تقدم دراسة الباحث الألماني هنا تصورا جذريا لما طرحته علينا جائحة كرونا والتغير البيئي معها من ضرورة التشكيك الجذري، في نموذج النمو الغربي والبحث عن نظام اجتماعي بديل وأكثر إنسانية لما بعد الرأسمالية وكيف يمكن تحريره من ضغوط النمو، وجعله إقليمياً، وأكثر ديمقراطيةً وأكثر توجهاً نحو الصالح العام.

التحول من خلال تراجع النمو!؟

التخيلات المتعددة واليوتوبيات الحقيقية للمجتمع المدني

فـرانك أدلـف

ترجمة: فادية فضة وحامد فضل الله

 

المقدمة
كشفت أزمة كورونا في ربيع 2020،[1] العديد من المشكلات الاجتماعية التي كانت حادة من قبل: بينت هشاشة تكوين الرأسمالية المالية، عدم المساواة في التعليم أو عدم المساواة بين الجنسين في شكل تأنيث أعمال الرعاية. بالإضافة إلى هذه المشاكل التي ظهرت الآن بوضوح، هناك عواقب إدارة الأزمة الحالية: الركود في الاقتصاد العالمي، ودول مثقلة بديون جديدة، وارتفاع معدلات البطالة، ... إلخ. لكن السؤال عن مجالات العمل والإصلاح الجديدة التي ستفتحها الأزمة حاليًا (حزيران/ يوليو 2020). مازال مفتوحاً الى حد كبير. مع ذلك، ما أصبح جليا الآن خلال أسابيع قليلة من الإغلاق أن اليقينيات القائمة يمكن أن تتحطم بسرعة عالية. ويتم استبدالها بوعي طارئ وامكانية ظهور الجديد. يفكر المرء حالياً بأن السياسيين فعلوا ما لم يكن من الممكن تصوره في السابق، حيث أغلقوا الحياة الاقتصادية والعامة بالكامل تقريبًا، لخدمة الصالح العام.

في سياق الأزمة سرعان ما حظيت أصوات الذين اعتبروا الإغلاق فرصة للإصلاحات الاجتماعية، والتي تهدف إلى استدامة بيئية أكبر لطريقة حياتنا، باهتمام متزايد من ناحية، ينصب التركيز العام في الغالب على مطالب التحديث البيئي في شكل صفقة خضراء (جديدة). مع وجوب تعيين "المحفزات الخضراء" للانتعاش الاقتصادي، من أجل الجمع بين حماية المناخ والانتعاش وعودة النمو الاقتصادي قريبًا (Kröger et al. 2020). تُبنى مسودات التحديث البيئي، من أجل جعل مجتمعات النظام المؤسسي الحالي، أكثر استدامة. يجب تَكييف الفردانية والديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الرأسمالي مع امكانيات البيئية المتغيرة. كذلك يرى مؤيدو "الرأسمالية الخضراء" بأن التقدم التقني سيُمكّن من فصل النمو الاقتصادي عن استهلاك الموارد (راجع Mol et al. 2014).

تصبح مثل استراتيجية الاقتصاد المستدامة، من ناحية أخرى، مرفوضة بوضوح من قبل ممثلي المناهج التحويلية. إنهم مهتمون بتحويل أساسي في الاقتصاد والمجتمع. حيث يتم استهداف الاكتفاء بالاقتصاد والاستهلاك ونظام اجتماعي قائم على المساواة، يتغلب على الإكراه في النمو الاقتصادي ولا يهيمن على الطبيعة ويستغلها. (Kallis et al. 2015). [2] لقي هذا المنظور في سياق أزمة كورونا، استجابة أعلى، حيث أثار الإغلاق التساؤل، عما إذا كان مشابهاً لما يدعو إليه منظرو ونشطاء ما بعد النمو أو تراجع النمو. أشار الخبير الاقتصادي في مرحلة ما بعد النمو نيكو بايش (Niko Paech)، المعروف في ألمانيا، في مقابلة[3]: "إن أزمة كورونا فرصة. لكشف أزمات، أخطاء التنمية: يبدو فجأة أن الإمداد بالسلع الضرورية للحياة، مثل الكمامات أو أجهزة التنفس الصناعي معرض للخطر. لقد تبين أن نموذجنا للازدهار غير محصن. وبالتالي يمكننا الاستجابة لهذا، بشكل مناسب من خلال استراتيجية ما بعد النمو." تظهر الأزمة من منظور تراجع النمو، بأن الاقتصاد وأسلوب الحياة الحالي لم يكن مستداماً، وهشاً للغاية. لذلك سيكون تراجع النمو هو الرد الصحيح على الأزمة. ومع ذلك، فإن الإغلاق لا يتوافق من ناحية المفهوم، مع تراجع النمو، لأن تراجع النمو لا ينجح لمعالجة أزمة ركود اقتصادي إلا إذا كان هناك تخطيط طويل الأجل وتحول تدريجي إلى مجتمع ما بعد النمو أيضاً. يجب بناء نظام اقتصادي بديل تدريجي، نظام أكثر مرونة ويعطي الأولوية لرفاهية الإنسان على النمو الاقتصادي (well-being over economic growth) (degrowth.info 2020). وفي هذا السياق، فإن المطلوب هو إعادة توطين الدورات الاقتصادية، وفرض الدخل الأساسي غير المشروط، والأنشطة الاقتصادية المجتمعية، والتغلب على الزراعة الصناعية. تم في 13 أيار/مايو 2020، نشر خطاب مفتوح في العديد من البلدان واللغات بعنوان "جذور جديدة للاقتصاد"، والذي وقع عليه أكثر من 1100 خبير وأكثر من 70 منظمة، يصوغ استراتيجية خفض النمو كوسيلة للخروج من أزمة كورونا. يجب أن يجعل المجتمع والاقتصاد والسياسة أنفسهم مستقلين عن النمو الاقتصادي. يتحدث المرء صراحة ضد فكرة النمو الأخضر ويحاول حل المشاكل الاجتماعية والبيئية في نفس الوقت من خلال اتخاذ خطوات نحو تراجع النمو. في مجتمع ما بعد النمو، عادل، يمكن أن ينغلق الاقتصاد لأشهر دون تعريض السلع الضرورية الحيوية والخدمات الأساسية للخطر. [4]تم مناقشة السؤال حول الشكل الذي سيبدو عليه الاقتصاد بدون نمو، حتى في الجريدة الأسبوعية دي تسايت (DIE ZEIT) في 9 حزيران/ يوليو 2020. ويُشار بصورة لافته للنظر، بأن الاقتصادات الحديثة يمكن أن تنكمش أو تستقر اقتصاديًا دون أن يكون لذلك عواقب وخيمة. حتى أن روبرت سولو (Robert Solow)، الذي حصل على جائزة نوبل في عام 1987 لبحثه حول النمو الاقتصادي، يرى بنشوء مشاكل عند الانتقال من اقتصاد النمو إلى اقتصاد ما بعد النمو، وليس في اقتصاد ما بعد النمو نفسه. تأخذ معظم المساهمات (على سبيل المثال من ماريانا مازوكاتو وكلوديا كيمفيرت) (Mariana Mazzucato und Claudia Kemfert) موقعاً متوسطاً، أي أنه يجب أن يكون هناك نمو في بعض القطاعات (مثل الطاقات المتجددة والرعاية)، بينما ينبغي تقليص القطاعات الأخرى. يمكن للمرء رؤية، أن خطاب ما بعد النمو قد وصل في غضون ذلك إلى الوسط الليبرالي اليساري في ألمانيا.

فيما يلي نظرة عامة على المناهج الناقدة للتحديث وخصائص كل منها. من خلال القيام بذلك، أنني أميز خطاب ما بعد النمو للشمال العالمي (1) عن منظور الجنوب العالمي، الذي يمثل مفاهيم متعددة الجوانب للحياة الجيدة والتنمية وينتقد بشدة المفهوم التقليدي للتنمية، كونها ليست عالمية (2). ويتبع ذلك السؤال عن أي التخيلات الراديكالية لاقتصاد ومجتمع متحول ومختلف تمامًا، نتعامل معه في هذه الخطابات (3). وكيفية تخيل المستقبل في المجتمعات، هو الذي يقرر ما يمكن تحقيقه في المستقبل. تهدف جميع النظريات والحركات المعروضة هنا إلى يوتوبيات حقيقية للمجتمع المدني (4). ويعتمد الطريق إلى مجتمع ما بعد الرأسمالية، بشكل أساس على مبدأ التنظيم الذاتي الأفقي. وأجريت أخيراً، محاولة سريعة لتقييم فرص تحقيق مسودات نظام اجتماعي بديل وما بعد النمو (5).

  1. ما بعد النمو، تراجع النمو
    يدور نقاش مكثف منذ عدة سنوات في أوساط اقتصادية غير تقليدية في الشمال العالمي حول مسألة مستقبل المجتمعات الحديثة، ما إذا كان ينبغي للمرء أن يقول وداعا لفكرة النمو الاقتصادي الدائم، لأسباب بيئية واجتماعية. كان الرأي الراسخ منذ النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده، في العلوم والسياسة وأجزاء كبيرة من الجمهور السياسي هو أن المجتمعات الحديثة يجب أن تعزز نموها الاقتصادي على أية حال. كان النمو وما يرتبط به من "تأثيرات المصاعد"[5] (Beck 1986) (ولا يزال غالباً) أساس الاستقرار الاجتماعي، عبر ربط "الطبقات الدنيا" بنظام ديمقراطي، ودمج المهاجرين في أسواق العمل، وسياسات توزيع دولة الرفاهية، واحتواء عدم المساواة الاجتماعية. تم تمويل إعادة التوزيع من نمو الناتج المحلي الإجمالي. بقدر ما كانت هذه الإجابة معقولة وفعالة لسنوات عديدة، في المجتمعات المعاصرة، يبدو أنها دخلت الآن في أزمة (Nachtwey 2016): في جانب، لم يكن من الممكن تحقيق معدلات النمو المطلوبة لعقود من الزمن؛ وأصبحت العواقب البيئية المهددة لتوجه النمو من ناحية أخرى، موضع تركيز متزايد. على خلفية الصعوبات السياسية الكبيرة في فرض قيود إلزامية على الاستهلاك الهائل للموارد وكذلك على إنبعاثات (ثاني أوكسيد الكربون) في الاقتصادات الرأسمالية، في السنوات الأخيرة، كان هناك جدل متزايد حول الشكل الذي قد يبدو عليه النظام الاجتماعي غير القائم على النمو. (Jackson 2011) ومع ذلك، يحتاج مجتمع ما بعد النمو إلى مؤسسات جديدة، وهُوية مثالية وعقليات جديدة تتجاوز منطق النمو. وبخلاف ذلك، فإن مجتمع ما بعد النمو لن يجلب سوى تنافساً مكثفًا على الموارد الشحيحة في شكل التحرر من التضامن وترسيم الحدود (راجعMuraca 2014 ؛ Blühdorn 2016).

تتناول النقاشات الحديثة حول مجتمع ما بعد النمو على وجه الخصوص مصطلحات تراجع النمو وانخفاض النمو - للحصول على نظرة عامة، انظر (Schmelzer / Vetter 2019). تم إدخال المصطلح الفرنسي (décroissance) (انخفاض النمو) لأول مرة في عام 1972، في النقاش حول البيئة، وحدود النمو والرأسمالية بواسطة أندريه غورز (André Gorz). حيث يرى أن انخفاض النمو ضروري للحفاظ على التوازن البيئي للأرض. تم بعد ذلك نسيان هذا النقاش حول سياسة بيئية جديدة لسنوات عديدة، وبدأت جولة جديدة من النقاش في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فقط. هذه المرة تعرض مفهوم التنمية أو التنمية المستدامة للنقد، ووضع سيرج لاتوش (Serge Latouche) (2015) على وجه الخصوص مفهوم (تراجع النمو الاقتصادي) مقابل فكرة أن هناك مساراً واحداً فقط للتنمية (أي المسار الغربي) وأن هذا يجب أن يعتمد على منطق الاستهلاك المتزايد للموارد والسلع (راجع Acosta 2015). يُنظر إلى منظور تراجع النمو أيضاً على أنه بديل لمفهوم التنمية المستدامة، والذي يهدف إلى التوفيق بين التنمية والبيئة والاقتصاد. يمثل مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو عام 1992 نقطة تحول مهمة. تم في مبادئ إعلان ريو ترسيخ الحق في التنمية المستدامة لأول مرة كمبدأ معياري قَبَلَهُ المجتمع الدولي. يجب أن تخدم التنمية احتياجات الأجيال الحالية دون تعريض فرص التنمية للأجيال القادمة إلى الخطر (كما كان الحال مع تقرير برونتلاند لعام 1987).

تطور من مفهوم (décroissance) انخفاض النمو بدءاً من فرنسا، ثم إسبانيا وإيطاليا أيضاً، إلى نقد أساسي لفكرة النمو، والتي تم توسيعها في السنوات الأخيرة لتصبح نقداً للرأسمالية في المجتمعات الاستهلاكية الغربية. ليس من السهل تحديد الجوهر النظري للنقاش الحالي حول انخفاض النمو (décroissance). قال كاليس (Kallis) ودماريا (Demaria) وداليزا (D’Alisa) في كتيب مركزي إن الأمر يتعلق في المقام الأول بنقد ما بعد الاستعمار للنمو: "إنه يدعو إلى إنهاء النقاش العام ما بعد الاستعمار من مصطلح الاقتصادوية وإلى إلغاء النمو الاقتصادي باعتباره هدفاً اجتماعياً" (Kallis / Demaria / D'Alisa 2015: 3). إنهم يبحثون عن بدائل لإيديولوجية النمو، والتي يتم التعبير عنها، على سبيل المثال، في مفاهيم وممارسات المشاركة أو البساطة أو المشاعات أو الرفاه أو الرعاية. تركز المناقشات اللاحقة على جوانب مختلفة للغاية: مثل القضايا البيئية المتعلقة بانبعاث ثاني أكسيد الكربون والاحتباس الحراري، انتقاد الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر، وانتقاد النمو والنمو المتسارع، والتحليلات النقدية للرأسمالية، وانتقاد تقسيم العمل على أساس الجنس، انتقاد الاغتراب عن العمل والطبيعة، والمطالب من أجل تخفيض ساعات العمل أو المطالبة بالدخل الأساسي، وانتقاد استغلال الجنوب العالمي، وانتقاد برامج التحديث الغربية، وما إلى ذلك. ما تشترك فيه هذه الممارسات والخطابات هو البحث عن أشكال بديلة للاقتصاد تدوم دون نمو، كذلك محاولة تصور لعالم اجتماعي تنطلق منه حداثة عقلانية، قائمة على النمو. (انظرCastoriadis 2014a). يجري البحث عن مجتمع لا يسعى لتحقيق أهداف النمو من أجل النمو، مجتمع مستقل بمعنى أنه قادر على تحقيق الأهداف التي حددها بنفسه ويقيد نفسه بحرية بها. مجتمع لا تحكمه بشكل غير متجانس قيود عملية مزعومة وقوانين اقتصادية رأسمالية. بالنسبة لسيرج لاتوش (Serge Latouche) (2015: 55 وما يليها)، "بابا" حركة نقد النمو الفرنسية، فهذه مهمة سياسية حقيقية تتطلب الشروع في تحول ثقافي للعقليات الإنتاجية والاستهلاكية للغرب، لتطوير يوتوبيات بديلة ملموسة ولتطوير نظرية متماسكة. [6]

ترتبط كل مناهج هذه المشاريع الاقتصادية البديلة المذكورة مع أغراض غير اقتصادية، مثل إنشاء رأس المال الاجتماعي والثقة، وعدم الاغتراب، والروابط المحلية، وانتقاد الطابع السلعي للعمل، ورفض التسلسل الهرمي، والدوافع البيئية وتلك الخاصة بالإنصاف والعدالة. يربطون عناصر السوق والاشتراكية والمجتمع المدني (راجع Adloff / Kocka 2016؛Adloff 2020). يظهرون، قبل كل شيء، أنه في ظل الظروف الرأسمالية العالمية، هناك أيضًا عدد كبير من المثل والممارسات غير الرأسمالية للنشاط الاقتصادي، والتي، مع ذلك، لا يتم أخذها على محمل الجد بما فيه الكفاية من قبل الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد وكذلك من قبل اليسار الماركسي. وهذا يجعل البحث الفكري عن بدائل غير رأسمالية للتعايش أكثر صعوبة. لذلك ينتقد الثنائي الجغرافي جيبسون - جراهام (Gibson-Graham) (2014) وجهة النظر الرأسمالية للاقتصاد، والتي تمنعنا من التعرف على البدائل وتسميتها. كما يؤكد عالم الاجتماع ديف إلدر فاس (Dave Elder-Vass) (2018) أيضًا، أن هناك ميلًا قويًا في اليسار وكذلك عند اليمين لرؤية الاقتصاد على أنه رأسمالي تماماً. هذا لا يمنع الاعتراف بالممارسات الاقتصادية غير الرأسمالية فحسب، بل يؤدي إلى تثبيط العزيمة السياسية للمبادرات المناهضة للرأسمالية أيضاً. إن عدم رؤية هذا الاقتصاد، الذي ليس مطابقاً تماماً لاقتصاد السلع الرأسمالية، يؤدي في النهاية إلى تقويض الممارسات غير الرأسمالية أو المناهضة للرأسمالية بجعلها غير مرئية أو حتى إنكارها.

تسير وجهة النظر الرأسمالية جنبًا إلى جنب مع فهم نظري إشكالي للاقتصاد. حيث يتم تصور الاقتصاد على أنه مستقل، إن في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة التي تسترشد بحسابات المنفعة الفردية والكفاءة، أو في علم الاجتماع كمرجع لنظام وظيفي اجتماعي ذاتي يتبع فقط منطق الربحية (راجع Beckert 2014). لا يتطابق الاقتصاد في الواقع مع عمليات السوق ولا يتطابق مع الرأسمالية: يعتمد الاقتصاد أيضًا على قطاع الاقتصاد المنزلي غير الربحي، أي الأعمال المنزلية والتعليمية غير مدفوعة الأجر، ويعتمد أيضاً على عمليات إعادة التوزيع وتبادل السلع. كما أن السوق نفسه ليس ذاتي التنظيم: يجب أن تنظمه الدولة وأن يكون جزءاً لا يتجزأ من قواعد المجتمع المدني. وأخيراً فإن مؤسسة اقتصادية لا تتطابق بالضرورة مع مؤسسة رأسمالية. والذي يتضح عندما يفكر المرء في التعاونيات أو أشكال الملكية الجماعية أو المشاريع غير الربحية. (Elsen/Walk 2016). ويمكن متابعة ذلك إلى القرن التاسع عشر على سبيل المثال في الحركة التعاونية، التي لم تكن ناجحة في مجال الديمقراطية الاجتماعية فقط، (هناك مفاهيم مسيحية محافظة، كذلك اتحادات فوضوية). يتم في ظل ظروف السوق، الجمع بين المبادئ الرأسمالية للرأسمالية مع أشكال تنسيق أخرى. لا تتوقف الجمعية التعاونية على تحقيق رأس المال وإنما تركز على تلبية احتياجات الأعضاء، بالإضافة إلى مبدأ الديمقراطية والتضامن أو ما يسمى "الروح التعاونية".

يتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه رؤية مجتمع ما بعد النمو في كيفية الجمع بين التحول عن النمو الاقتصادي والحاجة إلى معالجة التفاوتات الاجتماعية. إذا لم يعد الازدهار المادي ينمو، بل يتقلص، فمن منظور تراجع النمو، يجب فرض ضرائب أكبر على مجموعات الدخل والأثرياء. إن انخفاض النمو هو قبل كل شيء مشروع إعادة هيكلة وإعادة توزيع يحاول كبح الاِلتزام بالنمو الاقتصادي. يجب أن يكون الاقتصاد والمجتمع قادرين على التعامل بمرونة مع انخفاض النمو؛ ويجب أن تصبح المؤسسات الاجتماعية مثل الضمان الاجتماعي والتعليم أولاً وقبل كل شيء أقل اعتماداً على النمو الاقتصادي. [7]

هذا يعني في الواقع، من الناحية السياسية (راجع Caillé & Les Convivialistes 2016)، تقليل اعتماد المواطنات والمواطنين على الشركات والأسواق. سيتطلب ذلك، من ناحية، وجود قطاع عام متطور وفعال، ومن ناحية أخرى، يتطلب قبل كل شيء أشكالاً جديدة من التعاون بين الشركات والقطاع العام والمجتمع المدني أو المنظمات غير الربحية. لا ينبغي خصخصة قطاعات السلع العامة، ولكن يجب الحفاظ عليها وابتكار تحديثها، وينبغي تعزيز التعاونيات ودعم العملات التكميلية الإقليمية. تحتاج السلع الاستهلاكية إلى فترة صلاحية أطول، ويجب أن تكون الحياة بدون التنقل الفردي ممكنة، وأخيراً، يجب تقليل الاعتماد ليس على الأسواق والشركات فحسب، بل على المال من خلال أشكال التبادل غير النقدي أيضاً. هناك حاجة إلى مؤشرات بديلة ومعايير نوعية جديدة لتقييم الاقتصاد (وليس الناتج المحلي الإجمالي). مطلوب في النهاية، تغيير مفهوم الشركات جذريا. أي، في مفهوم الاقتصاد من أجل الصالح العام (Felber 2012)، على ألّا يقتصر دورها على تحقيق الربح فحسب، بل يتعين عليها مراعاة جوانب الصالح العام أيضاً. ومن ثمة لا يُفهم منها على أنها شركات خاصة بقدر ما تُفهم على أنها شركات مشتركة تعمل من أجل خلق قيم مشتركة تتجاوز القيم النقدية ولم تعد تجعل التكاليف البيئية والاجتماعية خارج حساباتها. يتم ذلك تحت كلمات أساسية، مثل اقتصاد التضامن والاقتصاد المشترك والمشاعات واقتصاد المجتمع أيضاً (راجع (Laville/Salmon 2015). بالإضافة إلى ذلك، هناك أشكال جديدة للاقتصاد المفتوح القائم على الإنترنت مثل شبكات الند للند (peer-to-peer)، ويكيبيديا، ولينوكس، والمشاع الإبداعي، وما إلى ذلك (راجع (Rifkin 2014).

يمكن لهذه التجارب الاجتماعية البديلة في نمط الحياة أن تساهم في نقاش اجتماعي حول تغيير يمكن التحكم فيه ("حسب التصميم") في مجتمع ما بعد النمو ويمكن أن تفسر على أنها عناصر مجتمع المستقبل. هذه المجموعات تمثل مختبرات يتم فيها تجربة توجهات قيمية جديدة، وتصرفات ذاتية وممارسات تجارب اجتماعية لنمط الحياة[8]، أنهم يمثلون أوساط حاملة لتغيير مستقبلي محتمل، نحو نظام اجتماعي غير موجه نحو النمو.

ما مدى واقعية تصور مجتمع بعد النمو، بالتأكيد لا يمكن الإجابة عنها في الوقت الراهن. يمكن إعطاء عدة أسباب لذلك: أولاً، لا يزال البحث مركزاً على الجوانب التكنولوجية والعلمية القابلة للاستخدام لصالح التغيير، "الابتكارات الاجتماعية، بالكاد يتم البحث فيها" (Schneidewind / Singer-Brodowski 2014: 29). ثانياً، إن المؤسسات "الكلاسيكية" لإدارة الأزمات، الدولة والاقتصاد، تتوجه بنفسها نحو النمو. وبالتالي، فإن امتداد التطورات الاجتماعية الحالية غير قادرة على تقديم إطار للتنبؤ أيضاً. لا يمكن التفكير في انخفاض النمو إلا على أنه قطيعة مع مسارات التنمية السابقة. ثالثًا، لا يشير التوجه نحو النمو إلى نموذج اقتصادي فحسب، بل يشير إلى نموذج ثقافي أيضاً. (Büttner/Weyand 2016) هذا يعني توجه المرء إلى نماذج للحياة مطابقةً لصيغة النمو، على سبيل المثال، للتحسين الذاتي المثالي المستمر (Welzer 2015). لذلك، لا يمكن التفكير في تغيير نموذج اقتصادي وحياتي قائم على النمو دون تغيير في التوجهات الثقافية الأساسية. تتمثل إحدى نتائج النظرية الثقافية التي صاغها هارتموت روزا (Hartmut Rosa) (2016) مؤخرًا، في فصل الارتباط بين الرخاء المادي ومفاهيم الحياة الجيدة التي تتميز بها الثقافات الغربية. كيف يمكن تعميم هذا في الممارسة، وكذلك كيف يجب أن يكون هذا الفصل مفهوم نظريا؟ لا يزال غير واضح إلى حد كبير. ومع ذلك، لا يمكن إنكار بأن الاِعراض عن نموذج النمو يمثل تساؤلاً جذرياً عن طريقة الحياة الغربية الحديثة حتى الآن، وبالتالي لا يكون بالكاد ممكناً، بدون تغيير عميق للثقافة التي تركز على الموارد والعقليات الذاتية المقابلة لها. من الواضح أيضاً أن مثل هذا التغيير يتطلب العديد من المجموعات الداعمة، أبعد من الطبقات المتوسطة اليسارية البديلة الأصغر سنًا والمتعلمة أكاديميًا (Eversberg 2015 والتي تمارس بالفعل هذا التساؤل الجذري حول نماذج النمو، التي يمكن تحقيقها عملياً.. بخلاف ذلك، سيبقى انخفاض النمو ظاهرة صغيرة غير قابلة للتعميم.

يتعرض نموذج النمو من نواحٍ أخرى، لانتقادات في الجنوب العالمي أيضاً. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، ما إذا كان يجب رفض النموذج الغربي للتنمية من منظور ما بعد الاستعمار. لذلك، يجب إبراز وجهات النظر والممارسات البديلة للتعايش في الجنوب والدفاع عنها ضد نموذج النمو الاقتصادي التقليدي الموحد.

2: التنمية والعالمية، إنهاء الاستعمار والتعددية
يرتبط نموذج النمو ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التنمية. صممت الولايات المتحدة بعد عام 1945، في سياق عمليات إنهاء الاستعمار ومع تفاقم الصراع بين الشرق والغرب، نموذجاً للتنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية لبلدان العالم الثالث. صاغ الرئيس الأمريكي هاري س. ترومان في برنامجه "النقطة الرابعة" في عام 1949، رؤيته للبلدان "المتخلفة" في العالم: "يجب علينا أن نوفر للشعوب المحبة للسلام فوائد مخزوننا من المعرفة التقنية لمساعدتهم على تحقيق تطلعاتهم في حياة أفضل." يعتبر هذا البرنامج مقدمة لمفهوم مساعدات التنمية. تعرض مفهوم التنمية والتخلف المبين أعلاه، لانتقادات من اتجاهات مختلفة. كما تعرض في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، نموذج التنمية النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة) لانتقادات شديدة في السنوات الأخيرة.

فقد وضعت الحكومات اليسارية الدولة القوية وهدف محاربة الفقر في مواجهة راديكالية السوق. يعلق ألبرتو أكوستا (2015: 192) على هذا الأمر، بشكل نقدي: "مع ذلك، تتميز سياستها من خلال فكرة التنمية أيضاً: إنهم يعتمدون على استراتيجية إنمائية (مثلما فعل الاستعمار ذات مرة) ملتزمة باستغلال المواد الخام والأراضي الزراعية للتصدير - ما يسمى بـ النزعة الاستخراجية للقرن الحادي والعشرين". انتقدت نظرية التبعية في السبعينيات، الفهم الغربي للتنمية والتحديث. لم يُنظر إلى التخلف على أنه مرحلة تاريخية تليها التنمية، ولكن كنتيجة لاستغلال الجنوب من قبل الاستعمار والرأسمالية. على الرغم من أن هذه النظرة غير التقليدية المستوحاة من الماركسية، هاجمت البديهيات الأساسية لنموذج التنمية الغربي، إلا أنها ظلت مرتبطة بفكرة، أن التنمية يمكن تحقيقها بشكل أساسي من خلال النمو الاقتصادي. كما كان يُنظر إلى التصنيع والاستغلال الفعال للموارد الطبيعية هنا على أنهما وسيلة مجربة ومختبرة لبدء عمليات التنمية المرغوبة.

على النقيض من ذلك، فإن مفاهيم مثل خفض النمو أو الحياة الجيدة (buen vivir)، والتي تأتي من أمريكا اللاتينية، هي بدائل لنموذج التنمية نفسه. كما يمكن استخدام ما بعد التنمية كمصطلح عام لهذه المنظورات النقدية التنموية أيضاً. تمت الإشارة في هذا الخطاب، إلى مؤلفين مثل فولفغانغ ساكس، غوستاف ايستيبا وأرتور إسكوبار  (Wolfgang Sachs, Gustavo Esteba und Arturo Escobar) والذين قاموا منذ عقود بتفكيك مفهوم التنمية، وقبل كل شيء، انتقدوا فكرة التقدم الخطي التي احتوتها (Demaria Kothari 2017). إن ممارسات وخطابات ما بعد التنمية تدور حول إنشاء نماذج متعددة للحياة الجيدة التي تختلف عن نموذج النمو الغربي. يتضمن هذا أيضًا الاعتراف بالأنطولوجيات العلائقية غير البشرية التي ترفض الفصل بين الطبيعة والثقافة. تم في الغرب، من ناحية أخرى، تأسيس راسخ للأنطولوجيا البشرية، التي تميز بوضوح بين الذات والموضوع، وبين الإنسان والطبيعة، وتنكر الروابط والأشياء المشتركة والاعتماد المتبادل بين الكائنات البشرية وغير البشرية (Descola 2014) . بالإضافة إلى ذلك، يجب الحفاظ على الممارسات المحلية للنشاط الاقتصادي غير الرأسمالي (على سبيل المثال في شكل المشاركة والتوجه غير الربحي) ويجب الاعتراف بالتصورات المشتركة المتعلقة بالحياة الجيدة(Escobar 2011) . لا يتم بهذه الطريقة، نقد نماذج التنمية في الشمال العالمي فحسب، بل يتم أيضًا انتقاد الأفكار الاشتراكية أو الماركسية للتنميةGudynas 2013) ). هذا نقد أساسي لدستور الحداثة، حيث يتم ممارسته في الشمال العالمي من قبل ممثلي ما بعد النمو أو التراجع، ومن النسوية البيئية أو البيئة العميقة أو نهج غايا[9] (Gaia) أو الروحانية البيئية أيضاً.

كما يتم أيضًا انتقاد الموقف الاستعماري لشمال العالم، الذي لا يزال قائماً منذ عقود التاريخ الاستعماري. ويُبنى النقد ليس على الاستعمار والإمبريالية فقط، ولكن على سياسة التنمية وسياسة حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية أيضاً. وفقًا للنقد، تستند هذه إلى حد كبير، إلى أفكار المركزية الأوروبية. كانت المستعمرات التي أنشأها الغزو كيانات سياسية، تعتمد بشكل دائم على المركز البعيد. كان الاستعمار من الناحية الأيديولوجية، مدعوماً بوعي الرسالة وبالإرادة التبشيرية، بهدف "تحضير البرابرة أو المتوحشين"، وعلى أساس أفكار التفوق الثقافي والعنصرية المفتوحة  (Osterhammel 1995).

لقد ولى زمان الاستعمار والتمييز العنصري الواضح من عقود، لكن هياكل الاستغلال والأفكار العنصرية لا تزال فعالة في عصر ما بعد الاستعمار (راجع مكارثي 2015). مع ذلك فإن سياسة التنمية والتحديث، كما أعلنها هاري ترومان، لم تغير شيئًا في هذا الصدد (راجع Knöbl 2001: 28ff). ولا تزال دول الجنوب منخرطة مع الشمال العالمي في علاقات اقتصادية ليست لصالحها (Brand / Wissen 2017) على الرغم من "مساعدات التنمية"، استمرت علاقات التبادل غير العادلة حتى يومنا هذا (Hickel 2018)

ينطبق الأمر نفسه على العنصرية. حتى لو كان المفهوم العلمي والبيولوجي للعرق قد فقد مصداقيته منذ فترة طويلة، مازال التمييز العنصري الجديد مستمراً حتى اليوم. لا تستند القوميات العنصرية إلى علم الأحياء (البيولوجيا) بل على الثقافة وتستمر في لعب دور رئيسي في النقاشات حول سياسة الهجرة. كما هو الحال مع العنصرية البيولوجية، يتم استخدام الاختلافات الجسدية النمطية كمؤشرات على نمط الاختلافات الثقافية والشخصية. حقيقة أن الامتيازات العنصرية، التي نراها في جميع أنحاء العالم، تزعزع على ما يبدو الهويات الغربية لـ "البياض" وتؤدي إلى عودة ظهور الأيديولوجيات العنصرية التي تهدف إلى الدفاع عن الامتيازات الثقافية والسياسية والاقتصادية لتفوق البيض (راجع (Mishra 2018)).

إذا فشلت المجتمعات في محاولاتها لبناء الازدهار والمؤسسات الغربية المنظمة، فغالبًا ما يُعزى ذلك إلى عيوبها الداخلية (مثل القيم والمواقف والعادات). وبهذه الطريقة يتم إضفاء الشرعية على عدم المساواة ثقافياً، وفي النهاية يمكن للفقراء والمستبعدين مساعدة أنفسهم فقط وفقاً لوجهة النظر هذه. وهي ليست بعيدة عن مفاهيم "التحديث" و "التنمية"، والتي تعتبر مهمة للحداثة الغربية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. يُنظر إلى البلدان على أنها منفصلة ووحدات غير مترابطة، التي يتعين عليها اتباع نموذج تدريجي للتنمية (Knöbl 2001: 32f.). فكل دولة مسؤولة عن أدائها، ولا يظهر الاستغلال وعلاقات التبادل الدولي غير المتكافئة في هذه النظريات. الهدف من التنمية هو تأسيس الازدهار ورغد الحياة والديمقراطية كما هو الحال في الغرب. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أبداً، أن يكون مشابهاً بدرجة كافية للأصل (الغرب أو الشمال) - في الأساس لا يمكن أبدًا أن يكون المرء "أبيضاً" مثل الغرب. من وجهة نظر النقاد، لا يمكن أن يتكون البديل إلا عبر التخلي عن هذه الديناميكية وعلاقات التبادل الدولي غير المتكافئة. يرتبط بهذا إنشاء أشكال اقتصادية قائمة على التضامن، تعتمد على التنمية المستقلة ووفقاً لمعاييرها الخاصة (بدلاً من الإنتاج بالسوق العالمي)  (Latouche 2004).  

الحداثة الغربية بالطبع ليست مجرد مصدر للظلم والاستغلال. حيث توجد النزعة الإنسانية والأخلاق العالمية واحترام كرامة الإنسان وفكرة حقوق الإنسان. هذه التقاليد الثقافية تجعل من الممكن انتقاد علاقات القوة غير العادلة. لكن الكونية الغربية تعرضت لسبب وجيه لانتقادات واضحة، واكتسبت سمعة أنها في النهاية تخفي فقط قوة الغرب في فرض أفكار معينة على الصعيد العالمي. لقد جعل الغرب علم الكونيات الخاص به عالمياً: وجهة نظر طرف واحد – في جوهرها محلية وإقليمية - تفرض نفسها في مقابل الجميع وفي كل مكان في العالم. (راجع (Chakrabarty 2000 تقوم العالمية الغربية - كما جاء في انتقاد الجنوب منذ فترة طويلة، ومؤخراً لحركة تراجع النمو الشمالي - على أنطولوجية الفصل: ليس الاعتماد المتبادل انما الكيانات المنفصلة، تَكونْ نقطة بداية الوجود. يفترض الفصل بين الطبيعة والثقافة، وتصبح الحرية الفردية والاستقلالية والعقل، مطلقة. تستند النظرة الغربية إلى العالم، على فكرة أنه لا يوجد سوى علم كوني واحد في جميع أنحاء العالم - فكرة خاطئة بشكل واضح، إذا اتبع المرء على سبيل المثال الأنثروبولوجيا المقارنة لفيليب ديكولاس (Philippe  Descolas) (2011) ولهذا السبب، تمت مناقشة مفهوم التعددية بشكل مكثف في السنوات الأخيرة.

اتضح أن هناك مجموعة متنوعة من الكونيات (الكوسمولوجيات) والعوالم الأخلاقية المختلفة. من الناحية المعيارية تتعلق التعددية بالمطالبة بتنويع وجهات النظر وأنماط المعرفة المشروعة، والتي تتضمن أيضًا انتقاد نموذج تنمية غير خطي(Kothari et al. 2019) . ومع ذلك، فإن وجهات النظر والعوالم ليست نسبياً جنباً إلى جنب، ولكنها متشابكة، وترتبط ببعضها البعض، ترتبط في علاقات قوة، وتتجادل مع بعضها البعض وضد بعضها البعض. لذلك لا يوجد كون واحد فقط، بل كون متعدد، لا يوجد بشكل مستقل بل مترابط (Boisvert 2010 ؛ Latour 2014 ؛ Tsing 2018) .فإن ترابطه من ناحية أخرى، إذا نظرنا إليه على نطاق عالمي، لا يمكن فصله عن اللامساواة العالمية التي هي إرث الاستعمار والعنصرية. للدفاع عن التعددية يعني في نفس الوقت الوقوف لتصفية استعمار الفكر والفعل[10].  أيضاً. يؤكد مفهوم التعددية، بالإضافة إلى ذلك، على أن الغرب وحده هو الذي ترك فكرة العلائقية إلى حد كبير وراءه واعتمد كثيرًا على فكرة الفرد المستقل الذي يختلف عن غير البشر من خلال العقل. من ناحية أخرى، فإن معظم الكونيات (الكوسمولوجيات) هي علائقية. يلخص أرتور إسكوبار (Arturo Escobar) (2015: 341) الأمر على النحو التالي: "تتغذى فكرة التعددية (...) من خلال مصدرين رئيسيين: النقد النظري للثنائية وعوالم تعددية، وبالتالي غير ثنائية (...)، مما يعطينا نظرة عميقة تعكس الرؤية العلائقية للحياة".

إذا أخذ المرء النقطة الثانية على محمل الجد، فهذا يعني أنه على مستوى الكونيات يجب أن تكون هناك مساواة لم تكن موجودة بعد. تحدث عالم الاجتماع البرتغالي بوافينتورا دي سوزا سانتوس (Boaventura de Sousa Santos) (2014) عن عدالة معرفية يمكن تأسيسها. لقد تم قمع وكبت بل وتدمير نظريات المعرفة للجنوب في سياق الاستعمار حتى يومنا هذا. تم تنحية مخزون المعرفة المحلي جانباً، وحُلتْ المؤسسات السياسية القائمة وتم نقل المحتوى التعليمي الموجه إلى المسيحية بشكل أساسي. ولكن لا تزال هناك طرق لمعرفة العالم أكثر مما يدركه النموذج العقلاني العلمي في الغرب. وفقاً لسانتوس، يتم التغاضي عن البدائل الموجودة أو التقليل من قيمتها لأنها لا تتوافق مع علم الكونيات الغربي. لهذا السبب، فإن المطلوب هو علم الاجتماع المُغيب، الذي يجعل مرئياً مرة أخرى ما هو غير مرئي عادة من خلال التقليل من قيمته ونفي نظريات المعرفة في الجنوب. لا يمكن أن يعتمد حل المشكلات العالمية على قاعدة المعرفة الخاصة بشمال العالم فقط، ولكن يجب أن يحترم أشكال المعرفة البديلة غير العلمية.

يتبع النظريات المعرفية للجنوب ممثلو مفاهيم تراجع النمو والتعددية أيضاً (Kothari et al. 2019).  غالبا ما يُشار إلى ظهور أشكال هجينة جديدة من الفكر الغربي والفكر الأصلي في أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة، بل وتم طرحها في القوانين. وهكذا، في المادة 71 من الدستور الإكوادوري من عام 2008، تُمنح الطبيعة الحق في الوجود والحفاظ على دوراتها الحيوية والعناية بها وهيكلها ووظائفها وعملياتها التطورية (راجع Gutmann 2019). يتم في الوقت نفسه، منح كل شخص ومجتمع وأمة بشكل صريح الفرصة للمطالبة بحقوق الطبيعة من مؤسسات الدولة. إن فكرة حقوق الطبيعة هي ظاهرة هجينة تجمع بين الفكرة الغربية لحقوق (الإنسان) والأفكار الأصلية للطبيعة. في حين أن الطبيعة لم تكن قادرة بعد على المطالبة بحقوقها الخاصة في النموذج الغربي حتى الآن، إلا أنه في الإكوادور تم استخدام صيغة(Topos)  ثقافة الباشاماما [11](الطبيعة الأم) أو اللجوء إلى الحياة الجيدة (buen vivir) ، وهي النظرة الخاصة بالشعوب الأصلية في الإكوادور، وطرحتها الأكوادور في السنوات الأخيرة في حوار مع المنظمات غير الحكومية الدولية في المناقشات الدستورية (Vanhulst / Beling 2017) . يعتمد مفهوم الحياة الجيدة (Buen vivir) ، على مخزون المعرفة الأصلية بشكل أساسي من جبال الأنديز، وهي من أصل اجتماعي وغير رأسمالي، ويحدد مفهوماً اجتماعيا وبيئياً للحياة الجيدة الذي لا يعتمد على المنافسة واستغلال الطبيعة. يقع هذا خارج مفاهيم التنمية التقليدية التي تفترض التقدم الخطي، وتتمحور حول الإنسان وتهدف إلى النمو الاقتصادي. يتيح الانفصال عن المركزية البشرية الاعتراف بالقيم الجوهرية للطبيعة ويهدف إلى الاعتماد المتبادل لجميع الكائنات الحية  (Acosta 2015)

ويجري حاليا استخدام هذه الجدل في المناقشات الجارية في شمال العالم من أجل تسليط الضوء على القيمة الجوهرية للطبيعة وترجمتها إلى الشكل القانوني. وطور المحامي الأمريكي كريستوفر ستون (Christopher Stone) (2010 [1972])  لهذه الغاية منذ عقود، فكرة حق التصرف للحيوانات والكيانات الطبيعية مثل الأنهار أو النظم البيئية. أما المحامي أندرياس فيشر ليسكانو(Andreas Fischer-Lescano) (2018)، على سبيل المثال، يرى حاليًا أنه يمكن دمج الحقوق الطبيعية في النظام القانوني الألماني ويدعو إلى مزيد من التطوير لمفهوم "الطبيعة ككيان قانوني". كما يقوم العديد من الفاعلين في المجتمع المدني حول العالم حالياً بحملات من أجل حقوق الطبيعة الملزمة والقابلة للتنفيذ. كان الدافع الرئيسي للنقاش هو مبادرات الشعوب الأصلية المذكورة أعلاه في أمريكا اللاتينية.

أمثلة أخرى لعلم الكونيات التي لديها القدرة على حل العديد من الأسئلة المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والبيئية، من منظور تراجع النمو أو الحركات المتعددة، مثل (Ecoswaraj) أو الديمقراطية البيئية الراديكالية من الهند ومفهوم (Ubuntu) من جنوب وشرق إفريقيا (Kothari et al. 2019).  إيكو سواراج[12] (Ecoswaraj)  يشير إلى حركة منظمة ذاتيًا في جنوب الهند، والتي تدعمها المجتمعات الفقيرة وتهدف إلى الاستدامة البيئية، والاكتفاء، والحياة الجيدة، والعدالة وكذلك الديمقراطية المباشرة والديمقراطية الاقتصادية. جذبت أوبونتو[13] (Ubuntu) (غالبًا ما تُترجم على أنها إنسانية) الانتباه خاصة في جنوب إفريقيا خلال فترة ما بعد الفصل العنصري. وهو مبني على علم الوجود العلائقي، والذي وفقًا له لا يرتبط البشر ببعضهم البعض ارتباطًا وثيقًا فحسب، بل يرتبط أيضًا بكائنات غير بشرية (Dübgen / Skupien 2015) . تظهر أوبونتو نفسها كإنسانية قبل كل شيء، خاصة في مجال الضيافة والرعاية والاحترام والتوجهات المجتمعية، على غرار المفهوم الدولي للعيش المشترك (راجع(Adloff / Costa 2020)  بالإضافة إلى ذلك، يتم التركيز بشكل أكبر على الالتزامات تجاه الحقوق؛ وبالتالي يجب فهم أوبونتو كفلسفة جماعانية. لعبت أوبونتو في جنوب إفريقيا دوراً رئيسياً في عملية المصالحة، حيث تسعى إلى التسامح بدلاً من الانتقام. يعتبر الاكتفاء والرضى في الحياة الاقتصادية، قواعد معيارية.

تشترك جميع المفاهيم المقدمة، في البحث الجماعي عن أشكال الحياة الجيدة، بما يتجاوز النمو والتنمية والعالمية الغربية القائمة على القوة. كما تهدف المساهمات النظرية والعملية لحركات الجنوب والشمال العالميين إلى إعادة تفسير الحداثة والتحولات الاجتماعية البيئية الأساسية. علاوة على ذلك هناك ثلاثة مجالات، حاسمة لكل مجتمع، يجب أن يتم استجوابها وتحويلها (Wagner 2010): ما هي المعرفة التي يمكن للمرء الاعتماد عليها؟ ما هي القواعد التي يجب أن توجه الحياة المشتركة؟ كيف يتم تلبية الاحتياجات المادية الأساسية؟ تسعى هذه الأسئلة الأساسية إلى فتح إمكانيات الحداثة و تستهدف الوصول الى حقائق وعقود آجلة أخرى. فيما يلي سيتم فحص مفهوم التصورات الاجتماعية الراديكالية بمزيد من التفصيل.

3. التخيلات الراديكالية (الجذرية):
يشير التشكيك الجذري، أي الراديكالي، لنموذج النمو الغربي بالمعنى الاقتصادي والسياسي والثقافي إلى موضوع تصور المساحات البديلة والمستقبل. إن المستقبل في العصر الحديث، متعدد وينشأ في خضم ممارسات وتصورات الحاضر التي يمكن أن تنتج عقوداً مستقبلية متباينة. يعتمد الشكل الذي سيبدو عليه مستقبل المجتمعات الحديثة بشكل طبيعي، على ما يتم فعله في الوقت الحاضر. يعتمد العمل الفعلي على الإجراءات السابقة - أي على التاريخ - من جهة، كما أكد ماركس بالفعل - وعلى التصورات التي يمتلكها المرء عن المستقبل من جهة أخرى. (راجع Abbott 2019). لقد خلق التاريخ الظروف التي يتم التصرف في ظلها اليوم والتي تؤثر على المستقبل والذي يبدو أنه مرغوب فيه وقابل للتحقيق. لا يحدد التاريخ بالطبع، أي مستقبل سيصبح حقيقة - لا سيما وأن تفسير التاريخ نفسه متنازع عليه أيضًا. أن كيفية تخيل المستقبل في المجتمعات، هو ما يقرر المستقبل الذي سيكون حاضراً. إذا لاحظنا اليوم أن الأزمة البيئية تزداد أهمية وأن المرء في كل مكان يحاول إنشاء مجتمع مستدام، وهذا يظهر الأهمية الاجتماعية لتخيلات المستقبل أيضاً.

أصبح مفهوم الخيال أو بالأحرى التخيل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، في الدراسات الثقافية مثمرًا بشكل متزايد. (قارن على سبيل المثال Lüdemann 2004؛ Adams / Smith 2019). حيث يؤخذ في الاعتبار، حقيقة أن الأفراد والجماعات لا يفهمون العالم إدراكياً ويمثلونه لغوياً فحسب، بل إن الصور والتصورات والأمزجة والمشاعر أو السرديات تشكل تفكير الإنسان وأفعاله أيضاً. يتحدث المرء في السياقات الأنجلو ساكسونية عادة عن "التخيلات الاجتماعية" „social imaginaries“ ولا يستخدم مصطلح الخيال (Imagination)، حيث يستخدم الأخير بشكل أساسي في التقليد الفلسفي ويفهم بمعنى قدرة الأفراد (Bottici 2011). من ناحية أخرى، يُنظر إلى التخيلات الاجتماعية في معنى أبعادها الجماعية المشتركة. والتي تستند غالبًا إلى العمل الرائد للفيلسوف اليوناني الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis) (1984).

من خلال التخيلات يتم إعادة إنتاج الممارسات والهياكل من ناحية، ويتم إنشاء الجديد من ناحية أخرى. لا يتعلق الأمر برؤى جديدة أو معرفة جديدة فقط، لأن التخيلات لها جانب تأثيري وتقييمي يندمج مع الأبعاد الادراكية (راجع Adloff / Neckel 2019). تبدو بعض أفكار المستقبل لبعض المجموعات على أنها ذات صلة وفاعلية ومعيارية وواضحة، في حين يحجب بعضها الآخر تماماً، حتى لو كانت "الأدلة العلمية" تتحدث نيابة عنهم، فإنها ترتبط في التخيلات للأبعاد الادراكية والتقييمية والعاطفية لخلق عوالم جذابة أو سلبية. مثل هذا الفائض من الواقع المتصور يرافق الاجتماعي باستمرار.. وبالتالي، فإن التخيلات ليست في المقام الأول مسودات فكرية على نمط انعكاس نظري منفصل. فهي ملتزمة ومتشابكة مع الحياة اليومية. يؤكد تشارلز تيلور (Charles Taylor) أن تفسير العالم والمستقبل "لا يتم التعبير عنه بمصطلحات نظرية، بل يتم نقله في صور وقصص وأساطير" (2004: 23). لكن التخيلات لا تنشأ من تلقاء نفسها، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالممارسات. هناك علاقة حميمة بين التخيلات والممارسات الاجتماعية: الممارسات لها معنى خيالي ضمني داخلها، التي لا تستجوب صياغتها بشكل صريح من قبل الفاعلين (Langenohl 2010)، الإشارة إلى ممارسات العيش المستدام، على سبيل المثال في شكل الاكتفاء، والقناعة، وحركة انتقال أخرى والنزعة النباتية خلافا للادعاءات البديلة المصاغة للحياة الجيدة، مثل ممارسات الاستهلاك المفرط.

يعتبر في هذا السياق، مفهوم كورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis) للخيالات الاجتماعية مهماً. يوضح كاستورياديس في كتابه المجتمع كمؤسسة خيالية (1984)، أن المجتمع يقوم على عمليات إضفاء الطابع المؤسسي التي تنشأ دائماً من الإبداعات الثقافية الجديدة. بمحاذاة ذلك يتمثل طريق الخط الفكري ما بعد الماركسي لكاستورياديس، في بناء مجتمع مستقل يتخلص من أشكال الاستقلالية النموذجية للرأسمالية. ومن المثير للاهتمام أن أعمال كاستورياديس تلعب دوراً مركزياً في خطاب تراجع النمو. نشر سيرج لاتوش (Serge Latouche) (2014) عملاً عن كاستورياديس كما ويشير مؤلفون آخرون لحركة تراجع النمو، إلى مفاهيمه عن الاستقلالية والتقييد الذاتي أيضاً (انظر Asara / Profumi / Kallis 2013 ؛ Kallis 2019).

جنبا إلى جنب مع كلود ليفورت (Claude Lefort)، جاء كاستورياديس مع نظريات الديمقراطية التحررية والمجتمع المستقل في وقت مبكر في خضم المواجهة مع الشمولية من النوع السوفيتي. منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي كانا يعملان في مجلة (الاشتراكية أو البربرية) (Socialisme ou Barbarie) حول نقد الشمولية الستالينية ونظرية ماركس (راجع Rödel 1990) وتوصلا إلى فكرة مجتمع مدني مستقل ذاتي التوليد لا يخضع لأي سلطة. يشترك كلاهما في نقد فهم السياسة المرتكز على الدولة، والذي يعتبر المجتمع المدني غير مهم أو يعتبره مجالًا غير مسيس. يجب أن تظل السلطة في المجتمع المدني وألا يتم استيعابها في مؤسسات الدولة المستقلة. تنظم المناهج والمؤسسات الديمقراطية كيف يمكن للمجتمع المدني أن يمارس سلطته بنفسه أثناء الأزمات. بالإضافة إلى ذلك، وبحسب ليفورت (Leforts) (1990: 293)، يجب في الديمقراطية، أن "يظل مكان السلطة فارغاً". كان الأمير في الماضي يجسد حرفيا السلطة السياسية. من ناحية أخرى، لا ينبغي للديمقراطية أن تحاول احتلال المكانة السابقة للأمير بسلطات رمزية جديدة مثل "الشعب" أو "الطبقة" أو "الأمة"؛ لأنه عندئذٍ يعتبر خيالاً كليأً خطراً مهددا ومعاديا للديمقراطية. إن التغلب على الخصومات الاجتماعية والسياسية - كما تدعي المجتمعات الشمولية لنفسها ذلك - يعني في الواقع القضاء الشمولي على الديمقراطية.

يمكن ربط ما يسمى بالاختلاف السياسي، بين السياسي (le politique) والسياسة (la politique)، والذي تمت مناقشته بشكل مكثف في السنوات الأخيرة، بهذا: بالنسبة إلى ليفورت و كاستورياديس، لا يجب اختزال السياسة في الفضاء المؤسسي للسياسة (قانون الانتخابات، مؤسسات الدولة، إلخ)، ولكن يجب فهمها على نطاق أوسع وأكثر انفتاحًا (راجع Marchardt 2010). يجب ألا تضيع التخيلات الراديكالية في التخيلات المؤسسية، أي في المؤسسات الملموسة. بالنسبة له، فإن الاغتراب هو نتيجة "استقلال المؤسسة وهيمنتها على المجتمع" (Castoriadis 1984: 226). يمكن للمرء في المؤسسات ان يغترب، ولا يعد بإمكانه التعرف على نفسه، ويتوقف الإبداع الراديكالي، إنشاء صور بديلة للعالم.

يستمد المجتمع دائماً في مشروعاته في تصور المستقبل، إلى الخيال. تمتد هذه الإبداعات والمعاني الجديدة لتتجاوز الأشكال والرموز الموجودة في المجتمع. توفر المعاني الخيالية إجابات لأسئلة أساسية مثل "من نحن كمجتمع، ماذا نريد، ما الذي نفتقده؟" تتشكل المجتمعات من خلال أفعالها - وبالتالي تظل في الواقع إجابات ضمنية في كثير من الأحيان – تقديم إجابات لهذه الاسئلة (المرجع نفسه: 252). بالنسبة إلى كاستورياديس، فإن خيال المجتمعات المعاصرة الحديثة هو التفكير في نفسها على أنها عقلانية تماماً. ومع ذلك فإن الأهداف المرتبطة بالنمو والترشيد والسيطرة على العالم هي في الحقيقة، أهداف تعسفية وعقلانية زائفة. إنها تتخذ أشكالًا مهددة عندما يفكر المرء، على سبيل المثال، في استقلالية التكنولوجيا المطلقة. هنا تصبح المؤسسة (التكنولوجيا) مستقلة عن المجتمع الذي يؤسسها - لم تعد التكنولوجيا حينئذٍ مجرد وسيلة لتحقيق الغايات، بل تخلق منطقاً خاصاً بها يتكيف معها المجتمع.[14] 

التفكير في مجتمع آخر، وتخيله والشروع في ممارسات بديلة يعني، على وفق طريق كاستورياديس، تطوير تصورات اجتماعية جديدة، تخيل وإنشاء مشروعات اجتماعية أخرى. القائم في حالة توتر مستمر مع ما سوف يقوم، وبالنسبة لكاستورياديس يعيش الناس في عالمين: في المحدد وغير المحدد، مما يخلق مراراً وتكراراً أشياء جديدة من خلال القوة الإبداعية للخيال الفردي والجمعي. ومع ذلك، هذا الآخر هو دائماً جزء من الممارسات. يتحدث الكيمياير وبوشمان (Alkemeyer- Buschmann) (2019: 132) عن "قوة تحويلية غير قابلة للاختزال يمكن أن تظهر وتتطور في القيام بشيء مختلف". باستخدام مثال المجتمعات البيئية، يظهرون أن ممارساتهم تحتوي على "تصور مستقبلي للظروف والعلاقات الاجتماعية الأخرى" (المرجع نفسه: 133). في السياق العملي الحالي يُتوقع مستقبل أفضل ويجعله مرئياً. في القرية البيئية زيبن ليندن (Sieben Linden) التي قاموا بدراستها، يجري تنفيذ مشروع سياسي "حيث المستقبل حاضر بالفعل" (المرجع نفسه). وهكذا، فإن البلديات (بالإضافة إلى زيبن ليندن، على سبيل المثال، بلدية نيدركاوفونغين (Niederkaufungen)، هي أمثلة جيدة للمجتمعات المقصودة والعمليات الديمقراطية الأفقية التي تهدف إلى الاستدامة التحويلية والأفكار السياسية البديلة. (راجع Kunze 2009؛ Grundmann 2011؛Marcus 2015)

يتم تعيين الحدود في هذه الممارسات، لكن يتم تنفيذها من قبل الجهات الفاعلة نفسها ولا يبدو أنها شيء خارجي عن البيئة الحاضنة أو المجتمع. فهي مفروضة على نفسها بمحض إرادتها ولا تستند إلى حدود مطلقة أو طبيعية يتعين قبولها. لذا فإن مشروع خفض النمو لا يعتمد على برنامج مالتوسي[15] محدث للحدود الطبيعية (Kallis 2019). بالنسبة إلى كاستورياديس وحركة تراجع النمو، فإن المجتمع غير القادر على فرض قيود على نفسه هو في حالة من الغطرسة. بالنسبة إلى كاستورياديس يتم التعبير عن هذا أيضاً في مفهوم أساسي للمجتمعات الغربية، وهو مفهوم التنمية. هذا المفهوم له معنى اجتماعي خيالي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحداثة والعلوم الطبيعية. المعرفة لا تعرف الحدود، لذلك لا يمكن أن تكون هناك نقطة مرجعية ثابتة للتنمية. تتحول المرجعية باستمرار في اتجاه المزيد والمزيد (Castoriadis 2014b: 258): "المزيد من السلع، المزيد من سنوات العمر، [...] المزيد من المنشورات العلمية [...]، لأن "المزيد" هو "جيد". وهكذا بالنسبة له " النظام الاجتماعي الغربي يعتمد على نموذج تنموي للنمو اللامتناهي.

يدعو كاستورياديس في ضوء الأزمات البيئية التي ظهرت منذ عقود، إلى تقييد الذات الجماعية، والذي يجب أن يشمل قبل كل شيء علاقة جديدة بين الناس والطبيعة (راجع Adams 2012). الاستقلالية بمعنى التشريع الذاتي تعني له، يجب التغلب على الجانب الآخر من الحداثة، أي العقلية الزائفة بالهيمنة غير المحدودة على العالم. فالاستقلالية والسيطرة على الإنسان والطبيعة، بالنسبة له، تتعارض مع بعضها البعض، والاستقلالية لا تتطلب عمليات ديمقراطية داخل المجتمعات البشرية فحسب، بل لبدء علاقة بيئية مع الطبيعة أيضاً. بالنسبة إلى كاستورياديس (2014a)، كانت الحركات البيئية في ثمانينيات القرن الماضي تعبيراً عن البحث عن مجتمع مستقل – الاستقلال الذاتي بمعنى تقييد الذات والتغلب على الغطرسة الحديثة في شكل تخيلات القدرة المطلقة. (انظرKonvivialistische International 2020).

4. اليوتوبيات الحقيقية للمجتمع المدني
حاول عالم الاجتماع الأمريكي إريك أولين رايت (Erik Olin Wright) في كتابه "يوتوبيات واقعية" (Real Utopias) (2017)، وصف وسبر ثلاثة مسارات محتملة للخروج من الرأسمالية وحاول استكشاف ما يمكن أن يكون اليوم مساراً قابلاً للتطبيق، لمجتمع ما بعد الرأسمالية. ركز المسار الماركسي تاريخياً على الثورة، وعلى الانفصال الجذري عن الدولة والرأسمالية. وعلى ضوء النتائج المأساوية لثورات القرن العشرين، فقد هذا المسار مصداقيته التحررية. حيث ارتبطت الثورة بالإرهاب ارتباطًا وثيقًا، ولم يتم تأسيس الديمقراطيات والاقتصاد. تحول الاقتصاد في ظل الاشتراكية الحقيقية إلى سيطرة دولة تعمل بشكل سيء. كما فقد الأمل الاشتراكي الديمقراطي بعضًا من مصداقيته وفعاليته في ترويض الرأسمالية من خلال تدخل الدولة والنقابات العمالية القوية في ضوء توازن القوى في العصر النيوليبرالي. "هي اصلاح وكذلك ثورة أيضاُ"- النموذجان الأساسيان للتحول في القرن العشرين - يبدو أنهما"، وفقًا لما ذكره رايت (2017: 10)، "قد استنفدا إمكانياتهما". ويرى رايت أنه ينبغي التعامل مع المجتمع المدني بجدية أكبر لبناء "فضاءات وفجوات، بدائل تحررية داخل الاقتصادات الرأسمالية". يجب على المرء في الوقت الحاضر أن يتصرف ويبني منافذ كما يتخيلها الفاعلون يوتوبيا، وبالتالي زيادة احتمال انتشار البدائل التي تبدو ممكنة وجذابة. يتحدث رايت (2017: 11) في هذا السياق عن "اليوتوبيات الحقيقية" التي "يمكن تطويرها في العالم القائم حاليًا"، وبذلك يمكن توقع كيف سيكون عليه العالم، وتصبح مساهمة لنا على المضي قدما في هذا الاتجاه

من الواضح أن حركة تراجع النمو تعتمد مثل رايت على مبدأ التنظيم الذاتي في بحثها عن مجتمع ما بعد الرأسمالية وما بعد النمو، على عكس مجتمعات الدولة الاشتراكية في القرن العشرين. تعتمد اشتراكية رايت على شكل مختلف من أشكال السلطة وهي تقوم على فكرة المجتمع المدني، للعمل معاً بشكل تطوعي (Adloff 2005، 2020). وهذا يعني وجود بنية ملكية جماعية ودمقرطة راديكالية، والتي تُخضع الدولة أيضًا لسلطة المجتمع المدني. الملكية الاجتماعية لا تمنع الأنشطة الاقتصادية من التنسيق عبر الأسواق. حيث لا يرى رايت أن الاشتراكية والسوق والاشتراكية والديمقراطية كأضداد.

خلافا لمعظم الأفكار الاشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن حركات تراجع النمو والتعددية تحتوي على بذور رؤية ما بعد الرأسمالية قابلة للحياة. حيث يتم فيها تجنب الأخطار الجسيمة للعديد من الأفكار الاشتراكية المتجذرة في المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر (Honneth 2015). أولاً، لا يتم التخلي عن منح الحريات الفردية لصالح الجماعية. ثانيًا، تستهدف مفاهيم تراجع النمو جميع الطبقات الاجتماعية وليس وبشكل أساسي القوى العاملة الثورية فقط. يجب إقناع أكبر عدد ممكن من أعضاء المجتمع خطوة بخطوة. وثالثًا، لا يعتقد المرء بوجود قانون للتقدم في التاريخ أو قوانين تنمية اجتماعية واقتصادية. على العكس تماما. يتم تحطيم تصور تطوير النمو الدائم واستهداف نماذج جماعية للحياة الجيدة. لا تخضع النقاشات والممارسات الحالية حول تراجع النمو لهذه الأخطاء الخطيرة الثلاثة للاشتراكية التاريخية. فهم أقرب إلى التقاليد الاشتراكية والفوضوية المبكرة منه إلى "الماركسية العلمية". بعبارة أخرى، التبادلية والتجارب الاقتصادية لبرودون (Proudhons) بدلاً من تحليل ماركس لقوانين التنمية المفترض أنها موضوعية وديكتاتورية البروليتاريا (راجع Stowasser 2006).

تفترض جميع النظريات والحركات التي نوقشت هنا أنه لا يوجد مخطط لنظام اجتماعي بديل، وأنه لا ينبغي للمرء محاولة بناء ذلك. تعتمد البدائل الديمقراطية الراديكالية لما بعد الرأسمالية غالبا على التجريبية التي يمكن للمرء نظريًا إرجاعها إلى براغماتية جون ديوي (John Deweys) (Dewey 1996 [1927]؛ Bernstein 2010). يتم عبر الارتباط والتعاون، إطلاق إمكانية للإبداع في حل المشكلات. ويتم في المقابل تخيل عوالم جديدة وإدراكها كمستقبل محتمل في الوقت الحاضر. رفضت الماركسية واشتراكية الدولة مبدأ التجريبية لأنهما افترضتا وجود قوانين تاريخية ومراحل من التطور الاجتماعي. وهذه لا بد من الاعتراف بها وتطبيقها – موقف له عواقب شمولية - حيث ما كان يعتبر ضروريا من الناحية التاريخية تم فرضه بالقوة. ولكن من خلال التجارب الاجتماعية يمكن معرفة، كيف يمكن تحقيق الحرية والمساواة بشكل مناسب (راجع Honneth 2015). وهذا يعني أيضاً، أن العديد من التجارب حول الترابط بين الاقتصاد والمجتمع المدني يجب استكشافها حول كيفية إدارة المجتمع للاقتصاد والعيش معاً (Lichterman / Eliasoph 2014). تجري حاليًا محاولة لإنشاء هذه المساحات التجريبية وتوسيعها. كما لا يمكن للمرء في عين الوقت، أن يتصور (حتى الآن) أن مجتمعًا مدنياً تعدديًا ومتنوعاً للغاية يمكن أن ينتج ويثبت بديلًا ديمقراطيًا وشاملًا لما بعد الرأسمالية. يبدو أن تراجع النمو والحركات ذات الصلة بعيدة جداً عن التخيلات المختلفة جذرياً عنها، وهم ضعفاء جداً في وضعهم الاجتماعي من السلطة. في الوقت نفسه، يتم تخيل مستقبل آخر، وتوقعه عملياً في التجارب الاجتماعية داخل قطاعات المجتمع المدني، والذي لا يمكن استبعاد توسعها منذ البداية.

5. الخاتمة
تُظهِر النظريات والممارسات المتعدِّدة لتراجع النمو لحظة تجريبية وتدور حول مسألة كيف ينبغي للمرء أن يعيش في الواقع مع البعض الآخر. تقف في المقدمة ــ جودة العلاقات الاجتماعية وتعاون مشترك أكبر وكذلك السؤال حول كيفية تنظيم المجتمع سياسياً واقتصادياً. استناداً إلى مفهوم "العمل المدني" من قبل ليشترمان والياسوف (LichtermanEliasoph) (2014)، تصر الحركات على هدف تشكيل التغيير والتنظيم الاجتماعي، وتنظيم نفسها ديمقراطياً أولاً، وتخيل الحاضر والمستقبل "نحن" كما ترغب: "يقوم المشاركون بتنسيق بعض مظاهر الحياة المشتركة في المجتمع، الذي يتخيلونه" (المرجع نفسه: 809). "تختلف هذه الممارسات في جوانب التنظيم الذاتي، التي تنعكس في تصميمها ومرونتها، عن الممارسات في بيئات أكثر صرامة مثل التسلسل الهرمي التنظيمي وعلاقات السوق شديدة التنافس.

يمكن لأشكال التنظيم الاجتماعي وأسلوب الحياة غير القائمة على النمو أن تكون حاملة محتملة للتغيير الاجتماعي نحو مجتمع ما بعد النمو. وقد تساهم هذه التجارب الاجتماعية في نقاش اجتماعي حول التحول بهدف التغيير ويمكن تفسيرها على أنها عناصر مجتمع المستقبل. كما يمكن النظر إلى هذه المجموعات على أنها "مختبرات حقيقية" (Schneidewind / Singer-Brodowski 2014: 124ff.)، حيث يمكن رؤية توجهات القيم، والتصرفات الذاتية، والممارسات وبيئات الدعم المحتملة للتغيير المستقبلي نحو نظام اجتماعي غير موجه نحو النمو. يمكن أن يوفر البحث حول عمليات التغيير في مختبرات العالم الحقيقي الحالية التي لا تزال صغيرة جداً ومحدودة محلياً (وإن كانت متصلة بشبكة عابرة للوطنية) معلومات مهمة للتصميم الديمقراطي للتغيير المستقبلي في السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأكبر.

حتى إذا كان من غير المحتمل حاليًا أن يصبح تراجع النمو استراتيجية تحول للمجتمع ككل، يمكن الافتراض أن توجهات القيم المرتبطة بها، يتم التعبير عنها بشكل شخصي في المبادئ والتفسيرات الذاتية التي تطبع اسلوب الحياة وتصبح ذات صلة اجتماعية كأسلوب حياة خاص بالبيئة ... تعد أشكال نمط الحياة الخاصة بالبيئة من ناحية الاهتمام فيما يتعلق بمسألة مدى إمكانية وصف التصرفات الذاتية البديلة غير الموجهة نحو النمو، والتي يمكن تمييزها عن التصرفات الذاتية "الكلاسيكية" التي تتوجه بشكل نمط حياة متزايد. أن مسألة التكثيف الاجتماعي لنمط الحياة في بيئة اجتماعية وأخلاقية ذات أهمية خاصة في سياق حركة ما بعد النمو لأن الهيكل الاجتماعي لأعضائها يظهر تحيزًا واضحًا للطبقة الوسطى. تجند حركة تراجع النمو في ألمانيا أعضائها بشكل أساسي من الطبقة المتوسطة من الشباب المتعلمين أكاديمياً، والذين ينتمون إلى الحركات المناهضة للعولمة والنسوية والبيئية (Eversberg 2015). وهذا يثير التساؤل حول إمكانية تعميم أسلوب حياة جديد غير قائم على النمو في "الحياة الجيدة". وترتبط بهذا مسألة نشر وإدماج واستبعاد ممارسات تقليل النمو، والتي يمكن رؤيتها، على سبيل المثال، في اتجاه التواصل مع جنوب أوروبا، مع الجهات الفاعلة الإسبانية والفرنسية والإيطالية واليونانية.

تتخيل وتمارس حركة تراجع النمو الدولية المتعددة، أشكالًا جديدة من التضامن. يتحدث ستيفان ليزنش (Stephan Lessenich) (2019) عن البحث لأداء تضامني وتعاوني، ويكون ناتج عن الممارسات، التي تهدف إلى إحداث تحول جذري في المجتمع. وكذلك بهدف الغاء ترسيم حدود الديمقراطية وفي نفس الوقت تقييد بيئي. بينما يحاول المرء تجاوز ترسيم الحدود الاجتماعية، هناك حاجة إلى ممارسات جديدة للتقييد في نفس الوقت، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان قابلية السكن على الأرض. التسارع الكبير الذي حدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (Steffen et al. 2015) في العبء الواقع على نظام الأرض، على سبيل المثال من خلال انبعاثات ثاني أكسيد الكربون واستهلاك الطاقة والمياه والأسمدة، يجب أن يكون محدوداً بشكل عاجل، حيث يبدو أن هناك إجماعاً واسعاً، والذي له أيضاً عواقب لنمط الاستهلاك ــ والحياة الغربية. ومع ذلك، يقف حالياً في مواجهة توسيع حيز الديمقراطية العديد من الحكومات؛ وكذلك تعارضها جماعات المصالح وحركات، باسم "الديمقراطية الحقيقية" و "الشعب الحقيقي" (راجع Wildt 2017)، يتم تقييد المشاركة الديمقراطية وفرص المعارضة والتدخلات الحاسمة بشكل كبير ويتم تعزيز ما يسمى بالديمقراطيات غير الليبرالية مثل تلك الموجودة في المجر وروسيا وتركيا والهند والبرازيل. تتعرض في العديد من البلدان، مساحات المجتمع المدني، التي تعتمد على حرية التعبير والتجمع لضغوط قمعية (راجع Forum Menschenrechte et al. 2016). وهذا له عواقب سلبية على المجموعات والحركات التي تمت مناقشتها هنا أيضاً.

لقد أوضحت أزمة كوفيد -19 أيضاً مدى الترابط بين عالم اليوم المعولم. بالنسبة للاقتصاد، فقد أثير السؤال حول كيف يمكن جعله أكثر مقاومة للأزمات، وكيف يمكن تحريره من ضغوط النمو، وجعله إقليمياً، وأكثر ديمقراطيةً وأكثر توجهاً نحو الصالح العام. ربما لن تتحقق المرونة في مواجهة الصدمات الاقتصادية الخارجية إلا من خلال صد عمليات التسليع والتسويق الواسعة النطاق.[16] على سبيل المثال، يؤكد علماء من اوساط تمرد ضد الانقراض (Extinction Rebellion)[17] (Bendell 2018) أو عالما الانهيار (Kollapsologen)[18] الفرنسيان سيرفيني وستيفنز (Servigne und Stevens) (2020) أنه في السنوات القادمة من المتوقع حدوث انهيار البنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية في سياق الاحتباس الحراري وتدهور التنوع البيولوجي. الهياكل المرنة فقط، والتي تجعل نفسها مستقلة عن منطق النمو للحداثة هي المناسبة للنجاة من هذه الانهيارات بشكل جيد. لهذا السبب، يمكن تفسير أزمة كورونا على أنها حدث ملائم لحركة تراجع النمو، إذ أوضحت الأزمة، على سبيل المثال، أن اقتصاد النمو المعولم ليس مرناً ببساطة. بالإضافة إلى ذلك، عادة ما تزعزع الأزمات استقرار التصورات الاجتماعية الراسخة ويمكن أن تفتح آفاقاً بديلة (Varvarousis 2019).

لكن ليست هناك حاجة للقيام بذلك. لأنه في السنوات القادمة ستشتد نزاعات قائمة أو ستنشأ نزاعات جديدة. لكن وراء ذلك، سيكون هناك دائماً سؤال حول كيفية المضي قدماً في نموذج النمو والتنمية الغربي. منذ أن وصلت السترات الصفراء ضد خطط الرئيس ماكرون لزيادة الضريبة على وقود الديزل في فرنسا في 2018-2019 إلى مفترق طرق ونظموا مظاهرات حاشدة، خشي السياسيون الألمان أيضاً من أن أي إنفاق إضافي لحماية المناخ سيدعم مصلحة الشعبويين اليمينيين، والحركات المتطرفة وحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD). يكشف هذا عن المعضلة السياسية الحالية: طالما أن النفقات الإضافية لمجتمع أكثر استدامة من الناحية البيئية يجب أن تتحملها الطبقات الدنيا والمتوسطة بشكل أساسي، فلا يمكن كسبها إلا بقدر محدود للغاية لحماية المناخ وقد تتحرك إلى اليمين. لا يمكن كسب الأغلبية من أجل التحول الاجتماعي والبيئي إلا إذا استفادت هذه الفئات أيضاً مادياً من سياسات إعادة التوزيع من أعلى إلى أسفل. ترتبط الأسئلة الاجتماعية والبيئية ارتباطاً وثيقاً (انظر Adloff 2019). لقد دمجت المجتمعات الغربية حتى الآن آمالها في النمو والسيطرة والازدهار في المستقبل، حتى لو ثبت بشكل متزايد أن هذه الآمال غير واقعية اقتصادياً وغير عادلة اجتماعياً وقاتلة بيئياً. ما إذا كان سيفرض مستقبل عادل وبيئي لما بعد النمو يتم إنشاؤه في الوقت الحاضر، يبقى أمراً مفتوحاً.

 

[1]  فرانك أدلف (Frank Adloff) (مواليد 1969 في فوبرتال) عالم اجتماع ألماني درس علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد. أستاذ محاضر في علم الاجتماع، ولا سيما ديناميكيات وتنظيم الاقتصاد والمجتمع، في قسم الاقتصاد الاجتماعي بجامعة هامبورغ.  وقد أعتمدنا في ترجمة عنوان البحث، على النص الأصلي، الذي أرسله لنا الكاتب مشكورا. )Transformation durch Degrowth? Pluriversale Imaginarien und zivilgesellschaftliche reale Utopien( في حين ان نفس النص تم نشره في مجلة (Mittelweg 36, 29. Jahrgang Heft 6 Dezember 2020 / Januar 2021) وقد أدخل عليه تغيير طفيف في العنوان:

Frank Adloff, vom richtigen Leben im falschen, Postwachstum, radikale Imaginarien und reale Utopien,

[2]  في مجموعة أبحاث DFG-Kolleg "مستقبل الاستدامة" بجامعة هامبورغ، اشراف سيغارد نيكيل المؤلف (Sighard Neckel)، يوجد المسار الثالث، التحكم، في مركز الاهتمام بالإضافة إلى مسارات التطوير للتحديث والتحول. لا يمكن مناقشة هذا الأمر بمزيد من التفصيل في هذه المقالة انظر (vgl. Adloff / Neckel 2019). لمزيد من التفاصيل حول مسار التحول الذي تمت مناقشته هنا، راجع Adloff (2018)؛ تم أخذ بعض المقاطع في هذا المقال من الكتاب.

[3]  مقابلة مع نيكو بايش (Niko Paech) مع صحيفة تاتس بتاريخ 27/04/2020

[4]  بيان صحفي من degrowth.info بتاريخ 13 أيار/مايو 2020.

[5] المترجم-  تأثير المصعد (Fahrstuhleffekt) هو مصطلح صاغه عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك (Ulrich Beck). يستخدم بيك المصطلح للإشارة إلى تأثير انفجار الرخاء والتغيير في سوق العمل (التوسع في قطاع الخدمات، والعمل الأكثر مرونة) على المجتمع في ألمانيا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. يفترض بيك أن الفروق في الدخل بين أصحاب الدخول المرتفعة والمنخفضة لم تتغير بشكل كبير، ولكن تمت مشاركة الزيادة في الرخاء المادي، وزيادة وقت الفراغ وتحسين الفرص التعليمية مع جميع الفئات السكانية، بحيث أصبح الهيكل الاجتماعي بأكمله الآن أعلى ببضعة طوابق "هناك"، كما كتب بيك، "- مع كل التفاوتات التي استقرت أو استمرت، هناك زيادة جماعية في الدخل والتعليم والتنقل والقانون والعلوم والاستهلاك الجماعي".

[6] في ألمانيا، تهتم العديد من المبادرات بشكل موضوعي بتقليل النمو وتشارك في شبكات مكثفة. بالإضافة إلى (Konzeptwerk Neue Ökonomie (Leipzig)، وجمعية التنمية لتحول النمو (Förderverein Wachstumswende) وجمعية الاقتصاد البيئي (der Vereinigung für Ökologische Ökonomie) (كلاهما في فرايبورغ)، هناك العديد من الجهات الفاعلة الأخرى التي تعمل بتركيز مختلف على موضوع تراجع النمو، انظر (http://www.degrowth.de/de/eine-geschichte-von-degrowth). يتم جزء كبير من عمل الشبكات عبر بوابة الويب الخاصة بالتراجع (degrowth.de) والشبكة الاجتماعية  (wwachsswende.de).

[7]  هذا هو الموقف أيضا، على سبيل المثال، موقف ما بعد النمو الوقائي، كما ورد في دراسة للوزارة الفيدرالية للبيئة وحماية الطبيعة والسلامة النووية (Petschow et al. 2018).

[8]  إن الدرجة العالية من الخبرة، ووعود الفردية والفورية، فضلاً عن ضعف الدوغمائية، والتنظيم والمأسسة هي أمور نموذجية للتجمعات ما بعد التقليدية والشاملة التي لوحظت هنا (Knoblauch 2013). تسعى هذه المجتمعات إلى روابط مجتمعية قوية بدرجة عالية من الفردية والأفقية والتمكين الذاتي للجميع (Gebhardt 2013).

[9]  المترجم - فرضية غايا، التي تُعرف أيضًا باسم نظرية غايا أو مبدأ غايا، تقترح هذه الفرضية تفاعل الكائنات الحيّة مع محيطها اللاعضوي على الأرض لتشكيل نظام معقّد تآزري مستتب، بهدف المساعدة في الحفاظ على الظروف المواتية للحياة على الكوكب وإدامتها.

[10]  في الوقت نفسه، تتحدث الجهات الفاعلة في مجال تراجع النمو في شمال الكرة الأرضية عن إنهاء استعمار الخيال الاجتماعي (Demaria / Kallis / Bakker 2019). تم انتقاد هذا الوصف الذاتي، الذي يعود إلى سيرج لاتوش (Serge Latouche)، في أجزاء من الحركة لأنه يساوي بين الاستعمار التاريخي لأفريقيا وأمريكا وآسيا بنوع من الاستعمار الذاتي للفكر الغربي. لا يمكن اعتبار كل أيديولوجية مسيطرة على نطاق واسع على أنها "استعمار للعقل" (Deschner / Hurst 2018).

[11]  المترجم - باشاماما، باشاما، هي إلهة الأرض حسب معتقدات الإنكا وهي زوجة إنتي (الشمس) ويقدسها المزارعون كثيرا حتى تباركهم وتمنحهم حصادا جيداً، فكان الناس يبجلونها كثيرا ويقدمون لها القرابين، والأضحية من اللاما وغيره من الحيوانات ويعتقدون أنها تتحول إلى تنين وتحدث الزلازل إذ غضبت.

[12] المترجم - سواراج هي فلسفة قديمة لتقرير المصير ألهمت نضال غاندي من أجل الاستقلال. الآن يستخدمها نشطاء بيئيين في الهند للنضال من أجل كوكب أكثر خضرة.

[13] المترجم – أوبونتو (Ubuntu) هو مصطلح بانتوي نغونيّ يعني الإنسانية، وغالبا ما يُترجم «أنا ما أنا بسبب من نحن كلنا» أو «الإنسانية تجاه الآخرين»، إلا أنها تُستخدم بمنحى أكثر فلسفة بمعنى «الاعتقاد برابطة تشاركية عالمية تربط البشرية جمعاء». استُخدم المصطلح في الجنوب الإفريقي بشكل مُعترض عليه، في نوع من الفلسفة الإنسانية، أو الأخلاق، أو الإيديولوجية، والمعروفة أيضا بالأوبونتويّة، التي أُشيعت في عملية الأفرقة (الانتقال إلى حكم الأغلبية) في هذه البلدان خلال الثمانينيات والتسعينيات. أصبح هذا المصطلح معروفًا على نطاق واسع خارج جنوب إفريقيا منذ الانتقال لنظام الحكم الديمقراطي برئاسة نيلسون مانديلا في عام 1994، وعُمّمت عند قراء اللغة الإنجليزية من خلال «لاهوت الأوبونتو» لديزموند توتو. كان توتو رئيسًا للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا (تي أر سي)، وجادل الكثير أن الأوبونتو أثّر بشكل أساسي على لجنة الحقيقة والمصالحة.

[14]  انظر أيضًا حول هذا أيضًا نقد التكنولوجيا لمفهوم العيش المشترك (Ivan Illichs) (1973)، والذي تم استقباله أيضًا بشكل مكثف في حركة تراجع النمو والعيش المشترك (Adloff / Heins 2015؛ Vetter 2017).

[15]  المترجم -  كارثة مالثوس (المنظور المالثوسي): نظرية (تعود إلى الاقتصادي الاِنجليزي توماس روبرت مالثوس، 1766 ـــــ 1834 ) تقول بأن النمو السكاني سيتجاوز الإنتاج الزراعي أي أنه لن يكون هنالك في المستقبل ما يكفي من الطعام لإمداد البشر.

[16]  انظر،على سبيل المثال، بيان الإدارة الاقتصادية بعد الوباء "دمقرطة - العمل، وإلغاء التسليع، والتصميم المستدام"، والذي وقع عليه أكثر من 3000 عالم (Die Zeit بتاريخ 15 أيار/مايو 2020).

[17]  المترجم - تمرد ضد الانقراض (بالإنجليزية: Extinction Rebellion، واختصارًا: XR) هي حركة بيئية عالمية، هدفها المُعلن هو اللجوء إلى العصيان المدني السلمي لإرغام الحكومات على اتخاذ إجراءات لتجنب نقاط التحول في النظام المناخي- وهي العتبة التي يمكن أن تؤدي إلى تغييرات كبيرة في حالة النظام عند تجاوزها. تم تحديد نقاط التحول المحتملة في نظام المناخ المادي وفي النظام البيئي المتأثر-، ، وفقدان التنوع الحيوي، وخطر الانهيار البيئي والاجتماعي.

[18]  المترجم - مصطلح علم الانهيار هو مصطلح جديد يستخدم للدلالة على الدراسة متعددة التخصصات لمخاطر الانهيار في حضارتنا الصناعية. ويتناول "الانهيار العام للمجتمعات الناجم عن تغير المناخ وندرة الموارد والانقراضات الكبيرة والكوارث الطبيعية". على الرغم من وجود مفهوم الانهيار الاجتماعي أو الحضاري لسنوات عديدة، إلا أن الانهيار يركز على المجتمع المعاصر والصناعي والمعولم.