المدخل:
تتمتع الهند والعالم العربي بعلاقة وطيدة منذ فجر التاريخ، ويعود تاريخها إلى 5000 سنة، وقد قامت تلك العلاقات على التبادل الثقافي والعلمي والأدبي والهجرات وحركة السكان فضلا عن التبادل التجاري، وتشير العديد من المؤلفات والمراجع التاريخية إلى اتصالات واسعة قامت بين منطقة الخليج العربي واليمن ومصر من ناحية والهند من ناحية أخرى، واستمرت تلك الصلات في العصر الإسلامي، وفي ظل الاستعمار البريطاني الذي كانت طرق مواصلاته للهند من أبرز القضايا التي أصبحت قاسما مشتركا لحركات التحرر الوطني في الهند والعالم العربي. وتثبت والشواهد التاريخية هذه العلاقات وكونها عريقة في القدم كما نجد في الأسطورة الدينية، أن أول شخص سيدنا آدم عليه السلام، هبط في سيلان -سري لنكا -وسافر عن طريق الهند إلى شبه الجزيرة العربية، حيث قابل حواء عليها السلام في عرفات بعد ما هبطت في جدة. والعهود القديمة تحمل الشواهد الكافية لإثبات العلاقات التجارية بين الهند والعالم العربي خلال فترة سليمان عليه السلام، وقبل الخوض في النقطة الهامة للمادة وسأقوم بمعالجة بعض العناصر الرئيسة المتعلقة بثقافة الهند وحضارتها وتأثير التفاعلات التجارية المتواصلة بين العرب والهنود في اللغة والثقافة.
الهند مهد الثقافة والحضارة المتعددة
يقول الدكتور خزعل الماجدي في مقدّمة كتابه الموسوم ب - الحضارة الهندية - «إن حضارة الهند هي المثل الأعرق والنموذجي لحضارة واحدة متراصة في كلّ عصور التاريخ، فالحضارات التي رافقتها اندثرت، وجاءت غيرها في المكان نفسه. فعلى سبيل المثال انتهت الحضارة السومرية في 2006 ق.م، وانتهت الحضارة المصرية في 322 ق.م، وانتهت الحضارة الآشورية في 611 ق.م، والحضارة البابلية في 539 ق.م، والحضارة الفارسية في 638 ق.م، والحضارة الرومانية في 476م، أما الحضارة الهندية فما زالت مستمرة وإن تعرضت للهزّات التاريخية الكبرى والقطع والثلم هنا وهناك؛ لكنها ما زالت موجودة.»
والهند بصفتها مهدا لكثير من الديانات والثقافات، كان هناك تبادل مستمر للأفراد والعلماء بينها وبين العالم العربي من الزمن القديم، وما يلفت النظر في الحضارة الهندية هو تميّزها في الجوانب العلمية والدينية في آن واحد، وثراؤها المهول في الجوانب الفنية والثقافية، فالعلماء الهنود برعوا براعة استثنائية في الرياضيات بشكل خاص، وقدّموا في الطب براعة نادرة لا نجدها في تراث الشعوب الأخرى، وكانت أهراماتهم المعرفية في الدين مثار إعجاب لا حدود له، وخصوصاً في العقائد الدينية التي كان لهم الفضل في وضعها مدوّنة، إذ لم توضع العقائد والأفكار الدينية في أية حضارة علمية كما وضِعت في الهند واضحة وصريحة.
وحسب اعتقاد المؤرخين فإن العرب عرفوا الهند قديما بسبب رحلاتهم التجارية، فقد كانوا يختلفون إلى المناطق الساحلية للهند والسند، وحضارة وادي السند كانت إحدى الحضارات المعروفة الأولى في العالم مع درجة عالية من التحضر، وازدهرت هذه الحضارة في سهول نهر السند والمناطق المجاورة التي هي الآن في باكستان وغرب الهند، وأصبحت المدن الأولى أقرب إلى ثقافة حضرية واسعة النطاق قبل 4600 عام واستمرت هيمنتها على المنطقة ما لا يقل عن 700 سنة من عام 2600 إلى1900 ق.م.
وفي عام 1920 اكتشف علماء الآثار هذه المدن والقرى المدفونة في وادى نهرالسند كبقايا حضارة غير مكشوفة، ويرجع تاريخ المدن الأولى في جنوب آسيا إلى 2600 قبل الميلاد، وينتمي الناس الذين بنوا وحكموا هذه المدن إلى ثقافة الهاربان أو حضارة وادي السند كما يشير علماء الآثار، وهذه الحضارة تطورت في نفس الوقت تقريبا كما تطورت المدن الأولى لمصر وبلاد ما بين النهرين.
تأثيرالتفاعلات التجارية في اللغة والثقافة
دعني أوضح هذه الحقيقة الغضة الطرية وذلك أن التفاعلات التجارية المتواصلة بين العرب والهنود أثرت في لغة كل منهما وثقافته، وكان العرب منذ القدم مغرمين بشراء المبيعات والمنتجات الهندية حتى أن كثيرا من أسمائها امتزجت باللغة العربية، وشاعت في أشعارها وقصصها. ومن ناحية أخرى استطاعت الهند أن تجذب إعجاب التجار العرب ورحلتهم، وقد بلغ إعجاب العرب إلى حد أنهم كانوا يطلقون على بناتهم اسم “الهند” كما أطلقوا على أجود أنواع السيوف "السيف الهندي" وتسربت عدة كلمات هندية إلى اللغة العربية حتى قال بعض العلماء أن هناك كلمات هندية معربة في القرآن الكريم ، وقد جمع الحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ السيوطي كلمات غير عربية وردت في اللقرآن بعد تعريبها، ومن هذه الكلمات "المسك" و"الزنجبيل" و"الكافور"، وهذه الكلمات الثلاث التي وردت في القرآن في وصف أشياء الجنة تدل على ثلاثة أنواع من الأشياء الهندية الشهيرة.
والشعر العربي الجاهلي يشير إليها، وإلى العديد من السلع الأخرى، وكانت تحظى بشعبية كبيرة بين البدو، كما قال الشاعر الكبير طرفة بن العبد (538-564) في السيف الهندي:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
ويذكر امرؤ القيس (نحو 497-545م) المسك والقرنفل في معلقته:
إذا قامتا تضوع المسك منهم
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وعديد من الكلمات الهندية مثل الصندل والتنبول والقرنفل والنارجيل وغيرها كانت تحظى بشعبية كبيرة وتستخدم على نطاق واسع بين العرب، على الرغم من أن العلماء يختلفون على الكلمات غير العربية المستخدمة في القرآن الكريم، ولكن العالم الكبير السيد سليمان الندوي يقول: «نحن نفتخر أن بعض الكلمات الهندية مثل المسك والكافور وزنجبيل موجودة في القرآن الكريم، وكان العرب يستوردون من الهند كثيرا من المنتجات مثل الأحجار الكريمة والتوابل والأخشاب والألوان والأصباغ والفواكه والحيوانات والطيور، وكذا يصدرون إلى الهند كثيرا من المنتجات المحلية والبضائع المجلوبة من مصر والشام وأفريقيا، ومنها الخيل والعطور والأقمشة والمرجان والفضة والزعفران والتمور وغيرها.»
العلاقات الهندية العربية وفاعليتها في التلاقح اللغوي:
كانت الحضارة الإسلامية من أهم الحضارات التي تركت أثرا كبيرا في لغة الهنود، وذلك كونها حضارة إسلامية تتعامل باللغة العربية التي تشكل لغة القرآن الكريم، وتميزت الحضارة الإسلامية منذ أول نشوئها بتعددية واضحة واتسعت حتى لجهود أصحاب الديانات الأخرى كالنصارى واليهود في إطار من الوحدة التي يقرها المنهج الإسلامي، كما اتسعت لكثير من العناصر الفكرية والثقافية التي أخذتها عن الحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية والهندية وغيرها حتى اكتسبت صبغتها العالمية التي جعلتها رافد النهضة الأوربية وجانباً رئيسياً من جوانب الحضارة العالمية.
المجتمع الهندي من بين المجتمعات العالمية التي تداولت عليها حضارات متعددة ذات ألسنة مختلفة حيث تركت مخلفاتها اللفظية في اللسان الهندي، وأما العامل التجاري والعامل الديني هما من أهم الفواعل التي سمحت بتسريب المدخلات اللفظية للغة الهندية واللغة العربية على حد سواء، فالتعاملات التجارية فرضت على المتحاورين استعارة الكلمات من اللغة العربية إلى الهندية بغية إحداث المنجز الإفهامي وتشكيل القنوات التواصلية بين اللسانين.
وأما الثنائية اللغوية هي أحد مظاهر التداخل اللغوي الذي يعرف بأنه «نفوذ بعض العناصر اللغوية من لغة إلى لغة أخرى، مع تأثير الواحدة في الأخرى، والمقصود هنا بالعناصر اللغوية مكونات اللغة من حروف وألفاظ وتراكيب ومعان وعبارات.» في حين تعرف الثنائية اللغوية بأنها «الثنائية اللغوية هي الوضع اللغوي لشخص ما أو لجماعة بشرية معينة تتقن لغتين، وذلك من دون أن تكون لدى أفرادها قدرة كلامية مميزة في لغة أكثر مما هي في اللغة الأخرى، وهي الحالة اللغوية التي يستخدم فيها المتكلمون بالتناوب وحسب البيئة والظروف اللغوية لغتين مختلفتين.» وكما عرفها "بلومفيلد" بأنها إجادة الفرد التامة للغتين، وعرفها "مكنمارا "بأنها امتلاك الفرد للحد الأدنى من مهارة لغوية واحدة في لغة ثانية، أما "ألبرت وأوبلر" فقد اتخذا في تعريف هذه الظاهرة موقفا وسطا، فذهبا إلى أنها الاستخدام المثالي للغتين أو أكثر.
على سبيل المثال كلمة (موهنجو – دارو) التي تم فيها اكتشاف اصول ومصدر المدنية الهندية تقسم الى ثلاث مقاطع لفظية هي -(موه – نجو – دارو) او الى ثلاث كلمات عربية هي (موه = ماء) – (نجو = ناس) – (دارو = دار) فتكون بذلك (دار ناس البحر) مصر: مسر मिस्र ، شكرا: شُكرَيا، لكن: ليكن लेकिन، السماء: آسمان आसमान، الشباك: تشبكي खिड़की، الكرسي: كرسي कुर्सी، الكتاب: كتاب किताब، الجريدة: أخبار अख़बार، الصقر “الباز”: باز बाज़ ،إذن يمكن القول أن هنالك الكثير من الألفاظ المشركة بين اللغة العربية واللغة الهندية، حيث تشكل قاموس متماه بين الحقلين اللغويين.
الخاتمة
وفي نهاية المطاف أقول إن العلاقات الهندية العربية ليست وليدة العصر الحالي بل هي ضاربة في القدم بدء من العلاقات التجارية وحتى العلاقات السياسية والثقافية عن طريق الرواد العسكريين والقادة، ويتضح الترابط بين اللغة العربية واللغة الهندية في التشابه بين الكلمات المستخدمة لوصف الأشياء كما في التعابير الخاصة بالوقت وذلك يعود إلى التجارة بين الهند واليمن والتي تعود بدايتها إلى القرن الأول الميلادي حينما بدأت ما تسمى الآن بالتجارة مع الإمبراطورية الرومانية، وهنا عمل التجار اليمنيون على متن السفن التي ترحل من الهند للتجارة إلى مصر وإلى غيرها من الدول إلا أنه بدأ التأثير الأكبر للحضارة العربية على الهندية في القرن السابع الميلادي عندما ازدهرت التجارة حيث تعد الحقبة من منتصف القرن السابع الميلادي وحتى منتصف القرن الثالث عشرهي أهم الفترات للعرب في نشر لغتهم وحضارتهم.
باحث الدكتوراه في قسم اللغة العربية بجامعة كالكوت- جمهورية الهند
المصادر والمراجع
- د. خزعل الماجدي ، الحضارة الهندية، دار الرافدين ومنشورات دار تكوين 2019 م.
- أبو الحسن صادق وشاه جهان محمد عبد القيوم، مشاركة اللغة البنغالية في الحضارة الإسلامية، كتاب المؤتمر الثامن لمؤسسة آل البيت (2 - 4 يوليو/تموز 1991 م)، عمان 1992، ص 314-325.
- ميشال زكريا، قضايا ألسنية وتطبيقية، دار هومة، ط3، الجزائر، 2000.
- أبو نعمان محمد عبد المنان خان، اللغة البنغالية وتنميتها في ظل الإسلام والمسلمين، مجلة المؤسسة الإسلامية، دكا، العدد الأول والثاني 1984 م.
- عبد الوهاب عزام، الألفاظ العربية في اللغات الإسلامية غير العربية، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء التاسع، القاهرة 1957، ص. 85-86.
- محمد رشيد ناصر ذوق، بين اللغة العربية ولغات الهند وحضاراتها –مقارنة لفظية-، منبر حر للثقافة والفكر والأدب،
- أحمد السيد محمد حسن، تشابهات بين اللغة الفارسية والهندية واللغة العربية،
- سيد رضوان علي، التراث الحضاري الإسلامي في اللغة الأردية، كتاب المؤتمر العام الثامن لمؤسسة آل البيت (2-4 يوليو/تموز 1991 م)، عمان 1992، ص. 106-140.
- إبراهيم أنيس ، المعجم الوسيط (مجلدان) طبع دار المعارف بمصر 1393 ﻫ/1973م.
- الندوي، قمر شعبان، الثنائية اللغوية بين اللغات الهندية والعربية الفصحى،
- محمد رشيد ناصر ذوق، بين اللغة العربية ولغات الهند وحضاراتها –مقارنة لفظية-، منبر حر للثقافة والفكر والأدب،