تنتهي رحلات حافلة نقل المسافرين، وسيارات الأجرة، القادمة من عاصمة الإقليم، في فضاء فسيح، بتلك القرية الصغيرة الرابضة بين الفجاج، حيث تنتهي، أيضا، الطريق المعبدة؛ لذلك عرف المكان باسم دال على وظيفته، هو: (الݣاراج)، منذ أيام الحماية الفرنسية، رغم إنشاء محطة جديدة.
على تخوم هذا الفضاء، تربض سيارات النقل السري من وإلى الدواوير المنتشرة في ربوع القبيلة، عبر مسالك وعرة، باقية على حالها، منذ أيام تلك الحماية، وقد ازدادت سوءا، بينما تجلس نسوة هنا وهناك، خلف قُفف من الدوم بها خبز وبيض، ورجال يحضنون سلالا من قصب، فيها غلل شتى معروضة للبيع؛ ملامح المُسنين منهم توقظ في نفوس ذوي الأحاسيس المرهفة مشاعر ما أعمقها!!
إلى ذلك كله، كنتُ أشعر، كلما ألجأني السفر إلى الظهور في تلك المحطة، أن ذهني مشوش!!.. ربما لكثرة الغرباء والمتشردين فيها. وكان هذا التوجس يرافقني إلى داخل الحافلة، لأني كنت أعرف أن بعض المسافرين إلى المدينة يغامرون بحمل بضائع محظورة، مستخرجة من القنب الهندي.
ذات عودة من المدينة، وكان الفصل شتاء، وبينما أنا جالس في مطعم شعبي أنتظر الوقت الملائم للعودة إلى البيت في سفح الجبل، إذ طلع علينا رجل، يلتحف بطانية بالية، فصار يتقدم بخطى ثقيلة نحونا، إلى أن توقف عند موقد نار ملتهبة.
حين دغدغ الدفء جسمه، هزّ رأسه، وطفق ينظر إلى الذي يتولى الطبخ، دون أن يكلمه، ثم رافقه بنظراته، وهو يحمل إليّ صحنا به ما طلبته من طعام، وفوقه خبزة، أخذها من فوق رماد دافئ.
شطرت الخبزة نصفين، ثم حشوت أحدهما ببعض الطعام، وناولته إياه. تردد في مد يده.. فقال له صاحب المطعم: خذ يا مصطفى... خذ... بالصحة والعافية.
ابتسم المتسول ابتسامة فقدت كل ألوانها الطبيعية... وأمسك نصف الخبزة بكلتا بيديه، كأنه يريد أن ينال من سخونته، قبل أي شيء.
لما انصرف، بادرني الشخص نفسه بقوله: اسمه المصطفى، يقولون إنه مجنون.. يمضي يومه هائما، حتى إذا أصابه الجوع، قصد طاولة في مطعم بعينه. ثم تدخل أحد الزبناء معقبا: الله وحده أعلم بحاله... يحكون، يا ولدي، أنه نزل من الحافلة ذات مساء، وطال به المقام، هنا، متشردا، مثل كثير من أمثاله، لكن ما يميزه عنهم أنه لا يؤذي أحدا، لذلك يسمونه، أيضا، بالمجذوب.
ما كاد الرجل ينهي كلامه حتى حدثت جلبة، ظهر فيها المصطفى نفسه، وقد أمسك به أحدهم من الخلف، ثم لفه في بطانيته، وأوقعه أرضا، بينما التفت حوله جماعة من الشبان يتضاحكون بشكل يثير الاشمئزاز.
قال الزبون نفسه: ذاك الذي أسقطه معروف، سيء السمعة، اسمه حمادي، والناس ينادونه المعتوه. لا يسلم المجذوب من شره كلما رآه. ثم أضاف، كأنه يحاول أن يشرح لي الفرق بين المجذوب والمعتوه، قائل : لا يوجد، يا بني، أي تبرير لسوء الخُلق إطلاقًا، كما أن الخلوق مهما مرّ بظروفٍ صعبة يبقى خلوقًا ...
غادرت المطعم، أفكر في هذا الكلام. وفي الطريق صادفت المصطفى قابعا في ركن مظلم يداوي جراحه، ويرسل الدعاء باكيا، مكسور النفس، بلسان فصيح بليغ، يقول ويكرر: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرّضه للفتن. علمت، بعدئذ، أن الكلام من المأثورات في الدعاء على الظالم.
دارت الأيام، وحضرت إلى القرية، وقد تبدلت أحوال البلاد والعباد فيها. ما أن أخذت وصاحب لي مكاننا في المطعم المعلوم، حتى اقترب منا متسول، قادما من ناحية المحطة القديمة؛ رجل بلغ من الكبر عتيا.
قلت لصاحبي، متسائلا: كأنني أعرف هذا العجوز ...
فقال: أكيد تعرفه، فهو يعيش هنا منذ سنين طويلة... إنه المعتوه... ألا تذكره؟ كان من شر الخلق وأرذل النسل..
هزني كلام صاحبي هزا، فأعدت النظر إلى الرجل: وقد صار شيخا هرما؛ انحنى ظهره، وتدلى حاجباه على عينيه، وما من علامة من علامات الفقر إلا وقد بدت عليه.
طأطأت رأسي، فتذكرت المصطفى، ثم رفعتها، وقلت لصاحبي، وهو لا يعلم ما دار بذهني: حتى وباء كورنا لم يصب المعتوه فيرحمه !! حنانيك ربي...
المغرب