يخص المسرحي المغربي (الكلمة) بهذا الحوار المهم حول تجربة أحد أبرز مخرجي المسرح الفرنسي – رحل عن عالمنا في العام الماضي – الذين بلوروا جماليات مسرح مغاير، ينطلق من تصور يجسد لغة الصمت، ويقرأ طوايا السكوت ودلالاته. فيترجم هنا خلاصة درس ألقاه عام 2013 بجامعة أفينيون وبلاد الفوكلوز.

كلود ريجي: المسرح روح العالم

لور أدلر

ترجمة: يوسف الريحاني

 

قمة جملة شهيرة تتردد بين نخب فرنسا مفادها: ما من نسختان من كلود ريجي! والحق أن لا أحد يختلف حول أن هنالك كلود ريجي Claude Régy واحد استطاع من الهامش أن يمحق التمثيل وكل مكونات المسرح المعروفة؛ مرتقيا بهذا الفن إلى مصاف الممارسة الروحانية الخالصة، ومعيدا تشكيل مفهوم معاصر له ينزاح عن التصورات البريختية.

ولد هذا الفنان الذي قلما يجود به الزمان في عام 1923 وتوفي في 26 ديسمبر 2019؛ ما يقارب قرنا من الزمان هو عمر هذا الفنان الطليعي الذي لم تنقطع يوما صلته بالمسرح؛ بحيث ظل قادرا على إدهاش جمهوره حتى لحظة وفاته. فبعد أن مر من أقسام التمثيل التقليدية سيجد نفسه متورطا في الإخراج بمحض الصدفة، حينما أقدم على عرض أولى أعماله سنة 1952؛ ولكنه بقي في الظل دون أن يعيروه أي اهتمام حتى العام 1968 عندما سيقدم "العشيقة الانجليزية" L’amante anglaise ل مارغريت دوراس Marguerite Duras وكانت بحق الحد الفاصل بين المسرح الضد/ العبث Théâtre de l’absurde والمسرح المعاصر Théâtre contemporain. في كتابه الأول (مساحات مفقودة) Espaces perdues  يصف ريجي هذه التجربة التي شكلت ثورة في المسرح الفرنسي المعاصر بقوله: «عبر هذا العرض "المثالي" حول الفراغ بدأ الجمهور في ترك القاعة أثناء العرض. وثمة كتابات بدأت في الظهور قائلة بأن هذا ليس بمسرح. وكان ذلك كله مؤشرا جيدا»

تميز هذا المبدع بالاقتصار في اشتغاله على الكتابات المعاصرة وليس الكلاسيكية؛ فكان بذلك سببا في تعريف العالم بكتاب جدد صاروا اليوم الأكثر حضورا على الخشبات العالمية، وفي مقدمتهم: بيتر هاندكه Peter Handkhe وهارولد بينترHarold Pinter  وديفيد هارور David Harrower  وجرجوري موتونGregory Mouton  وبوطو ستراوسBotho  وليزلي كابلان Leslie Kaplan. كما كان سببا مباشرا في الشهرة العالمية ل: سارة كين Sarah Kane  ويان فوسJon Fosse  وآرن ليكرArne Lygre  . إلى جوار ذلك فقد تميز أيضا باشتغاله على النصوص الروائية وخاصة أعمال مارغريت دوراس وناتالي ساروت Nathalie Sarraute والنرويجي تارجي  فيساس Tarjei Vesaas أو على قصائد لشعراء مثل فرناندو بيسوا Fernando Pessoa وجورج تراكلGeorg Trakl  الذي كان آخر التجليات الروحانية التي قدمها مسرحيا قبيل وفاته وهو في الرابعة والتسعين من عمره[i].

قال عن نفسه في إحدى حواراته: «أعتقد بأنني قد ساهمت بقسط في تطوير المسرح الفرنسي والفضل الكبير في ذلك يعود لكتابات مؤلفين معاصرين كمارغريت دوراس وناتالي ساروت. لقد قدمت (العشيقة الانجليزية) التي كانت بمثابة ثورة في الظل، ومن خلالها سلطت الضوء على أشكال أخرى للكتابة الدرامية مخالفة للبريختية التي أفسدت الإبداع. ينبغي أن نضع في الاعتبار بأنني قد مُنعت من العمل لفترة من قبل برنار دور Bernard Dort المنظر والمخرج المسرحي البريشتي لأنني وبدافع من قناعاتي الطاوية لم أعر أي اعتبارا لمسألة شحن أعمالي بأية رسائل.»

أخرج كلود ريجي للمسرح أكثر من ستين عملا لم يسمح بتصويرها بالفيديو أو نقلها عبر شاشات التلفاز، والاستثناء الوحيد تحقق مع المخرج السينمائي ألكسندر باري Alexandre Barry الذي أجاز له كلود تصوير عرضه (رجل بلا هدف) Homme sans but عن نص للمؤلف النرويجي آرن ليغر سنة 2007 وهو العرض الذي كان سببا في شهرة هذا المؤلف عالميا. لكنه بالمقابل عمد إلى نشر العديد من الكتب الرائعة التي تضمن بعضها أفلاما وثائقية عن تجاربه الإخراجية، ومقاطع مختارة من بعض أعماله على المسرح.

والمحاورة مضمون هذا المقال والتي أدارتها المفكرة البارزة لور أدلر Laure Adler هي واحدة من اللحظات النادرة التي فتح فيها هذا الناسك صدره للجمهور؛ حيث تحدث عن تصوراته وعن مساره الطويل الذي أفضي به إلى محق المسرح بالشكل الذي فتحنا عليه أعيننا؛ مثلما أجاب عن أسئلة الحاضرين باقتضاب وتركيز شديدين. وفي هذا المقام، يسعدنا أن نخص قراء مجلة (الكلمة) بترجمة كاملة لهذا اللقاء القيم الذي احتضنته جامعة أفينيون وبلاد الفولكوز (وهو اسم المقاطعة التي تعد مدينة أفينيون عاصمة لها) على هامش مهرجان أفينيون لسنة 2013؛ والذي صدر في كتاب عن منشورات هذه الجامعة ضمن سلسلة Entre-Vues التي تستضيف في العادة رموز الفكر والفلسفة والفنون الفرنكفونية. على أمل أن يسهم في تعميق الحوار حول آفاق المسرح العربي الذي يبدو اليوم عاجزا عن فهم التحولات الحاصلة في وسائل إنتاج وترويج المعرفة.

المسرح: روح العالم
لور أدلر. إنه لمن عظيم الشرف أن نحظى باستقبال كلود ريجي برحاب جامعة أفينيون، وهو الذي وقع على حضور قوي بدورة مهرجان أفينيون 2013. من اللافت للنظر أيضا أن الفيلم المخصص حول تجربته بعدسة السينمائي ألكسندر باري قد حظي بمتابعة واسعة واهتمام كبير من لدن كل الفنانين الذي حضروا لهذه الدورة لتقديم أعمالهم المسرحية والسينمائية. عزيزي كلود، لن يبارح سؤالي الأول مساحة التحديد اللغوي أو المهني لهذا التوصيف الغامض "مخرج مسرحي"؛ هل كانت لهذه المهنة عند بداياتك نفس الدلالة والإسناد اللذين يقترنان بها اليوم؟

كلود ريجي: سيكون من الصعب أن أتصدى لمثل هذا السؤال؛ فما هو مؤكد أنني في بداياتي الفنية كنت على جهل تام بما يمكن أن تعنيه كلمة "الإخراج المسرحي" أو ما قد تتضمنه من معان ودلالات، بل إن انجذابي للمسرح في حد ذاته يظل مثار غموض وإبهام؛ حتى هذه اللحظة لا زلت أجد نفسي عاجزا عن تفسير سر هذا الانجذاب. فأنا لم أكن أتصور مطلقا بأنني سأتخصص في الإخراج المسرحي بالذات، خصوصا وأنني بدأت مساري بارتياد أقسام للتمثيل، واليوم أدرك جيدا بأن مهنة الإخراج المسرحي لا تتوافق في شيء مع ما أقوم به، إذ أنني عمدت تقريبا إلى إلغاء كلي لمفهوم "الخشبة"، وكسر قواعد المعمار المسرحي، مثلما استغنيت تماما عن "الملابس" و"الديكور"؛ وعن معايير الإخراج المتعارف عليها؛ في الحقيقة،  يتعلق الأمر بالنسبة لي بمفهوم زئبقي لم يعد له معنى محدد وثابت.
غاية ما أسعى إليه هو الاشتغال على الكتابة باعتبارها العنصر الأهم من بين كل المكونات الدرامية الأخرى للتمثيل، ولكي أكون أكثر وضوحا فحتى هذا الأخير أي "التمثيل" ليس مفهوما متناغما ومتلائما مع طبيعة التجارب التي قمت بها في المسرح. في اعتقادي لا يتحقق التمثيل إلا تخييليا أي في ذهن الجمهور

لور أدلر. كيف تبلور هذا المسار؟ كلنا على دراية تامة بأنك ولجت المسرح من بوابة الأعمال الكلاسيكية، في اعتقادي المتواضع يجوز لنا نعت الأمر كذلك، ثم وبشكل تدريجي بدأت في الانفصال عن الأطر الكلاسيكية للمسرح؛ فهل كانت تجربتك مع مارغريت دوراس هي الطفرة الحاسمة في إحداث هذه القطيعة مع الأطر المرجعية والتقليدية للإخراج المسرحي؟

كلود ريجي. هذا من دون أدنى شك، فأنا مدين لمارغريت بهذه الانعطافة المفاجئة التي غيرت جذريا من طبيعة عملي ورؤيتي للمسرح، يمكنني أن أوجز ذلك في حكاية سبق وأن رويتها مرارا، ولكنها مع ذلك لا تزال تحتفظ بعنصر الدهشة. تعرفت على أعمال دوراس الروائية وأنا لا أزال مساعد مخرج بإحدى المسارح، ثم فوجئت ذات يوم بحقيقة تأليفها - إلى جوار أعمالها الروائية- نصا للمسرح بعنوان "جسور السين والواز" Les viaducs de la Seine et Oise؛ دون تردد طلبت منها حق إخراجه وذلك ما تم بالفعل، وقد كانت في البداية مأخوذة بالتجربة ومواظبة على حضور البروفات.

لكن المحصلة لم تكن كذلك لأن هذه التجربة بينت بالملموس بأن الانضباط الصارم لقواعد المسرح المتعارف عليها: تقطيع الفصول والمشاهد، اعتماد المناظر المتعاقبة، توزيع الأدوار على الشخصيات، وكل ما له صلة بالخضوع لما يمكن اعتباره قواعد منظمة للفعل المسرحي جاء بنتيجة محبطة، ما اعتبرته نكوصا في تجربتها الإبداعية. لذلك، ستقوم بحذف هذا النص المسرحي من ذخيرتها لفترة طويلة؛ ولو أنه في أواخر عمرها سيعود للظهور في بيوغرافيتها بعد أن ظل مغيبا لفترة طويلة جدا. بعد هذه التجربة ستعمد إلى تأليف رواية "العشيقة الانجليزية" L’amante anglaise التي كانت حول نفس موضوع المسرحية أي عن جريمة تقع بنهر السين ومنطقة الواز.

وهنا ينبغي أن نمعن النظر جليا في هذه المفصلة الحاسمة. إذ بمجرد تخليها عن شكل المسرحية وعودتها للرواية بادرتني قائلة: ينبغي أن تقرأ "العشيقة الانجليزية" L’amante anglaise، أعتقد بأننا يمكن أن ننجز من خلالها المسرح الذي نريد. كان غربيا جدا أن تعود إلى كتابة الرواية ثم نقوم بعدها بمسرحة الرواية؛ ولكن ذلك كان هو الثورة الحقة، لأنه ومن خلال هذه التجربة لم يعد ثمة هنالك من مسرحية؛ إذ كان الأمر يتعلق بمجرد حوارات – سلسلة من الأسئلة والأجوبة–  خلقت انطباعا أوليا باستحالة إخراجها للمسرح؛ لم يكن هنالك من شيء قابل لأن يعرض أو أن يمثل.

الاكتشاف الثاني الذي شكل عاملا مؤسسا في هذه التجربة تمظهر في وجود ممثل جالس على مقعد، أو بالأحرى ممثلين على نفس المقعد، وكان هنالك ثالث هو المحقق (الذي جاء قريبا من شخصية المؤلف) يتواجد بالصالة وسط الجمهور. لم يكن هناك عرض بالمعنى المتعارف عليه؛ أو بالأحرى كنا إزاء عرض مستفز وباعث لردود أفعال غريبة بين الجمهور الحاضر. لقد أقبل علينا هذا الجمهور ليحكي عما شاهده في هذه التجربة ولم يكن من وجهة نظره سوى صور جد مقتصدة؛ وكنا لنصدق بأن ما شاهده الحضور هو حقا فيلم سينمائي، لولا أنه لم تكن هنالك ولو صورة واحدة في هذا العرض، فقط ممثل ثم ممثلة جالسان معا على نفس المقعد، وممثل ثالث وسط الجمهور، الذي لم يكن لينتبه أصلا لوجوده بينه، في الصالة. لم يكن هنالك من شيء يستحق المشاهدة ومع ذلك فقد شاهد الجمهور شيئا ما. لحظتها  تولد لدينا تصور معين بخصوص هذا الذي اعتقد الجمهور بأنه قد شاهده والذي لم يكن سوى صور –تخيلات- ولدت من رحم الكتابة.

تلك في اعتقادي هي نذر وتنبؤات مارغريت دوراس، أنها بوأت الكتابة في صدارة مكونات المسرح. منذ ذلك الحين، صادفت العديد من المحاولات التي تندرج ضمن هذا التصور؛ كان ذلك عندما أخرجت مختارات من الكتاب المقدس ترجمها هنري ميشونيك Henri Meschonnic. شد انتباهي وقتها حديث هذا الأخير عن تمسرح متأصل في اللغة، لأن ذلك كان يعني بأن اللغة تتضمن في نواتها أدوات غامضة وتقريبا لا مرئية للتمسرح؛ هذا التمسرح التي تجسد من خلال "العشيقة الانجليزية" هو ما جذب انتباهي، فعملت ما أمكنني لاحقا على فك شيفراته حيثما وجدت إمكانية لتحققه.

كان من اللافت أيضا عندما أخرجت أولى أعمال بيتر هاندكه Peter Handke (وأود الإشارة هنا إلى أنها ليست أولى مسرحياته بل الثانية، وإنما أول ما أخرجت له) وقد جاءت بعنوان "الامتطاء على ضفاف بحيرة كونستانس" La Chevauchée sur le lac de Constance أن أكتشف بأن هاندكه  Handke كان في طليعة أولائك الذين جاهروا مبكرا بمعارضتهم العنيفة لتعاليم بريشت Brecht الرائجة وقتها؛ إذ صرح وبدون مواربة بأن الكتابة للمسرح ليست مرغمة على تحميل أية رسائل، بل ليست مرغمة على أي شيء على الإطلاق، بقدر حاجتها الماسة لأن تكون حرة؛ وكنا نلحظ هذه الحرية وهذه القوة من خلال النص الذي قدمناه له بساحة الشرف والمسمى "عبر القرى" Par les villages

لور أدلر. العمل الذي أخرجته بنفسك منذ خمسة وعشرين عاما؟

كلود ريجي. أجل قمت بإخراجه منذ ربع قرن

لور أدلر. وكنت بذلك أول من قدم هذا الكاتب بفرنسا

كلود ريجي. أجل، ولكنني كنت مثلما أشرت سابقا قد قدمت له مسرحية  "الامتطاء على ضفاف بحيرة كونستانس" وأيضا "الرجال غير منطقيين في طريقهم للانقراض" Les gens déraisonnables sont en voie de disparition؛ كان هاندكه هو الآخر واحدا ممن بوؤوا اللغة طليعة اهتماماتهم.

بعد هذه الوثبة من دوراس مرورا بمينوشكين Meschonnic ووصولا إلى هاندكه، سأقوم لاحقا بقفزة مماثلة داخل الزمن، وكان ذلك عندما اكتشفت النص الرابع ل سارة كين Sarah Kane بعنوان " توق" Manque وهو العمل الذي جسد ثورة في مسارها الإبداعي؛ من المهم الإشارة إلى أن مسرحياتها الثلاث الأولى تضمنت صورا مفرطة في عنفوانها: أياد مبتورة على الخشبة وجردان تقوم بقرض هذه الأطراف .. وكانت سارة كين قد استلمت فجأة لفكرة عرض مثل هذه المشاهد العنيفة باعتبارها تندرج ضمن نطاق التوهيم. كانت تود لهذه المشاهد العنيفة أن تنبثق من النص، وهذا بالضبط ما ينسجم والثورة التي سبق وأحدثتها دوراس من قبل.

ففي مسرحيتها "ذهان 4.48" Psychose 4.48 وكانت آخر أعمالها؛ لانها انتحرت مباشرة بعد كتابتها، قامت سارة كين بتدوين جملة تنبؤية جد مقتضبة جاء فيها:

(لا شيء سوى كلمة على بياض صفحة وبعدها سيكون هناك مسرح) إن ما ظل يدهشني على الدوام هو صيرورة وحدات هذا الفكر الجذري الذي تجسد عبر مختلف هذه الأعمال التي صادفتها طيلة مساري، ولكن من دون أن أنتبه وقتها إلى تضمنه بذرة انقلابية ستغير من طرق تناول الفن المسرحي برمته. يمكنني القول بأنني ومنذ ذلك الحين لم أعد أعتبر نفسي مخرجا لأعمال على المسرح، فما أسعى للقيام به هو تلقين الممثلين كيفية إلقاء هذه النصوص بنفس الطريقة التي يتم بها إنتاج الصور؛ صور ذهنية مقترحة على الجمهور؛ وتنبغي الإشارة هنا إلى أن جسد الممثل يصير عنصرا حاسما: وأقصد بذلك "صوت الجسد"؛ ومن هذا المنطلق يصبح المتفرج هو صانع العرض البصري، بما أن مكونات وعناصر هذا العرض لا تتحقق إلا في ذهن المتفرج. لهذا السبب ينعدم في أعمالي أي شكل من أشكال التمثيل، فليس هناك سوى ما يمكن للكلمات أن تقدحه من صور في المخيال.

هذا هو جوهر اشتغالي حتى الآن. واليوم أجدني على عتبات مرحلة أتشبت فيها بتجاوز مفهوم المعنى. أي أن ما نفهمه، وما قد يفهمه الكائن البشري يظل في النهاية محدودا للغاية. سبق وأقر بهذه الحقيقة الكثير من الفلاسفة والشعراء. علينا أن نبحث عن سبل لإدراك ما لا يُدْرَك، والتعبير عما يُتَعذر التعبير عنه. أن نبحث هناك في ما وراء الواقع؛ حيث المحسوس المٌتَعذر عن الإمساك

أجد نفسي مشدودا يوما بعد آخر نحو هذا اللا مُدْرَك من خلال المعنى الظاهري، مشدودا نحو ما لا يمكن إدراكه إلا من خلال إعمال الذهن. وهنا نقف عند درس تلقيته على يد كاتبة كبيرة هي واحدة ممن اشتغلت على أعمالهم وأقصد ناتالي ساروت صاحبة هذه العبارة التي أوصي بحفظها في الصدور. عبارة علينا ترديدها عن ظهر قلب لأن كل كلمة فيها تكتسي معنى بليغا؛ كتبت ساروت قائلة:

(تسعف الكلمات في تحرير مادة صموتة، هي أكثر رحابة من الكلمات نفسها)

هذا بالضبط ما دأبت على الاشتغال عليه في كل مرة. أقصد هذه "المادة الصموتة" المنبثقة من رحم الكلمات ولكنها في نفس الوقت تتجاوز حدود كل الكلمات، لأنها أكثر رحابة من أية كلمات والأكثر قدرة على التعبير عن فكرة مهمة ألا وهي قصور اللغة ومحدودية قدرتها على التعبير. هي "مادة صموتة" ولكنها أيضا مادة "لا مرئية".

يتجلى الدرس الأعظم في أن مكمن القوة في اللغة إنما في هذا القصور عن التعبير؛ ومن دون ذلك ستغدو الأشياء الأكثر غموضا في منتهى الوضوح، وقابلة لأن يعبر عنها. بسبب محدودية التعبير في اللغة أضحى لزاما علينا البحث عبر اللغة- والتعبير هنا لمالارميه- عن سبل لوصف ما لا يوصف. يتعلق الأمر بقدح محركات للتخييل عبر أصوات مجهولة، ما قد يسمح بفهم ما لا يُفْهَم. إن غياب المعنى هو بداية إبداع معنى جديد هو في طور التشكل؛ ولا ينبغي على الإطلاق أن نتهيب مما نعتقد بأنه مستعصٍ على الفهم، أو نتغاضى عنه بذريعة أنه غير مفهوم.

وبما أنه يتعين علينا في مثل هذه اللقاءات أن نتحدث عن دروس، فإنني أعتقد بأن هذا كان هو الدرس الأعظم الذي استخلصته من كل المؤلفين الذين صادفتهم خلال مساري الطويل؛ وأشدد من جديد على أن كل ما تعلمته من هذه المهنة كان خلاصة لقائي بهؤلاء المؤلفين، مع التنصيص بأنني وطيلة مساري الممتد على مدار ستين عاما لم أتعامل فيها سوى مع مؤلفين معاصرين. إذن صلتي بهذه الكتابات المعاصرة شكّل خير معين لي على زعزعة أسس هذا الذي اعتقدنا بأنه المسرح، ومن ثم ما توهمنا في العموم بأنه الإخراج المسرحي.

صادفت ذات يوم عبارة  لنيتشه Nietzsche ظلت ملازمة لي، يقول فيها:

(الفوضى، أتكون هي النظام الخفي؟).

هذه العبارة شكلت لي على الدوام نبراسا كاشفا؛ يضيف نيتشه  Nietzsche قائلا:

(أينبغي لروحك أن تفيض بالفوضى حتى يولد منك النجم الساطع ؟).

صورة النجم الساطع بدورها ظلت دوما لحمة من خطاباتي. ولكن الأمر مع ذلك يظل غامضا فما هو هذا النجم الساطع؟ هو كل ما ينفتح على شرفات المتخيل، وهذا هو الشعر الخالص.

وهو أيضا علامة على انعدام الفارق بين الشعر والفلسفة، وبشكل خاص بين العلم والشعر. هذه قناعة تترسخ في نفسي يوما بعد يوم، كنت دوما مأخوذا بفزيائيين مثل ميشيل كاسي Michel Cassé وبيولوجيين كوانتيين مثل جان كلود أميزينJean-Claude Ameisen  وهم يستشهدون في مؤلفاتهم العلمية بأبيات شعرية. يحيل كاسي باستمرار على رامبو. إذن، فصورة النجم الساطع إنما هي صيغة نظم شعري والأهم أنها كصورة شعرية شكلت من رحم الفوضى. يقول نيتشه:

(ألا ينبغي لروحنا أن تفيض بالفوضى حتى يولد فينا النجم الساطع؟)

أنا على إيمان تام بضرورة هذه الفوضى التي تجسد حالة ارتباك العالم قبيل ميلاد الإبداع.

لور أدلر. المسرح من وجهة نظرك هو صيغة تجريبية؛ وعلى العموم فنحن عندما نحضر لعروضك نجد أنفسنا مدعوين بالدرجة الأولى إلى تحقيق انفصال عن العالم الخارجي، حتى نتمكن من الاتصال بعوالم الخشبة عبر وساطة الممثلين الذين سيتكفلون بإيصال النص بمعانيه المتعددة. في رأيكم بماذا ينبغي لنا أن نتسلح كجمهور قبل تواصلنا مع الصيغة التي تقترحها للمسرح ؟

كلود ريجي. لا أدري، حقيقة ليست لدي وصفات جاهزة وليس مطلوبا البتة التوفر على أي من هذه الوصفات. ما يتملك إحساسي هو ميلي للاعتقاد بإمكانية وضع اليد على القوة الفاعلة للصمت. هذه المادة الصموتة الأكثر رحابة من الكلمات والتي تحدثت عنها ساروت موجودة في طيات الكتابة، إنها العنصر المكمل للكتابة،  وهي أيضا ما وراء هذه الكتابة؛ هذه المادة الصموتة لها حياتها الخالصة. كانت دوراس تكتب الصمت. كما أن بينتر بدأ بكتابة الصمت في المسرح، وقيل لي بأن ديدرو Diderot هو الآخر سبق  ضمن كلمة صمت في إرشاداته المسرحية. إذن كل هؤلاء الكتاب ودوراس وأيضا ساروت معهم أوردوا كلمة الصمت في أعمالهم. ماترلينك Maeterlink كتب حول الصمت، وهو في ذلك قد سبق أرطو Artaud زمنيا.

لقد ميزت في العمل المسرحي بين ثلاث صيغ للصمت:

هناك صمت يسبق إلقاء الممثل وهو بمثابة إعلان عن تحولات في الخطاب، فالعبارات لا تصلنا بنفس الشكل عندما تطول أو تقصر فترة الصمت قبلها. وفي نفس الوقت فإنه من الواضح أن الصمت الذي يلي نهاية تركيب لغوي، هو بمثابة وعاء يحوي رنين الملفوظات، بحيث يتيح لنا الإنصات إلى صدى كتاباتنا الذي لم يقع تدوينه. إذن هناك هاتان الصيغتان القيمتان للصمت لتوظيفهما في عملنا مع الممثلين.

لكن هنالك صيغة ثالثة أعتبرها أعلى قيمة: وتتمثل في القدرة على الإلقاء دون طمس الصمت، بمعنى كيفية اصطناع ضجيج للكلمات وفي نفس الوقت إسماع الصمت، تماما مثل الموسيقى التي تخترق أصواتها المسموعة جدار الصمت.

مثل هذا الاشتغال الموسيقي نادرا ما يتم توظيفه في المسرح، يتعلق الأمر بعمل متكامل وجب الاشتغال عليه مع الممثلين؛ بيد أن حضور الصمت قبل النص أو بعده أو ضمنه هو بدوره (عبر رنين الكلمات) يقربنا من لغة الموسيقى لأنه يحقق الاشتغال على أصوات وإيقاعات الكتابة.

في المسرح من المهم بمكان أن نجرب كيفية مخاطبة جمهور ما من خلال لغته التي لم يتمكن بعد من إدراك جوهرها. تداخلات الصمت هذه حاسمة وأعتقد بأنني قمت بتجريبها بعمق في آخر عملين قدمتهما للمسرح بالتوسل بكتابة فيساس Vesaas وخاصة في عرض "القارب مساء" La barque le soir. لقد طلبت حينها من القائمين بإدارة المسرح أن يحيطوا الجمهور علما بضرورة ولوج القاعة في صمت مطبق وأن يستمروا في هذا الصمت حتى بداية العرض. وكانت الاستجابة لهذا الطلب تتم بعناية فائقة من الجمهور الحاضر.

أعتقد جازما لو أن الجمهور عوض انهماكه في أحاديث نمطية انخرط في صمت داخلي وتحقق الصمت داخل قاعات المسرح قبل بداية العرض، فإن كل واحد سيكون مهيئا أكثر لسماع أشياء أخرى غير المعنى الجاهز للكلمات. لم نولي بعد قوة الصمت الإبداعية ما تستحقه من درس واهتمام. أشار ماترلينك Maeterlink إلى أن أي عشيقين لم يصمتا معا في نفس الآن فمن المؤكد بأنهما لا يعرفان بعضهما البعض. الصمت مرتبة لغوية وليس مجرد توقف عن الحديث كما يرى ميشونيك Meschonnic.

لور أدلر. صناعة المسرح، أتمثل بالنسبة إليك تجربة ثقافية، جسدية أم روحية أو كل هذا مع بعض؟

كلود ريجي: سأقول هي تجربة روحانية بالأساس، ولكن ينبغي الوقوف هنا عند المقصود بالروحانية، لأن الكنائس استبدت بالحجر على ما هو روحاني. من وجهة نظري للروحانية ارتباط وثيق بكل ما له صلة بعالم الروح، ومن ثم بالمتخيل، وعندما أقول المتخيل فإنما أشير بالضرورة إلى كل ما له علاقة بالإبداع. الروحانية حاضرة لدى كل المبدعين، وأيضا لدى كل الأحياء بشرط أن تكون أرواحهم متيقظة.

لور أدلر. أنت بذلك تتفق مع مارغريت دوراس التي ترى بأن كل إنسان هو بالضرورة كاتب أو بإمكانه أن يصير كذلك، لو أمعن التوغل في دواخله؟ يبدو وكأنك بدورك تؤمن بإمكان أي كائن ابتكار تجربته الروحانية الخاصة؟

كلود ريجي. بالطبع، هذا في اعتقادي لحمة من صميم احتياجات الأحياء، مثل الشراب والطعام والحركة. هو بالأحرى جزء من تكوين البشر؛ لذلك لا علاقة للروحانية بالتدين من وجهة نظري.

إنها حياة الروح، والانغماس فيما يبدعه المخيال.

لور أدلر. كيف يتحدد اختيارك للنصوص. لأنك منذ قليل تحدثت عن ناتالي ساروت التي سبق وأخرجت أعمالا من تأليفها، وعن بينتر الذي كنت أول من عرفنا به، وأيضا عن ميترلانك. ثم شيئا فشيئا بدأت تتحول نحو جيل جديد من الكتاب. كيف تدنو منك الكتابات والنصوص؟ وكيف يتحدد اشتغالك عليها وهنا أقصد بالتحديد كيفية اشتغالك على المتعدد حتى تنتهي في بروفاتك إلى مفرد بعينه؟

كلود ريجي: الأمر يتخذ في كل مرة مسارا مختلفا، ولكن غالبا ما تفضي تجربتي مع مؤلف بعينه إلى اكتشاف مؤلف آخر. لكي أوضح هذه الفكرة بالملموس أضرب مثالا بما حدث لي عند تعاملي مع يان فوس Jon Fosse الذي كان معروفا وقتها كروائي وليس ككاتب مسرح – معروف للجميع بأن هذا الكاتب كان لا يخفي كرهه للمسرح، بحيث سبق ورفض كل العروض الذي اقترحت عليه لكتابة مسرحية للعرض- وعندما تعرفت على يان فوس الذي صار اليوم واحدا من أقطاب الدراما الأكثر حضورا على مسارح العالم، أقول عند تعاملي مع كتاباته أدركت في التو واللحظة بأنه لم يكن يستمد ألقه ككاتب، وهو بالفعل يمتلك موهبة الكاتب الحقيقي، إلا باستيحاء من مواطنه النرويجي تارجي فيساس Tarjei Vesaas. بهذا اكتشفت هذا العبقري الذي بدأت أقرأ أعماله الروائية الشهيرة مثل "الطيور" و"قصر الجليد"، ثم بعد ثلاث سنوات أخرجت للمسرح مختارات من روايته "الطيور". وخلال السنة الماضية أخرجت مقطعا من آخر كتاباته بعنوان "القارب مساء" La barque le soir. إذن عملي مع يان فوس ضمن مغامرة اكتشاف العالم النورديكي -كتاب الشمال- كان السبيل لاكتشاف أنساق أخرى للتفكير. ولعل فيساس يظل خير نموذج لهذا الانفتاح على ما كل هو مبهم والذي أعتبره إشارة إلىى أقاليم بعينها تتسم بالعمق والغموض اللذين في اعتباري هما أرقى صورة للكائن البشري.

كتابات الشمال هاته هي التي ساعدتني كثيرا على إحداث تحول جذري في طريقة اشتغالي وفي كيفية فهم النصوص، وبالضرورة كيفية إخراجها للمسرح وسبل أدائها مع الممثلين.

لور أدلر. من الضروري هنا الحديث عن الإضاءة، لأن المتعمق في أعمالك لا شك تستوقفه مسألة الاقتصاد التدريجي في الإضاءة؛ فنحن كمتفرجين نغوص في نوع من العتمة التي تعزز وتنمي لدينا محركات التفكير، ما يسعفنا في الإصغاء لنص يبدع عالما شعريا في عقلنا الباطن. فهل هل هذه العتمة الخادعة ما دامت غير تامة الإظلام وزلنا تبين من خلالها ملامح ممثليك؛ هل هي اختبار لمخيالنا؟

كلود ريجي: توجد في اعتقادي علاقة وطيدة بين الظلال والصمت. عند تقديمي لـ"ترنيمة اليم" ode maritime لفرناندو بيسواFernando Pessoa  (وهو عرض قدمته منذ سنوات كما عرض بمهرجان أفينيون لسنة 2009) اكتشفت بأنه كلما كانت الإضاءة شديدة الخفوت على الممثل، كلما كان ذلك مدعاة لتوسيع مدى لا محدود من المخيال لدى الجمهور. بمعنى ليس مهما أن يتبدى لنا بوضح هذا الممثل عندما يؤدي، ولكن الأهم من ذلك هو كيفية قدح زناد التخييل لدى الجمهور، عبر طريقة معينة في إلقاء النص بغية تمكينه من تمثل كل ما هو غير مدون، ولكنه كامن بين فراغات الكتابة. يتعلق الأمر بنوع من المرور مما هو مدون نحو ما هو مضمر في النص ذاته؛ هذا بالضبط هو ما يكسب الكتابة الدرامية قيمتها النوعية.

ولعل الإضاءة الخافتة بالذات هي ما يُحَين هذه المادة المستحيلة على الخشبة. إن هذا التوتر الذي أنميه بين الظل والضوء يظل في حد ذاته أداة لتجريب كل العلاقات المتوترة بين الأضداد؛ وهو ما يسمح لنا بأن نطأ أقاليم وحمى غير مطروقة بالمرة.

لور أدلر. يمكن القول بأن هنالك أسلوب ريجي في الإلقاء، وطريقته الخاصة في إخراج الكلمات على المسرح، أسلوب فريد ومعروف منذ وقت طويل؛ خصوصا منذ إخراجك لأعمال ميترلانك، وربما قبل ذلك؛ أسلوب ما فتئ يتطور ويتحول. ما الذي تتوخاه من ممثليك ؟ وهل تدفع بهم نحو الاندماج الكلي في النص ثم إيصاله ليس بالضرورة عبر البطن وإنما بالتوسل بالمخيال ؟

كلود ريجي: ما أسعى إليه مع الممثلين هو أن يعيدوا إنتاج النص واستخدامه بشكل مغاير بغية إيصال المعنى. يتعلق الأمر بتطوير حساسية نصية تعمل على تحرير المتخيل؛ ولأجل هذا فأنا غالبا ما أتوسل بما أصطلح عليه بـ"ما فوق التلفظ" Sur-articulation؛ أي كيفية إلقاء كل مقطع بغية التحيين السمعي لخصوصية اللغة، وأشدد هنا بوجه خاص على الجناس وتكرار الأصوات. فعل "ما فوق التلفظ" هو ما يتيح إنتاج نسق سمعي للنص عبر لغته المختلفة؛ ومن ثم يشكل تحولا داخل اللغة نفسها.

لأجل ذلك أسعى في عملي مع الممثلين إلى إيجاد لغة ما قبل اللغة، أي لغة ما قبل ميلاد اللغة. وأحيانا أحفزهم على الوقوف عند ضفاف الكلمات في محاولة لحثهم على تمثل صدى هذه اللغة قبل ميلادها. بدأت هذا النوع من الاشتغال كما لا زلت أذكر مع عرض "مأثورات الحكيم" Paroles du sage وبعدها بدأ في التطور.

يتعلق الأمر بدفع الممثل إلى العمل وكأنه بصدد ابتكار لغة جديدة وليس التطبيق على لغة جاهزة. يندرج هذا كله ضمن أساليب وتصورات لا تزال غير مطروقة، وقلة هم الممثلون المنذورون لمثل هذا الاشتغال؛ لأنه لا يتم في الغالب إعدادهم لمثل هذه الأدوار في الفضاءات التي تزاول مهنة التمثيل، فقط فئة قليلة من المبدعين من يمتلكون القدرة على اختبار هذه الفوضى التي تسبق ميلاد الإبداع بتعبير نيتشه.

لور أدلر. ينبغي التحلي بتجربة فقدان المعارف السابقة والتخفف منها، بغية اكتشاف أخرى جديدة

كلود ريجي: هذا من الأمور اليسيرة خصوصا بالنظر إلى سقم وضحالة المعارف المتداولة التي يتم تلقينها والتي هي فاقدة لصعيد صلابة متماسك، هذا هو مكمن العلة التي أصابت اللغة وحكمت على تجربة الكائن البشري بالهزال؛ في الحقيقة يتعلق الأمر بإعادة تأهيل جديد للإنسان.

لور أدلر. هذا كلام شاب غاضب

كلود ريجي: شاب في خريف العمر قضى ستين عاما من حياته يشتغل على الكتابة، وعلى فك طلاسمها، وسبر أسرار الأداء لدى الممثلين.

لور أدلر. ومع ذلك ففي اختيارك للنصوص يمكننا الوقوف عند تيمات مشتركة مثل مقاربة فكرة الموت، أو القولبة كما لو كنا بمعزل عن الحشد والقطيع. لماذا هذا الانجذاب نحو كل ما هو مختلف، ونحو كل أولئك الموسومين باللاعقلانية؟

كلود ريجي: لأن العقلانيين هم مصدر إزعاج بالنسبة لي، ولست مقنعا بتاتا بالتعامل مهم وهم المفنقدون للقدرة على الإبداع. إنهم عقلانيون وبسبب ذلك فهم قانعون بالمكوث داخل حدود وأسوار العقل، لذلك لا مجال أمامهم للابتكار والبحث، ومن ثم امتلاكهم لأي شيء ذي ارتباط بحيوية الحياة.

لور أدلر. تساءلت مرارا عن أسباب انجذابك لفكرة الجنون؟

كلود ريجي: هذا صحيح فلو تأملنا الآن مسارا يربو على الستين عاما من العمل والتجريب، فسوف ندرك بأن الجنون والموت حاضرين بقوة في كل النصوص المركزية التي أخرجتها للمسرح. كانت إيما سانطوس Emma Santos أول معتلة نفسية أشتغل معها وكان ذلك قبل عملي مع سارة كين؛ هما معا انتحرتا مثلما كتبتا عن فكرة الانتحار، ما جعل الجنون والموت متلازمين في تجربتهما. يميل اعتقادي إلى أن الجنون والموت هما ما يعصفان بالعقل والحياة. الجنون يقصف العقل والموت يودي بالحياة؛ إنهما يصارعان غرورهما وهذا من وجهة نظري ضروري جدا لأن حياتنا منهكة بالإفراط في العقلانية وفي عبادة ما يسمى بالتوازن النفسي.

وبخصوص الوضع النفسي كتبت سارة كين (الجنون المزمن للعقلاء)؛ حيث أولئك العقلاء الذين نعتقد جازمين بأننا نتنمي إليه،م دون أن ندرك بأننا في الأصل مجانين ومرضى نفسيين. لقد وضع الأخصائي النفسي الكبير جان أوري Jean Oury وهو رائد للنزعة المضادة للتحليل النفسي اصطلاح Normopathe وكان يعني به علم للأمراض كامن في كل حياة عادية.

لور أدلر. كيف أتيح لكم عندما أخرجتم "4.48 فصام" للراحلة  سارة كين اختراق تصورتها والتناغم مع منطقها في التفكير، لأننا وكما نذكر كنا مأخوذين بما كانت تقوله إيزابيل هوبير Isabelle Huppert  (الممثلة الشهيرة التي شخصت هذه المونودراما سنة 2002) وتمكنا بالفعل من النفاذ إلى عمق هذه العملية الذهنية. كيف إذن حددت أدوات التمثيل من جهة وكيف تمثلت النص ومن ثم سبل إيصاله للجمهور من جهة أخرى ؟

كلود ريجي: كل ذلك ما يزال لغزا حتى بالنسبة لنا، ولست على يقين من أننا تمكنا من تحقيق ذلك كله بالفعل. أتصور بأنه علينا العمل على تطوير مهارات الإصغاء. جوهر العمل الذي أقوم به هو تلقين فن الإنصات. يتعلق الأمر برد فعل سلبي، إذ علينا الحد من النشاط العقلي ولا يمكننا القيام بذلك إلا عبر الحدس. كان برغسون ينظر للحدس كرابط يجعلنا متزامنين مع كل ما هو غير قابل للتعبير عنه.

يان فوس نفسه يجد نفسه عندما يكتب في حاجة ماسة إلى خلق فراغ بداخله، والحد مع إمكانية معرفة أي شيء؛ وهذا ما أصفه بالانسحاب إلى اللا- معرفة وفق التعبير الطاوي الشهير. أن تكتفي بمجرد الإصغاء هو في حد ذاته بمثابة اتخاذ موقف. ولكن الإصغاء إلى ماذا؟ الإصغاء بلا شك لكل ما ندعوه باللاوعي. ولكن ألا يوجد هناك ما فوق اللاوعي؟ العديد من الفنانين التشكيليين والمصورين أنشأوا محترفاتهم داخل المستشفيات الخاصة بمرضى الزهايمر. ففي كتاب مصور خصص لرسومات مرضى الزهايمر نقف على أعمال مربكة للغاية تكشف لنا كل الحساسيات الحية. الذكريات على ما يبدو تظل مختزنة في منطقة ما من الدماغ. نحاول وضع الممثلين في وضع إصغاء، أي في وضع سلبي، محاولين بذلك استعادة ما هو أكثر سرية داخل النص، وأقصد ما هو غير مدون بالضرورة

لور أدلر. كيف غيرت مقاربتك للنصوص الإنجيلية من تجربتك المسرحية؛ لأننا نعتقد بأن ذلك شكل لحظة هامة في مسارك؟

كلود ريجي: هذا أمر ذي صلة بما هو ذاتي؛ فقد نشأت في بيئة بروتستانية حيث كانت تلاوة الإنجيل تقليدا يوميا راسخا، وقد ارتبطت بهذه العوالم منذ صغري، ولكن بلا شك ورغم بعض التأثيرات إلا أنني لم أهتم بالإنجيل كإنجيل في حد ذاته، وإنما انصب جل اهتمامي على ترجماته التي أنجزها هنري ميشونيك؛ الذي إلى جانب ذلك كتب العديد من الدراسات النظرية حول اللغة. فقد ذهب مثلا إلى أن الترجمة أهم ورش للتفكير في اللغة، كما اعتبر أن ترجماته للإنجيل إنما هي بغرض طرد الإله من الإنجيل. هذان السببان شكلا مصدر اهتمامي بهذه الترجمات وليس فكرة الإله، ما ينبغي معه رفع أي لبس بخصوص دواعي اشتغالي على الإنجيل. العامل الحاسم في هذا الاختيار هو اكتشافات ميشونيك حول اللغة.

لور أدلر. هل يمكننا أن نتحدث  بخصوص عملك المسرحي عن ما هو ميتافيزيقي؟

كلود ريجي: نعم، ولكن بشرط، لو تمكنا من تحديد المقصود بالميتافيزيقي، فبسذاجة التلميذ يتكون انطباع بأن الميتافيزيقا تلخص كل ما هو فوق المحسوس، وهذا ينسحب على كل ما يتعالى عن الواقع المادي، وعلى كل ما يتجاوز حدود المادة؛ ومن ثم تجاوز ما هو مادي. كل ما يتجاوز حدود الواقعي هو في حد ذاته يشكل مصدر غنى؛ هذا هو ما أعتقد به جازما.

لور أدلر. لنتحدث الآن عن عرضك "القارب مساء"؛ يستحضر النص نفسا أوديسيا وسفرا نحو ما وراء الأشياء، فعندما نصغي إليه يتولد لدينا انطباع بأننا نندمج جسديا مع الممثل، وبأننا نشرد بعيدا، وربما بلا عودة؛ أهذا ما كنت تسعى من وراءه عبر بحثك في الفعل المسرحي؟

كلود ريجي: هذا بعض من كل، وأعتقد بأننا أشرنا إلى ذلك من قبل؛ ففي كل العروض – وخاصة عرض "القارب مساء"- هنالك حضور للموت. هناك معارضة لكل من يحمل لواء الحياة والحياة لوحدها، من المهم جدا التطرق إلى هذا الجانب الموازي للحياة، فالموت هو أفضل علامة على المطلق وعلى المجهول. في هذا العرض حاولنا الحديث عن هذا المطلق المجهول، وقد يسرت الكتابة إدراك شيء يبدو أننا على إدراك تام به في دواخلنا.

لور أدلر. هل بإمكان المسرح أن يخفف من وطأة الارتياب من الموت؟

كلود ريجي: لا أعتقد بأنه علينا الارتياب من الموت، فالحياة من دون الموت لا معنى لها. أقرّ الفلاسفة منذ القدم بهذه الحقيقة، لذلك من الخطأ النظر للحياة كتعارض مع الموت، أو التورط حتى النخاع في البحث عن سعادة لا نعتقد بوجودها سوى في الحياة. وللأسف فهذه هي الفلسفة الكامنة لدى الماديين.

لور أدلر. هل يمكنك أن تحدثنا عن التجربة التي عشتها في اليابان وتمخض عنها عرض مسرحي سيقدم بمهرجان أفينيون المقبل لسنة 2014؟

كلود ريجي: في الحقيقة سجل العديد من اليابانيين تأثيرات للفن الياباني في أعمالي. لقد تعرفت على تجارب ساتوشي مياغي Satoshi Miyagui الإخراجية في باريس التي فيها اطلع هو الآخر على تجاربي. عندما قدمت إلى باريس لأول مرة وأنا مسكون برغبة العمل في المسرح، كان ذلك في بدايات ما عرف بمسرح الأمم، الذي كان نافذة على عروض من كل أنحاء العالم. وكان ذلك بمثابة إلهام مزعزع وملهم، خصوصا بالنسبة لمن هو مثلي حديث التخرج من معهد مسرحي تقليدي – مدرسة شارل ديلان.

وضمن كل هذه الهلوسات كان هنالك مسرح النو  والبونراكو Bunraku. ثم فيما بعد سأقوم برحلات إلى اليابان حيث شاهدت هذه الصيغ المسرحية في بيئتها؛ وقتها كان ساتوشي مياغي يدير مهرجانا مميزا قرب جبل فوجي وسط غابة من حقول الشاي عند المحيط: دعاني لتقديم عرض "ترنيمة اليم" لفرناندو بيسوا. وبالفعل قدمنا العرض باللغة الفرنسية. وهنا بادرني مياغي باقتراح تقديم عرض بهذا الفضاء الساحر مع فرقة محلية وباللغة اليابانية.
فكرت حينها في مسرحية "داخل" لميترلانك لأنها تتضمن قسما منفصلا بالكلمة، وآخر للصورة. ويبدو الذين يتحدثون وكأنهم وحدهم يدركون الحقيقة. هناك فتاة ماتت غرقا وربما تكون قد انتحرت، وكانت العائلة تحيا داخل منزل دون أن تعرف بهذا الموت. إنه عمل مبتكر قائم على فكرة التقسيم بين ما هو مدرك، وما هو غير مدرك، أي على خلخلة تلك الحدود الهشة بين الوعي واللاوعي بنوع من احتمالية الهواجس؛ وهو ما أعتبره نوعا من الوعي المحكوم باللاوعي. تماما كتمازج الحياة مع الموت. خططت لهذه التجربة مع الفرقة اليابانية خلال سنة 2014 لتقدم بمهرجان فيينا بالنمسا، ومهرجان كونستن للفنون ببروكسيل، ومهرجان أفينيون، وأيضا في افتتاح مهرجان الخريف بباريس.

لور أدلر. سؤال أخير: ما الذي تقوم به عندما لا تزاول مهنة المسرح، عندما لا تكون منشغلا بالإعداد لمسرحية أو لنص على المسرح ؟

كلود ريجي: أحلم وأحلم بالمستقبل، وبما أخطط للقيام به. وفي هذه اللحظة بالذات (كان عمره عند إجراء هذا الحوار 90 سنة) أفكر كثيرا في تلك القصيدة النمساوية المسماة جورج تراكل؛ حيث أقوم حاليا بقراءة متمعنة لقصائده التي هي بدورها كتابة موغلة في العجائبية والغموض، ومتسمة بفرط عنفوانها، تماما كما كانت حياة هذا الشاعر القصيرة جدا. هناك من جديد هذا التماثل بين النص وبين حياة مؤلفه. (بالفعل سيقدم كلود ريجي عرض "رؤيا وخبل" للشاعر تراكل بعد ثلاث سنوات، من إجراء هذا القاء وسيكون خاتمة أعماله وأشدها ألقا وتميزا)

لور أدلر. شكرا كلود شكرا جزيلا

 

 

[i] - يتعلق الأمر هنا بآخر أعماله المسرحية "رؤيا وخبل" Rêve et folie الذي أعده عن أشعار لجورج تراكل، وقدمه رفقة فرقته الشهيرة الأوراش المعاصرة.