تخبرنا هذه القصة عن علاقة "بنت" بأبيها المقبل على سفره النهائي، يستخدم النص المجاز القديم للتعبير عن الموت، ويصف شيخوخة البيوت التي تآكلت جدرها ودرجاتها الحجرية على مدار الزمن، كشاهد على حيواتٍ مرت خلالها، ما يجعل من النهاية الحزينة للأب بداية جديدة لابنته.

سَـــــــفَـــر

صفوت فوزي

 

مسافر أنت دائمًا، ومترقبة أنا دومًا لرجوعك. يضنيني الانتظار، وقلق خافت الوقع في قلبي يمسكه ولا يرخيه. أرقب الضوء الخافت المتسلل من خصاص النافذة. أصيخ السمع لخفق نعال الآيبين في هدأة المساء. من خلف الباب الموصد أتسمّع وقع خطاك. تعبر عتبة الباب الخارجي الحجرية، حافتها الناعمة غاصت في الأرض. تصعد الدرج العتيق، صاعدًا درجةً بعد درجةٍ. تتريث في كل طابق، تلقف أنفاسك. تصلني أنفاسك المتهدجة، رائحة يديك وهي تلمس السياج الخشبي للسلالم القديمة، يلمع سواده من القدم ومس الأيادي. هذه السلالم المبرية قليلًا، بترابها الناعم الخفيف، أخالها لا تنتهي، فتستبد بي لهفة وتطلع وخفة. تفزعني أصوات عراك القطط في بير السلم، نباح الكلاب لا يفتر في الحارة الساكنة، وهسيس الأصوات المختلطة البعيدة يأتيني متدثرًا بثوب الغموض والرهبة.

صرير المفتاح في الباب، وأنا أكاد ألمس بيدي دقات قلبي. البهجة والوجل، الفرح والتشوف، الرغبة والقلق، تجيش كلها بصدري الآن.

ينفتح الباب. تهب على المكان نسمة طرية، رائحة أعرفها جيدًا، أعشقها، ويظلني وجهك المشرق رغم الإجهاد وغبار السفر. أرتمي في حضنك الوسيع الدافئ، يضمني، يلقيني في نهر محبة لا يُعبَر. يفيض قلبي بمتعة مستغرقة صامتة، تترقرق وتمتلئ، تنفتح في الروح مسارب لا نهاية لها.

يتبسم خداه، تفيض عيناه بشجن لا أفهمه، يتهدج صوته رهيفًا حانيًا، ويداه تربتان على شعري: أملي أنتِ يا ابنتي وقوت قلبي، عكازي لقابل الأيام. فليحفظكِ الله لي، ويمد أيامي حتى أراكِ طبيبة في المعطف الأبيض. يتدفق حنانه فيسرى بلله إلى روحي. أغمض عينيَّ، أتذوق طعم كلماته، أنفصل عن العالم، ولا أرى من حولي سواه.

هأنذا -مغمورة بالبهجة المصفاة- أطبق جفني على أمنيتك الغالية، أخبئها في قلبي، في القلب من قلبي. ألتصق بك، أتعلق برقبتك، وعبثًا تحاول أمي إبعادي عنك لتستريح. تقول لي مكايدة: سيسافر غدًا، فأجيبها بكل الثقة: لكنه سيعود.

***

المروحة المدلاة من السقف -في الصالة الضيقة بحوائطها الخشنة وطلائها الباهت- تدور، تئز أزيزًا منتظمًا. الهواء يرف فوق الجالسين يتجاذبون أطراف الحديث. أبي يجلس على الأريكة ضامًّا ساقيه تحته. ملتصقة أنا به والظلال تتأرجح على وجهه الطيب. يحكي عن سفراته العديدة، بلاد تشيله وبلاد تحطه. يحكي عن الناس الغرباء والعابرين، الحزانى والفرحين، عن الشتاء والمطر، الصيف والحر والرطوبة، عن الأشجار، الطيور الهشة الصغيرة التي تتطاير بخفة ورشاقة في رحاب سماء باهتة الزرقة، عن الغيطان الخضراء المترامية، عن الأطفال، والقطارات التي أنهكها السفر والترحال. يحكي ويحكي، ساعات مقتطعة من عمر الزمن، وأنا أنظر في عمق عينيه، في عتمة أول المساء. الستارة البيضاء المتهدلة قليلًا المسدلة على النافذة القريبة لا تحجز الصخب واللغط الذي يتصاعد، ينهمر علينا مكتومًا ملحًّا لا رادّ له. يتدفق حديثه في حيويته التي لا تغيض، جسرًا رقيقًا من الحنو والود الصافي العذوبة. يداه المدخر فيهما كل الحنان، تستقران لحظة على يديّ، تتلمسان بحرص وحنو وجهي وشعري، تهباني بهجة لا توصف في كل لمسة.

أدرك على نحو خفي أن الحياة جميلة ما دام أبي. يحكي ويحكي وأنا أصغي بملء سمعي، أتشرب كلماته وأنفاسه، عندما شعر فجأة بوخزة مؤلمة في صدره. رعدة خفيفة شملته، انتفض لها جسده النحيل الضاوي. قلق غامض أنشب أظافره في عنقي. ساد الوجومُ الوجوهَ التي تحدق بذعر أبكم في ملامح الوجه المتقلصة. يتحامل على نفسه تحت وطأة ألم رازح، يتفصد جبينُه بعرقٍ بارد. استدار محنيًّا في بطء واهن، يتساند على الحوائط، يرتمي على أقرب فراش.

***

في العنبر الواسع المشبَّع برائحة الأدوية والمطهرات، على سرير بارد في الطابق الأرضي من المستشفى، وبجوار نافذة يتسلل منها ضوءٌ شحيح، كنت أتعرف على وجه آخر لأبي، وجه لا يمتُّ بصلة إلى وجهه المتورد القديم. كان العجز يلقي عليه أردِيَتَه الثقيلة الجهمة، وحسه بالمكان يترك في جسده قشعريرة باردة، وفي الروح خوف متوجس قلق، وهو يشعر بهشاشة الحياة وضآلة الإنسان.

زرقة سماوية ممتدة، أرقبها من خلف زجاج النافذة. هامات النخيل تلقي بظلالها الداكنة المتماوجة، وأبي يرقد ممددًا على سريره الأبيض في الغرفة الباردة، مثبت بجسده إبر وخراطيم تنتهي إلى أجهزة لا أعرف لها اسمًا، مغمورًا بالضوء الهادئ. يجيش قلبي بالبكاء وأحس به مشطورًا شقين، وجافًّا لن يرتوي أبدًا.

أبي، المثقل بالحكمة كسنابل قمح في موسم حصاد، طاب واستوى، العفي القادر كجمل حمول، ناء بحمله، انكسر، برك، وأنا كشجرة منزوعة من جذورها، كصَدَفةٍ ملقاة على الشاطئ، أشعر أنني مرتبكة وخالية من اليقين. أخذ نفسه يخف، وظل ساكنًا مغمض العينين، ثم راح تنفُّسه يعلو ويهبط. اندفعت ناحيته، أخذت وجهه بين كفيّ وأنا أنادي بكل طاقتي، كأنما ندائي ترتج له السماوات والأرض: "آبا.. آبا.. كلمني يا با". بدا أنه لا يشعر بوجودي، ولم يتبقَّ منه سوى نَفَسٌ ضئيل استمر قليلًا ثم توقف.

لم يطل رقاده. مضى سريعًا كما تمنى. في صلواته وأدعيته كان يطلب من الله أن يرحل وتراب السكة عالق بقدميه. يردد دائمًا: ليس أثقل من الإنسان، وما من مصيبة أفدح من العجز، أن يصبح الإنسان عبئًا على أقرب الناس إليه.

وحدي أنا الآن في قبضة الرعب، مكتومة أختنق. جسدي كله ينشج بلا صوت ولا دموع، وقد استأثرت بي كوابيس مفتوحة العينين مشحوذة المخالب تنهش أحشائي. الأرض من تحتي رخوة تميد بي. أوصالي ممزَّعة مطروحة في عراء الكون. كل أنهار العالم غير قادرة على أن تمحو المرارة التي في فمي. كل فرح العالم لا يمسح الألم الذي يتفجر بين ضلوعي.

***

إني أراني أحمل فوق رأسي حلمي. منهكة من صهد النهار وثقله. أين أنت يا وجه أبي؟ صلِّي من أجلي أيتها الأشجار، أيتها الأرصفة والطرقات، صلِّى من أجلي يا أبي فأنا بحاجة الآن إلى دعواتك أكثر من أي وقت مضى. مفزع موت من يحبه المرء. كان حضنك هو الملاذ والحصن والحنان الذي لا يوصف. أتذكر، عندما كان يرفع الطفلة الصغيرة -التي كانت- بضفيرتيها الطويلتين بين ذراعيه، يطوح بها إلى أعلى. يداه الحانيتان الودودتان اللتان تضمان وسطها، وتطلقها خفيفة مندفعة نحو السقف، ثم تتلقفها -تلك اليدان- في عناق وثيق، وقد تطاير فستانها وعلت ضحكاتها، فيما تسيل عيناه حنانًا سابغًا.

حتى بعد غيابه الأبدي يفاجئني بحنوه عبر حضوره الهادئ المستكين، وطلته الصابرة المتعبة، وهو يقود خطاي لتحقيق حلمه حلمي. أعرف أنني لم أعد الطفلة التي كانت، لكنني لست بعيدةً جدًّا عنها. أدرك على نحو مفجع أنك رحلت وأسلمتني للفقد. تغمرني الوحشة ويغزوني الحنين إليك فأستشعر دفء حضنك. كل ضمة صدر منك كانت هي الملاذ، مسرة في القلب تورق بالفرح والبهجة.

***

الشارع الترابي العريض تقف على أطرافه المدافن بأسوارها الممتدة العالية، والدنيا مقهورة بالغبار والحر. الباب الحديدي الأسود بحديده المدور بأزهاره المفرغة وأغصانه الرفيعة المشدودة، ينتصب شاهقًا، متين البنيان، مفتول العضلات، له صرير متمكن إذ ينفتح ببطء وجهد. سكون كامل، صمت ناعم ثقيل يكاد يُلمس من فرط كثافته. حزن شفيف يذكّر بكل مواسم الرحيل. رائحة ثقيلة لا تنجاب أبدًا تتطاير هبَّاتها، تتلوى في السخونة الراكدة. خشخش الورق الجاف تحت قدميَّ. سحلية مبرقشة بألوان زاهية راقدة، ينزلق شعاع الشمس على جسمها فيبرق بألوان كثيرة. انتفضت وفرت مذعورة تختبئ في جحر في جدار قريب. اختفت لحظة ثم عادت تطل برأسها وعيناها تبرقان بلمعة خفيفة. شجرة الجميز القديمة الضاربة بجذورها في عمق الأرض، عفية الجذع، وقد ثقلت فروعها وتراكبت، تتدلى منها الثمار وردية اللون، وتحلق بين ورقاتها أطيار مختلفة. نباتات الصبار بأوراقها اللحيمة الممتلئة يشوب خضارها الزاهي تراب ناعم. عيناي تمسحان بنظرة غائمة أسماء الراحلين المنقوشة على الشواهد الرخامية العالية في الجدران.

اللوحة الرخامية المثبتة فوق الجدار، مدوَّن عليها الاسم الغالي، بأصابع مرتعشة تتحسس الاسم، تتلمسه تلمُّسًا وثيقًا. يتحول لجسد حي، جسد طري دافئ. تحس دفئه تحت أصابعها، نبضه، روحه تسري في الحجر الأصم. تلمح وجهه الهادئ العطوف، مبتسمًا، مرتاحًا. تتبدل ملامحها، تغزوها رعشةٌ خفيفةٌ. حبات عرق بارد تتناثر فوق جبينها. ترتعش شفتاها مختنقةً بالكلمات، ودمعات دافئة تسح على وجنتيها، وهي تسر له نبأ تخرُّجِها، تحقق حلمه وحلمها.

في طريق عودتها، بخطوات واثقة تسير، يحفها حنين غلاب، يخالط حزنها الغائر فرحة، وطيفه الحاني يأتي من بعيد، يرافقها. يداه الحانيتان تلمان شعرها الذي يتطاير خلفها، وفي سعادة غامرة، وحنان يتدفق من عينيه، يصنع لها ضفيرتين طويلتين تنسدلان في نعومة ودلال حتى الخصر.