أثرى عبد الرّحمن منيف المكتبات العربية بتحفٍ سردية جعلت منه كاتباً يتبوّأُ مكانةً مرموقة في تاريخ الأدب العربي، وقد اتّسمت معظم رواياته بحسٍّ تاريخي قد لا يخفى على القارئ. ولعلّنا لا نجانب الصواب إذا لم نعتبر عبد الرّحمن منيف روائياً ومؤرّخاً في نفس الوقت؛ نظراً لاتكائه وتعامله المباشر مع وثائق وأحداث تاريخية شهدتها المنطقة العربية عموماً، والمملكة العربية السعودية على وجه التحديد، ليدبّج نصوصاً سرديّة باذخة توزّعت بين الرواية والقصّة والسيرة الذاتية. وقد اعتنى معظم النقّاد العرب بأعماله، وتواطؤا على تناول تقاطع الجانب الروائي مع الحس التاريخي.
ولا غرو أنّ عبد الرحمن منيف أثناء تخطيطه لكتابة رواية مدن الملح[1]، التي صدرت لأوّل مرة سنة 1989م، في خمسة أجزاء: التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنّهار، المنبت، بادية الظلُمات، قد اشتغل عليها بجديّة وصرامة بين سنتي 1984 و1989م، وعاد إلى التاريخ ليقرأه بعين فاحصة حتى يتمكّن من بناء معمار سردي تحركه شخصيات لها دور فعّال في تشابك الأحداث، وهي شخصيات تكاد تكون أقرب إلى الحقيقة. عاد منيف إلى التاريخ ليدرسه برؤية متبصرة، ليدرك أنّ ما تعيشهُ السعودية في الفترة التي عاصرها ما هو إلّا امتدادٌ للماضي، الشّيء الذي حرّضهُ أكثر فأكثر للنّيل من آل سعود.
عنوان الرّواية (مدن الملح) يحتاج لوقفة تدبرٍ وإمعان من أجل فهم المغزى من ابتكاره. المدن تبنى بالإسمنت وكل ما هو قادرٌ على مواجهة تقلبات الطبيعة عبر البنى التحتية المتينة والمتماسكة، وتضمّ هذه المدن كثافة سكّانية استطاعت صنع نمطٍ للعيش خاصٍّ بها، بيد أنّ مدن الملح التي تكلّم عنها منيف هي مصنوعة من ملح، فإذا تجبّرت الشمس في كبد السماء مطلقةً أشعتها الحارقة، أو تهاطلت الأمطار كشلالٍ هادر، فإنها ستتلاشى وتنهار. يلمّح منيف، انطلاقاً من عنوان روايته، إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أنّ المدن التي شيّدتها الثروة النّفطية ينتظرها الأفول في العقود القادمة دون أدنى ريب؛ لأنّ تلك الثروة لم تستثمر بشكلٍ جيد وتوزع بعدل، بل احتكرتها الطبقة الحاكمة لتفرز صراعاً محتدماً على السلطة والمال. عرفت المدن في منطقة الخليج نمواً متسارعاً لتصبح مدناً عملاقة تضاهي مدن الغرب من ناحية الشّكل والهندسة؛ إذ شيّدت فيها أبراجاً عملاقة من طرازٍ عالٍ ومبهر، وبنايات شاهقة وشوارع شاسعة بحرفيّة وإتقان، ليخرج سكان المنطقة من تلك الحياة البدوية البسيطة إلى حياة جديدة عليهم صنعها النفط. استطاع النفط أن يبني المدن الكبيرة، ومنح السلطة بدون وجه حق لطبقةٍ معيّنة، فهو نعمة لكنه تحوّل إلى نقمة، إذ احتكرت عائداته السلطة الحاكمة لتزيد من قوّتها وبطشها. نقرأ في هذا الصدد: "النّفط، فهو مادّة طبيعية محايدة كثيرة الفوائد، والشرّ في احتكارات النّفط العملاقة، التي تتحكّم برعاياها"[2].
اكتشاف النّفط في منطقة الخليج عموماً، وفي السعودية خصوصاً، كانت له عقابيل تتمثّل في احتكار الحكّام لهذه الثروة الطبيعية وتركت عوّام النّاس يتخبّطون في برك الفقر والإملاق، مثل هذه المشاهد هي التي أجّجت نار الحقد بداخل عبد الرحمن منيف تجاه من يتربّعون على عرش السلطة ليكتب رواية (مدن الملح)، وكانت غايته، من بين عدة غايات، هي النيل من الأسرة الحاكمة. سرد منيف حكاية المغلوبين والمنغلقين وقد ضمّن هذه الحكاية حكايتين: "حكايات الغازي المنتصر، فلا مغلوب بلا آخر ألحق به الهزيمة. حكايتان تختلفان، تهزم واحدة أخرى، ملتمسة سلطة الانتصار التي تضع الكتابة في خدمة السلطة"[3].
بدأت أحداث هذه الرواية الملحمية من "وادي العيون"، وهي المنطقة التي شهدت تفجُّر ثروة النّفط، لتبدأ معالم مأساةٍ ستعصف بساكنة المنطقة. في وادي العيون نشأ وترعرع بطل من أبطال الرواية هو "متعب الهذّال" الذي يحملُ قيّماً سامية أقرب إلى الحلم، وقد تفنّن منيف في بناء هذه الشّخصية ووصفها بدقّة عالية. وضع منيف "متعب الهذّال" كنموذج للمقاومة في "وادي العيون" بعد دخول الشركات الأجنبية، وقد سار على خطى والده "جازي الهذال" الذي لم يتوانَ في التصدّي بثبات للأتراك. استبسل جازي الهذال في مقاومة الأتراك "فجعل حياتهم جحيماً لا يطاق، كيف كان يختفي فترة حتى يظنّ الكثيرون أنّه قد قتل أو قد مات، ولم يعد له أثر ويكادُ ينساهُ النّاس، بمن فيهم الأتراك أنفسهم، حتى ينفجر مرّةً أخرى فيقتل ويُدمّر ويحرق ويأخذ ما يستطيع أخذه ويغيب في الصحراء فترة من الزمن يعتبرها كافية للنّسيان، فإذا عاد مرّة ثانية حوّل الوادي إلى جحيم"[4].
شكّلت شخصية متعب الهذّال "مُثلّث الرّغبة؛ ذلك أنّ رغبتهُ في المقاومة، وإن كان يمثّلُ القيادية في مرحلته، إنّما هي رغبةٌ مستعارة من الآخر، أي من أبيه بالتحديد، ومثلّث الرغبة هذا يمكنُ تشبيهه بمثلث له ثلاثة رؤوس يتكوّن من الذات (الإنسان الرّاغب)، والموضوع (الشّيء المطلوب)، والوسيط (الآخر الذي يملي على الإنسان الرغبة بشكلٍ أو بآخر)"[5]. عرفت منطقة وادي العيون تحولات عميقة جداً، خصوصاً بعد الوفد الأجنبي الذي حلّ بها، وقد سعى إلى نشر القيّم والأفكار التي يحملُها في وادي العيون الشيء الذي أدّى إلى حدوث اصطدام بين السكان المستقرين في الوادي وبين الوفد الأجنبي. نستشف من هنا أنّ عبد الرّحمن منيف حاول رصد التحول الذي رافق اكتشاف النّفط، وتأثيره على حياة النّاس.
تناولت الرواية قضيتي النّفط والصحراء، وكيف أثرت البيئة والثروة النفطية على نمط العيش؛ حيث تغيّرت الأفكار والقيّم والمبادئ، مع العلم أنّ منيف، من منظوري، قد روّج صورةً قاصرة عن تلك المنطقة حيث صوّرها كبيئة بدوية منغلقة لا تمتّ للتحضر بصلة، بيد أنّها في حقيقة الأمر كانت تعيشُ تكاملاً معرفياً وثقافياً وإنسانياً. صَوّر انفجار النفط في صحراءٍ مترامية الأطراف والذهول الذي أصاب الناس بعد ذلك بأسلوب شائق وبديع، كما بيّن تمكنه من امتلاك مقاليد اللغة حيث وظّف لغة باذخة، واستعمل كلمات من اللهجة العامية للمنطقة وكأنّه يؤكد أنّ خماسية مدن الملح وجّهت أساساً للسعوديين، ولكن يمكن تعميمها، إلى حدٍّ ما، على باقي الأقطار العربية. أبان منيف عن علو كعبه في السرد، وشيّد معماراً سردياً بدقّة كبيرة، ولو أنّ إيقاع السرد في بعض الأحيان كان بطيئاً سيما أثناء تفنّنه وتلاعبه باللغة في وصف تفاصيل الشّخوص والأماكن والتغيرات التي لحقت المنطقة، وفي هذا المضمار فإنّ منيف كان عبقرياً في ابتكار الشخوص، لأنّه جعل كل شخصية من شخصيات الرواية لها دور فعّال في تحريك الأحداث، فكل شخصية هي بطلة الرواية تماشياً مع الأحداث والزمان والمكان، وتظهر وتختفي على حين غرة. بيد أنّ الشّخصيات التي نالت نصيب الأسد في الرواية هي: السلطان فنر، صبحي المحملجي، متعب الهذّال، السلطان خزعل، هاملتون، حمّاد المطوّع.
قدّم منيف أولئك المتخلفين والمنغلقين على أنفسهم في صورةٍ بهيّة بأسلوبٍ أخّاذ يستهوي القارئ، وجعل القارئ يتعاطف معهم دون إعمالٍ للفكر، بصرف النّظر عن ماضيهم وأفكارهم. نفس الشيء تقريباً حصل في التجربة الواقعية الروسية مع رائدها فيودور دوستويفسكي في روايته "الجريمة والعقاب" الذي قدّم فيها شخصية الليبرالي راسكولينكوف الذي أقدم على قتل عجوز شمطاء استولت على أموال طائلة بطرق غير شرعية، ولم يستفد منها المجتمع، فرأى في قتلها حلّاً، فأقدم على ذلك دون ترك دليل مباشر قد يدفع الجهات المختصة لإلقاء القبض عليه. عرض دوستويفسكي هذه الشّخصية بعدما سبر في أغوار نفسيتها وقدّمها لنا بتبريرات مقنعة جعلتنا نشفق عليها. نفس الشيء حصل في بعض قصص وروايات نجيب محفوظ الذي يرغم القارئ على التعاطف مع شخوصه القادمة من الحارات الهامشيّة.
ارتباطاً بإشكالية التاريخ في خماسية مُدن الملح تبادر إلى خلدي شخصية الطبيب صبحي المحملجي الذي سعى إلى تقلّد منصبٍ مرموق في بلاط الأسرة الحاكمة مستعيناً بمواربته. نقرأ في هذا المضمار للنّاقد الفلسطيني فيصل درّاج: "يتبدّى معنى التاريخ في شخصية المحملجي مرآة ذاته ومرآة الزمن العربي، في اتّجاهات مُتعدّدة"[6]. الاتجاه الأوّل يتجلى في: "إعادة خلق المهنة الإنسانيّة (الطب) بما يصيرها مدخلاً إلى الشّر ويُحرّرها من طبيعتها الأولى الخيّرة ويُدرج فيها طبيعة شرّيرة منحطّة"[7]، في حين أنّ الاتجاه الثاني يتمثّلُ أساساً في: "انحطاط الاستمرارية البيولوجية التي تعين "ابن الطبيب" عربياً صورياً يرى في الأرض العربية مصدراً للرّبح ويضعُ خبراته تحت تصرّف أعداء العرب"[8]، بينما الاتّجاه الثالث وهو الأكثر أهمية يكمن في: "أسهم المحملجي المخادع الكاذب الجاهل، إسهاما كبيراً في توطيد السلطة الجديدة، مدللا على أنّ صفات السلطة وأنّ فراغها القيمي – الأخلاقي انعكاس لفراغه اللاّمحدود"[9]. وأخيراً الاتّجاه الرّابع الذي يتجلّى في: "سرعة صعود الفراغ السلطوي وسرعة أفوله، كما لو كان كيانه ملحا يتداعى إن لامسته الأمطار ويتبدّد إن عبثت به الرّياح"[10].
قبل أن يبدأ منيف سرد الانتقال الذي أثر في مجرى حياة المجتمع جرّاء اكتشاف النّفط، عاد إلى زمن ما قبل النّفط الذي طغت عليه البساطة في العيش والقيّم النبيلة، قبل دخول الشّركات التي استفادت من هذه الثروة الباطنية، إذ في اعتقاد عبد الرّحمن منيف لا يمكنه أن يبدأ في سرد الأحداث التي شهدتها المنطقة بعد ظهور النفط دون أن يقارنها بفترة ما قبل النّفط. وقد اتّسم زمن ما قبل النّفط "بالسلبية وعدم التأثير في حياة الإنسان بصورةٍ واضحة، فهو زمن غير محدّد ومتشابه"[11]. وكان هذا الزمن أيضاً: "مجرّد سيولة زمنية تتراكم، داخل جدل الولادة والموت، والقحط، والجفاف، والجراد والجوع والوفرة والمواسم الطيبة"[12].
على خلاف زمن النفط الذي تميز بعدة خاصيات: أولاً: "زمن متسارع، (...) بالتوالي وأحياناً بالانكسار، وكأنّ حاضر الناس يكمن دوماً في هذه العودة إلى ماضيهم، يرتدُّ الزمن إلى ماضٍ له، ويرتد وهو يتقدم باتجاه الناس ليروا كيف قضوا ليلتهم، وكأنّ كلام الحاضر هو رواية الماضي"[13]. أكّد عبد الرّحمن منيف من خلال هذا التمييز الذي ورد في روايته بين زمنين: زمن ما قبل النّفط/ زمن ما بعد النّفط، ذلك أنّ الزمن العربي عرف تحولاً كبيراً حيث: "بدأ الزمن يتحدد أكثر فأكثر، وأخذ هذا التحديد يغزو حياة ناس وادي العيون"[14].
يمكنني أن أضع تمييزاً دقيقاً لهذين الزمنين انطلاقاً من شخصيتين بارزتين في الرّواية هما: متعب الهذال وصبحي المحملجي. الأوّل (متعب الهذال) هو نموذج للنبل والقيم المثالية التي يمكن القول عنها أنّها انتفت في راهننا، ومنحه عبد الرحمن منيف سمات: الأصالة والصفاء الداخلي وحس المقاومة والنضال والتمسك بالمبادئ، عكس صبحي المحملجي الكائن المغشوش والسمج، الذي تحاشى النّبل والأخلاق في حياته ليسقط في بركة آسنة مكتظّة بالشّوائب لأنّه مجّد "ثروة النفط ويمتهن الثقافة ويحضّ على الانحلال ويئد الأخلاق، ويعين الثروة حقيقة ويسلّع الحقيقة في كل المواسم"[15]. يرمز متعب الهذال إلى الأصالة والنّخوة، وبالتالي فهو يُمثّل ما كان سائداً قبل اكتشاف النّفط، بينما صبحي المحملجي الوَضِيع والخسيس الذي يلهثُ وراء مصالحه ويدافع باستماتة عن السلطة، ويبرر تعسفها سعياً وراء غايات تخدمه لوحده، وبالتالي فهو فاقد للكرامة والثقافة. كان منيف ذكياً في ابتداعه هاتين الشخصيتين للتمييز بين حقبتين تاريخيتين شهدتهما السعودية، وقد كان موفّقاً في ذلك دون مداهنة.
وصفوة القول: ترمزُ دناءة صبحي المحملجي إلى عروبة الفساد: "التي تضعُ عرباً في البنية النفطيّة الفاسدة، وتضع الفساد النّفطي في مجتمعات عربية لا نفط فيها. يظهر المعنى، الذي هو نفي للمعنى، في الشّخصيات التي يميتها النّفط، وفي الشّخصيات المُغايرة التي يُسمِّنها النّفط وينتزعُ أرواحها"[16]. مع توالي أحداث الرواية المعقّدة قدم عبد الرحمن منيف زمناً آخر هو "الزمن الكوني"[17]، الذي " يدقق في ما تحت الأرض ويزهد بما فوقها"[18]. تميّز عبد الرّحمن منيف برؤية استشرافية للمُستقبل حيث تنبّأ بما ستؤول إليه الأوضاع في السعودية في المستقبل، والمشاكل التي ستنخرها وتعجّل بانهدامها. الأسرة الحاكمة هي الوحيدة التي استفادت من عائدات ثروة طبيعية يزخر بها بلدهم، لتعيش حياة الترف والرفاهية، وتمكنت من إبرام علاقات خارجية كبيرة كان قوامها النّفط.
أجمع النقّاد، وعلى رأسهم فيصل درّاج الذي يعتبر من أهم الدارسين والمهتمّين بأعمال عبد الرحمن منيف الأدبية، على أنّ مدن الملح هي رواية تاريخية، إذا اتفقت مبدئياً مع هذا الرّأي فسوف يخامرني سؤال عميق جداً: كيف تعامل منيف مع التاريخ أثناء اشتغاله على رواية مدن الملح؟ أو بالأحرى هل كان موضوعياً في تناوله للتاريخ؟ أعتقد، وهو اعتقاد قد يكون صائباً أو خاطئاً، أنّ منيف انحاز شيئا ما عن الموضوعية لسبب أساسي هو ضغينته تجاه آل سعود وحكمهم، الأمر الذي دفعه لرمي الحركة السلفية الجهادية بعبارات الإشادة والتنويه، ومنحهم صفات النبل والقيم الصادقة، دون أن يبذل جهداً في تبيان مساوئها مع العلم أنّ ما مارسته هذه الحركة في أفغانستان خلال الفترة التي كتب فيها مدن الملح لا يخفى على أحد، وهو لم يفعل ذلك لأنّ هذه الحركة شكّلت شوكة في حلق عائلة آل سعود. بيد أنّ المعارضة والنضال في السعودية لم تحتكره الحركة السلفية الجهادية فقط، بل كانت أيضاً حركة الليبراليون والمتطلّعون إلى إنشاء دستورٍ يسترجعون من خلاله حقوقهم المهضومة ويقنّون سلطة الحكّام.
مدن الملح هي رواية تاريخية زاوجت بين جنسٍ أدبيٍّ مرموق يسعدُ بمكانة كبيرة في تاريخ الأدب، وبين منهجية التاريخ، الأمر الذي جعل منيف يحملُ صفتين لا تقلّ إحداهما عن الأخرى شأناً: روائي ومؤرخ. في تناول منيف للتاريخ السعودي الحديث في خماسيّته عاد إلى التاريخ الحقيقي المكتوب والمتوارث، وابتكر في نفس الوقت أحداث لم تحدث، معتمداً في ذلك على التخييل؛ وهو العنصر الأساسي من العناصر التي تطبعُ الرّواية التاريخية. برز هذا النّوع من الرواية (الرّواية التاريخية) في الغرب لأول مرة "في مطلع القرن التاسع عشر مع والتر سكوت (1771 – 1832) الذي وفّق في الجمع بين الشّخصيات الواقعية والشّخصيات المتخيّلة، وأحلّها في إطار واقعي، وجعلها تتحرّك في ضوء أحداثٍ كبرى (...) وقد تزامن ظهور الرّواية التاريخية مع الحركة الرومنسية التي احتفل أصحابها بالبطولات القومية وسعوا إلى إبرازها متوسلين بها إلى إحياء روح الشّعب وإنعاشها"[19].
مدن الملح تشكلت بالعودة المباشرة إلى التاريخ والاتكاء على وثائق تاريخية والاعتماد كذلك على التخييل في بناء الأحداث والشخوص ولكنها تتقاطع مع التاريخ الحقيقي حتى لا يكون هناك اختلاف واضح بين الأحداث التي دوّنت في سجلّ التاريخ وبين ما ابتكره الكاتب. يمكن إذن القول: إن خماسية مدن الملح هي رواية "تجمعُ بين التخييل والواقع التاريخي النصي. ومن ثم فإن اجتماع المتخيل والواقعي فيها على أساس التعاضل ينتج كوناً خيالياً تضمحلّ فيه العلاقة التقابلية القائمة على الانعكاس وتحلُّ محلّها علاقة تواشج وتنافذ تقوم على الحوار، لا باعتباره أسلوباً من أساليب القص بل باعتباره خصيصة بنائية من أبرز خصائص الرواية أطلق عليها باختين اسم الحوارية"[20]. ضمّت رواية مدن الملح جدالاً حادّاً بين الماضي الذي غلبت عليه البساطة والانغلاق والحاضر المهزوم والمستقبل الغامض، وهذه إحدى السمات التي تتصف بها الرّواية التاريخية.
يرمي عبد الرّحمن منيف من خلال هذه الرّواية، الجديرة بكل الاهتمام، التنظير إلى التحول العميق الذي عرفه المجتمع السعودي بعد اكتشاف آبار النفط، الذي عجّل بتشييد مدنٍ وصفها بـ مدن الملح؛ مدنٌ قد تنهار في أية لحظة. النفط احتكرته فئة معينة لتصنع به حياة الترف والبذخ، وتعمّق جراح المغلوبين، وتأجج المآسي. لم يكتب منيف هذه الرواية فقط معتمداً على التاريخ فقط، وإنما انطلق أيضاً من تخصصه: اقتصاديات النفط الذي نال فيه الدكتوراه من جامعة بلغراد الصربية سنة 1961م.
يمكن اعتبار منيف إذاً، انطلاقاً من هذه الرواية بالإضافة إلى بقية أعماله التي تستحقّ كل العناية والاهتمام، نذكرُ منها على سبيل المثال لا الحصر: سباق المسافات الطويلة، أرض السواد (ثلاثة أجزاء)، لوعة الغياب... إلخ، أنّه من كتاب الأمّة العربية لأنّه انخرط وانكب على الكتابة عن مشاكل أمّةٍ برمّتها، بعدما أنهكه التفكير في التحولات التي طرأت وعاينها، كما عذّبته المآسي التي عاشها المجتمع السعودي. بعد تفكير متأنٍ والكتابة عما عايشه فقد تنبّأ بنهاية درامية ومحزنة لهذه المدن التي نشأت من لا شيء، وأضحت مسرحاً لصراع السلطة والمال.
لائحة المراجع المعتمدة في البحث:
كتب:
- القاضي، محمّد. الرّواية والتاريخ، دار المعرفة للنّشر، تونس، الطبعة الأولى، 2008.
- دراّج، فيصل. الرواية وتأويل التاريخ، المركز الثّقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2008.
دوريات:
- الرحيل، عبد الإله. قراءة في مُدن الملح لعبد الرّحمن منيف، مجلة: المعرفة، سوريا، العدد 275، 1985.
- درّاج، فيصل. عبد الرّحمن منيف ومساءلة التاريخ، مجلّة: نزوى، سلطنة عمان، العدد 38، 2004.
- ولعة، صالح. بناء الزمن الرّوائي ودلالته في روايات عبد الرّحمن منيف، مجلّة: الموقف الأدبي، العدد 498، 2012.
[1] عبد الرحمن منيف، خماسية مدن الملح (التيه 1984، الأخدود 1985، تقاسيم اللّيل والنّهار 1989، المنبَت 1989، بادية الظّلمات 1989م)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – المركز الثقافي العربي للنّشر والتوزيع، ط 11، 2005.
فيصل دراج، الرّواية وتأويل التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 2004، ص 224.[2]
المرجع نفسه، ص 224.[3]
[4] عبد الرّحمن منيف، مدن الملح، الحزء الأوّل: التيه، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر – المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 11، 2005، ص 19.
عبد الإله الرحيل، قراءة في مُدن الملح لعبد الرّحمن منيف، مجلة المعرفة، سوريا، العدد 275، 1985، ص 169.[5]
فيصل درّاح، عبد الرّحمن منيف ومساءلة التاريخ، مجلّة نزوى، سلطنة عمان، العدد 38، 2004، ص 27.[6]
المرجع نفسه، ص 27. [7]
المرجع نفسه، ص 27. [8]
المرجع نفسه، ص 27.[9]
المرجع نفسه، ص 27.[10]
صالح ولعة، بناء الزمن الرّوائي ودلالته في روايات عبد الرّحمن منيف، مجلة الموقف الأدبي، العدد 498، 2012، ص 63.[11]
المرجع نفسه، ص 63.[12]
صالح ولعة، بناء الزمن الرّوائي ودلالته في روايات عبد الرّحمن منيف، مجلة الموقف الأدبي، المرجع نفسه، ص 64.[13]
المرجع نفسه، ص 64. [14]
فيصل دراج، الرّواية وتأويل التاريخ، مرجع سابق، ص 232.[15]
فيصل دراج، الرّواية وتأويل التاريخ، المرجع نفسه، ص 233.[16]
المرجع نفسه، ص 235.[17]
المرجع نفسه، ص 235.[18]
محمد القاضي، الرّواية والتاريخ، دار المعرفة للنّشر، تونس، ط 1، 2008، ص 24.[19]
محمد القاضي، الرّواية والتاريخ، المرجع نفسه، ص 80. [20]