يتناول الباحث المغربي هننا عملية التنظير للقصيدة الحديثة، وكيف أن التنظير للشعر قد اعتمد مند العصر العباسي على الفلاسفة وليس على النقاد والشعراء. وما أن ينتقل إلى زمننا المعاصر حتى نكتشف معه الضحالة الفلسفية للتنظير للشعر وللحداثة معا. لأن الأطروحة المركزية التي حكمت التنظير الشعري للقصيدة الحديثة اتسمت بالمحدودية.

الشعر والفلسفة في التنظير للقصيدة الحديثة

حسن مخافي

 

هناك ملاحظة لافتة للانتباه في التراث الأدبي العربي، تتمثل في أن التنظير الشعري يكاد يكون مغيبا في جهود النقاد القدماء، فقد انصب عملهم في مجمله على الممارسة النقدية التي تربط علاقة مباشرة بالنص الشعري، وفق تصور مسبق أملته السلطة المرجعية التي ظلت القصيدة الجاهلية تتمتع بها لقرون طويلة من الزمن. وإذا أردنا البحث عن ملامح نظرية الشعر في التراث العربي، فإننا لا نجدها عند النقاد، بل نعثر عليها عند الفلاسفة الذين قرأوا كتاب أرسطو "فن الشعر"، واستلهموا أفكاره من أجل صياغة مفهوم للشعرية العربية القديمة، ومن ثم فإنهم اتجهوا إلى محاولة "استخلاص القوانين الكلية للشعر التي تشترك فيها جميع الأمم على اختلافها". هذا يعني أنه من حيث المبدأ لا يمكن التنظير للشعر دون استحضار الفلسفة. وبما أن حضور الفلسفة في الشعر والنقد كان يزعج النقاد القدامى، فإن من الصعب الحديث عن نظرية شعرية أو نقدية في الثقافة العربية الإسلامية، إذا استثنينا محاولات الفلاسفة من أمثال الفارابي، وابن سينا، وابن رشد.

لم يخصص الفلاسفة في التراث العربي كتبا للبحث في الشعر سوى شرحين لكتاب أرسطو "فن الشعر" أحدهما لابن سينا، والآخر لابن رشد. وظلت كتاباتهم حول الشعر عبارة عن أفكار عرضية تأتي في سياق الحديث عن مواضيع أخرى، مثل المنظق والموسيقى والطبيعيات وغيرها. ومع هذا فإن النظر إلى تلك الكتابات، في علاقتها بعضها البعض، تنم عن تصور متقدم للشعر يمكن للدارس أن يصوغ من خلاله ملامح واضحة لما نسميه اليوم نظرية الشعر، كما فعلت صاحبة كتاب "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين" على سبيل المثال.

لقد ظل التنظير للشعر في التراث العربي هما فلسفيا، ولم يكن يشكل في يوم من الأيام مجالا للنقد الأدبي، وكان هذا مدعاة لإقصاء شعراء كبار من "عمود الشعر" لأنهم أدمجوا ثقافة عصرهم في القول الشعري، كما فعل الآمدي عنما "اتهم" أبا تمام بممارسة الحكمة، واعتبر ذلك سببا لخروجه عن "عمود الشعر". وعمود الشعر ليس بحاجة إلى الفلسفة لأنه بني كما ن هو معروف على نموذج القصيدة الجاهلية، حيث الارتجال يغلب على التأمل، والغريزة تسبق العقل، والعرف الشعري هو مبتدأ القصيدة وخبرها.

لقد بقي نقد الشعر بمعزل عن التفكير الفلسفي إلى حدود منتصف القرن العشرين، وكانت النتيجة أن العرب ظلوا يعيدون إنتاج جاهليات شعرية أخرى ترمي كلها إلى مثول الشاعر إحساسا وتعبيرا في الماضي. وكأن شيئا لم يحدث في العالم. عندما دشن الشعر العربي ما سيصطلح على تسميته "الحداثة الشعرية" في أواخر النصف الأول من القرن العشرين وجد نفسه أعزل من "نظرية" تؤطره وتمنحه مشروعية كان في أمس الحاجة إليها. وافتقاره لمثل تلك النظرية هو ما جعل السجال الذي احتدم حول القصيدة الحديثة في بداية عهد الأدب العربي بها، يدور جول مكون واحد من مكونات القصيدة هو الوزن. على الرغم من تجربة الحداثة كانت تشي منذ ظهورها، بأنها بصدد نحت مفهوم جديد للشعر العربي.

وبما أن الإبداع سبق التنظير، فقد انتظر الشعر العربي الحديث فترة زمنية، ليبلور رؤيته إلى القصيدة الحديثة. وكان عليه أن يصوغ نسقا نظريا يستوعب تجربته الجديدة، ويبررها ويدافع عنها. وكانت أول خطوة في هذا الباب أن الشعر لم يعد مجالا خاصا لا يخوض فيه سوى الشعراء والنقاد، وإنما أصبح موضوعا عاما، لأن الحداثة مفهوم ثقافي واسع يتسم بالشمولية، ولا يمكن أن تتحقق للشعر وحده، دون مكونات الثقافة العربية الأخرى. وبهذا يمكن القول إن القصيدة الحديثة ولدت في إطار حركية ثقافية كانت تراهن على تغيير جذري نحو تحديث الثقافة العربية.

وأدى هذا إلى أن قضايا الشعر أصبحت جزءا لا يتجزأ من قضايا الثقافة العربية المعاصرة، وكان ذلك عبر رافدين أساسيين: إسهام مفكرين عرب من ذوي التخصص الفلسفي في بلورة رؤية جديدة للشعر العربي، أذكر من بينهم زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وماجد فخري ورينه حبشي، والاطلاع على الفلسفة الغربية بلغاتها الأصلية الذي أتاح للشعراء والمنظرين معرفة بهايدغر وماركس ونيتشه وسارتر وغيرهم. إن هذين الرافدين منحا لأول مرة، إمكانية لصياغة مفهوم جديد للشعر يرتكز على عمق فكري تعتبر الفلسفة حاضنا له. مما دفع إلى طرح تساؤلات جديدة حول علاقة الشعر بالحياة وبالوجود وبالإنسان.

وهي تساؤلات ترمي إلى إعادة النظر في مفهوم الشعر كما تعارف عليه العرب منذ القدم والعمل على اقتراح مفهوم جديد ينهض على خلفية فلسفية بادية المعالم تقوم على ثلاثة أسس:

1 ـ الشعر والمعرفة
لقد سعت الحداثة الشعرية إلى إثبات ان للشعر وظيفة قد ترقي إلى وظيفة العلم، أو تسمو عنها، وهي  وظيفة لا تقوم على الارتباط بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعبر عنه مبدأ الالتزام، وأنما ينهض على مجموعة من المفاهيم تستمد مرجعيتها من الحقل الفلسفي.
تفرق الحداثة بين "العالم"، و"الواقع". العالم هو وحدة يتأكد من خلالها الوجود بما يحوي من مرئيات وغير مرئيات، محسوسات ومعنويات. وبالتالي، فهو دوما بحاجة إلى اكتشافه، إعادة تشكيله، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة غير الشعر. أما الواقع فهو آلي ومجزأ وزمني، ولذلك لا يتوفر على حقائق ثابتة، انه ناقص، وبما ان الشعر يصبو إلى الكمال فالواقع لا يصلح موضوعا للشعر. ولما كان العالم موضوع الشعر، فإن الشعر بهذا المعنى ضرب من المعرفة. يقول أدونيس: "إن الشعر الحديث نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة، في معزل عن قوانين العلم. انه إحساس شامل بحضورنا. وهو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد موضع البحث والشك، وهو لذلك يصدر عن حساسية ميتافزيقية. نحس الأشياء إحساسا عفويا، ليس وفق العلائق المنطقية، بل وفق جوهرها، وقيمها الذين يدركهما التصور. ان الشعر الحديث من هذه الوجهة هو ميتافزياء الكيان الإنساني."1.

إن الحساسية الميتافزيقية التي يتحدث عنها أدونيس، هي التي تعطي للشعر مشروعية وجوده، بعد الإنجازات التي حققها العلم, إنها تقوم في تعارض مع العلم. فهل يمكن ان نقرر ان أدونيس يفكر بمنطق ثنائي: العلم/ المادة في مقابل الشعر/ الروح؟ ان الجواب عن هذا السؤال يجد جوابه في المقارنة المشهورة التي أقامها هو نفسه بين الشرق الشعري والغرب التقني، حين أكد "أن الغرب اليوم هو تقنية/ تقدم - أي بقاء في حدود الظاهر، وان الشرق هو هذا الهاجس الذي لا يرى الظاهر إلا عتبة للباطن، الباطن الذي هو موطن الحقيقة."2

إن مجال الشعر يتحدد كمعرفة في هذا الباطن الزئبقي الذي عجزت الفلسفة نفسها عن الإمساك به، وعندما تتم المقارنة بين الشعر والفلسفة والعلوم فإنه يمكن القول إن الشعر مازال "ديوان العرب". يقول رينه حبشي: "يجب أن نؤكد قيمة الشعر كمعرفة، قد تكون أعلى مستوى من معرفة الظواهر، ومن ميتافزياء الكينونة. ذلك أنها تبصر ما لا يبصره العلم، وتدرك ما تحاول الفلسفة إدراكه ولا تبلغه - مع الأسف - إلا نادرا"3. والفرق بين المعرفة الشعرية وأنواع المعارف الأخرى، يكمن في أن المعرفة في الشعر لا تحكمها قوانين. فكما أنها تتخذ موضوعا لها عالما لا نهائيا، فإنها بالتالي معرفة لا نهائية. ومن "طبيعة الشعر الذي هو نبوة ورؤيا، وخلق، ألا يقبل أي عالم  مغلق نهائي، وألا ينحصر فيه، بل يفجره ويتخطاه، فالشعر هو هذا البحث الذي لا نهاية له، البحث الذي يظل بحثا"4. بهذا يكون الشعر قريبا من السحر، فكلاهما يتحدث عن عالم باطني لا تحكمه قوانين العقل والمنطق، ولا يمكن ولوج مساربه الا بالتسلح بالرؤيا التي هي الوسيلة لرؤية العالم موحدا، أو مشكلا. من هنا يؤكد جبرا إبراهيم جبرا أن "القول المأثور: إن من البيان لسحرا. قد يعتبر تعريفا هاما للشعر، والسحر يعتمد على غوامض تثير النفس وتهزها، دون ان يحاول المرء استكناهها."5

2 ـ الشعر والموضوع:

إذا اتضح كيف ان الحداثة الشعرية تنيط بالشعر وظيفة معرفية تسمو عن المعرفة العلمية، فإنه يحق لنا ان نسأل الآن عن موضوع هذه "المعرفة" الشعرية. رأينا قبل قليل كيف أن حركة الحداثة تفرق بين العالم والواقع، وهذه التفرقة تقوم أساسا على التوازي والتقابل. فالواقع نهائي محدود، والعالم لا نهائي. الواقع زمني، والعالم لا زماني لا مرئي، لهذا كانت المعرفة بالواقع محكومة بمنطق وقوانين، أي أنها معرفة وصفية - إذا جاز التعبير، بينما المعرفة بالعالم، خارج كل منطق وكل قانون، إنها اكتشاف مستمر، وبحث متواصل نحو اللانهائي، نحو الباطن، لذلك فإن "العالم الذي نعيش فيه، لا يجوز، ولا يصح ان يكون غاية الشعراء، وإطارا لهم. إنه وسيلة لخلق عالم انضر وأغنى. فما أضيق العالم، وما أكثر ابتذاله إذا كان العالم الواقعي. عالم الحساسية المشتركة هو العالم كله. ليس هذا العالم الواقعي إلا بوابة تصلنا بالعالم الكبير الآخر، العالم الذي يفتحه الشعر ويقود: إليه."6

نحن إذن أمام عالمين: العالم الذي يتراءى من خلال الواقع بما يحبل به من محسوسات ومتناقضات، والعالم الذي تتجسد فيه الوحدة الميتافزيقية. والعالم الأول ليس سوى مدخل للأول، ودال عليه، ومادام الشعر الحقيقي هو الذي يغوص بحثا عن وحدة الوجود، فإنه لن يجد ضالته إلا في العالم الثاني. ومثل هذه التفرقة نجدها لدى ماجد فخري. ففي بحث مطول عن "مادة الشعر"، يميز بين نوعين من الوجود: الأول وجود محقق وهو الذي نعيش فيه، والثاني ممكن، وهو الذي نصبو إليه. ويتساءل: "أي ضرب من الوجود يخلق الشعر؟ أفلا يدخل العالم الذي نعيش فيه، ويعيش الشاعر والفنان فيه أيضا، في عداد الوجود المخلوق. فماذا تراهما يضيفان إليه؟ والجواب عندنا ان هذا العالم الذي نعيش فيه، وإن كان يدخل في عداد الوجود المخلوق، من وجه ما، فهو وجود لم تستنفد جميع وجوه الخلق فيه، بحيث لم يبق فيه للخلق والإبداع متسع"7.

إن وظيفة الشعر تكمن في الكشف عن هذا العالم اللامرئي، الذي ينتصب وراء العالم المرئي، المحسوس. فالشاعر "لا يخلق شيئا بل ينفذ ببصيرته الحادة إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معاني وأشكال"8. ولكن عملية الكشف هذه ليست مقصودة في حد ذاتها، انها تتوخى توضيح العلاقة بين العالم - بالمفهوم الذي سبقت الإشارة إليه - بالإنسان. وبذلك تقود مسيرة الكشف التي ينهض بها الشعر إلى خدمة الإنسان. ومن ثم يغدو الإنسان بمعنى من المعاني، المجال الحقيقي للشعر. فإذا "صح ان أقسام الوجود ثلاثة: هي الطبيعة، والإنسان، والله. وجب أن تكون مواضيع الشعر الكبرى ثلاثة: ما يدور منها على الطبيعة (وفيه يدخل جانب كبير من الشعر الرومانتيكي) وما يدور على الإنسان وأفراحه ومآسيه، وما يدور على الله وصلته بكلا الطبيعة والإنسان (وفيه يدخل جانب كبير من الشعر الصوفي والفلسفي خاصة). وبين من هذا التقسيم، ان أبلغ الفن وأروعه ما كان يدور على قضايا الإنسان والله"9.

ولكن الإنسان هنا ليس سوى الإنسان الذي يغرق في خضم الإشكالات الوجودية، انه إنسان نخبوي يرتفع عن الواقع باعتباره مرذولا، ويعانق "هموما" مزمنة مثل الموت والقلق ونحوهما: "لست أعلم كم من الناس مات منذ فجر التاريخ حتى اليوم، ولا كم سيموت. ولكنني أعرف ان القلق في الإنسان مثلا ما مات منذ فجر التاريخ"10. إن هذه  الشمولية في المضمون الشعري التي يدعو إليها منظرو الحداثة الشعرية، هي التي تكسب الشعر العالمية والخلود. فالشعر الذي "يريد لنفسه الحياة، بل الذي يحيا بحياة الإنسان على الأرض، ليس ذلك الذي لا يتغزل بهند وليلى وزينب بمفردهن، بل الذي يرى في هند وليلى وزينب، حنين الإنسان الدائب بأحد شطريه إلى الاكتمال بشطره الآخر. وليس الذي يبكي على أجداث زيد وعمرو، بل الذي يرى في موت زيد وعمرو محنة الإنسان في مواجهته للموت والاندثار"11.

وإذا كان العالم الذي يهدف الشعر إلى بلورته، هو عالم ما فوق العالم الواقعي، فإنه لا يصح ان يقف الشاعر عند هموم الإنسان الواقعية، بل عليه ان يتخطى ذلك إلى طرح الأسئلة حول علاقة الإنسان بالعالم الفوقي، بغية تجاوز أزماته الواقعية. فمن "المؤكد ان الشاعر يعاني أزمات نفسية ويحس بوطأة المجتمع. إلا أن معجزة الشعر، هي على وجه الدقة ألا يعكس هذه المعطيات فقط، بل أن يتجاوزها ويغيرها. ليس الأثر الشعري انعكاسا بل فتح. وليس الشعر رسما، بل خلق"12. من هنا تتأكد حاجة الإنسان إلى الشعر في ظل  التحولات العميقة التي طرأت على وجوده، فالإنسان نتيجة هذه التحولات أصبح يفقد - شيئا فشيئا- إنسانيته. والشعر وحده هو القادر على إرجاع الأمور إلى نصابها. وكل ثقافة "تريد ان تكون إنسانية، عليها أن ترد للشعر مراتب سموه، في عالم موخوم بالتقنية التي تستعبد الإنسان، والتوتر السياسي الذي يسحقه، وبالقلق الفلسفي الذي يضعه  في حالة اليأس. في هذا العالم يحتضر الفكر الإنساني. ان نجد معنى الإنسان اليوم، هو قبل شيء أن نعيد للشعر مكانه في الحضارة"13.

إن الهروب من الواقع عبر ركوب ما يسميه محمد جمال باروت "وهم الطيران الحر"14. يتبدى بوضوح في فكرة وحدة العالم، التي جعلتها حركة الحداثة من المهمات الكبرى للشعر. وقد ركبت هذه الفكرة من أجل إلغاء الصراع الذي يطبع كل أشكال الحياة. ويمكن القول إن وحدة الكون، أو توحيده كانت من المبادئ الأساسية لديها. وتتحقق هذه الوحدة عندما ينجح الشاعر بإمكانياته الخاصة والفريدة، في القبض على ما يجعل أشياء العالم متلائمة ومتناغمة، وبذلك يغدو العالم وحدة متجانسة، مجسدة في فكرة واحدة أو موضوع واحد. فليس "في الشعر ولا حتى في الوجود فكر، بل فكرة واحدة، ولا موضوعات وأنواع، بل نوع واحد وموضوع واحد. هناك فقط حياة واحدة تطل على الشعراء وعلى المخلوقات إجمالا، ويطلعون عليها، فإذا ببعضهم يرى منها أكثر من بعض، وإذا بفئات منهم تحسها على غير ما تحسها الفئات الأخرى."15

ان وحدة الوجود التي على الشعر اكتشافها، ما هي إلا الخطوة الأولى في سبيل استيعابه. أما الخطوة الثانية فيتحقق من خلالها وبها التطابق بين وحدة الوجود وبين وحدة الوعي الإنساني. وبذلك يجعل الشاعر الكون حاضرا للإنسان من خلال خلق وجود جديد ذي معنى إنساني، ومن هنا يتم التحام الإنسان بالوجود، وهو حلم لازم الإنسان منذ القدم. ذلك "ان كشف وحدة العالم بوجود الوعي الإنساني، ليس هدف الشعر وحده بل هدف كل معرفة."16 إن الوصول إلى هذا التطابق بين وحدة الوعي لدى الإنسان وبين وحدة الوجود، لا يتم إلا عن طريق الرؤيا.

3 ـ الشعر والرؤيا:
ان الشحنة الميتافزيقية/ الروحية للرؤيا الشعرية هي التي تميزها عن الرؤية، فإذا كانت الأولى تنفذ إلى ما وراء المرئيات من أجل خلق عالم موحد ومنسجم، فإن الثانية تقف عند القشرة السطحية للمحسوسات والأحداث، والشعر الذي "يقتصر على الوصف التصويري للطبيعة، أو على سرد الأحداث والمجريات يكاد لا يعدو نطاق الرؤية، فكان أحط أصناف الشعر"17. وإذا كانت الرؤيا تكتسي أبعادا ميتافزيقية وروحية، فإنها قد أفرزت نتائج تثير أسئلة فرعية في العملية الإبداعية نوجزها كما يلي:

أ- ان الرؤيا بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه تتجاوز الشعر كنتاج لها، لتشمل الشاعر أيضا، ومن هنا ركز المنظرون للحداثة الشعرية على مفهوم التجربة الشعرية. والتجربة الشعرية تتم بمعزل عن الواقع الاجتماعي والسياسي. انها تجربة شخصية فردية لا علاقة لها بالمجتمع، وعليه فإن "المضمون في الشعر الحديث يجب أن يكون نابعا من تجربة الشاعر وفرادته"18. ولما كان الشعر "تجربة كيانية فريدة"19، فان الشاعر ليس إنسانا عاديا. إنه بعيد عن تأثيرات الواقع مادام ليس طرفا فيه. لذلك كان من العبث أن نطالبه بالوقوف ضد أو مع الأحداث التي تجري داخل المجتمع.

ب - إن هذا الموقف "المحايد" الذي يتخذه الشاعر إزاء المجتمع، يجعله يلاقي ما لاقاه الأنبياء من اضطهاد وتشريد ونفور وعدم فهم. واقتران الشاعر بالنبي لا يستعمل هنا من باب التشبيه، أكثر مما هو من باب التماهي. فقد رأينا أن المفاهيم المركزية لمفهوم الشعر، إنما ينتمي معجميا إلى قاموس ديني ميتافزيقي: الباطن، الوجود، الرؤيا، الإنسان الخ. من هنا فالشاعر الحديث هو مبشر وعراف، يدنو "من درجة النبوة"20. ومن أجل هذا كان مآله التهميش والاضطهاد: "ألم يكن البدائيون يقتلون أنبياءهم لكي تخصب الأرض بدمائهم؟"21 إن الشاعر مثله مثل النبي كبش ضحية. وسوف يتضح هذا التماهي أكثر في الأسماء الأسطورية التي عبر بها شعراء الحداثة الأوائل عن نبوءتهم، وتكفي الإشارة هنا إلى "إبراهيم" يوسف الخال،  و"مهيار" أدونيس.

ج - إن الرؤيا بتلاوينها الميتافزيقية ذات الطبيعة الغامضة، قد فجرت أزمة بين الشاعر والجمهور. إنها أزمة تواصل. وإن ما يطبع علاقة الشاعر بالجمهور هو الاستخفاف، ولهذا ظل أغلب المنظرين يتعاملون معه من فوق، إما بالدعوة إلى تجاوزه، باعتباره غير قادر على استيعاب التجربة الشعرية، أو بفرض الوصاية عليه بمحاولة إنقاذه. من هنا سرت دعوة إلى التحرر "من عبودية المفاهيم الجماهيرية والسلوك الجماهيري، والضياع بين تشابه الجماهير"22. وإلى جانبها دعوة أخرى إلى مساعدة الجمهور على الخلاص، فالمجتمع الذي "يوجد المومس بما فيه من تناقض ووحشة وإيمان بالخرافات، يوجد أيضا الكاتب الذي ينقذه بسخاء، لكي يثير حساسية الجماهير البليدة، وينعش خيالها الراكد" 23.

د - ان النظر إلى الجماهير نظرة دونية، ووصفها بالبلادة في مقابل الشاعر النبي، يؤكد أن حركة الحداثة كانت تنطلق من موقع نخبوي يرتكز على أن محرك التاريخ ليس المجتمع بتفاعلاته، وإنما أفراد بعينهم، هم في آخر التحليل جماعة المثقفين والشعراء بصفة خاصة. تقول خالدة سعيد "إن التخلخل أدرك العالم في وعي الشاعر والفنان والنخبة فقط. هؤلاء هم ثوار وسط عالم من الأفكار المنحطة"24. ومن هنا فإن تغيير المجتمع وبناء الحضارة، موكول إلى هذه النخبة المثقفة. وينتج عن هذا ان مهمة "التغيير" لا يمكن ان يقودها سوى النخبة المثقفة، فالمثقفون هم "الطليعة التي تقود المجتمع، لما يتميزون به من وعي لذات الأمة وقواها الفكرية."25

يستفاد من هذه المسائل الفرعية للأطروحة الشعرية المركزية التي حكمت التنظير الشعري للقصيدة الحديثة، ونقصد بها شعر الرؤيا، بكل أبعاده وعلاقته بالإنسان والعالم، ان هذا التنظير لم يستبعد الواقع الإجتماعي والسياسي من حقل الشعر فحسب، وإنما جعل من هذا الواقع حاجزا يعرقل العملية الإبداعية، وقد تبلور عداؤه لكل ما يمت إلى المجتمع بصلة، في رفضه لأي شكل من أشكال الالتزام، التي كانت شائعة لدى اتجاه عريض من اتجاهات الشعر العربي الحديث.

 

1 - أدونيس : زمن الشعر. دار الساقي للطباعة والنشر. الطبعة السادسة. بيروت/لندن 2005. ينظر بالخصوص الفصل الخاص بـ: محاولة في تعريف الشعر الحديث .. ص 108

2 - أدونيس : بيان الحداثة . العدد 36 من مجلة مواقف . شتاء 1980 ص 154 .

3 - رينه حبشي : الشعر في معركة الوجود (مؤلف جماعي) دار مجلة "شعر" بيروت 1960. ص 15. وقد أعادت صحيفة "الاتحاد" نشر مساهمة ماجد فخري في ملحقها الثقافي 18 مارس 2015.

4 - أدونيس : زمن الشعر. (مرجع سابق). ص 85..

5 – جبرا إبراهيم جبرا : الرحلة الثامنة : دراسات نقدية . المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط 2 . 79 – ص 38 .

6 – أدونيس : زمن الشعر (مرجع سابق) ص91 .

7 – ماجد فخري : مادة الشعر . شعر . العدد 3 . السنة الأولى . صيف 1957 . ص 86 .

8 – ماجد فخري : مادة الشعر . المصدر نفسه . ص 87 .

9 – ماجد فخري : مادة الشعر . المصدر نفسه . ص 88 .

10 – نديم نعيمة : الفكرة والحياة والشعر . شعر . العدد 6 . السنة الثانية . ربيع 1958 . ص 107 .

11 – نديم نعيمة : المصدر نفسه . ص 109 .

12 – أدونيس : زمن الشعر. ( 81 .مرجع سابق)

13 - رينه حبشي : الشعر في معركة الوجود. (مرجع سابق) ص 122.

14 - الحداثة المستمرة في الهوية المتحركة للنص الشعري الحديث . المعرفة ( سوريا ) العدد 237 . السنة العشرون . تشرين الثاني ( نونبر ) 1981 . ص 9.

15 - نديم نعيمة : الفكرة والشعر والحياة . شعر . العدد 6 . السنة الثانية . ربيع 1958 . ص 104 .

16 - رينه حبشي : نظرات في الشعر . شعر . العدد 4 . السنة الأولى . خريف 1957 . ص 90 .

17 - ماجد فخري : الشعر في معركة الوجود (مرجع سابق) ص87 .

18 - يوسف الخال : أخبار وقضايا . شعر . العدد 20 . السنة الخامسة . خريف 1961 . ص 132 .

19 - هيئة التحرير : إلى القارئ ( افتتاحية ) شعر . العدد 4 . السنة الأولى . خريف 1957 . ص 3 .

20 - جبرا إبراهيم : الحرية والطوفان : دراسات نقدية . دار مجلة " شعر " . الطبعة الأولى . بيروت 1960 . ص 138 .

21 - جبرا إبراهيم جبرا : المصدر نفسه والصفحة نفسها .

22 - خالدة سعيد : لن . لانسي الحاج . شعر . العدد 18 . السنة الخامسة . ربيع 1961 . ص 149 .

23 - جبرا إبراهيم جبرا : الحرية والطوفان ( مرجع سابق ) ص 155 .

24 - خالدة سعيد : بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث . شعر . العدد 18 . 19 . ربيع . صيف 1961 . ص 91 .

25 - جبرا إبراهيم جبرا : ينابيع الرؤيا : دراسات نقدية . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت ص 79 .