يكشف الكاتب اللبناني هنا عن بعض ملامح الخلل البنيوي الذي تعاني منه أوروبا، وقد جردتها جائحة كرونا من ورقة التوت التي كانت تستر بها وضعا يتفاقم منذ عقود، يزداد فيه الأغنياء ثراء، والفقراء فقرا ويتنامى عددهم، بينما ينخر الفساد بنية الدولة ويكشف طبيعتها القمعية وخاصة في إسبانيا.

أوروبا القديمة ترتعد من ثورة آتية

بابلو هاسيل .. وخطاب الثورة المغاير

سعيـد محمد

 

«ثمّة شبحٌ يحوم في أوروبا»

(مقدّمة البيان الشيوعي ـــ 1848)

 

في الأسبوعين الماضيين حطّم شبان غاضبون في كاتالونيا وأجزاء أخرى من إسبانيا نوافذ المتاجر، وأشعلوا النار في سيارات متوقّفة، ورموا الزجاجات على رجال الشرطة لليوم السادس لأيام متوالية في ما يهدد بالتحوّل إلى انتفاضة واسعة ضد الحكم الملكي الفاشي التوجهات في مدريد. الشرارة الأولى أشعلها اعتقال بابلو هاسيل مغني «الرّاب» الشيوعي، بتهم تتعلق بإطالة اللسان على الذّات الملكيّة والدّولة في كلمات أغانيه كما على تويتر. وقد اختلفت التحليلات بشأن سرّ حجم هذا الانفجار الشعبي ومآلاته. لكنّ أغلب المراقبين متفقون على أن ثمّة احتقاناً يتراكم في صدور الأجيال الجديدة في إسبانيا وأوروبا المتأمركة منذ عام 1945، يقترب متسارعاً من لحظة التحوّل إلى حالة ثوريّة قد تؤدي إلى سقوط نموذج الدولة القوميّة القديم.

أظهرت لقطات بثّتها المحطات التلفزيونيّة من برشلونة عاصمة إقليم كاتالونيا الإسبانيّ استمرار أعمال عنف في المدينة والتي كان قد أطلقها اعتقال مغني راب معروف يوم الثلاثاء 16 فبراير 2021 من قلب جامعة اعتصم بها مع ثلّة من أنصاره بعد مواجهة استمرت 24 ساعة. وألقي القبض على بابلو هاسيل (1988) بتهم تتعلق بإطالة اللسان على الذّات الملكيّة وذمّ مؤسسات الدّولة وتمجيد العنف (الإرهابي بحسب وصف السلطات).

وتعرّضت نوافذ المتاجر في الشوارع الرئيسة للتحطيم ونهبت محتوياتها الثمينة، وأُشعلت الحرائق في جميع أنحاء العاصمة الكاتالونية فيما انخرط شبان غاضبون في معارك كرّ وفرّ مع رجال الشرطة وقوات مكافحة الشغب التي تلقّت وابلاً من الحجارة في كل نقاط الاشتباك (تجاوز عددها المئة). وأُبلغ أيضاً عن اقتحام مكاتب البنوك في المدينة، واصطدامات بعد مباراة الدوري الإسباني، فيما تناثرت مستوعبات القمامة المشتعلة في معظم الأحياء واستُعملت كمتاريس لإغلاق الطّرقات.

مع ذلك، ما زال العنف مقتصراً إلى الآن على مجاميع صغيرة نسبياً مقارنة بالأعداد الكبيرة من المحتجين الذين تدفّقوا إلى الشوارع، ونُظمت مسيرات حاشدة، لكنّ الأغلبيّة كانت تنسحب بهدوء بعد ظهور رجال الشرطة المدجّجين بالأسلحة والهراوات. وقد عُلم بأنّ أجهزة الأمن الإسبانيّ اعتقلت حوالى مئة شخص على صلة بالاحتجاجات منذ اندلاعها يوم الثلاثاء، ونُقل أكثر منهم جرحى إلى المستشفيات والعيادات المحليّة، كما أورد بيان لشرطة المدينة عن وقوع ما لا يقلّ عن ثلاث هجمات بقنابل مولوتوف على مراكزها. وناشد رئيس بلدية برشلونة سكان المدينة التزام الهدوء. ونُقل عنه قوله: «إن الدفاع عن حرية التعبير لا يبرر في أي حال تدمير الممتلكات، وتخوين مواطنينا، وإيذاء الشركات التي تضرّرت بالفعل من الأزمة (كوفيد ــ 19)«.

وقد امتدّت الاحتجاجات إلى العاصمة مدريد، حيث استدعت الشرطة تعزيزات إضافيّة لتأمين الشوارع التجاريّة، كما عدد من المدن الأخرى في جميع أنحاء المملكة ومنها فالنسيا ومايوركا. لكنّ مشاهد العنف في بعضها كانت بشكل عام أقل حدّةً من تلك التي شهدها إقليم كاتالونيا. ولم يفلح تعهّد الحكومة الإسبانية عشيّة اعتقال هاسيل صباح الثلاثاء المذكور بأنها ستعمل على إلغاء أحكام السجن على الجرائم المتعلّقة بـ «حرية التّعبير» في تهدئة خواطر أنصار الموسيقيّ الشيوعيّ المعروف الذين تجمّع مئات منهم حوله داخل «جامعة ليدا» (كاتالونيا) حيث كان يتحصّن لتجنب اعتقاله. لكن قوات الأمن اقتحمت الجامعة، وقبضت عليه. وفي الوقت الذي كان يتم فيه سحبه إلى خارج الجامعة، دعا الشعب إلى الخروج إلى الشوارع وتعهَّد أمام رفاقه بمواصلة النضال ضد الدولة. ولا يتوقع مقيمون في برشلونة توقف الاحتجاجات في وقت قريب.

ويواجه هاسيل أحكاماً بالسجن لأكثر من عامين بتهم تتعلق بـ «الإساءة إلى الذّات الملكيّة»، و«ذمّ مؤسسات الدّولة»، وارتكاب «جرائم كراهية»، و«تمجيد الإرهاب». وتستند هذه الاتهامات إلى سلسلة من التغريدات نشرها هاسيل خلال السنوات القليلة الماضية على تويتر. وكان المدعي العام الملكيّ قد قدّم للمحكمة نسخاً من 64 تغريدة ندّد فيها هاسيل بوحشية الشرطة ضد المهاجرين، ووصفها بالنذالة ومرتكبيها بالنازيين لأنها «بدل أن تحمي الأسر الفقيرة، تُلقي بها إلى قارعة الطريق». كما وصف خوان كارلوس – الملك المتقاعد – بـ«رجل العصابات الذي يتآمر مع آل سعود مموّلي داعش»، وسخر من ابنة ملك إسبانيا الحالي، فيليب السادس بقوله: «دعونا نقاتل حتى يتم طرد فيليب بوربون وسلالته من الطفيليات أعداء الشعب». بينما «الآلاف من المسنّين يرتجفون من البرد ومشرّدون في الطرقات، بينما يعظنا الملك من قصره الوثير». ووصم السلالة المالكة بالفاشيّة والفاسدة وممارسة سفاح القربى، مقترحاً الإعدام بـ «المقصلة» لإحدى بنات الملك السابق. ورُصدت تغريدات له أيضاً أشاد فيها بمنظمة ماركسية «معادية للفاشيّة» اتُّهمت بارتكاب حوالى 1000 عمل عنفيّ بين عامَي 1975 و2003، بما في ذلك 80 جريمة قتل أو محاولة قتل، وعمليات اختطاف مختلفة. كما لحظت المحكمة إصداره أغنية بعنوان «الموت للبوربون» في إيماءة لا تخفى إلى حكام البلاد.

والمفارقة أن هذه التغريدات والأغاني تعبّر عن واقع فساد السلالة التي نصّبها الفاشيست ملوكاً على البلاد بعد إسقاط الجمهوريّة حرباً في عام 1939. وقد فرّ خوان كارلوس الملك السابق من البلاد في آب (أغسطس) 2020 بعدما تراكمت الأدلة الدامغة على أنشطته الفاسدة، وبتواطؤ من عناصر فاشيّين في الحكومة الإسبانية، والنّظام القضائي، وابنه فيليب السادس، الملك الحالي. وهو يقيم اليوم في دبي بالإمارات العربيّة المتحدة، عاصمة الفساد المعولم الإقليميّة في الشرق الأوسط في أجواء تقاعد فاخرة على حساب الخزينة العامّة الإسبانيّة.

وليس اعتقال هاسيل هو الهجوم الأول من نوعه ضد حرية التعبير في إسبانيا في السنوات الأخيرة. إذ يعيش فالتونيتش مغني الراب اليساري ــــ المؤيد لاستقلال كاتالونيا عن مملكة إسبانيا ــــ في المنفى في بلجيكا بعدما حكمت عليه السلطات الإسبانية بالسجن لأكثر من ثلاث سنوات. وتتصدّر إسبانيا وفق تقارير لحقوق الإنسان قائمة البلدان التي ألقت بفنانين في السجن بسبب آرائهم السياسيّة. ويستند العديد من هذه الإدانات إلى تشريعات ضد «تمجيد الإرهاب» المتصل بـ «حركة تحرير الباسك المسلّحة» (إيتا) رغم أن الأخيرة تخلّت عن استعمال السلاح منذ أكثر من عشر سنوات، إضافة إلى مواد قانونيّة ضد التشهير تستخدمها السلطات لقمع المعارضة السياسية. وقد اقترح حزب «بوديموس» اليساري، وهو جزء من الحكومة الائتلافية التي تسيطر على السلطة في مدريد، تعديل بعض هذه القوانين، لكن كما لاحظ هاسيل، فإن هذه المشكلة ليست متعلّقة بالتشريع بقدر ما هي مسألة سياسية ترتبط ببنية الدولة البرجوازية الإسبانيّة نفسها.

ويبدو أن القضاة الملكيين كانوا يأملون بأن يلحق هاسيل بخطوات زميله فالتونيتش، ويمضي إلى منفى اختياري بدليل السماح له بالسفر إلى بلجيكا وفنزويلا بعد إدانته. لكنّه ما لبث أن عاد إلى إسبانيا، ورفض دفع غرامة قدرها 40 ألف يورو كانت لتخفّض محكوميته. وفي النهاية، رفض أيضاً الالتزام بأمر المحكمة بتسليم نفسه، وتحصّن مع رفاقه في الجامعة. ويشتهر القضاء الإسباني بميوله الرجعيّة، ولا سيّما المحكمة المكلّفة بملاحقة الإرهاب والجرائم ضد الدولة، السيئة السمعة بشكل خاص ووريثة الجهاز القضائي الإجراميّ لنظام الديكتاتور فرانكو. والحقيقة أن الدولة الإسبانيّة برمّتها هي وراثة بالجملة لنظام فرانكو الفاشستي الذي تشكّل خلال الحرب الأهليّة القاسيّة ضد الجمهوريّة 1936 – 1939، ولم يتغيّر بشكل جذري منذ ذلك الحين رغم مسرحيات التحوّل إلى الديمقراطيّة والملكيّة الدستوريّة.

وقد اختلفت التحليلات بشأن سرّ هذا الانفجار الشعبيّ غير المتوقّع ومآلاته، لكنّ أغلب المراقبين متفقون على أنّ ثمّة احتقاناً يتراكم في صدور الأجيال الجديدة ليس في إسبانيا فقط، أو في إقليم كاتالونيا وحده، وإنّما عبر أوروبا المتأمركة كلها منذ عام 1945، بعدما فشلت الأنظمة الليبراليّة القائمة بهياكلها النخبوية اليمينيّة الفاسدة، في تقديم حلول مستدامة للانكماش الاقتصادي، وتراجع مستويات عيش الطبقة العاملة، وتردّي الخدمات العامّة لمصلحة نخبة ثريّة قليلة، تهيمن على مقدرات القارة وتعبث بها.

وقد تصاعد هذا الاحتقان بشكل ملموس بعد الأزمة الماليّة العالميّة في عام 2008 وقتما ضحّت الحكومات الغربيّة بأموال دافعي الضرائب لإنقاذ الطغمة الماليّة العابثة. وفي ظل انقراض اليسار، انعكس ذلك تصويتاً كثيفاً للأحزاب الفاشيّة الغاضبة، التي فشلت بدورها في إنجاز تقدّم فعلي باتجاه حلّ المصاعب البنيوية للنظام الرأسماليّ، قبل أن يصل الغضب إلى منتهاه بعد الإدارة الإجراميّة لوباء كوفيد – 19 وما تسبّبت به من أضرار فادحة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليميّة في مختلف أرجاء القارّة. مما أدى إلى توسّع الفجوة تالياً في الدخول بين من يملكون ومن لا يملكون، وفقدان الأمل بغد أفضل للعمّال الاعتياديين وللأجيال التي وُلدت بعد عام 2000.

إنّ تصلّب أجهزة الرقابة وتصاعد القمع الذي شهدناه في فرنسا وهولندا وبلجيكا وبولندا وهنغاريا وفي إسبانيا اليوم، وقريباً في إيطاليا وربّما البرتغال واسكتلندا – وقبلها في التآمر لإسقاط جيريمي كوربن في بريطانيا – دلالة أكيدة على هلع يستولي على قلوب الطبقات البرجوازيّة الحاكمة القديمة عبر القارة من تفجّر الصراع الطبقي الذي لم يعد ممكناً إدارته، كما كان الحال طوال النصف الثاني من القرن العشرين عبر التخويف من العدو الشيوعي في موسكو.

لقد غيّرت التكنولوجيا الحديثة خلال السنوات العشرين الماضيّة من أنماط الإنتاج في أوروبا فيما بقيت علاقات الإنتاج والهيمنة على حالها، كما نظّمها الأميركيّون بعد الحرب العالميّة الثانية. وهذه المفارقات كانت دائماً عبر التاريخ منتجة للحالات الثوريّة التي تنتظر فتيل انفجار ما كي تتحوّل إلى ثورة عارمة. قد تكون الانتفاضة الهاسيليّة ذلك الفتيل أو لا تكون، لكنّ كل الأطراف المعنيّة بالصراع، تعلم يقيناً بأنّ الاحتقان يقترب متسارعاً من لحظة التحوّل إلى حالة ثوريّة ستعصف حتماً بنموذج الدّولة القوميّة القديم، من دون أن تتوافر لأيّ منها تصورات ذات قيمة بشأن اليوم التالي.

وعلى أي حال، فإن الرسالة من سجن بابلو هاسيل وطريقة اعتقاله قرأها الشباب الإسبانيون والعمال بتمعّن المترقّب، واعتبروها بمثابة إعلان حرب على كل واحد منهم، وما لم يتدارك كهنة برلين وبروكسيل الموقف في برشلونة بسرعة، فإن استقلال كاتالونيا لن يكون سوى أقلّ الخسائر التي سيتحمّلها النظام الملكيّ الفاسد، قبل أن تكرّ السُّبحة إلى أماكن أخرى.