أعد الناقد الموسيقي رتشارد ماركوس هذا التقرير لقنطرة، عن ألبوم فنانة تونسية دفعتها جائحة كورونا الى إبداع "يوميات تونس" على أحد أسطح مباني المدينة في تحدي للوضع الوبائي وإصرار على إرسال رسالة إبداعية للإنسانية، الألبوم الذي يعود لأحلام الربيع المجهضة، حلم الذي تفتتح به الفنانة ألبومها المزيج من مقامات موسيقية متعددة.

آمال المثلوثي «يوميات تونس» .. لوعة تفطر القلب

ريتـشـارد ماركـوس

 

جمال غنائي تونسي عالمي من رحم إغلاق كورونا

أجبر الإغلاق العام بسبب كورونا الموسيقيين حول العالم على إلغاء حفلاتهم وحرمهم من دخلهم الرئيسي ومن ترويج إبداعاتهم، ومنهم آمال المثلوثي التي دفعتها الجائحة لتسجيل ألبوم غنائي على أحد أسطح مباني تونس افتتحته بأغنية "حلم" عن الربيع العربي.

كانت المغنية التونسية آمال المثلوثي في زيارة لمَوطِنِها الأُم حين فُرِضَ الحَجر الصِّحيّ مع قَرار إلغاء رَحَلات السَّفَر الجَوِيّ حَول العالَم، مِمَّا حالَ دُون عَودَتِها إلى مَقَرّ سَكنِها في مدينة نيويورك. قامَت المَثلُوثِي باستِعارَة آلة الغيتار، وأخَذَت حاسُوبَها المَحمُول إلى سَطح البِنايَة التي تسكُن في تُونس، وشَرَعَت في تَسجِيل قُرصَين مُدمَجَين بعُنوان "يَومِيَّات تُونس"، لِصالِح شركة "پارتِيزان" للتَّسجِيلات. ورَغم أنَّ عَمَل المَثلُوثِي لا يَحوي أعمال جديدة –نظرًا لأننا في القُرص الأوَّل نَستَمِع إلى تَوزيعات أدائِيَّة لأُغنياتِها الأكثَر شُهرَة، فيما يَحمِل القُرص الثَّانِي أغانيَ مَعرُوفَة لفنَّانين آخَرين- غير أن هذا العَمَل المُنفَرِد يبقى إنتاجًا جَمِيلًا وساحِرًا للغاية.

أما بالنسبة لجمهور المثلوثي المعتاد على أعمالها، تُشَكِّل إعادة أدائها وتوزيعها لأُغنِيات آخَرين المُفاجَأةَ الأكبَر لهُم. أما بالنِّسبَة للمُستَمِعِين الجُدُد، فتُعتَبَر هذه الأغنيات فُرصَةً مُناسِبَة لتَقدِيم هذه الفنَّانة، التي رَغم شُهرَتِها العالَمِيَّة، ما زالَت غير معروفة في العالَم النَّاطِق بالإنكلِيزيَّة كما تَستَحِق. ورَغم أنَّها قد اشتَهَرَت بأعمالها التَّجريبِيَّة مع المُوسِيقى الإلِكترُونِيَّة والرَّاقِصَة في أُغنِياتِها وحَفَلاتِها، يُومِئُ ألبُوم "يَومِيَّات تُونس" ببِدايات المَثلُوثِي الفنِّيَّة حين لَم يُرافِق صَوتَها سِوَى آلة الغيتار.

ونظرا لأن الموسيقى في هذا الألبوم قد جردت من أي إضافات، مع الإبقاء على الأساسِيَّات التي تُمَكِّن المَثلُوثِي من أن تُبدِع وَحدَها، يتَسَنَّى للمُتَلَقِّي التَّركيز على الاِستِماع إلى صَوتِها مُنفَرِدًا. يُمَثِّل هذا الصَّوت آلةً استِثنائِيَّة دُون أن تُرافِقها آلةٌ أُخرَى؛ فالصَّوت هنا هو المَظهَر والجَوهَر.

تَجرُبَة الاِستِماع إلى نَبرات المَثلُوثِي تَجعَل من القُدرَة على وَصفِها أمرًا صَعب المَنال. في الواقِع، يَبدُو أنَّه لا حُدُود للمَجال الصَّوتِيّ داخِل حُنجَرَة مَثلُوثِي؛ فنَسمَعُها تارَةً وهي تَصعَدُ إلى النَّغمات المُرتَفِعَة الدَّرَجات بِكُلّ أريَحِيَّة، ونَسمَعُها تارَةً أُخرَى تَهبِطُ على نَفس المِنوال إلى طبقات الجوابات المُوسِيقِيَّة الأكثَر انخفاضًا.

قُوَّةُ الأُنشُودَة

لن تَسمَع، ولو لمَرَّةٍ واحِدَة، دَوِيًّا نَشازًا (مُتنافِرًا) لمُغَنِّيَة تُحاوِل أن تَدفَع بِصَوتِها أو تَضغَط على نَفْسِها ونَفَسِها لخَلقِ مُحاكاةٍ عاطِفِيَّةٍ مُصطَنَعَة. عِوَضًا عن ذلك، تُؤَدِّي المَثلُوثِي دَور الوَسِيط في طَرح أُغنياتِها. وسواء كانت الأُغنية من نَظمِها وتَلحينِها، أو من تأويلِها الأدائيّ لعَمَل فنَّانٍ آخَر، نَسمَعُها وهي تَجعَلُ المُوسِيقى والخَلجَة يَتَرَقرَقان من وراء الكَلِمات عَبر كِيانها، دُون أيّ تَشَوُّش.

لا يَهُمُّنا عَدَد المَرَّات –أو التَّوزيعات المُختَلِفَة– التي سَمِعنا فيها أُغنِيَة "حُلم"، تِلكَ الأُنشُودَة التي قَدَّمَت المَثلُوثِي للعالَم، والتي أضحَت نَشِيدًا للرَّبِيع العربيّ أثناء الاِحتِجاجات في تُونس. وما انفَكَّت هذه التَّرنِيمَة تُوَلِّد بين نَغماتِها وَكزًا عارِمًا، كما شَعَرنا حين سَمِعناها لأوَّل مَرَّة. هذا السَّبَب وَحده كَفِيل بأن يَجعَل من افتِتاح الألبُوم بهذه الأُغنيَة قَرارًا صائِبًا.

بينما نحن مُعتادُون على سَماع صِيَغٍ مُجَرَّدَة من الإلكترونِيَّات لأُغنية "حُلم"، نَكتَشِفُ تجربةً جديدة ومُلهَمَة حين نَستَمِع إلى إعادة صِياغَة المَثلُوثِي لبَعض أُغنياتِها المَعرُوفَة بذات الطَّابَع التَّجريديّ. على سبيل المثال، أغنية "إيڤرِي وِير وِي لُوكْد وَاز بِيرنِينْغ" [أينَما نَظَرنا، وَجَدنا حَريقًا] من الألبُوم الذي يَحمِل نفس الاِسم، وكذلك أُغنية "پرِينسِيس مِيلانكُولِي" [الأمِيرَة سُوَيداء] من ألبُوم "إنسان"، تُصبِحان هنا أكثَر وَقعًا حين نَسمَعهُما عبر مُكَوِّنَين أساسِيَّين لا ثالِث لهُما، وهُما صَوت المُغَنِّيَة وغيتارها.

قد تَبدُو تَجرِبَة إعادة توزيع بعض فِرَق موسِيقى الـ "رُوك" لأغنياتها إلى صِيَغ تجريديَّة نوعًا من الخُيَلاء، إلَّا أنَّ هذه المُحاوَلات نادِرًا ما يُكتَب لها النَّجاح. لكن إعادة توزيع المَثلُوثِي لأُغنِياتها السَّابِقَة تُظهِر قُوَّة الأُنشُودَة ورَخامَة الصَّوت. كما نَصِل إلى درجة الاِنبِهار ذاتها عند تَقيِيم أدائها لأعمال غيرها من الفنَّانين، حتَّى وإن كان هذا يرجع لسَبَبٍ وَحِيد وهو تَنَوُّع المَسيرات الإبداعيَّة للموسيقيِّين الذين اختارَت المَثلُوثِي أن تَتَناول أعمالَهُم.

حين نَتَبَحَّر في أعمال المَثلُوثِي، هل نُقارِنها مثلًا بفِرَق مُوسِيقِيَّة أمثال "نِيرڤانا" و "دِيپ پِيرپِيل" و "رامستاين" و "پلاسِيبُو" أو "سِيستِيم أُوڤ أَ داون"؟ مُوسِيقى اﻟ "غرانج" [تَشوِيش] وَ ما-بَعد الـ "پانك" [وَتِيرَةٌ سَريعة وأصواتٌ مُرتَفِعَة] و الـ "مِيتال" [غيتارٌ إلِكترُونِيٌ صاخِب] و الـ "هارد رُوك" [أصواتٌ غاضِبَة وغيتاراتٌ إلِكترُونِيَّة] ليسَت تِلك الأنماط التي قد تَخطُر على البال حين نَتَأمَّل أعمال المَثلُوثِي التي أنتَجَت إلى الآن. قد تَحمِل أُغنِيات الآخَرين -التي تُعِيد المَثلُوثِي غِناءَها- المُستَمِعَ إلى عَوالِم أُخرى لَم تَكُن من تَخطِيطِها المُتَعَمَّد، إلَّا أنَّ الجَديد الذي تُقَدِّمه لهذه الأغاني يُعطِي بُعدًا إضافِيًّا لم يَكُن له وُجُود في النُّسَخ الأصلِيَّة.

بَصمَةُ المَثلُوثِي الرَّاسِخَة

يبدأ القُرص الثَّاني بأداء آمال المَثلُوثِي لأُغنَيَة فَريق نِيرڤانا "سُومثِينغ إِن ذا وِي" [عَقَبةٌ ما]. سأكون صريحًا وأعتَرِف بأنَّ مُوسِيقى "نِيرڤانا"، بَل وأغلَب مُوسِيقى الـ "غرانج" و اﻟ "مِيتال" ليسَت من الأنماط التي تَرُوق لي، إلَّا أن الطَّريقَة -التي تُؤَدِّي بها المَثلُوثِي هذه الأغاني- تَجعَلُني أرغَب في الاِستِماع إلى النُّسَخ الأصلِيَّة مَرَّةً ثانِيَة، عَلَّنِي أعِي ما قَد فاتَني في السَّابِق. تَقُوم المَثلُوثِي هنا بإنجازٍ استِثنائِيّ عَبر خَلق كِيانٍ مُختَلِف لتلك الأغاني، إذ تَبعَث فيها رُوحًا جَدِيدَة عندما تُعَلِّمها بالبَصمَة الرَّاسِخَة لمَوهِبَتِها ومَقُولَتِها الفنِّيَّة.