ممتنّ للغاية لبيت الشعر في المغرب على هذه الدعوة للتعبير من خلال بضع كلمات عن اليوم العالمي للشعر، الذي يتزامن فلكيا مع أوقات الاعتدال الربيعي. لقد اعتبر السّكان القُدامى من هذه المنطقة المعروفة الآن باسم المكسيك أنّ الزهرة والأغنية لا يحدثُ معهما انحلال، من جرّاء جمال الحياة وسلطة الكلمة والدم و الفكر. لقد ترك لنا الشاعر الملك نيزاهو الكويوتل حكمة أشعاره وجمالها، وهو يمتدحُ ويمجّد ما يُشَكِّلُ أعزَّ وأنفَسَ ما لدى الشاعر:
"أعشق غناء الطائر ثينزونتل
طائر بأربعمائة صوت.
أعشق لون اليشب،
وشذا الزهر المُهيِّج،
لكني أعشقُ أكثر أخي،
الإنسان."
كما تكهّن بالطبيعة العابرة للوجود والتشامخ الإنساني الذي يخفي الزوال الحتمي، مثل من يحاول إخفاء الشمس بأصبعه. وفي مواجهة تلك الهزيمة الاستهلالية، أطلق الملك الشاعر قصيدته "أنا أسألك":
"أنا، نيزاهوالكويوتل، أسألك:
هل حقا يعيش المرء بجذور منغرسة في الأرض؟
لا شيء مخلدٌ إلى الأبد على وجه الأرض:
المقام هنا قصيرً.
حتى لو كان من يشبٍ فإنه ينكسر
حتى لو كان من ذهب فإنه يتلاشى
حتى لو كان ريش الكتزال فإنه يتمزق.
لا شيء مخلدٌ إلى الأبد على وجه الأرض:
المقام هنا قصيرً."
الاحتفالُ بالشعر هو الاعترافُ بوظيفته المجدّدة للحياة، وقدرته الأساسية على التبصّر في الأوقات المظلمة، وفي الأوقات المُبتذلة، في لحظات الفراغ أو في الفترات السائلة التي يتمّ فيها تتويجُ ما هو افتراضي وما هو مُحتقر من الفضلات. الشعر، بسلطته اللانفعية واللامركانتيلية، يعيدُ تسميةَ الواقع ويعيدُ إليه الذاكرة، تلك الذاكرة التي تأتي من الخفيّ، ومن المّقدس، من اللامُسَمَّى، ومن المعيش حقاً. يذكّرنا الشعر بأننا ذاكرةٌ مُدَّخَرةٌ، ونسيانٌ فوَّارٌ عند تخوم اللغة، وفي هذيان اللسان. يعيدُ لنا الشعرُ الحوارَ مع الآخر الذي يسكنُنا، مع تلك الغيرية التي تضمنُ لنا غرابة ذاتِنا نفسِها، لأنّ اللغة الشعرية هي الإدماجُ الحواري مع ذوات الآخرين الموجودين فينا، ومع الآخرين الذين يشكّلوننا، ومع أولئك الآخرين الذين يتوافقون مع الآخرين الموجودين فينا.
عندما أستحضرُ الشاعر الملك نيزاهوالكويوتل، أفكّـــر في ذلك التنوع الكبير الذي يشكّـــل غالبية بلدان أمريكا اللاتينية. نحن الزهرة والأغنية، وأيضاً الدم المُراق المورُوث عن شعوب أخرى. في شراييننا تسري رواسب ثقافية من أوروبا وإفريقيا وآسيا، عربية ويهودية ومسيحية ومسلمة، تمنحُـــنا فكرة التنوع والحضور ليس فقط الحتمي بل المرغوب فيه للآخر أيضاً. ربما لهذا السبب ما زال الشّعر في أمريكا اللاتينية أداةً عديمة الجدوى يرتوي بورعٍ.
قال خوان خيلمان إن الشعر هو "تلك الشجرة الخالية من الأوراق والتي تهَبُ الظل"، فالشعر، الشعر الحقيقي، هي لسانُ محترق يولد من جديد كل يوم من تخوم اللغة، التي يتمّ البحث عنها في تلعثم اللغة. ولقد أكد الشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا، من جانبه، "أن الشعر هو المادة الموسيقية للفكر، وأن الشعر هو الشكل غير المنتظم للكلام، وهو أيضًا التعبير الأشد نقاء عن الواقع، ولذلك فهو ليس أدبًا." وأنا أتفق مع كليهما لأنني أجدُ أن الشعر، في الواقع، هو شكلٌ حقيقي وخالص من أشكال التمرد والعصيان في مواجهة الحقائق المفروضة، وهو تعبيرٌ عن المقاومة، وهي المقاومة ذاتها لقوانين السوق، لمقاومة التي هي التجْسيد للزهرة والأغنية التي لا أحدَ يدفعُ أو يقبض ثمنها، لكنّ الجميع يحتاجها للتنفس والاحتماء من الشر والأذى. لأنّ الشعر يمكن أن يكون أيضًا جُرعة مُرَّةً تجعلنا عِذَاباً وتُنعشنا، وتعيدُ لنا الوعي بأن نعيش رحلتنا، ذلك الزمن الضئيل هنا على الأرض، بمزيدٍ من الكثافة.
الزهرة والأغنية، الربيع، لغزُ تسمية اللايُسمَّى والاعتراف بما لا يمكن تحديده لذاته وفي ذاته: الموت، والحياة، والشعر. فلنُحَرِّرِ الصَّوْتَ، زهرتَه وأغنيتَه.
ويومٌ سعيدٌ للشعر.
خوسيه أنخيل ليفا، مكسيكو سيتي، 21 مارس 2021.
* خوسيه أنخيل ليفا: (دورانغو، 1958) أساسا هو شاعر مكسيكي لكنه أيضا سارد وباحث وناشر وصحفي ومدبر للشأن الثقافي في بلاده. أدارعدة مجلات شعرية تشكيلية هامة، من بينها مجلة "لا أوترا" ومجلة "ألفورخا"، المعروفتين على الصعيد العالمي... كان حتى عام 2013، يشتغل كمسؤول عن إدارة وتنسيق منشورات جامعة أنتركونتيننتال. وهو رفيق لعدد كبير من شعراء بلاده ولشعراء عالميين مثل خوسيه إيميليو باشيكو وخوان خيلمان وراوول زوريتا وأنطونيو غامونيدا وغيرهم... حصل خلال مساره على عدة جوائز شعرية من بينها: جائزة الشعر الوطنية "أولغا أرياس" عن ديوانه "ما بين الأحلام" 1990، وجائزة الشعر الوطنية، من قبل جامعة فيراكروث 1994. كما نال عام 1999 جائزة XXIX الوطنية للصحافة، في مجال الصحافة الثقافية من قبل نادي الصحافة، كما نال جوائز عديدة أخرى.
نشر أكثر من 15 كتابًا، من بينها في الشعر: "كتولوس في الصحراء" (المكسيك 1993 و2006، فرنسا في 2007، كولومبيا 2011)، "ما بين الأحلام"(1996)، شوكة الشيطان(1998) ، دورانغيين (2007)، إبرة (إسبانيا 2009، إيطاليا 2010، ميكسيكو كيبيك 2011)، سكان (كولومبيا 2010، بلورات صلبة، كولومبيا 2010)، جسد الصورة (مختارات شعرية، مونت أفيلا، فنزويلا، 2011) ، ثلاثة أرباع (المكسيك، 2012) ، في غير الأوان (مختارات ، UNAM، المكسيك 2012). تُرجمت العديد من دواوينه ترجمة كاملة إلى الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والبرتغالية وجزئيًا إلى البولندية. ومن كتبه في غير الشعر: ليلة الرث. حكايات سريعة الزوال (رواية)، 2002. وله عدة كتب أخرى في أدب الأطفال والدراسة والمقالة الأدبية من بين أمور أخرى.