نفس جديد، هو العنوان الذي تم اختياره لمعرض الجيل الجديد من الفنانين بـغاليري «كينت» بجوهرة البوغاز طنجة، حيث تنبع روح الابتكار في الفن المعاصر، وتتقاطع أعمال هؤلاء الفنانين الشباب في النزعة المفاهيمية لكونها إنتاجات فنيّة تتطلع إلى رسم الأفكار وتقديسها هذا ما أعربوا عنه جميعا؛ إنهم يريدون أن يصنعوا منها أشياء عميقة وأشكال مبهرة، وفي التقرير نقترب أكثر من أعمالهم وجدتها، والتعريف بالفنانين المشاركين.

روح الابتكار في الفن المعاصر

 

يشارك نخبة من الفنانين في المعرض الفني الثاني «نفس جديد» الذي يأتي في سياق عالمي أربك تصوراتنا حول الإنسان والحياة وأضحت الحاجة ملحة لترميم أعطابنا وهواجسنا بنفس جديد للاستمرار في مقاومة الفاجعة بما خلف الوباء في ذاكرتنا.. إنها تجارب فنية قادمة بقوة وهي تحمل قلقها الجمالي وخصوصيات تعبيراتها التشكيلية التي يتدفق منها الحلم بما هو أداة للسفر في الذات والعالم والإقامة في الفن بوصفها سؤالا للأثر المفتوح والتدفقات الحالمة؛ حيث سيتحول رواق «كينيت» بطنجة إلى فضاء فني لكل إبدالات الجماليات المعاصرة التي تأثروا بها في سياق احتكاكهم بالتجارب الفنية التشكيلية الرائدة التي احتضنتها طنجة وأبدع في تأثيت حضورها الفني فلسفة المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان وسعيه الدائم إلى بناء علاقات التناسج بين الفضاء الأكاديمي وفضاءات العرض داخل المجال العمومي.

إن هذا المعرض المنظم من طرف المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان ورواق «كينيت» ومعهد سيرفانتس بطنجة يفتتح يوم 30 يناير 2021 في الساعة السابعة مساء، ويستمر إلى غاية 06  مارس– حسب المنظمين- على فكرة ضرورة تقديم أسماء فنية من الجيل الجديد للمشهد الفني الوطني بهدف “ضخ تعابير وأفكار لها طرافتها، والتعريف بمساراتها ورهاناتها التجريبية منذ مشاريع تخرجها، وعلى امتداد المدة الزمنية القصيرة، لدخولها حيز الاحتراف التشكيلي، بإسهاماتها المميزة عبر إقامات فنية، ومسابقات، وتتويج بعضها بجوائز وطنية ودولية كما يشير إلى ذلك المهدي الزواق مدير المعهد.
وعن هذا المعرض يصرح الباحث والفنان التشكيلي، مفوض المعرض: “لا شيءَ أجملَ من أنْ تعودَ الفنونُ إلى أحْضانِها الطبيعية النَّابضة بالحياة؛ تلك الفضاءات التي تضْمن للإبداع سحر المواجهة والتفاعل المباشريْن…، وبخاصة بعدما عاش العالم على إيقاعٍ صادم سنة 2020، إيقاعٍ هيمن فيه فيروس كورونا الفتاك مُعيدًا قِصصَ الأوبئةِ إلى الواجهة، ناشرًا ظُلماته ومآسيه البشرية والنفسية والاقتصادية.. في معظم المجالات والأماكن. وبموازاة ذلك، لم تسلم القطاعات الثقافية من الآثار السلبية الناجمة عن توقّف الحركة والفعل الاجتماعيين؛ حيث فرضت الضرورة الصحية انحباس المعارض والمتاحف بالقدر الذي أُجبرت فيه المسارح على التوقّف دون أن تلتفت إلى أنها لم تفعلْ ذلك منذ الحضارة الإغريقية أي منذ ظهور التراجيديا والكوميديا في أثينا الخالدة.

إن جلل الفقد التي تسببت فيه الجائحة كان كفيلا بأن يُقنع الفن بوصفه كائنا ماردا ومتمردا بإلزامية الحدّ من التواصل الاجتماعي المباشر، والاستعانة بوسائط رقمية تجعلنا “متباعدين معا” يجمعنا هدف ومصير أُحادييْن… ولعل تاريخ الفن أيضا يشهد بأنه نادرا ما كان يؤمن بالإجبار والخضوع والإلزام، فتلك مفاهيم لا ولن تدخل قاموسه ما دام يصبو إلى تحصين الحرية، حتى لو اقتضى الأمر أن تُمارس داخل حدود الجدران، ربما ذلك ما عبّر عنه جيل الفنانين الشباب إبان الحجر الصحيّ؛ إذ ناضلوا – بعد تخرجهم – بإرادة وإصرار كبيرين على الاستمرار في الإنتاج نكايةً في الجائحة، وتعبيرا عن شجاعة الاستمرار رغم كلّ المآسي والتهديدات..، وهو ما سنلامسه في الأعمال البصرية الشبابية لـلفنانة “رحمة الحصيك” و”هاجر المستعصم” والفنان “زياد المنصوري” و”رضا بودينة”؛ حيث مارسوا حريتهم _كما هو معهود في مغربنا الجميل حتى داخل جدران الحجر الصحي ليعبروا عما يجيش في وجدانهم من أسئلة وقضايا؛ أي عما اكتنف أفئدتهم زمنَ هيمنةِ تراجيديا الموت الغادر، زمنَ إغارة الكائنات الدقيقة على الكائنات المتجبّرة، في حرب لا تفاوضَ فيها ما عدا الانزواء والانعزال والتقوقع على الذّات..؛ إنه سياق تاريخي ما كان ليغدو جميلا بعض الشيء لولا وجود فسحة الفن والإبداع وبعض سَدنة الثقافة والجمال.
ولأن الشباب هم الأمل- يضيف سعدون- اخترنا أن تكون البداية معهم، تيّمنا بأسطورة دمائهم الفائرةِ بالإبداع، المهووسةِ بالحرية، الساعيةِ إلى تحقيق تجارب بصريّة يملأها النجاح، والأفكار، والتأويلات القلقة إزاء كينونتنا ومستقبلنا الإنساني، إذ كان لزاما أن يَستأنف جاليري “كانت” أنشطته سنة 2021 بالحرص على استمرار تقليد “أجيال المعهد الوطني للفنون الجميلة» في نسخته الثانية، وذلك في إطار شركاته بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، ومعهد سيرفانتيس، دعما للفنانين الشباب من خلال إيلائهم أهميةً كبرى بعدما تلقوا تكوينهم الثقافي والأكاديمي والجمالي والفني بأحد أبرز المؤسسات "التطوانية" العتيدة في تاريخ الدرس الاستطيقيّ بالمغرب. ومرد هذا الحكم كما يؤكد الفنان التشكيلي عمر سعود يعود – في الأصل- إلى أنّه مَعْهَدٌ يسهر على نجاح الفنانين المتخرجين ليس في الدرس الأكاديمي فقط، بل يسعى إلى نجاحهم في تحديات نحت الاسم الفني على أرض الواقع، ومدّ يد العون حتى يكون مستقبل الفن البصري المغربي المعاصر واعدا بالأمل، ومليئا بالعطاء.

عودةً إلى المشاركين في هذه الاحتفالية، يقول الباحث عمر سعدون: “لا تخلُ أعمال الفنانة “رحمة الحصيك” من الهواجس والأحلام العظمى؛ ذلك أن أرقَ البيئةِ يئنُّ تحت احتجاجات لوحاتها وأشكالها البصرية التي تناهض العلاقات المضطربة للكائن البشري بالمحيط والطبيعة، مستلهمةً شخوصا تحتفي بالبياض كما بالكائنات والموجودات التي بات الإنسان ونزوعه الاستغلالي المتوحش يُهدِّدان وُجودَها، ستعكس أعمالها ببساطة ذلك العنف البشري المضاد التي يُخاض ضد المحيط؛ إنه عنف ضد الذات في المقام الأول قبل أن يكون عنفا يُهدد الكرة الأرضية، وما تنوء به من كائنات حية بريئة مُهَدَّدَة بسبب الجشع.. . وعلى خطى غير بعيدة، تتألق الفنانة الشابة “هاجر المستعصم” بعرض أعمالها في معارض متنوعة؛ حيث تزدهر في لوحاتها أنماط تجريبية تنحو – في أسلوبها- صوب المعاصرة؛ حيث تجسّد ذواتا تأطر جوهرها في اللون والسياج والمادة المتنوعة، تلك الذوات التي أربكها الزمن وتقلباته، فليست الإطارات المعدنية للدراجات الهوائية التي تؤطر رؤوس شخوصها إلا رمزا دامغا بكون الحرية ينبغي أن توجد في عقولنا قبل أن تنتقل إلى أجسادنا، إنها ترسم جدلية الذات والحرية في ما تعيشه المجتمعات الذكورية من إقصاء باسم العرف والمحافظة”.

وعن أعمال الفنان “زياد المنصوري” يشير سعدون إلى أنها “لم تتخلَ على كائنات الهامش التي أحزنها الحلم حينما تحوّل إلى كابوس أمام عبثية الأقدار، وأمام تعاظم الألم والفقد؛ إذ يبدو ذلك جليا في الخطوط المتهاوية واللمسات الواهنة، وعلى الرغم من أن أشكال كائناته الإنسانية قد فقدت وهجها النفسي ونضارتها الطبيعية… إلا أنها لا تزال واقفةً تأبى الانهزام، وترفض أن تجثوَ، بل تتطلع بعطش إلى الانتصار من داخل أمارات الانكسار. في السياق ذاته، يرى سعدون تجربة الفنان “رضا بودينة” لا يجد أي حرج في الاعتراف بأن ذاته انقادت – في شبه ضرورة روحية- إلى ممارسة الكثير من الفنون بشكل فطري…، لتتعزز تجربته بعد التخرج من المعهد بمعارف وأعمال بصرية تسعى إلى الإفادة من مختلف التيارات التشكيلية التي مارسها؛ حيث تتضايف أسس الكثير من الفنون والمواد أعماله متخذا أسلوب المزج وتداخل الأشكال الذي ينهض على التجريد الهندسي، مع توظيف مواد متنوعة من جميع الفضاءات ذات الارتباط الوثيق بالمعمار، لعل المتلقي سيلاحظ أن شكل الدائرة يطغى في أعماله… إنّه يجسّد الدائرة الوجودية التي يمكن تأويلها بالزمن أو البداية من حيث النهاية، تلك الحركة الدؤوبة نحو مسايرة حركية التاريخ في علاقتها الحميمية بالذات والهوية”.

وعليه، تتقاطع أعمال هؤلاء الفنانين الشباب في النزعة المفاهيمية لكونها إنتاجات فنيّة تتطلع إلى رسم الأفكار وتقديسها هذا ما أعربوا عنه جميعا؛ إنهم يريدون أن يصنعوا منها أشياء عميقة وأشكال مبهرة، تقول بصوت واحد ومقاوم إن «الفن نقيض القدر» على حد تعبير مالرو (A. Malraux).
وأخيرا، عرّج المعرض صوب الاحتفاء بالفنّ التاسع عبر منح البطاقة البيضاء للفنان والمبدع المقتدر “عزيز أوموسى” بوصفه أحد أهم الأسماء المغربية في رسم الأشرطة المرسومة والتحريك؛ فأعماله الفنية تنم عن تجديده وتطويره لأساليب الرسم والتحريك من خلال انفتاحه على مجموعة من المصادر الأدبية والمعرفية كالأسطورة والتاريخ؛ إذ يوّظف شخوصا مستوحاة من عبق الذاكرة التراثية على غرار ما نجد في فيلم التحريك الوثائقي “سوليكة”؛ حيث كان سباقا في اكتشاف هذا النوع الصعب الذي يجمع بين براعة التقنية وأهمية التوثيق التاريخي، “عزيز أوموسى” يعيد اكتشاف العمق المغربي عبر خانات تحمل مشاهد منفصلة ومتصلة لتشييد قصةٍ أو حكاية فنية من الشريط المرسوم ذاته مُستخدما تقنية صباغة الأكرليك على القماش، كما اختار “أوموسى” بدوره أسماء جديدة من مبدعي الأشرطة المرسومة الذين تخرجوا من المعهد الوطني للفنون الجميلة حديثا كأحمد خيري، وأفاسي كمال، وأنس الخو؛ حيث سيقدمون _جميعا_ صفحات أصليّةً من الأشرطة المرسومة التي أُعدّت خصيصا وحصريا لهذا المعرض”.
كما يؤكد الفنان التشكيلي عمر سعدون مفوض المعرض أن القاسم المشترك في اختيار الفنانين المشاركين في هذه النسخة الثانية ينطلق من مساحات الاشتغال داخل المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان وفلسفته الرامية إلى بناء أسئلة خاصة لدى هؤلاء الفنانين الجدد بما يتيح تجديد الرؤية الجمالية والتشكيلية وجعلها تختلف عن المعهود وعن أساليب المعالجة، وتنسجم مع روح الابتكار في الفن المعاصر.
إن هذه المبادرة الاستثنائية التي تغير منهاج العلاقة التي عادة ما تسم علاقة الفضاء الجامعي بالمبدعين، لهي دافع قوي نحو براديغمات فنية معاصرة قابلة لأن تشكل هويات فنية جديدة في مسير التشكيل المغربي وفنونه المعاصرة.