ننشر مقالة الشاعر والناقد شعبان يوسف عن الكاتب الكبير محمد حافظ رجب الذى رحل مؤخرا، والتي يؤرخ فيها لمسيرة حياته الأدبية، ويسرد لنا تفاصيلها منذ البدايات وحتى النهاية وسياقاتها الثقافية والاجتماعية، وما أحاط بها من اعتراف أو نكران.

محمد حافظ رجب وانفراط عقد جيل الستينات

شعبان يوسف

 

برحيل الكاتب والمبدع والرائد محمد حافظ رجب، تكون حبات العقد فى جيل الستينات، قد فقدت عددا نوعيا كبيرا فى الظاهرة الستينية، وذلك بعد أن رحل سيد خميس وإبراهيم أصلان، ومحمد البساطى، ومحمد إبراهيم مبروك، وجمال الغيطانى، ومحمد كامل القليوبى، وسعيد الكفراوى، وغيرهم، وأطال الله فى عمر بهاء طاهر ويوسف القعيد، وصنع الله إبراهيم، ومن مازالوا يبدعون من هذا الجيل العظيم، ذلك الجيل الذى أعطى إبداعا بلا حدود، وقدّم تنويعات مختلفة على وتر يكاد يكون واحدا، الوتر هو حالة التمرد التى كان يعيشها ذلك الجيل بلا حدود، التمرد على شكل الكتابة التي استقرت نسبيا، بعد أن قدّم يوسف إدريس عددا من المجموعات القصصية، وأحدث حراكا كبيرا في الحياة الثقافية، ثم اتجه إلى المسرح، فكتب فى 1957 مسرحيتي جمهورية فرحات، وملك القطن، وبعدها قدّم "اللحظة الحرجة"، ثم كتب روايته البيضاء، وبذلك تكون القصة القصيرة أصبحت همّا إبداعيا ثالثا، كذلك كان يوسف الشاروني بمجموعته الأولى "العشاق الخمسة"، والتى صدرت في ديسمبر 1954، وظلّ حتى انصرام العقد الخمسيني لم ينشر مجموعات قصصية، وانشغل بشكل ما في كتابة النقد والصحافة الثقافية، لذا أصبح الطريق شبه معبّد للجيل الجديد لكى يقدّم نفسه، ولكن القبضة التي كانت شبه حديدية لكى لا تمر إبداعات هذا الجيل، وقفت بشكل صارم أمام مرور هذا الجيل، ولكن كانت هناك إرادة صارمة من بعض الكتّاب الشباب في اختراق ذلك الحاجز، وفى مواجهة تلك القبضة.

بائع لب في محطة الرمل:
وكان كاتبنا الراحل محمد حافظ رجب أحد هؤلاء المثابرين، والصامدين بلا كلل أو ملل، ودأب منذ السنوات الأولى في عقد الخمسينات من القرن العشرين، يرسل قصصه القصيرة إلى كافة الصحف والمجلات الأدبية والفنية المتخصصة، منها مجلات "قصص للجميع والنداء وقصتي والرسالة الجديدة"، وغيرها من مجلات أخرى، وكانت قصصه تحظى بالاهتمام، رغم أن عمره لم يكن قد تجاوز السابعة عشر آنذاك، إذ أنه ولد عام 1935 في مدينة الإسكندرية، وكان يذيل قصصه بصفات متنوعة ومثيرة، فمرة يكتب: "بائع لب في محطة الرمل"، ومرة أخرى يكتب: "رئيس رابطة أدباء إسكندرية"، ومرة ثالثة يكتب "كاتب حر"، ولكن صحف ومجلات ذلك الزمان لم تكن تعطى أدنى انتباه لتلك الصفات، ولا تلتفت لوظيفة الكاتب، ولكنها كانت تلتفت لقيمة النص الأدبي، وهناك نماذج كثيرة فى ذلك المجال، وعلى رأس هذه النماذج الكاتب محمد سالم، الذى كان يعمل مجرد ساع في مجلة روز اليوسف، ثم أصبح كاتبا ذا تأثير بالغ الأهمية، وكذلك عبد المعطى المسيري الذى كان صاحب مقهى في دمنهور، وبعد أن قرأ له الدكتور طه حسين، قدّم له كتابه الأول، ولذلك حظيت بعض قصص حافظ بالنشر، وبعضها حظى بردود وتعقيبات مطولة من أدباء ونقاد ومبدعين بارزين، وبالتالي هو لم ينقطع عن الإرسال، وظل مثابرا على هذا الدأب طوال مرحلة الخمسينات، حتى انتبه له يوسف السباعي، واستدعاه من الإسكندرية ليعمل في المجلس الأعلى للثقافة، وبالفعل أتى إلى القاهرة، ليتعرف على أبناء جيله الجديد مثل إبراهيم أصلان وضياء الشرقاوي ومحمد البساطى وعز الدين نجيب والدسوقى فهمى والسيد خميس شاهين "سيد خميس فيما بعد".

وكانت الضربة الأولى لحافظ رجب فى مطلع عقد الستينات، ومع مجموعة من رفاقه، إصدار مجموعة قصصية مشتركة عنوانها "عيش وملح"، وكان المشتركون "سيد خميس وعباس محمد عباس ومحمد جاد ومحمد حافظ رجب والدسوقى فهمى وعز الدين نجيب"، وكانت هذه المجموعة بمثابة الصرخة الأولى التي انطلقت فى ذلك المناخ الشائك، كما أن الجيل السابق مباشرة لهم، رفض أي منهم لكى يقدّمهم، ولكن الذى كتب، واحد من الجيل الأسبق، واحتفى بهم كما يليق بمبدعين طليعيين، وهو الكاتب والمبدع يحيى حقي "راعى جيل الشباب دائما والكتابة الجديدة"، كتب مقدمة قوية لهذه المجموعة، وكتب فى مطلعها: "هذه المجموعة ما أحبها إلىّ، إنها تنطق بمعان حلوة جمة، عطر الربيع، وندى الزهر، وهبّة النسيم تنشط له النفس، يبدد خمولها ويجدد الأحلام، لم تستأثر بها أنانية فرد، يظل يصحبنا – ارتفع أو هبط – من أولها لآخرها، إنما هي عمل جماعي متساند، تعاون عليه ستة من الأدباء في زهرة العمر"، ولم يتردد يحيى حقي في إطلاق صفة الجيل ومدرسة "عيش وملح" ليسم بها هؤلاء الكتاب الشباب، واعتبر أن هذه المدرسة لها معالم وقسمات ولمحات تجديدية: "ومن معالم هذه المدرسة أيضا إنها مع العطف الشديد الذى تبثه في قلبك على أبطالها في صراعهم للحياة تثبت في نفسك الإيمان بالخير وبالمستقبل وبمقدرة الإنسان على النجاة، فهي مدرسة متفائلة غير متشائمة، إيجابية غير سلبية".

كانت هذه المقدمة المتفائلة والمشجعة، دافعا قويا لهؤلاء الأدباء الشباب الجدد، وكذلك كانت جسرا تعريفيا بينهم وبين جمهور الأدب في مصر، حيث انطلق كل كاتب من الستة المشاركين في المجموعة إلى العمل الجاد والطموح في ممارسة الفن والكتابة، وقدّم محمد حافظ رجب في هذه المجموعة قصتين، هما "البطل، والجنيه"، وقدّم لهما سيد خميس، الذى لم يتوقف في مقدمته عند المعلومات الشائعة عند حافظ رجب، مثل أنه كان بائعا للب، ثم "بائعا للصحف"، ثم "جرسون"، حتى استقر في وظيفة ثابتة، وكذلك لم ينشغل بكونه ولد بالباب الجديد بأحد أحياء الإسكندرية، ولكن المهم في مقدمة خميس، أنه ألحق حافظ رجب بظاهرة جديدة حيث بدأ قائلا: "كانت ظاهرة جديدة، وكان فنانا جديدا، أما الظاهرة الجديدة، فكانت دخول الطبقات الشعبية العريضة إلى ميدان الحياة الثقافية، تشارك، وتطوّر، وتقدّم أدبا وفنا نابعين منها، حاملين خصائصها، معبرين عن حياتها، مكتوبة بيد أبنائها"، وبعد أن رصد خميس عنوان وملامح الظاهرة، استطرد قائلا: "وأما الفنان الجديد، فكان محمد حافظ رجب، إنه أحد هؤلاء الأبناء المخلصين الذين قدمتهم هذه الطبقة إلى حياتنا الثقافية، ورحلة المعاناة التي قطعها هذا الفنان ليصل إلى التعبير الفني الناضج، رحلة طويلة مريرة، تحمل نفس المرارة والألم اللذين تمتلئ بهما حياة النماذج التى رسمها بقلمه".

سمات وبدايات واقعية مفرطة:
ولا يخفى على الذين قرأوا تلك الاقتباسات من ما كتبه حقي وخميس، أنه سيدرك على الفور أن واقعية ما هي التي تحكم كتابة حافظ رجب، وسوف يتأكد القارئ من تلك الواقعية عندما يقرأ القصتين، أو يعرف فحواهما، فالقصة الأولى، وهى قصة "البطل" كانت تتحدث عن شخص يدعى "عبده أفندي"، والذى كان يمارس عمله الوظيفي بإتقان شديد، رغم صعوبته ورتابته، مراجعة دوسيهات، وتدقيق معلومات، وهو دائما يحاول أن يحظى برضا مديره، ذلك المدير الذى يوبخه دوما، وبالطبع فالقصة لم تبدأ هكذا، ولكنها تبدأ بموكب صغير، ظل يكبر ويكبر حتى أصبح مظاهرة واسعة، ذلك الموكب بدأ بعسكري بوليس، ومعه امرأة منكسرة ترتدى قميص نوم، ومعه كذلك رجل مهزوم للغاية، وفى حالة ارتباك، وعدد من الصبية والنساء والرجال، ويتكشف الأمر رويدا رويدا عن أن هذه المرأة خانت زوجها الموظف البائس، والمجتهد، والغافل كذلك عن بيته، والذى ضبطها في حالة تلبس مع عشيقها، وتمت الفضيحة الكاملة، دائرة من الصبيان والجيران، والعشيق، ثم الزوجة الخائنة، ثم عسكري البوليس، وقد ضمه الموكب كذلك، ليذهبوا جميعا إلى قسم البوليس، ومن باب الفجيعة أسماه البطل.

وجدير بالذكر أن الزوج لم يكتشف تلك الخيانة وفق خطة محكمة، ولكن الاكتشاف كان بمصادفة بحتة، ودون أي ترتيب، عندما ذهب إلى عمله بالدوسيهات المطلوب تدقيقها ومراجعتها، والتي كان يريد - بذلك - نيل الرضا من مديره، ولكنه اكتشف أنه نسى أحد الدوسيهات فى المنزل، فبسمل وحوقل وأسرع مهرولا عائدا إلى بيته، حيث اكتشف تلك الفاجعة، ومن ثم لم يترك الموقف عائما، أو مبهما، ولكنه لمّ وجمع الجيران لكى يشاهدوا الجريمة، والذين سارعوا بإبلاغ الشرطة، وسار الجميع في ذلك الموكب المأساوي والدرامي.

ودون استدعاء الميلودراما التي فرضها مضمون القصة، فإن القصة تنمّ عن موهبة جديدة وواضحة دون التباس، موهبة مدرّبة على التقاط التفاصيل الحادة في المشهد الرئيسي في القصة، موهبة انطلقت حادة ومتمردة ومثيرة - فيما بعد – في مجال كتابة القصة القصيرة، والمفارقة التي نخرج بها من القصة، أن حافظ رجب أراد أن يبنى مأساة القصة الواقعية على نحو جديد، واتضح ذلك في التقديم والتأخير للأحداث، فلم يضع القصة فى انتظام زمنى تقليدي، وكذلك أراد أن يقول بأن الناس من الممكن أن يعيشوا بطولات وهمية، وهى بطولات تنطوي على مآس فادحة، إذ أن الناس والجيران اعتبروا أن "عبده افندي" صار بطلا، لأنه لم يكن نائما على أذنيه، واستطاع أن يدبّر للخائنة خطة لاكتشافها، ومن ثم استحق لقب "البطل" عن جدارة، إنها بالفعل واقعية تنضح بالمأساة.

أما قصة "الجنيه"، فهي لا تختلف في واقعيتها عن واقعية القصة سالفة الذكر، إذ أن رجل أعمال معروف وكبير، التقط اثنين من الجالسين على المقهى، وهما في حالة عطل عن العمل، وأوكل لهما أن ينقلا بضعة صناديق من مكان إلى مكان آخر، وبعد أن أخذهما في سيارته، وأنجزا المهمة الثقيلة في وقت قياسي، أعطاهما الرجل "جنيها" كاملا نظير ذلك العمل، على أن يتقاسماه معا، ولم يكن مع أحدهما "فكّة"، ولذلك طمع الأقوى في حق الأضعف، وبالفعل تعارك الاثنان، ولكن الأضعف راح يستدر عطف الأقوى، لدرجة أنه استمال قلبه بعدما كادا أن يفتكا ببعضهما، وعندما أدرك الأقوى المشترك الإنساني بينه وبين زميله، استجاب له، وكفّ عن ممارسة طمعه، واستمرا معا حتى يجدا "الفكّة" التي ستحلّ ذلك الموقف، ومن ثم فالقصة تعكس معارضة للقصة القديمة لقابيل وهابيل، ويعيد رجب إبداعها بشكل إنساني مغاير، ورغم هذا البعد الأسطوري الذى بدا على ملامح القصة، إلا أنها اتسمت بحكمة واقعية مفرطة، ولكنها كانت مدخلا إلى عالم آخر سوف ينخرط فيه حافظ فيما بعد.

ماذا قال عنه إبراهيم أصلان:
كانت هذه هي السمات والخصائص الأولى لقصص محمد حافظ رجب، تلك القصص التي جمع بعضها ونشرها في مجموعته الأولى "غرباء" عام 1968، ثم نشر مجموعة أخرى في العام نفسه، تختلف تماما عن ما كان يكتبه، تلك المجموعة التي كتبت له شهرة واسعة، إذ أنه بدأ يكتب كتابة ذات أبعاد غرائبية حادة، وبدأ يبتعد رويدا رويدا عن بداياته الأولى، ولا بد أن نستشهد بما كتبه صديقه ورفيق جيله إبراهيم أصلان، حيث يعود بالزمن إلى تلك الفترة، فيقول في كتابه "خلوة الغلبان": "وأنا كنت، زمان، غادرت منزلي والكاتب الراحل ضياء الشرقاوي واتجهنا إلى ميدان (الكيت كات) بحثا عن سيارة أجرة يعود بها إلى منزله، إلا أننا رحنا نتجول ونتحدث على شاطئ النهر مثلما اعتدنا أن نفعل كلما جاء لزيارتي، كان ذلك في وقت متأخر من إحدى ليالي الصيف، بداية الستينات، وكنا نجلس على السور الحجري القصير الذى يعلو الشاطئ المنحدر، والأشجار الهائلة التي يحتلها طائر أبو قردان تحجب السماء من فوقنا، وأمامنا كانت الأغصان القوية لهذه الأشجار قد تدلّت وصنعت لنفسها جذورا أخرى في أرض الرصيف المغطاة بالأسفلت، عندما لمحت شابا يعبر كوبرى الزمالك (الذى أزيل الآن)، ويتجه نحونا في خطوات متباطئة وهو يتأبط حزمة من الورق، صافح ضياء دون أن يلتفت إلىّ، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا تخلو من استهجان. تبادلا عبارات قليلة، ثم سمعته يقول لضياء، الذى كان واقعيا اشتراكيا في ذلك الوقت:

- "أنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دي"

ورأيت ضياء يبتسم ويهزّ رأسه بما يعنى:

- نعم

وقال الآخر - أي حافظ رجب-

- "داحنا خلاص، عملنا مدرسة جديدة فى القصة"

توجه جديد ونقيض البدايات:
هكذا كتب ابراهيم أصلان، وسجّل اللحظة التي بدأ فيها رجب يتخلى عن الواقعية، بل ويسخر منها، وينحو نحوا جديدا، يصدّقه البعض، وينفر منه بعض آخر، وبالتالي  - تبعا ليحيى حقي - اعتبر ذلك مدرسة، وراح يجرّب تلك الكتابة التي ظلّت تصاحب قصصه طوال حياته الإبداعية التالية، ومن أبرز تلك القصص تلك التي نشرها في مجلة "المجلة" بتاريخ أغسطس عام 1966 تحت عنوان "مخلوقات براد الشاي المغلي"، وهى قصة غرائبية بامتياز، وتعبّر عن اتجاه حافظ رجب الجديد بجدارة، إذ يبدأها قائلا : "أنا رجل تكتنفني الغربة في كل الأركان .. توقفت عن المسير مؤقتا ... أجلس الآن داخل علبة سجائر فوق رفّ.. أعرض فوقها الحظ معلقا فوق حبل: أوراق يانصيب ... اقتحم غربتي رجل سمين..  كرة لحم في مؤخرة رأسه الصلعاء .. يوناني أخنف .. نقطة لحم تقف في مجرى أنفه تعرقل دخول أنفاسه في نظام".

وهكذا يسترسل حافظ رجب في سرد عالمه دون انتظام، ودون رتابة كذلك، ودون خطّة زمنية أو موضوعية، مثلما كان يفعل الكتّاب التقليديون للقصة، حيث تبدأ - مثلا - بحدث ما، ثم تتوسطها أحداث أخرى متتالية وساخنة، ثم تنتهى بلحظة تنوير، هذا النوع من السرد، لم يأت على ذائقة رجب الجديدة، إن قصته راحت تفرط في التجريب، وتستجيب للهواجس والانفعلات التي تطرأ على رأس الكاتب، ومن المصادفات السعيدة أن يكون المعلّق على هذه القصة تحديدا، هو الكاتب يحيى حقي، رئيس تحرير المجلة، والذى كان له فضل تقديم حافظ رجب منذ البداية، والذى بشّر به وبرفاقه الآخرين، وتنبأ لهم بمستقبل عظيم في الكتابة الإبداعية.

الفارق ست سنوات بين قصصه الواقعية، وقصصه الفانتازية، إذن ماذا قال يحيى حقي - تعليقا على القصة - بعد هذا التطور أو الانقلاب، وبعد مقدمة للتعريف بالتوجه الجديد لحافظ رجب، يقول حقى عنه: "إنه يتميز بأسلوب يدلّ عليه ويكاد ينفرد به، وأعنى بالأسلوب: المضمون والشكل واللغة، أسلوب يعدّ في نظري من نسل المذهب السريالي الذى ظهر في أوروبا حين ساد شعور بالحيرة والتمزق والضياع بعد الحرب العالمية الأولى، ثار على الرومانسية والواقعية معا، وغطس لأذنيه في عالم الأحلام واللاوعي والتلقائية، يزعم أنه يرفض إحناء الرأس للنفاق والخداع الاجتماعي، له احتقار للمعنى المفهوم لصالح غموض كاشف لعوالم أخرى، الوضوح فطرى ساذج والمنطق وهم متعارف عليه."، هذه بضعة كلمات من مقال رصين كتبه يحيى حقي، ونوّه حقي في مقاله على أن كثيرين من النقاد والكتّاب، من الطبيعي أن يرفضوا هذا التوجه في الكتابة، "سيشجب أناس هذا اللون من الأسلوب ولا يرون فيه إلا هذيانا متصلا لا طائل وراءه، ويطالبون بسد المسالك أمامه خشية ضرره إذا تفشى"، وكذلك أشار "حقي" إلى أن فريقا آخر سترضيهم هذه الكتابة، وسوف يرون أن هذه الكتابة صادقة جدا في التعبير عن هذا الواقع الجديد، وبعيدا عن هذا وذاك، رأى "حقي" أن من العدل أن يفسح المجال لنشر هذه القصص في المجلة، رغم أن "حقي" في كتابته وتعليقه على القصة، أبدى بعض انزعاجه، لكنه يتضامن ويتحمس للكتابة الجديدة إلى أبعد مدى، حتى لو اختلف معها، مثلما حدث مع محمد إبراهيم مبروك فيما بعد، وبذلك قدّم يحيى حقي نموذجا ديمقراطيا، يلتزم العدالة النقدية، بعيدا عن تلك الغطرسة التي كانت تبدو على بعض الكتاب المهيمنين على منافذ النشر.

الإصرار والإرادة رغم التجاهل:
لم يتخلّ رجب عن توجهه الجديد رغم المعاندات والتجاهل، بل ظل يكتب وينشر، وبالفعل أصدر مجموعتيه "غرباء"، و"الكرة ورأس الرجل"، وكانت المجموعة الثانية على وجه الخصوص، تعبّر بجدارة عن توجه رجب الجديد، وربما يكون هو ومحمد إبراهيم مبروك قد انفردا بهذا اللون الجديد في الكتابة، ولا بدّ أن نشير إلى أن كثيرا من النقاد لم يستجيبوا لكتابة حافظ رجب، وأخصّ بالذكر النقاد الذين رفعوا رايات الطليعية أو اليسارية، وعلى رأسهم الناقد الراحل عبد الرحمن أبو عوف، والذى كان أكثر المتابعين للجيل الجديد فيما يكتب، وجمع كل كتاباته النقدية، ونشرها فى كتاب عنوانه "البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة المصرية" ولم يتوقف عند مجموعتي حافظ رجب الصادرتين عام 1968، رغم أنه توقف عند آخرين أصدروا مجموعاتهم القصصية بعد ذلك، وهذا يعدّ الدليل القاطع أن موقفا ما كان قد اتخذ لتجاهل حافظ رجب، وفى عدد الهلال الصادر في أغسطس 1969، والخاص بالقصة القصيرة، لم تنشر المجلة قصة لحافظ رجب، رغم أن المجلة نشرت لكل أبناء الجيل البارزين، وجاء مقال عبد الرحمن أبو عوف المعنون بـ "البحث عن طريق جديد للقصة المصرية القصيرة" خاليا من مجرد ذكر اسم حافظ رجب، كأنه غير موجود، رغم أنه - أي رجب - كان قد أصدر مجموعتين، وكأنه لا ينتمى إلى كتاب القصة القصيرة، وبعد عام آخر، صدر عدد جديد من مجلة الهلال، أي في أغسطس 1970، ولم يحتو كذلك على قصة لحافظ رجب، ولكن جاء مقال لشوقي خميس عنوانه "الجديد في القصة المصرية الجديدة"، وتعرض المقال لكافة كتابات الجيل، وطرح الناقد تساؤلا وعلامة استفهام حول ما يكتبه رجب، فكتب يقول تحت عنوان ساخر "الثور الذى ذبح الرجل": (لا ندرى ما الذى جعل كاتبا موهوبا من أمهر كتّاب القصة الواقعية مثل حافظ رجب، يقفز بمقدرته الفنية الممتازة من هذا الميدان، حيث حقق انتصاراته الأولى إلى عالم الرؤية اللاواقعية، حيث يفيض التعبير القصصي عنده بالرمز ويتضخم بدرجة لا تتناسب إطلاقا مع البذرة الواقعية التي مازالت تكمن في أعماله، وإن أصبح ذلك على نحو مغاير.)، وظل الكاتب يرسل التقريع بعد التقريع، غير معترف بالتوجه الجديد لرجب، ولم يستثن سوى قصة واحدة وهى "الأب حانوت"

غياب العدالة النقدية والتجاهل:
لم تكن مجلة الهلال "الحكومية" فقط هي التي تجاهلت محمد حافظ رجب، ولكن المطبوعات المستقلة فعلت ذلك أيضا، إذ صدرت في ديسمبر 1968 مجموعة قصص قصيرة عن سلسلة "كتابات معاصرة"، لمجموعة من الكتّاب، وحرص المشرفون على الكتاب أن يضم أجيالا مختلفة، فمثلما ضمت محمود تيمور ويحيى حقى ويوسف الشاروني، نشرت كذلك لمحمد جبريل، ومن اللافت للنظر أن ينشر المشرفون على الكتاب لكاتب محسوبا على فن المسرح أساسا، وهو ألفريد فرج، وكان قد أصدر مجموعة قصصية وحيدة منذ زمن بعيد، وفى الوقت نفسه تتجاهل كاتبا لم يكتب سوى القصة القصيرة مثل حافظ رجب، وكذلك تنشر لكاتب اعتبره كثيرون أنه كاتب محافظ، إن لم يكن رجعيا وهو ثروت أباظة، والذى كان يكتب روايات، وكان مقلّا بل شحيحا فى كتابة القصة القصيرة، وجاءت دراسة مطولة للناقد غالى شكرى عن تلك المجموعة، وبعد صدور المجموعة الأولى، صدرت مجموعة ثانية في العام التالي 1969، وتكرر نفس التجاهل، رغم أن المجموعة تضمنت قصصا لكتاب شبه مجهولين، منهم سمعان اسكندر ورأفت سليم، وحسنى محمد بدوى، كما أن المجموعة راعت مبدأ الأجيال، فكما نشرت ليوسف إدريس، نشرت لجمال الغيطاني وجميل عطية إبراهيم وأبو المعاطي أبو النجا، إلا محمد حافظ رجب، وصاحبت المجموعة دراسة أخرى للناقد جلال العشري

وكما تجاهلت مجلة الهلال الحكومية حافظ رجب، وكذلك السلسلة المستقلة، فعلت ذلك مجلة الطليعة اليسارية، إذ أنها أصدرت عددا في غاية الأهمية تحت عنوان "هكذا يتكلم الأدباء الشباب"، وذلك في سبتمبر 1969، واستطلعت المجلة آراء كتّاب الجيل، ووجهت لهم عدة أسئلة، مثل: متى قامت العلاقة بينك وبين الفن الذى تمارسه الآن، ومتى بدأت الإنتاج فيه، أو ما هو المناخ الذى يسيطر على ممارستك لفنك؟ وضم الملف عددا كبيرا من أبناء الجيل، مثل جمال الغيطاني ومحمد يوسف القعيد ومحمد إبراهيم أبو سنة وسمير عبد الباقي وفؤاد حجازي وأحمد هاشم الشريف وحسين على محمد ومجيد طوبيا وغيرهم، إلا محمد حافظ رجب، وتم تكليف مجموعة من أبرز النقاد لكتابة تعقيبات على الملف منهم "سامى خشبة وسهير القلماوي ولويس عوض وعلى الراعي ولطيفة الزيات ولطفى الخولي وغالى شكري"، وتم حرمان حافظ رجب من أن يحظى بمجرد المشاركة في مثل هذا الملف، وإمعانا في الظلم النقدي، لم أقرأ فيما بعد متابعات نقدية لنقاد يساريين متخصصين لكتابات محمد حافظ رجب.

ابراهيم فتحى ينتصر لحافظ رجب:

فى مطلع 1969، نشرت مجلة "جاليرى 68" عددا خاصا للقصة القصيرة، ونشرت قصة "الأب حانوت"، ومما لا شك فيه أن هذه القصة تعد أبرز ما كتبه رجب في ذلك الوقت، وكان قد بلغ باللغة شأوا كبيرا، إذ يبدأ قصته هكذا: "في اللحظة التي طرق فيها باب الكوخ الصفيح المعلق فوق السطح، كان معلقا من شعره في خطاف حديدي يتدلى من سقف الكوخ فوق ألسنة النيران، تتطلع إليه وهو عار وامرأة بنابين مخضبتين بالدماء تنخز قلبه بمدراة شوكية: (أحمل أكواب الماء إليهم .. أحملها إلى الرجال الفعلة)، وكان يجيب: (لن أفعل .. لن أفعل). اشتدت الطرقات على الباب.. فهوى جسده على الأرض، وتناثر شعره فى فراغ الكوخ، فدار يلتقطه شعرة شعرة، وأمسك بملابسه يستر بها جسمه العاري. وفتح الباب فوجد المرأة ذات النابين الحمراوين أمامه .. وصرخ وهو يهرول إلى ركن الكوخ: (لن تعلقيني ثانية .. لن تعلقينى)".

هكذا تتدفق لغة حافظ الشعرية، وسرده النوعي، وعلى عكس جميع من تناولوا إبداع حافظ رجب، أو تجاهلوه، كان الناقد والمفكر إبراهيم فتحي على النقيض، إذ بدأ حديثه المطول عن القصة قائلا: "ويعبر حافظ رجب عن نظرة شاملة غارقة في المرارة، ولكنها لا تكف عن محاولة اختراق الأسوار، إنه يطعن بقلمه هذا العالم الخاص، ويخرج أحشاءه العفنة، وقلبه الأسود، ويقذف به في الوجوه، وعنده تشف المظاهر المألوفة وتصطدم بوقعها النفسي على الذين يحيونها، فتتحول الشخصية الانسانية إلى ذرات، وتصلى بالنار في قدر يغلى أو تتكاثف لتصنع جدران حانوت أو تتقلص إلى أصابع تلتهم."، وبعد تحليل عميق يليق بالكاتب والناقد يقول إبراهيم فتحي: "وتكاد هذه القصة الممتازة توجز موقف كتّاب القصة الجدد من شجرة التقاليد الفكرية الراسخة، من جدران الحانوت، ومن الأب بعد أن أصبح حارسا للسجن."، ومن باب الأمانة والحقيقة أن ناقدا آخر انتصر لحافظ رجب، وهو الناقد الدكتور صبري حافظ، والذى كتب مقالا عام 1966 ذكر فيه: "إن قصص حافظ رجب من أقدر أقاصيص هذا الجيل على بلورة الملامح العامة والأبعاد العميقة لهذه اللحظة الحضارية التي تصدر عنها، مشكلة بذلك وجها بارزا ومهما من أوجه ذلك التيار الأقصوصي.."

إشاعة "احنا جيل بلا أساتذة":
شاعت في الحياة الثقافية منذ عقد الستينات، أن محمد حافظ رجب، هو أول من أطلق عبارة "إحنا جيل من غير أساتذة"، بينما إبراهيم أصلان في كتابه "خلوة الغلبان" ص 122 ينفى ذلك قائلا: "وهو من نسبت له تلك الصيحة الشهيرة (نحن جيل بلا أساتذة)، والتي اتخذت علامة على جيل كامل من الكتّاب، بينما كان قائلها الحقيقي هو الناقد سيد خميس." وفى الحقيقة لم يأت صديقي الراحل إبراهيم أصلان بدليل على صحة المعلومة، سوى أن سيد خميس نفسه هو صاحب المعلومة، والأكثر صدقا هو أن حافظ رجب وسيد خميس، لم يكونا صاحبي المقولة، ولكن القائل الأصلي، والذى كتب عنها باستفاضة، هو الكاتب محمد جاد، وذلك في تقديمه للقاص الدسوقي فهمى، وعبّر عن غضب عارم نتيجة ذلك التجاهل والإعراض عنهم، والذى يشبه المؤامرة. وكتب الناقد فؤاد دوارة مقالا طويلا في صحيفة المساء، ونشر على حلقتين، وأفرد فقرة مطولة عنوانها "جيل بل أساتذة"، وعلّق على محمد جاد نافيا ذلك تماما، والدليل على ذلك، هو مقدمة يحيى حقي، ولكن فؤاد دوارة كان مقدرا غضب محمد جاد، وانفعاله الذى أدى إلى إطلاق هذه الصرخة، ولكن ابتعاد محمد جاد عن ساحة القصة القصيرة فيما بعد، وانشغاله بقضايا أخرى، جعله يغفل ذلك الأمر برمته، كما أن انخراط محمد حافظ رجب، وتصاعد وجوده في الحياة الأدبية، وتبنيه للمقولة فيما بعد، جعلت الباحثين ينسبون له تلك الصرخة.

التجاهل لا يوقف كاتبا:
وألفت النظر إلى أن التجاهل يعدّ أكثر إحباطا للكاتب من مهاجمته، وقد لعب ذلك التجاهل دورا في تعطيل حافظ رجب عن الكتابة، دون إيقافه عن الإبداع، فبعد أن عاد إلى الإسكندرية لظروف وملابسات عديدة، وعلى رأسها الظروف الاجتماعية، ونشر مجموعتيه السالفتي الذكر عام 1968، ولم ينشر مجموعات أخرى إلا عام 1979، نشرت له دار نشر خاصة، وهى دار آتون مجموعته الثالثة "مخلوقات براد الشاي المغلي"، وفى المجموعة قصص كانت مكتوبة منذ الستينات، ولكنها لم تحظ بالنشر فى أى مجموعة من المجموعتين، واحتوت المجموعة الثالثة على ست قصص، وهى: "برهومة .. والحمار المهموم، رجل مغلق في دوسيه، ذراع النشوة المقطوع، مخلوقات براد الشاي المغلي، عظام في الجرن، أصابع الشعر"، وكتب الشاعر والناقد الراحل حسين على محمد مقالا قصيرا في نهاية الكتاب عنوانه "الفارس يعود"، قال فيه: "فى عام 1963 أثار محمد حافظ رجب الرأي الأدبي العام، حينما قال في برنامج تلفزيوني مقالته الشهيرة المدوية "نحن جيل بلا أساتذة"، وشهدت جريدة "الجمهورية" قضية خصبة، طرفها الأول الحداثة المتمثلة في حافظ رجب، وطرفها الثاني المعمرون المتمسكون بالمساحات الممنوحة لهم في بقعة الضوء"، ونوّهت الدار بأنها تعدّ كتابا عنوانه "جيل بلا أساتذة"، وهو عبارة في أدب محمد حافظ رجب بأقلام يحيى حقي ورشدي صالح ومحمد فريد أبو حديد، وحسين على محمد، وحسن محسب، وعبد المغنى سعيد، وأعتقد أن كتابا مثل هذا لم يصدر، أو على الأقل لم يصادفني حظ رؤيته.

وربما تكون عودة حافظ رجب إلى الإسكندرية، لم تخرجه من عزلته إلا قليلا، حيث أنه كان قد التحق بعالم المتصوفة، وربما كان قد "تدروش" قليلا، ففي حوار ممتع أجراه معه أحمد محمود حميدة، ونشرته مجلة "الثقافة الجديدة" في أبريل عام 1986، ردّا على سؤال وجهه حميدة يقول السؤال: "لمست فيكم التفرغ الكامل لعبادة الله، بشكل يقرب للتصوف، هل ذلك تعويضا أو بديلا لمرحلة أدبكم المزدهر"، ويردّ رجب قائلا : "إنني مع الله كما قلت، وقد أعطاني ما لم يعطه لغيرى، هو خالفي وقاهري، أعيش معه وبه، إن نشوة الخالق المبدع في الفن، أجد هذه النشوة وأنا معه، لكنى لم أفعل ما يريد لي، لعله مازال يكرهني، لكنى أحبه وأهواه وأستغفره وأخشاه، تعاليت ربى تعاليت، تباركت ربى تباركت، إنه الضوء الباهر والحلم العظيم".

هذا ما وصل إليه حافظ رجب الكاتب والمجدد والرائد والسيريالي، والذى لم تختره مؤسسة ثقافية أو أكاديمية حتى الآن، لينال حظه من الجوائز كما حصل عليها آخرون، ليسوا في قامته، ولم يقدموا ما قدمه على مدى حياته، ولا أنسى تقديم التحية لدار العين وللدكتورة فاطمة الودى لحماسها لنشر الأعمال الكاملة له في حياته، ما لم تفعله مؤسسة كبرى، ولم يبق سوى أن نتذكر إبداع هذا الراحل الكبير، والذى عاش عقودا طويلة في عزلة شبه تامة، اختارها لنفسه بعدما لاقى صنوفا من الجهل والتجاهل، قبل أن يلحق بعزلته الأبدية.