تقديم:
فكتور هوجو أشهر أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر وفي كل العصور. اشتهر في بلادنا بأنه روائي ، فهو كاتب رواية )البؤساء( ورواية )أحدب نوتردام(، وكلاهما انتشرا في العالم أجمع بالترجمات والأفلام. بيد أن هوجو هو أصلا شاعر خلاق، عبّرت قصائده عن معالم كثيرة في النفس الإنسانية، وكاتب مسرحي كلاسيكي. وقد تأثر هوجو بما قرأه من ترجمات من العربية الى الفرنسية وبخاصة القرآن الكريم، وكذلك القصص الشرقية وعلى رأسها ألف ليلة وليلة. وقد دافع هوجو دوما عن الحرية، ونفي نفسه الى الجزيرة الإنجليزية "جرزي" خلال حكم الامبراطور نابليون الثالث، وعاد الى بلاده بعد سقوط حكمه. وقد احتفت به بلاده كلها عند بلوغه سن الثمانين بوصفه أديب فرنسا العظيم.
وهو في هذه القصيدة الخالدة، يصور حال قابيل بعد سنوات عدة من قتله لأخيه هابيل، وكيف سلّط الله عليه عذاب الضمير، الذي يرمز اليه الشاعر هنا بالعين التي تلاحقه، وتحدّق فيه باستمرار، ولا يجد منها مهربا، حتى وهو في قبره. وقد استعان الشاعر بالقصة كما جاءت في العهد القديم ، وما أوردته من سلالة قابيل قبل وفاته ، ومنها أسماء "يابال" و"يوبال" و"توبال" (أبناء "لامك" ابن قابيل) و"صلّة" زوجة لامك. وكلهم تعاونوا على محاولة التخفيف عن قابيل بكل ما يعرفون من مهارات . ولكن العين – الضمير لا يمكن أن يذهب عن قابيل، قاتل أخيه، حتى وهو في قبره.
الضمير
كانت العاصفة تضطرم
حين سار قابيل مع أولاده
ملتحفين جلود الحيوانات
مطرودا من أمام الإله
أشعث الشعر ، جهمًا .
وإذ كان الليل يرخي سدوله
وصل الرجل الكئيب
الى سفح جبل في وادٍ فسيح
وقد نال زوجته التعب
وأولاده مقطوعي الأنفاس
فقالوا له فلنرقد على الأرض وننام .
ولكن قابيل لم يطرق النوم عينيه
وظل يتفكر في حاله
إذ هو بجوار سفح الجبل .
ورفع رأسه
فرأى عبر السماوات الحزينة
عينا واسعة مفتوحة
مابين دياجير الظلمات
تثبت عليه نظرها في الظلال .
فقال وهو يرتجف
"أنا ما زلت قريبا جدا"
وأيقظ أولاده النائمين
وزوجته المرهقة ،
وانبعث منكوبا
هاربا في الفضاء الشاسع .
مشى ثلاثين يوما ،
مشى ثلاثين ليلة ،
سار أخرس شاحبا
يرتعد لأي ضوضاء
مستخفٍ ،
لا يرتد بصره الى الخلف ،
دونما هدوء
دونما راحة
دونما نوم ،
حتى وصل الى ساقية البحار
البلد الذي صار من بعدُ آشور .
قال: فلنتوقف
فهذا ملجأ آمن نستريح فيه
فقد وصلنا الى أقصى الأرض .
وحين جلس
رأى في وسط السماء ذات الغمام
العين نفسها
في ذات المكان
عند نهاية الأفق .
حينذاك ، اختلج قابيل
وأصبح فريسة للهلع الأسود
وصاح : خبؤوني !
وتطلع الأولاد كلهم
يرقبون العائل الحزين
مرتجفا
وقد وضعوا أصابعهم على أفواههم .
وقال قابيل ليابال ،
أبو ساكني الصحراء الشاسعة
قاطني الخيام الوبرية :
"ابسط هذا الجانب من قماش الخيمة" .
وثبّتوا الجوانب بأثقال من الحديد
فجعلوا منها جدران محمية .
وقالت "صِلّة" الشقراء
حفيدته ذات عذوبة الشفق :
"أما زلتَ تراها ؟ "
وأجاب قابيل بأنه مايزال يرى العين !
أما الابن يوبال
أبو كل ضارب بالعود والمزمار
فقد صاح بأنه سيقيم حرما آمنا لأبيه .
فبنى جدارا من البرونز
ووضع أباه من خلفه .
ولكن قابيل ناح
بأن العين تحدق فيه ما تزال .
عندها صاح إخنوخ
إذن علينا بناء دائرة من أضخم الأبراج
مخيفةس،
لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها .
هيا نبني مدينة بها قلعة
ونغلق بابها بكل سرعة .
وعندها قام "توبال-قابيل"
أبو كل آلة من نحاس وحديد
ببناء مدينة هائلة خارقة لقوة البشر .
وحين كان ماضيا في عمله
كان إخوته في الوادي
يطاردون أبناء "أنوش"
وأولاد "شيث" .
وكان الجمع يفقأ عيون من يمر بهم .
وفي المساء
يصوبون سهامهم نحو النجوم ،
وهم يقيمون جدرانا من الحجارة الصلدة
وكل منطقة فيها مثبتة بسلاسل من حديد .
كانت تبدو مدينة جهنم
فكانت أبراجها
بكتلتها الضخمة
تحيل نهار المنطقة ليلا ،
وجدرانها في سُمْك الجبال .
وكتبوا على الباب
"ممنوع دخول السماء هنا ".
وبعدما فعلوا كل هذا
وأتموا أعمال الأسمنت
وأقاموا البرج الصخري
وضعوا قابيل في وسط البناء
حيث بقى كئيبا تائها
وهتفت به "صِلّة" وهي ترتعد :
هل راحت العين ؟
ولكن قابيل رد :
كلا ، إنها مازالت هنا .
ثم أضاف :
سوف أعيش تحت الأرض
كما يفعل الرجل الوحيد في قبره
لن أرى شيئا ، ولن يراني أحد .
فحفروا ضريحا في الأرض
حتى قال قابيل : هذا حسن .
وبعدها
هبط وحده تحت القبة الظلماء .
وحين جلس في مكانه في العتمة
وأغلقوا السرداب من فوقه
كانت العين هناك في القبر
تحدّق في قابيل ما تزال .