظل
عجيبٌ أمرُ القاهرة وغريبٌ ما فيها، فساكنها لا يعلم مقدار ما تطأ قدماه من التاريخ والأحداث، وزائرها لا يدري ما قد يلاقيه من التناقضات وما ينتظره من الفرائد، ومن لم يرها لا يدرك ما غاب عنه من الأسرار وما لم يره من العجائب والأساطير المتجسّدة والمتجددة يوماً بعد يوم، فتلك المدينة الحافلة بآثار الفراعنة وبقايا الرومان ونسائم الفتح الإسلامي، حملت شوارعها وأزقتها شواهدَ المماليك والفاطميين والعثمانيين، وها هي بناياتها الحديثة تحكي قصة الإنسان المعاصر بكل ما يعيشه من تقدمٍ وتحولات وما يصاحبهما من توتراتٍ واضطرابات، إنها القاهرة تلك المدينة الثقافية بامتياز، فهي وإن لم تشهد على حضورٍ طاغٍ للثقافة إبداعياً وأدبيا، فإنها بلا ريب تكون الشاهد الأول على غيابهما وانزوائهما بفعل عوامل أخرى اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية.

وقد كان هذا الغياب هو الوصف الأمثل لحالة الثقافة القاهرية والمصرية هذا الشهر، وهو أمرٌ غريبٌ كغرابة القاهرة، إذ لا تلبث الأحداث الثقافية الهامّة أن تنزوي حالما تأخذ مكانها أحداثٌ أخرى وإن لم تكن تنتمي للثقافة أو تقترب من عالمها الخاص، فبين وفاة شخصيةٍ وصفها الإعلام بالعامة وقضية جنائية شهيرة شغلت الرأي العام، عاشت الثقافة القاهرية ثلاثين يوماً في الظل، وكأن معظم الأزمات التي شهدها الوسط الثقافي والأدبي قد وجدت طريقها إلى حلٍ نهائي ولن تعاود الظهور مرةً أخرى، وكأن عجلة الإبداع تتوقف عن الدوران لحظياً في بقعةٍ جغرافية لا تعرف السكون أو التوقف.

لقد كان غياب الأحداث الثقافية هذا الشهر غياباً ظاهرياً لصالح أحداث أخرى شغلت العامة وحتى المثقفين، إلى درجةٍ وصلت حد تجاهل الوسط الثقافي التام لوفاة أحد أكبر شعراء الحداثة المصرية والعربية، وأحد النقاد الأكاديميين المبرّزين في الحركة النقدية المعاصرة، وأحد أبرز أعضاء جماعة إضاءة 77 الشعرية، إنه الشاعر الكبير الدكتور وليد منير، والذي رحل عن عالمنا في الثامن عشر من هذا الشهر مايو 2009، بعد صراعٍ مع المرض لم يمتد طويلاً بينما امتد إحساسنا بالعجز أكثر وأكثر، فوسط تجاهلٍ غير مبرر على الإطلاق رحل وليد منير في سيناريو اعتياديٍ مقيت، شهدنا حلقاته مراراً وتكرارا في السنوات الخمس الأخيرة، شهدنا ذلك التجاهل الوحشي وهو ينهش في جسد المثقفين المصريين بدايةً بالكاتبة الراحلة نعمات البحيري، والكاتب المبدع خيري عبد الجواد، والباحث الجاد محمد حاكم، ومروراً بالناشر وشاعر العامية المبدع محمد الحسيني، والروائي المتميِّز يوسف أبو رية، وليس انتهاءً بالشاعر الدكتور وليد منير الذي وافته المنية عن عمر ناهز الثانية والخمسين عاماً، قضى ثلاثين منها في أتون العمل الإبداعي والأكاديمي، منزهاً عن الدخول في معارك غير مجدية وصراعات وهمية لا مبرر لها سوى شهوة الاختلاف والتناقض والظهور الإعلامي المزيّف.

وليد منير.. وداعا
لقد ولِدَ وليد منير بالقاهرة عام 1957، وتخرج في كلية الهندسة عام 1980، ليلتحق بعد تخرجه بالعمل في إحدى الشركات المناسبة لشهادته الجامعية، لكن موهبته الشعرية والنقدية غلبت على تخصصه العلمي ووظيفته العملية، فقرر الانتساب إلى أكاديمية الفنون (معهد النقد الفني)، وحصل منه على درجة الماجستير في النقد الأدبي الحديث عن أطروحته "خصائص اللغة الشعرية في مسرح صلاح عبد الصبور" عام 1990، ثم حصل على إثرها على منحة دراسية قصيرة بإنجلترا، وخلال تلك الأعوام كان وليد منير قد بدأ نشر عددٍ من قصائده في منتصف السبعينيات، في مجلة «الكاتب» التي كان يرأس تحريرها الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، كما نشر بعض قصائده في المجلات المصرية والعربية، وما لبث وليد منير أن انخرط في العمل الثقافي العام، فشارك زملاءه الشعراء في إصدار بعض المجلات والمطبوعات الأدبية، كمجلة "كتابات" التي أسسها الشعراء رفعت سلام ومحمود نسيم وصفاء عبد المنعم عام 1979، ثم انضم وليد إلي جماعة مجلة إضاءة 77 عام 1988، ونشر بعض قصائده ودراساته في المجلتين.

وكان عام 1984 قد حمل للوسط الأدبي والشعري باكورة أعمال وليد منير الشعرية، فجاء ديوانه "الرعوي الذي فاجأ السهل بين الدم الضال والراكز المستحيل" مؤكداً على صوتٍ شعري متفرد يتلمّس طريقه بكتابةٍِ مغايرة تمتلك أدوات تميزها وامتيازها، عبر آفاقٍ من التجريب اللغوي والأسلوبي، أثار عبرها وليد ـ كما فعل زملاؤه من السبعينيين ـ كثيراً من التساؤلات وعلامات الاستفهام. ثم كان ديوانه الثاني «والنيل أخضر في العيون» عام 1985، لتتوالى بعد ذلك دواوينه الشعرية "قصائد للبعيد البعيد" 1989، و "بعض الوقت لدهشة صغيرة" عام 1993، و "أربعون نافذة على صباح في التيه" عام 1999، ثم "قيثارة واحدة وأكثر من عازف"، و "هذا دمي وهذا قرنفلي"، و"سيرة اليد"، و "طعم قديم للحلم"، حتى ديوانيه الأخيرين "كمشكاة فيها مصباح" و "الروح تعزف الموسيقى" 2004. ولم يكتف وليد بإصدار الدواوين الشعرية فقد قام بكتابة المسرح الشعري متميزاً بذلك عن كثيرٍ من شعراء جيله، فكانت نصوصه المسرحية "حفل لتتويج الدهشة"، و "شهر زاد تدعو العاشق للرقص" شاهداً على تلك الطاقة الأدبية وذلك التنوع الإبداعي الذي يتسم به وليد، والذي أفرده بحضورٍ مختلف شديد الخصوصية لم ينتبه إليه إلا قلة من النقاد الجادين، بينما استطاع جمهورٌ من القراء التقاطه وإدراكه حتى ولو لم يتسن لهم التسلح بمنهجيات التحليل الأدبي ومقولات الخبرة النقدية المنتظمة.

وعلى الجانب الأكاديمي كان حصول وليد منير على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث من أكاديمية الفنون أيضاً بدايةً لمشروعٍ نقدي مختلف في منطلقاته وأدواته ونواتجه، وربما كان اختلافه نابعاً من كون الدكتور وليد منير يمارس الكتابة الأدبية ويدرك أبعادها وأسرارها، وقد تبدى ذلك الإدراك في دراساته الأولى التي حفلت بها مجلة "فصول" النقدية، ومقالاته وقراءاته التي نشرها بجريدة "الحياة" ومختلف الدوريات والمجلات الأدبية المصرية والعربية. وقد تمتع مشروع الدكتور الراحل وليد منير بمنهجيةٍ منتظمة برزت بجلاء في كتابه "فضاء الصوت الدرامي" الذي صدر عام 1992، والذي توالت من بعده مجموعةٌ من الدراسات النقدية كان أبرزها كتاب "نصر الهوية" الذي قدم فيه قراءة لمشروع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2003.

ولعل المتابع لمشروع الدكتور الراحل وليد منير لا يفتأ أن يلمس ذلك التنوع والتطور الذي شهده مشروعه النقدي على عدة مستويات، فبدايةً لم ينحصر جهد وليد منير في مقاربة النصوص الإبداعية المختلفة، كما في مقالاته ودراساته "الأغنية الشعبية: قراءة في أشكال الدلالة" عام 1989، و"أصداء السيرة الذاتية بين شعرية القص ودرامية الرؤية" عام 2001، و "الغياب الذي ينطق بالحضور قراءة في ديوان عزلة الذهب لعيسى مخلوف" عام 2003 ؛ بقدر ما استطاع تجاوز ذلك التناول المباشر للنصوص عبر مقولات النقد الأدبي وأدواته، ليعبر نحو منطقةٍ أشد عمقاً وكثافة مقدِّماً قراءات مستفيضة في نظرية الأدب ونقد النقد، ويتبدى ذلك في دراسته "في نقد الخطاب النقدي" ضمن فعاليات المؤتمر الدولي الأول للنقد الأدبي الذي أقامته الجمعية المصرية للنقد الأدبي عام 1997، كما لم ينحصر مشروعه الفكري في منطقة النقد الأدبي ومحدداته، لكنه جاوزَها معيداً تأويل الخطاب النقدي برؤيةٍ فلسفية تتميز بالدقة والاتساع ، ومما يؤكد ذلك بحثه الذي قدمه ضمن فعاليات ندوة اللغة والهوية وحوار الحضارات عام 2004، والذي جاء تحت عنوان "تأملات في ظاهرة التفاعل المفقود: اللغة العربية والعملية الحوارية تجليات السلب وانشطار الهوية"، ولم تخلُ تلك الرؤية من الاتسام بطابعٍ معرفيٍ شمولي أخذ وجهةً صوفيةً ـ برزت أيضاًَ في دواوينه المتأخرة ـ بكل ما تعنيه الكلمة من استبطانٍ وتعمقٍ وقدرةٍ على التأويل واستهداف الحقيقة حيثما كانت وكيفما تكون. وقد تبدى ذلك جلياً في دراسته المتميزة "أبعاد النظام المعرفي ومستوياته" والتي نشرت عام 1999 بدورية إسلامية المعرفة بواشنطن، والتي يقول فيها وليد منير: "إن العقيدة هي جوهر التفاعل الإنساني مع المطلق، وغاية الله ـ بتعبير وايتهيد ـ هي تحقيق القيمة في العالم الزمني، فلا غرو أن يكون الإنسان هو المسئول عن تحقيق هذه القيمة في التاريخ بوصفه خليفة الله الذي يحوي نفخة من روحه، فالإنسان في المعرفية الإسلامية هو الكائن الذي سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً ليبدع الحياة وفقاً لإدارة الله فيها، وينظم الوجود تأسيساً على محتوى القيم الإلهية السامية، فبدون ذلك تفقد الزمنية التاريخية غرضها، ويتنازل العالم عن معناه، ويصبح البشر عبيداً للبشر، ويصير الواقع استلاباً رخيصاً ولهواً عابثاً".

وقد تناول وليد منير ذلك التعمق والاستبطان الصوفي بشكلٍ أكثر استغراقاً في بحثٍ آخرٍ موسع، جاء تحت عنوان "التصوف وسيكولوجية الحضور المتسامي بين الدافع والغاية: دراسة استكشافية"، وقد تناول فيه تاريخ الظواهر الروحانية في الإسلام، كاشفاً ما انطوت عليه الحقيقة الصوفية من مضامين وأفكار مجتمعية ومعرفية تهدف إلى الإصلاح والتغيير، وما شكَّله التصوف كموقف وجودي يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وخالقه، على أساس انتماء المخلوق الكليّ إلى خالقه جل وعلا، في مجاوزةٍ لكل العوارض التي تحول بين الإنسان وبين اتصاله المنشود بروح المطلق، لتنبع الفاعلية الحقيقية للوجود ـ كما يرى وليد منير ـ من إدراك المخلوق خلوه من كل حقيقة إلا تجليه فيه تعالى بمظاهره كافة. ولا يستطيع المتابع المتأمل في مشروع الدكتور وليد منير النقدي والمعرفي أو المتابع لمشروعه الشعري والأدبي الاكتناه بما كان يمكن أن يقدمه وليد فيهما لو أمهله القدر بضع سنواتٍ أخرى، فوليد منير كان لا يكف عن التجريب وفتح آفاق جديدة في مشروعه الفكري والأدبي على حدٍ سواء، ومما يدل على ذلك ديوانيه الأخيرين "كمشكاةٍ فيها مصباح" و "روحٌ تعزف الموسيقى"، وكتابه الرائع "النص القرآني من الجملة إلى العالم"، ودراسته الأخيرة المتميزة "التنمية وأزمة الثقافة بين ظاهرة الاستلاب وفاعلية التغيير".

لقد رحل وليد منير هادئاً كما كانت حياته، مفاجئاً كما كانت أفكاره واستبصاراته، جميلاً كما كان إبداعه الشعري والأدبي، آلمناه بقدر ما أسعدنا ونسيناه أكثر مما ذكرنا، لم ننتبه له كما هي مأساتنا دائما إلا حينما فقدناه، رغم أنه نبهنا وأنبأنا بذلك النسيان في ديوانه "هذا دمي وهذا قرنفلي" حينما قال:

"الله
يا قلبي
جميلٌ أن أراكَ واحداً
مستوحداً
متحداً بذلك البهاء..
ماذا لو بقيتَ هكذا
لو بقي النسيانُ وردةً تنام في حديقتي
وأنت ترعاها
ولو ماتت جميعُ الذكرياتِ دفعةً واحدةً
واندثرت".

ترشيحات الجوائز.. ونسيان الكتاب
إن الثقافة المصرية عاشت شهراً كاملا في الظل، وبينما شُغِلَ العوامُ بما يروَّجُ لهم من قضايا، وشُغلَ بها معهم بعضُ المثقفين، فإن بقية المثقفين اتجهت أنظارهم صوب الجوائز وبريق المال، فاهتموا بترشيحات جوائز الدولة لهذا العام، والتي سيُعْلَنُ عنها في أواخر يونيو من هذا العام، ولم يكلِّف راعي بيت الشعر المصري المنتَظَر، ورئيس لجنة الشعر الحالي الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي نفسهُ عناءَ السؤال العابِرِ عن أحد رعاياه وهو يرقد في مستشفى خاص بحدائق القبة منتظراً قرار زرع فص بالكبد لستة أشهرٍ متوالية، وانشغل راعي الشعراء الكبير بترشيحات بعض المؤسسات والهيئات له حتى يحصل على جائزة مبارك هذا العام، حتى يضيف إلى رصيده البنكي حفنةً جديدةً من الأوراق الملوّنة، بينما أبدت جامعة القاهرة استعدادها تحمُّلَ نفقات العملية الجراحية فقط، بوصف هذا الشاعر الراقد على سرير مرضه أستاذاً للنقد الفني بكلية التربية النوعية بالجامعة، وقد رفضت زوجة الفقيد الأستاذة بكلية الألسن هذه البيروقراطية التي أخرت إجراءات علاج زوجها، ورفضت أمام هذا الإهمال والانشغال واللامبالاة تلك المساعدات المخجِلَة من بعض الهيئات والمؤسسات لأن الحقوق لا تأخذ بسيفِ الحياءِ، وإنما تُمنح بشرفِ الواجب وتحت لواء الكرامة، ولم يكلف المثقفون المصريون نفسهم عناء الوقوف إلى جانب الرجل في محنته الأخيرة، إلا القليل القليل من المثقفين، وللأسف بعد تطور الحالة المرضية للشاعر وليد منير بشكلٍ خطير، كما أن اتحاد الكتاب لم يتحرك إلا بعدما رحل الشاعر واستراح من انتمائه للكتاب المصريين، إذ قرر الاتحاد منح أسرة الراحل الكبير مبلغ (خمسة آلاف جنيه مصري!!). وطبع آخر مخطوط شعري تركه وليد منير على نفقة الاتحاد مع تخصيص ريع توزيع الديوان لأسرة الشاعر، فهل يدري اتحاد الكتاب أن تقاعسه لا يحتاج إلى أسفٍ غيرِ لائق واعتذارٍ غير مقبول، وإنما يحتاج إلى تكفير عن خطأٍ فادح وخطيئةٍ لا تُغتَفَر؟!

أما وزير الثقافة المصري فيبدو أنه مشغولٌ هذه الأيام بتجميع الأصوات الداعمة له في ترشيحه لرئاسة اليونسكو، بالطرق المقبولة حيناً وبالاستجداء السافر أحايين أخرى، كفضيحة اعتذاره منذ أيام عن تصريحاته السابقة ضد الكتب الإسرائيلية والتطبيع عام 2008، ناسياً أو متناسياً أن رعايته للمثقفين بجد هو الداعم الأول والحقيقي لمثل هذا المنصب الرفيع، ويبدو أن ذهابه لهذا المنصب سيكون أفضل للثقافة المصرية دونما شك، فلعل أوجاع المثقفين المصريين وآلامهم تجد أذناً صاغيةً في المستقبل القريب، ولله در الشاعر القائل:

لقد أعرتُكَ أذنا غير مُصغيَةٍ         وربَ مستمعٍ والقلبُ في صممِ

هكذا رحل الشاعر وليد منير كالأفيال في هدوءٍ وسلام، رحلَ ولسانُ شعره يقول لنا كما على غلاف أحد دواوينه الرائعة:

أفسحوا لي
أنا خارجٌ من عيونِ المها
داخلٌ في عيونِ القتيلْ،
أفسحوا لي
أنا عابرٌ في جنازةِ قلبي
إلى عرس أخطائكم
ارفعوا يدَكُم عن دمي
واتقوني
فلا زمني عِبْرَةٌ للمرايا
ولا حجرٌ في مكاني دليلْ،
أفسحوا لي
أنا خارجٌ من عيونِ المها
داخلٌ في عيون القتيلْ
أفسحوا لي
أفسحوا لي..