مع مضي الوقت، وتزايد معارف الأجيال الجديدة، سوف تكتشف هذه الأجيال فداحة ما فقدته برحيل الكاتبة والمفكرة الدكتورة نوال السعداوي. وسوف تكتشف هذه الأجيال أيضا أن دراستها للطب جعلتها تخوض بشجاعة في مجاهل الجسد الانساني الذي رأي فيه الفكر المحافظ صندوقا أغلقه الخالق على أسراره التي لا يجوز كشفها، ولكن الفكر النقدي تحدي هذه المقولات.
تظلم الكتابات السريعة المفكرة الراحلة حين تحبسها في مجرد كونها مدافعة عن حقوق المرأة, بينما هي في الأساس والمنطلق مدافعة عن حرية العقل. نوال السعداوي هي اذن مدافعة – قبل كل شيء- عن حرية العقل الانساني وجدارته, وبالتالي عن ضرورة الاطاحة بكل المعوقات التي تقف في وجه قدرته الخلاقة واللانهائية. ورأت “نوال في بعض أهم كتاباتها المتنوعة أن تقييد العقل هو إهدار لطاقات الإنسان المبدعة, وحين يطول هذا التقييد المرأة- بادعاء حمايتها أحيانا- فإنما يعطل أيضا كل طاقات المجتمع المبدعة لأن أدوار المرأة في المجتمع ليست مجرد تقاسم حسابي بينها وبين الرجل, لكن هذه الأدوار تعوق بكثير جدا هذا التصور الحسابي البسيط والمنقوص.
تفاعلت “نوال” في كل كتبها ومواقفها وأشكال نضالها من أجل المساواة الحقة بشجاعة وإقدام مدهشين مع كل المسكوت عنه في تراثنا الثقافي والسياسي, وأعادت النظر في التاريخ الإنساني الذي كتبه الرجال حين أدرجوا المرأة- غالبا- في موقع الدرجة الثانية, وكتبت كتابها التأسيسي “الأنثي هي الأصل”. وخاضت في مجاهل المسكوت عنه في تراثنا الثقافي والسياسي, واخترقت بذلك حجب الصمت والتجاهل التي تتعامل مع غير المرضي عنه من قبل القوي المحافظة باعتباره ليس موجودا.
طرحت “نوال السعداوي” القضايا الكبرى والشائكة مستندة إلى العلم والعقل في مطالبتها بالعدل للنساء, وأثارت في كل ما كتبته جدلا واسعا في الحياة السياسية والثقافية مازلنا بحاجة لاستعادة وهجه, لأن غالبية القضايا التي أثارتها مازالت لم تحسم بعد لصالح العقلانية والتقدم, بل إنها مازالت القضايا الرئيسية في الصراع بين القوتين الرئيسيتين في ساحة الفكر والسياسة وهما قوي التقدم والاستنارة من جهة وقوي التأخر والجمود من جهة اخري.
ولن يكون بوسعنا أن ندفع بمجتمعنا الي الأمام وانتشاله من حالة التأخر إلا إذا تعاملنا بشجاعة مع كل القضايا المسكوت عنها خوفا من القوي المحافظة والمعوقة للتقدم, وهما القوتان اللتان يدور بينهما الصراع في مجتمعنا صاخبا حينا وخافتا في معظم الأحيان. وندرك جميعا عبر التجربة وقراءة التاريخ ان مثل هذا الصراع لكي يصل الي نتائج مرضية لقوي التحرر والتقدم الإنساني يحتاج الي الحرية في المجتمع من أجل انضاجه بطريقة صحية. وتعلمنا التجارب والتاريخ الانساني أن المعيار الأهم للتحضر في أي مجتمع هو وضع المرأة في هذا المجتمع.
وقف من يسمون أنفسهم برجال الدين- والمحافظون منهم خاصة- في وجه كل الأفكار والرؤي التي طرحتها “نوال السعداوي” حتي يعطلوا النقاش الحر حولها, وما أتعس المجتمع الذي يحاصر النقاش الحر ويلتمس ما اسميه استراتيجية النعام في تجاهل القضايا الكبرى وفرض الحصار علي نقاشها غالبا باسم الدين. تركت لنا “نوال” تراثا غنيا سوف نخطئ في حق أنفسنا قبل أن نخطئ في حقها اذا ما تعاملنا معه باستخفاف وعدم تقدير كاف.
وفي ظني أن التقدير الحقيقي “لنوال” وما قدمته للثقافة العربية ولإحدي القضايا المحورية في مسيرة تحررنا يبدأ باعادة طبع كتبها خاصة التأسيسي منها, واختيار أهمها لتقريره في المناهج الدراسية وحتي لا يبقي تراثها مجرد إرث عائلي لأنه في واقع الأمر إرث وطني عظيم, وسوف تتيح لنا الدراسة المتعمقة لهذا الإرث التعرف بشكل أعمق علي حقيقة المسائل التي انشغلت بها “نوال” طيلة حياتها, وحقيقة سعيها لوضع قضية التحرر الانساني باتساع آفاقها علي جدول أعمال الكفاح الوطني, هي التي عرفت الثقافة الغربية عن قرب وحاربت نزعات التعالي الاستعماري علي الشعوب التي تكافح من أجل تحررها واستقلالها.
ولا أنسي أبدا لقائي معها في أحد المؤتمرات الفكرية في لندن, وكيف استطاعت ان تكون صوتا مصريا صادقا امام حشد كبير من المفكرين والساسة، وكيف عبرت بنظرة ثاقبة ومخلصة عن قضايا البلدان الساعية للتحرر هي التي وضعت قضية تحرر المرأة وخروجها من كهوف الظلاميين الذين وقفوا لها بالمرصاد – وضعتها علي رأس القائمة لا في مصر والوطن العربي فحسب, وانما علي امتداد المعمورة حيث حظيت بتقدير كبير لانتاجها الفكري وإبداعها لم تحظ به في وطنها. ونحن مدينون “لنوال” ككاتبة ومناضلة بالكثير, وربما بهذا القدر من الشجاعة في مواجهة كل ما يعوق تدفق نهر التقدم الانساني.
ولن نقول وداعا “يا نوال”