يجد كثيرون من العرب ممن يواكبون مستجدات كورونا (كوفيد-19) وانتشاره الوبائي في العالم، في مسألة طرح أسئلة ما بعد كرونا فيها سبق للأحداث، بل ويفضل البعض منهم التركيز على الآن بكل تجلياته وما يحمله من رعب المشهد ومأساة الواقع وتحد الموت الذي يتسلل من ثقوب اللاوعي الصحي. في حين تذهب القلة ممن تعكف في زوايا الحجر وفي عزلة مفروضة إلى استقراء الوضع واستشراف المستقبل، ويعطي بعضها تصورا يغرق في التشاؤم، في الوقت الذي يقابلهم البعض الآخر بتصورات ملؤها التفاؤل المفرط.
هذا الانقسام برغم واقعيته التي تفرضها الصدمة وزاوية الرؤية التي يقرّها الاختلاف الموجود لدى البشر، إلاّ أنه يمنحنا فرصة ثمينة لدراسة عقل الإنسان العربي في زمن الرقمنة وتكنولوجيا الاتصال المعوّلم، مثلما يدعونا إلى فحص فكري بأدوات الحفر النقدي لمقاربة تحولاته المحتملة، فهي إلى هذا تبقى مجرد فرضية غير مؤكدة، لكن المسح والتفكيك من شأنه فتح آفاق لرؤية واضحة.
ومنذ البداية يمكن أن نسجل حضور الغياب المعتاد لكبار الفكر العربي في مشهد الأزمة، وهو نوع من التردي القائم منذ بدايات ما يعرف بعصر النهضة العربية التي لم تنهض بعد، فغالبا ما يأتي رد فعل المثقف العربي متأخرا متماهيا مع انعكاسات التجلي الخارج عن الذات الناقدة، وفي كثير من الأوقات يبدو هذا الرد/ الانعكاس باهتا غير مؤثر في بنية المجتمع والسلطة، وهو واضح من خلال الوجود الهامشي الذي أصبح يرسم معالمه في يوميات الوعي الثقافي لدى شعوبنا.
هذا الغياب ضاعفت في فضحه جائحة كورونا فلم نلمس أي أداء فكري للأسماء المعروفة عندنا في الساحة مثلما هو واقع اليوم في الغرب من نقاشات فلسفية وحضارية غاية في العمق، يديرها أعمدة الفكر والبحث الإستراتيجي المستقبلي هناك، من أمثال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي يعد أحد أهم فلاسفة أوروبا في هذا العصر؛ والفيلسوف الفرنسي المثير للجدل ميشيل أونفري وعالم الاجتماع، التسعيني آلان تورين صاحب المؤلفات المميزة كـ "براديغما لفهم عالم اليوم" و "نهاية المجتمعات"، فكل ما أبداه مثقفونا الكبار هو أخذ (سالفيات) مع مجموعة الكتب التي قرروا قراءتها أثناء مرحلة الحجر، أو الظهور في فيديوهات قصيرة إرشادية يطالبون فيها الناس توخي الحيطة والحذر، وهو دور يتقنه محاربو الصف الأول أصحاب المآزر البيضاء أحسن منهم.
قد تبدو لنا هذه الحقيقة المرّة تأكيدا لأطروحة نهاية المثقف – إذا ما أسقطناها علينا – التي سبق أن ناقشها بكثير من التفصيل في كتابه "أوهام النخبة" المفكر اللبناني علي حرب، والتي أسالت وقتها الكثير من حبر الرفض والممانعة، بيد أن الواقع يظهر لنا أن زمن المثقف الذي يسمعه الناس ويتفاعل مع أرائه وأفكاره ولّى بسبب تركه مكانه الريادي اختيارا أو قصرا، أو لاشتغاله بقضايا هامشية أو أكاديمية بحتة لا تلامس حياة الناس اليومية وطموحاتهم، ولهذا يكفي إلقاء نظرة على صفحات التواصل الاجتماعي حيث تقر انحصار دور المثقف لصالح أتفه المغردين، فتجد في أفضل الأحوال يرتاد صفحة الأول بضعة مئات من الزوار والمعجبين معظمهم طلبة يدرسون عنده بالجامعة، أو معارفه القريبون منه، أما الثاني فتعج صفحته بالآلاف، بل ويفتح له هذا السيل من الإعجاب آفاق الإعلام بمختلف أشكاله.
لا نقف عند هذه النقطة طويلا، فهي اليوم أشد وضوحا من ذي قبل، لكن ما لا ينبغي أن نتجاوزه ونحن نمرّ عليها، أن نلفت الوعي إلى أهمية هذه اللحظة الصعبة التي تجتازها البشرية جمعاء في تغيير كثير من السائد والمألوف، وقضية دور المثقف أبرز تلك التغييرات التي سيشهدها العالم، وهي أولى قراءات المابعد. طبعا نحن نقصد هنا دوره على المستوى العالمي بشكل عام، للقيام بمهامه المحورية في إعادة صياغة فكر ما بعد الأزمة، خاصة وأن كثيرا من النظريات في المجالين السياسي والاقتصادي، قد ثبت تعريتها وسقوطها.
أما بالنسبة للمثقف العربي فالأمر مرهون بمدى استجابته للتحدي الذي يعانق وجوده، وإلى انتباهه للفرصة التي تمنحها له الجائحة، فقد أدركت الحكومات والأنظمة العربية التسلطية، ومجتمعاتها الذنب الذي اقترفته في حق النخب بكل أشكالها طيلة عقود مضت، فهي اليوم في أمس الحاجة إلى الطبيب الذي يعالج، وإلى الباحث الذي يطوّر البحوث العلمية، وإلى الأستاذ الجامعي الذي ينتج المعرفة ويقدم أطروحاته عن مآلات كورونا في شقها الإستراتيجي الجيوسياسي والجيو اقتصادي، وإلى من ينشر الوعي المدني والحضاري في أوساط المجتمع للتعايش مع الواقع المستجد والمتغير القادم.
وبالعودة إلى بداية ما ذكرناه حول انقسام الرأي بين من يرسم صورة سوداوية لعالم ما بعد كورونا وبين من يرسم صورة مجنحة في التفاؤل (هذا في انتظار سماع من أسميناهم الأسماء الكبيرة) نلحظ أن من يذهب إلى الطرح الأول يستند إلى حتمية السقوط الأمريكي، التي توحي كل المؤشرات إلى تراجع دوره في الأداء العالمي، سواء اقتصاديا أو سياسيا، خاصة مع التسيير الكارثي الذي ينتهجه الرئيس ترامب في إدارة الأزمة الصحية، التي تعاني منها بلاده أكثر من أي بلد أخرى. وحتى قبل ذلك حين استنزفت الولايات المتحدة قواها في حروب جانبية، كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية الأسبق والمفكر الاستراتيجي كيسنجر، في مقال نشر له مؤخرا بصحيفة وول ستريت جورنال.
إن كل ذلك له تأثيره ما من شك على القيادة الأمريكية للعالم، وسوف تنتج عنه تبعات على النشاط المالي والاقتصادي العالمي، فأي اختلال في المنظومة الاقتصادية الأمريكية، تدفع من دون شك فاتورته باقي الدول، وبالأخص الدول الضعيفة مثل منطقتنا العربية، التي ظلت مسلوبة الوجود في ظلّ النظام الأحادي، بل ومنهكة بتبعيتها رغم غنى ثرواتها. لكن هذه الصعوبات التي يمرّ بها العالم ليست هي الأولى منذ انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة العلاقات الدولية وفرض منطق السوق الحرّ، وعولمة مبادئ الرأسمالية بكل ما لها من ايجابيات، وما حملته من سلبيات، ليس هنا مجال الحديث عنها. فقد عرف العالم ضائقة مالية خانقة سنة 2008، وتوالت حينها أطروحات الأزمة، وتكهنات السقوط التي تنشر الخوف من القادم، وتبدو هذه الأحاديث التي تستحضر القيامة، وتتكلم في النهايات تتمة لما كتب من قبل، بل وفي كثير منها تكرار للمكرر.
ومثل هذا حين ننظر إلى الجهة المقابلة أين تبدي بعض الكتابات نوعا من الفرح الطفولي بتحسس نهاية النظام العالمي القائم، وقيام آخر على أنقاضه، تلعب فيه الصين دور البطولة، سواء أكانت بطولة مطلقة، أو بمعية العائدة من غفوتها روسيا. ولعل تلك الكتابات تجد في التمدد الصيني اللافت، بشكل أكبر بعد اعتلاء شي جي بينغ كرسي الرئاسة سنة 2013 مسوّغا لرؤيتها. وما يضفي على هذه المقاربة نوعا من الصدق، بروز قدرة الصين في توجيه بوصلة الجائحة من وضع الكارثة، إلى حالة الاستقرار، والتحكم ثم التراجع والعودة التدريجية للحياة بدءا من ووهان منشأ الفيروس القاتل. أضف إلى هذا تعاملها الإنساني مع مواطنيها في المحنة باختيار مبدأ الاصطفاف مع السلامة الصحية للشعب، على المصالح الاقتصادية عكس الغرب، الذي أبان على وجه قبيح باعتماده على سياسة مناعة القطيع، والمفاضلة الفجة قبل أن تفوح رائحة العفن في مبادئه ونظامه، من خلال رائحة الجثث في أروقة المستشفيات والمقابر الجماعية.
وينتعش الحلم العربي في هذه الكتابات والآراء، بتتبع مسار العلاقات السياسية والاقتصادية الضاربة في العمق، بين المارد الصيني والدول العربية، أو بما بات يعرف بطريق الحرير، والدبلوماسية الناعمة التي تنتهجها حكومة الصين في التعاون والمشاركة الفاعلة، للقضاء على الوباء، التي تعطي ما يؤشر على مستقبل أكثر عدالة في العالم. وفرصة لبعث النمو والخروج من دائرة الفقر. ويتبادر إلى ذهننا ونحن نقرأ للبعض رجوع الحنين إلى فترة سابقة، حين انطلقت موجة من التنظير الفكري بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز الثنائية القطبية حينها انبرى كتاب تلك الفترة للتسويق الدغمائي للنموذج الاشتراكي السوفيتي، وما سيجلبه للعرب من فك لقيود الاستغلال والتخلف، واستمر الأمر كذلك بمنطق معلول بالتوجه الإيديولوجي حتى أعلن صاحب البروسترويكا والغلاسنوست الانسحاب الاضطراري لصالح أمريكا.
ما يثير الانتباه عند سماع صوت العقل العربي المفكر لجوئه المستمر إلى البحث عن الخلاص من خارج ذاته سواء في ذهابه نحو المستقبل أو ارتداده إلى الماضي، وكأنه يأبى التحرر من حالة التماهي Identification في الغيرية، وهذه الحالة تحولت إلى معيش يومي لدى جمهور عريض من الناس، تثّبت الاستلاب الدائم لغير "الأنا الحاضرة"، وتبقي على ما أسماه مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، الاستعمار الفكري والحضاري للأخر، أو استعمار للأنا المتجاوزة بفعل الزمن وتبدل المعطى.