قدم الروائي بانوراما عن تعدد المغرب وتناقضاته، نبش قضية الزيوت المسمومة، وأحيا تلك المأساة، ذكرنا كيف أن المثقف لا يزال يحتكر مقاعد خلفية، بالكاد يكون مرئياً في الوسط الذي يعيش فيه، وفي الغالب يحظى بنظرة ساخرة من الآخرين.

رواية «الملف 42»… الخروج من الصدمة بالكتابة

سعيد خطيبي

 

قبل أكثر من ستين سنة، وقعت حادثة غريبة في مدينة مكناس، ظن الناس أن وباءً ضرب المدينة وأنهم يدنون من الموت جميعاً، فقد استيقظوا ذات صباح، على أعراض غريبة: شلل وحمى وفقدان توازن، عجز الأطباء عن تشخيص أسباب تلك الأعراض، وبات كل واحد من ساكنة المدينة ينتظر دوره، بينما شرع آخرون في الهرب، قبل أن تنكشف الأسباب شيئاً فشيئاً، فقد تناول المصابون زيتاً مخلوطاً بمادة كيميائية مصدرها قاعدة عسكرية أمريكية، أنشأت في خضم الحرب العالمية الثانية، بينما قال آخرون إن الضحايا تناولوا زيوت طائرات ظنا منهم أنها زيوت نباتية، ومرّت عقود وكاد الناس ينسون تلك الصدمة، فقد تعود البشر على طي تاريخ الألم، اعتقاداً منهم أن النسيان يحيلهم من زقاق الماضي إلى زقاق الحاضر، ويردم أحزانهم، لكن عبد المجيد سباطة يُعيد إلى الأذهان تلك الواقعة في روايته الأخيرة «الملف 42» (المركز الثقافي العربي، 2020)، وهو عمل تتشابك فيه خيوط مثلما تتشابك خيوط تاريخ المغرب الحديث، يقفز فيه المؤلف بين أكثر من بلد، كي تصل الشخصيات في النهاية إلى محصلة، أن لا خلاص من الألم سوى بالكتابة، لا بالنسيان.
«الملف 42» واحدة من الروايات التي يتعسر اختصارها في ملخص، أو تكثيفها في جملة واحدة أو اثنتين. إنها مثل «مكعب روبيك» يتوجب أن نجمع ألوانه مثلما يجب أن نجمع أوجه هذه الرواية. هي ثلاث روايات في رواية واحدة، كل واحدة منها تكمل الأخرى. تُصادفنا شخصية كريستين ماكميلان، روائية أمريكية، نجحت أعمالها الأولى في كسب شهرة لا بأس بها، هجرت التعليم وكرست حياتها للكتابة، تحولت إلى نجمة في بلدها، في صورة مناقضة للراوي، الذي يشقى في إقناع سائق تاكسي قصد إيصاله إلى وجهته، قبل أن تبلغ ماكميلان لحظة انحباس، أو متلازمة الورقة البيضاء، ويتعذر عليها أن تلتقط فكرة رواية جديدة، ما قد يوقعها في ورطة مع وكيلها الأدبي، الذي سارع للضغط عليها لتسليم مخطوطة جديدة، فتهتدي إلى الاتصال برفيق قديم، يقترح عليها السفر إلى المغرب، وتلتقي طالب دكتوراه اسمه رشيد بناصر سوف يكون سبباً في إحالتها إلى ماضي والدها المجند السابق، الذي عمل في القاعدة الأمريكية في المغرب، ويكتشفان قضية الزيوت المسمومة، التي أماتت الكثيرين في مكناس، وتتم ماكميلان كتابة روايتها الجديدة.
في الخط الثاني من الرواية نجد زهير بلقاسم، مراهق لا يكل من لعق الملذات، يعيش في عائلة ميسورة، بين أم محامية وأب طبيب، يرتكب جرماً سوف يلاحقه سنوات: اغتصاب خادمة، ينجو من العقاب في بلده، لكن لعنة الخادمة المسماة الغالية سوف تتبعه إلى روسيا، حيث سافر للدراسة، ليجد نفسه في معتقل في سيبيريا، في قضية لم يكن طرفاً فيها. أما الخط الثالث فهو الروائي نفسه، الذي يستثمر هذه الشخصيات وحكاياتهم المتداخلة في ما بينهم، ويتم نص «الملف 42».

قدم عبد المجيد سباطة بانوراما عن تعدد المغرب وتناقضاته، نبش قضية الزيوت المسمومة، وأحيا تلك المأساة، ذكرنا كيف أن المثقف لا يزال يحتكر مقاعد خلفية، بالكاد يكون مرئياً في الوسط الذي يعيش فيه، وفي الغالب يحظى بنظرة ساخرة من الآخرين.

قد يعترضنا في البداية سؤال تصنيف هذه الرواية، هل هي رواية بوليسية؟ لا ليست كذلك، بل هي رواية سوسبانس، هذا النوع الروائي الغائب عربياً، هي أيضاً رواية بسيكولوجية، بإيقاع متسارع، لا يهدأ إلى آخر صفحاتها، رواية لا تهاب مواجهة الراهن الذي نعيشه، تدور بين 2002 و2019، تلامس كبريات الأحداث التي عرفناها، في تلك السنوات، من المغرب إلى روسيا ثم أمريكا، رواية تجعل من السياسة مادة سردية، تعلق على الأحداث وتسعى إلى تحليل جزئياتها، بدون أن يتخذ الكاتب موقفاً أو رأياً، بل يقف في الحياد، ملاحظاً وملتقطاً للتفاصيل. لكن المغرب أخذ المساحة الأوسع في هذا العمل الروائي، حيث ينزع الكاتب إلى تشريح بناه الاجتماعية والسياسية، يحكي من خلال قصة زهير بلقاسم ذهنية اللا قاب، كيف أن القانون لا يُطبق سوى على الضعفاء، كما هو الحال في أكثر من بلاد عربية، كما أن شخصية الخادمة الغالية، تحكي عن الطبقية الجديدة، وشخصية رشيد بناصر يحيلنا إلى صورة المثقف اليوم، الذي لم يجد مكانا يسترزق منه سوى الأشغال البسيطة والشاقة، والتي لا ينال منها سوى ما يسد به جوعه. وجاءت شخصية الأمريكية كريستين ماكميلان، كي تذكرنا بدونيتنا تجاه الأجنبي، وذلك الشعور بعقدة تجاه كل ما يأتي من الخارج. لقد قدم عبد المجيد سباطة بانوراما عن تعدد المغرب وتناقضاته، نبش قضية الزيوت المسمومة، وأحيا تلك المأساة، ذكرنا كيف أن المثقف لا يزال يحتكر مقاعد خلفية، بالكاد يكون مرئياً في الوسط الذي يعيش فيه، وفي الغالب يحظى بنظرة ساخرة من الآخرين، وكثيراً ما يشفقون على حاله، فأسوأ ما يمكن أن يكون عليه الفرد في ذلك المجتمع هو أن يعلن نفسه مثقفاً، كما إن من بين ضحايا الزيوت المسمومة نجد كاتباً، ابتكر له المؤلف رواية بعنوان «أحجية مغربية»، حيث نرافقه في فصول كثيرة وهو يبحث عن أصل تلك الرواية وعن مؤلفها الحقيقي.
قد تتبدى رواية «الملف 42» أيضاً أشبه بمحاضرة أدبية، فقد آثر المؤلف أن يعنون كل واحد من الفصول بعنوان رواية شهيرة: «السقوط» لألبير كامو، «عناقيد الغضب» لجون شتاينبك، «أشياء تتداعى» لتشينوا أتشيبي، وغيرها من أعمال روائيين عرب وأجانب، إضافة إلى عناوين أعمال فكرية أخرى، كما أنه يستهل كل فصل بمقطع من عمل روائي شهير، ويطفو شبح محمد زفزاف أيضاً، كشخصية خفية، كما لو أن سباطة يصر على أن لا مرافق للأحداث الكبرى التي نعيشها منذ بداية القرن الحالي أفضل من الأدب، فهذه الرواية أرشفة لهذا التاريخ الجديد، تاريخ ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، يورط شخصياته في الأدب، سواءً أكانوا مولعين به أو مجرد هواة، كي يصل بالقارئ في الأخير، إلى أن لا خروج من الصدمة ولا خلاص من هذه الفوضى التي تطوقنا سوى بالكتابة، الكتابة وحدها من يخفف عزلتنا، ويفتح أعيننا على راهننا.

 

٭ كاتب من الجزائر

جريدة القدس العربي