"ليست كتابة الرواية وحدها نوعا من الحلم، بل قراءتها أيضا"([i]). ميشيل بوتور
تقديم لا بد منه:
رواية )حرب الكلب الثانية( رواية متمنعة، مشاكسة، قد يظهر إليك بعد طول معاشرة أنها سلمتك قيادها، ثم ما تفتأ أن تجد ما توهمته ماء، محض سراب. إنها (حرب الكلب الثانية)، الرواية التي تقول ما تقوله، ثم تشغلك بأمر آخر وتصرفك عن الأول لتضعك في حيرة تعود بك إلى نقطة البداية. فهي تخبرك عن حرب «الكلب الأولى»، ثم تخبرك عن الثانية، وما بين الأولى والثانية، يبسط الكاتب مظاهر وظواهر اختلف النقاد في تأويلها. فمنهم من عدها خيالا علميا، مسترشدا بما عجت به الرواية من اختراعات، واكتشافات علمية خارقة ومتسارعة. ومنهم من عدها «ديستوبيا»، لما عرضته من تسلط، وظلم، وفساد في المدينة. وآخرون بالاعتماد على هذا وذاك، صنفوها ضمن روايات المستقبل. ولم يجانب أحد منهم الصواب، فكل هذه الأوصاف السابقة تنطبق على الرواية، ولا تحيد عنها.
لكن، إذا ما تجاوزنا بنية الأحداث، الى النظر إلى الرواية، كلغة، وخطاب، نجد أنها بقدر ما تعلن عن أشياء، تسكت عن أخرى. ومن هذا المنطلق فما تقرره الرواية لا يمكن ان يلهينا عما تسكت عنه، وهنا يكمن موقف الرواية من العالم، ومعه تكمن قيمة الرواية، يقول السارد: «لا يستطيع أي راو عليم أن يكون جازما في أمر بداية مفتوحة كهذه وقد جرت العادة أن ينشغل النقاد بالنهايات المفتوحة التي يختتم بها الراوي العليم الروايات، تاركا لهم شيئا يلهون به، فهو يعرف، أي الراوي العليم، أن النقاد الأذكياء كالأطفال، عليك أن توفر لهم شيئا ما يلهون به، وإلا فإنهم سيتعبونك حقا» ص: 27 هذا التصريح الذي يتصل بتفكير الكتابة في ذاتها، ويتقمص فيه السارد دور الكاتب الضمني، ينطوي على موقف نقدي من البدايات كما من النهايات، ويقترح على غير العادة الوقوف مليا عند البدايات المفتوحة هذه المرة، وهي إشارة واضحة إلى أن ما تبدأ به الرواية مشرع على أكثر من موقف، وهو نفسه التصريح الذي دفعني لأقرأ الرواية بالوعي النقدي ذاته
«حرب الكلب الثانية» لا واقعية خارج الخيال ولا تخييل خارج الواقع:
إن ما يضمن لرواية (حرب الكلب الثانية) فرادتها بالرغم من جنوحها الى الخيال وللأجواء الفانطاستيكية هو قوة تماسها مع الواقع، وأن لجوء الكاتب إلى استخدام المحتوى الخيالي العلمي ليس غاية بحد ذاته، وإنما منهجا للتفكير، وأسلوبا لمعرفة الواقع الراهن وتأويله. إن الخيال العلمي هو مجازية الحياة التي تتيح رؤية من زاوية نظر جديدة غير متوقعة، وقد غدت المجازات ضرورة لازمة خصوصا في وقتنا الراهن، فـ«لا شيء أكثر إثارة للبشر من اختراع جديد» ص: 124. إن مختلف الوقائع في الرواية هي في الأصل مجموعة من الرؤى والأخيلة التي تتعالق فيما بينها وبين الواقع بروابط التشابه او التكامل. لأنها لا تستند إلى شيء خارج تداعيات الذهن المولع بالتفسير والبحث عن الدوافع والروابط الخفية بين الأحداث والأشخاص والأشياء. حتى ليبدو أن الهم الأساسي عند الكاتب منصب على محاكمة الواقع ورسم حركته العامة، ثم إن انعدام التحديد والإحالة المباشرة في الرواية ما هو إلا تحدي صارخ وإحالة صريحة كما يظهر في قول السارد : «كانت البلد قد استسلمت لتلك القاعدة التي يمكن وصفها بالفاشية: من ليس معي فهو ضدي، لا بعبقريتها، ولكن باعتبارها جزء من هذا العالم المحيط بها، العالم الذي غدا اشبه بقرية صغيرة.» ص: 45
بحيث لا يختلف اثنان أن مضمون هذا القول ينسحب على واقعنا بالتحديد في ظل الثورة التقنية التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ومن الإنسان حيث كان فردا من هذه القرية الصغيرة. إن توسل رواية (حرب الكلب الثانية) بالخيال العلمي، والديستوبيا، واستشراف المستقبل، لم يكن إذن سوى لفضح واقع ديستوبي معيش. فانتشار الفوضى، والتكاثر بالنسخ، وضعف الحكومات، وانتشار الظلام، وإلغاء الماضي بسبب أن الأنسان لا يستفيد من اخطائه ص:12، كل هذه الظواهر نجدها متفشية في المجتمعات العربية التي ينتمي الكاتب إليها، وهي موجودة بدرجة او بأخرى، وجودا حقيقيا لا يمكن أن نعتبر أن الرواية معه تنتمي إلى المستقبل، بل إلى الحاضر العياني. بدء من انتشار الفوضى وما التسيب المستأسد في الواقع العربي إلا بعض من تجلياتها.
أما التكاثر بالنسخ فلا نعدمه في واقعنا؛ ويمكن أن نتكلم في هذا السياق عن تقليعة العصر المتمثلة في الاقبال على عمليات التجميل التي بسببها أصبحنا نطالع وجوها لها نفس الملامح. ويبقى ضعف الحكومات سمة لا يمكن أن تخطئها العين المجردة، وهي سمة مشتركة بين الحكومات العربية. أما الظلام، فهو تعبير مجازي للظلم، ولا يختلف اثنان حول علاقة المشابهة القائمة بينهما، كما لا يختلف أنه (الظلم) أصبح بكل تلاوينه عملة رائجة في الواقع. أما إلغاء الماضي فلا أدل عليه مما لمح إليه الكاتب في المناص الذي استهل به الرواية، والمنسوب إلى الحكيم الأندونيسي، وهو مناص لا يمكن أن نخرجه من حساب القراءة لتقاطعه مع مقصدية الرواية: م يقول: «ولكي أصدق ما يدور أرسلت بعض حوادثه إلى الماضي وبعضها إلى المستقبل ف.. أنت في الماضي والمستقبل أكثر مما أنت في الحاضر.»
هذا المناص يفصح عن رؤية الرواية مما سيأتي، ومنه أن كل حاضر هو حصيلة ماضٍ، وكل مستقبل هو الابن الشرعي لكليهما (الماضي والحاضر). ومن ثم، فالإنسان وإن كان في الحاضر هو أبدا مشدودا إلى ماضيه، وهو في نفس الآن محكوما إلى المستقبل، باعتباره زمن الرغبة، الرغبة في موضوع قيمة. وإلغاء الماضي محاولة لإلغاء تفرد الإنسان، وهي غاية رافقت منذ اقدم الأزمنة غايات الأطماع، والسيطرة، والهيمنة لأن الإنسان بدون ذكرى/ ماضٍ هو إنسان موضوع أمام ضرورة أن يحدد من جديد موضعه في العالم، والإنسان المحروم من الخبرة التاريخية يجد نفسه خارج الأفق التاريخي، وعليه أن يعيش يومه الحاضر وحده فحسب، وإلغاء الماضي هو نقسه أسلوب النسيان الممنهج الذي يتصل بالتلاعب بوعي الشعب، من خلال المحاولات الدؤوبة التي لا تكل من اجل تحوير رأيها بغاية تنميطها ونمذجتها ليسهل في الأخير قيادتها كقطيع.
وإذا كانت الرواية قد تعرضت في المقطع السابق لدور الخيال والتخييل في إضفاء طابع من التقنيع والتعتيم على خطوط الاتصال بين الفضاء بالرواية كفضاء متخيل وبين المكان الواقعي المعروف في الجغرافية، إنما يشير بالأساس إلى أن مسألة الواقع أو الواقعية في الكتابة هي دائما واقعية متخيلة، فلا واقعية خارج الخيال، ولا تخييل خارج الواقع، كما يشير تساؤل السارد الذي انزاح عن دلالة الاستفهام الأصلية ليدل على معنى التأكيد: «هل خطر ببالك أننا مجرد مرايا للمرايا التي نحدق فيها؟» ص: 196
«حرب الكلب الثانية» بين المأساة والطرفة:
تنهض فلسفة الرواية على ثنائية «المأساة والطرفة» وقد حاول الكاتب أن ينظر إلى كل ما يقع في الحياة باعتباره لا يخرج عن إطار هذه الثنائية، لكن الطريف هو شكل حضورها (هذه الثنائية) المتسم بعلاقة التداخل والتمازج بين طرفيها، فالمأساة التي تقع للبعض تكون عند البعض الآخر طرفة، والعكس صحيح. وأحيانا، نجد الأمر الذي تفتح كطرفة لن يكون أقل من مأساة. بحيث تبدأ الحادثة طرفة، ثم ما تلبث أن تتحول بعد ذلك إلى مأساة، والعكس صحيح. بل أحيانا الحادثة الواحدة تكون كالعملة ذات الوجهين: وجه طريف وآخر مأساوي.
والكاتب يخلخل الوظيفة الأرسطية لهذه الثنائية، فهو لم يتناول الكاتب المأساة وسيلة لتطهير النفس من المشاعر السلبية «كاثرسيس» كما أراد لها أرسطو، بإثارة مشاعر الندم، والعطف، لدى المتلقي، بل أراد لها (الكاتب) أن تنزاح على ما أريد لها بحيث أصبحت تثير الضحك، والدعابة، ووسيلة لتسلية الشخصيات، وهو أمر بطبعه غريب يؤكد على التحول/ المسخ الذي طال نفوس البشر التي أصبحت سادية تتسلى بالمأساة. كما حصل مع الرجل المصاب بذبحة قلبية، إذ بالرغم من انه يحتضر لم يرحم الطبيب ابنته وزوجته، وفرض عليهما مبلغا لاستقباله في المستشفى والكشف عنه. وحين كان المبلغ باهظا وغير متوفر لدى الابنة والزوجة سحب منهما ما كانتا ترتديانه من حلي. وينهي الطبيب سرده بقوله: «لكنني أفكر دائما كم كان يمكن ان نكون ساذجين لو لم نفعل ذلك، بخاصة أن الرجل قد مات في الصباح التالي.» ص: 41، وعوض أن يأسف الحاضرون «ضحكوا، وهذا يدل على أن بعض البشر تضحكهم المأساة أكثر مما تضحكهم الملهاة أو الطرفة» ص: 38. إن هذه الواقعة السردية تعبر صادقة عن تحول القيم وتبدلها، بل إنها تجعل السلبي والإيجابي منها على حد سواء، ولعل تساري القيم هذا هو آخر مرحلة من مراحل الانحطاط الإنساني حيث لا مجال سوى للظلم والعبث، ومنطق الغاب.
انقلاب راشد عن مبادئه بين المعلن والمسكوت عنه:
إن رواية (حرب الكلب الثانية) تخرق نموذج البطل الإشكالي الذي يستميت في البحث عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور، ويحمل على عاتقه هم المقهورين، إلى أن يلقى حتفه موتا أو سجنا، فقد قدمت في البداية راشد مثقفا يحمل هم التغيير ويتزعم النضال من أجله، وأبان عن عزيمة وصمود أمام كل صنوف التعذيب التي تعرض لها في أعقاب اعتقاله، ثم ما فتئ أن تحول إلى أكثر المستبدين، شراسة في الإجهاز على هذه القيم، بل أصبح معتقلوه سابقا يستشيرونه في اجتراح سبل جديدة لتحقيق الغايات، بغض النظر عن الوسائل، بدء من استغلال الأوبئة والأمراض إلى خلقها لاستدرار المال من المرضى (أسرى الأمل) والموتى على حد سواء. ولم يكن تحول راشد سوى أثر من آثار حرب الكلب الأولى، التي استشرت بفعل تحول القيم الذي طال لقوته حتى الفطرة والطبيعة، كما حصل مع الكلب عندما تحول وفاؤه وإخلاصه لصاحبه إلى غدر وعداء، ويمكن أن يفهم تحول راشد من هذا المنطلق. وكما كان راشد ضحية الحرب الأولى، أصبح في النهاية ضحية الحرب الثانية التي اجتاحت الناس بعدوى الشبه، عندما أصبح كل واحد يتصيد فرصة الخلاص من شبيهه، وهو الأمر الذي أودى براشد عندما قتل شبيهه (سائق سيارة الإسعاف) واحتفظ بقناعه طمعا في زوجة هذا الأخير.
إن راشد المثقف الذي يحيل اسمه على معاني التعقل والرشد، وبالنظر إلى موقفه السابق المناهض لحكم القلعة، يجعلنا نقف مليا على سر هذا التحول، المدهش/ الفانطاستيكي، الذي جعلنا إزاء ضحية تعسة اضطرب سيرها. وبالرغم من أن السرد يقدم بعض التعليلات من مثل أن إلغاء الماضي قد يكون سهل له ذلك، لأن الإنسان بدون ماض هو أعزل من كل خلفية بإمكانها أن تشده إلى الثبات والرسوخ. بدليل أنه «أقنع نفسه بأن تجد لها مكانا في هذا العالم الجديد، فودع ماضيه دون الاحساس بأي شكل من أشكال العار الذي يلحق بأولئك الذين يغيرون قناعاتهم.» ص: 20.
كما يمكن أعتبار أن وعيه المتزايد بخواء هذا اللغو، وعدم تحرر المقهورين والجائعين، قاده أكثر من أي عنصر آخر إلى تقاربه مع أفكار القلعة وسياستها، بعدما أصبح ينظر إلى غير الأحرار باعتبارهم ضحايا أنفسهم؛ وأن الانسان يخطئ في حق نفسه بعدم إدراك ذلك. خاصة أن الأيام أثبتت له «أن لا أحد يستحق أن أخوض أي معركة من أجله، فكيف حربا؟»ً (ص: 315 ) كما يمكن أن يكون سبب تحوله تركيزه المفرط على الحرية الكاملة للإنسان، كون ذلك متناقضا بالتأكيد، لا فقط مع القوانين الوضعية، ولكن كذلك مع حقائق الحياة، إن تشدد راشد هذا هو ما جعله يناقض نفسه ويصدق فيه بالتالي قول أحد ضباط القلعة، وهو يطمئن زميلا له بالقول : «علينا أن نخاف من أولئك الذين تمتلئ جماجمهم بألوان أخرى غير اللون الأسود، اما المتشددون فلا تخف منهم، لأن تشددهم، الذي يعتقدونه علما، أو يقينا، هو السبب الأمثل الذي يقدمونه لك لكي تسحقهم.
ففي النهاية الجميع يفضل قتل الوحش .. إني رأيت ان القوميين الذين بالغوا في قوميتهم قد تحولوا دائما إلى فاشيين، وإن لم يتحولوا صاروا نقيضا للمبادئ التي يدافعون عنها. دون ان يدروا.» (ص: 24) ونعتقد في لحظة أن راشد ترميز لمثقف اليوم، الذي ارتمى في أحضان السلطة، وتخلى عن مبادئه، وخان الميثاق الذي يربطه بالمجتمع، وتاجر بأناه مقابل أن يصبح من «جيران أصحاب الملاييين». مثقف اليوم الذي لم نعد نعرف «إن كان مصلحا أم مروضا، ملحدا أم موحدا، لصا أم نزيها، قائدا أم قوادا». (ص: 45) «بالعكس لأني رأيت ان القوميين الذين بالغوا في قوميتهم قد تحولوا دائما إلى فاشيين، وإن لم يتحولوا صاروا نقيضا للمباديء التي يدافعون عنها.» إنها مأساة التحول، ومأساة الشبه، كلاهما حرب كلب لا تبقي ولا تدر.
على سبيل التركيب:
إن رواية (حرب الكلب الثانية) تميزت بكونها متن مركب ومعتمد على حبكة وشخصيات متخيلة تحيل على رغبة الروائي في الإحاطة بموضوعه من وجهات نظر متعددة وبالشكل الأكثر اكتمالا (الكتابة الساخرة، السرد الروائي، المقطع الأتبوغرافي، الواقعة التاريخية، الخيال الحر)، كما تجدر الإشارة في هذا الختام أن الهاجس الذي تنوء به الرواية، هو هاجس صياغة محاكمة للواقع العربي، ورسم حركته العامة، ولعل أبلغ ما يمكن الختم به هو قول السارد الذي يفصح فيه عن هاجسه في الفضح والتعرية والإدانة: «إن كثيرا من الذين يعيشون هذه الأيام المظلمة، لم يسمعوا بتلك التفاصيل، ولذا كان لا بد من الحديث عنها بإيجاز، رغم الخطورة المترتبة عن حديث كهذا، أو رواية كهذه، يمكنني القول: من هنا بدأت.»
باحث من المغرب
([i]) بوتور (ميشيل) "بحوث في الرواية الجديدة" ترجمة : فريد أنطونيوس. ط : 2 منشورات اعويدات-بيروت –باريس 1982. ص : 8.