في نصه يتبدى الحوار مع القمر أسوة بمنولوج داخلي، يمرر عبره الكاتب أفكاره، ولواعج نفسه، وقلقله وسط صراعات وحروب تأكل الأخضر واليابس في البلدان العربية، وتأتي على الوجود الثقافي نفسه. بيد أن الحوار مع وجه القمر الذي يتجلى في محياه الجمال ما زال ممكناً.

حوار قصير مع القمر عن الشّر في الأرض وآلام البشر

معـاذ حسـن

 

جلست خلف زجاج النافذة قبالة القمر، في ليلة برد شتائي قارص، أتأمّله وضياءه الساطع البهي بهدوء، وإذ بي أسمعه يناديني ويقول:

- يا أنت ... ما بالك تجلس تتأملني بهدوء حزين؟

أنا أعرفك، ليست هذه عادتك عندما تسهر معي في لياليَّ المضيئة، صيفا أوشتاءٌ أين رقصتك؟ ودبكة الأصدقاء معك على أغاني فيروز ... وأحيانا في أعالي الجبال؟.

أين الموسيقى الصاخبة أو الهادئة...

بل أين لون العاشق على محياك؟

أين ... أين ... أين .…؟

فأجبته قائلا، بهدوء حزين – كما وصفني:

- الآن خطر ببالي أن أتأملك أيها القمر، وأنا أسأل نفسي هل يوجد خلف هذا الجمال البهي لضيائك الذي يغمر الأرض، ظلام وقبح وظلم وفجور وقتل كما هو عندنا في الأرض؟.

وقبل أن أكمل شارحًا له معنى وأسباب تأملي الهادئ والحزين قاطعني قائلاً:

- حتى الآن لم يجرؤ إنسان الأرض على البقاء طويلًا على سطحي، لذا فأنا ما زلت مطمئنا من خلو سطحي من الفجور والجرائم والقتل، لذلك فنور ضيائي الجميل ليس فقط مجرد انعكاس لضوء الشمس على سطحي، بل فيه أيضا ما يكفي من نقاء داخلي.

ثم تابع مستطردا:

- فأنا أعرف تمامًا حروبكم وجرائمكم أنتم أهل الأرض منذ بدأ تاريخ البشر عليها، هذا الكائن العبثي اللغز، المربك بخيره وشره، بجهله وضيقه المطبق حينا وعلومه واتساع معارفه بلا حدود أحيانا أخرى، فكل ما يحدث يقع أمام ناظري. وإذا رغبت فبإمكاني سرد كل ذلك بالتفصيل على مسامعك الآن منذ غزوات القبائل الأولى لبعضها البعض وتشكيل الممالك والإمبراطوريات الواسعة وصولا إلى بدايات أو مقدمات التاريخ الحديث وتشكل الدول الحديثة التي قامت أكبرها على شبه إبادة عرقية للسكان الهنود الأصليين، وبعضها الأخر على تهجير قسري للسكان الأصليين.

وعن سَوق مئات الآلاف من أهل أفريقيا بقوة وقسوة شديدتين عبر بحار المحيطات من قلب القارة الأفريقية وبيعهم في أمريكا وأنحاء شتى من الأرض للسادة البيض الجدد.

وأيضا، حربان عالميتان كانت نتيجتهما كارثية من حيث الخسائر البشرية والمادية. لقد زهقت فيهما أرواح عشرات الملايين من البشر، كما دمرت العديد من المدن والمنشآت، ثم شاهدت وراقبت كيف تم إلقاء قنبلتين نوويتين على أكثر مدينتين فيهما كثافة كبيرة من السكان المدنيين، وما تبع ذلك من سلسلة من التجارب النووية في أعماق المحيطات وفي مجاهل الصحارى، في سياق تنافسي لامتلاك هذا النوع من السلاح الخطير المهلك والمدمر للوجود البشري ككل.

وهنا تركته يتابع جوابه، كوني لا أستطيع الجزم والتأكد من صحة جوابه بالكامل عن نقاءه الداخلي بعيدًا عن شرور الأرض وأنا لم أصل إليه بعد ولا أعرف منه إلا نوره البهي فقط.

وشردت عما يقول وأنا أستذكر مقطعًا حواريًا مذهلًا من رواية فاتنة قرأتها منذ زمن للكاتب الموريتاني موسى ولد إبنو اسمها "مدينة الرياح" بين العبد الأسير (فارا) الفتى الذي قطع مسافات طويلة في وديان وهضاب وصحراء أفريقية عديدة موثوق اليدين خلف جمل يقذفه ببوله المستمر أثناء المسير، لأن والده قايضه، بحيلة عليه، كعبد، مثل آخرين غيره، مقابل الحصول على قطعة صغيرة من الملح تساوي حجم مداس قدميه الصغيرين، مع قافلة تجارية مرت بالبلدة، وبين شخص حر، قصير دميم الشكل لكنه جميل الفكر والروح والقلب التقاه في واحدة من محطات الوصول حيث يقول له هذا الشخص:

- في القدم كان الخير مهيمنا على العالم وحده، وكان ضجر.

وفي يوم من الأيام فكر الخير في ذاته، تساءل عما يمكن أن يكون نقيضه ... فكان أن تجسدت تلك الفكرة، وتكوّن الشر. ومنذ ذلك الوقت، ما زالت مملكة الشر تتسع ومملكة الخير تنقص يوما بعد يوم. والبشر هم أخر اختراعات الشر وأخطر حيله...

لذلك يوجه له النصيحة التالية:

- إذا كنت رافضا للقدر، فاعتزل البشر، وانفرد في الصحراء، وانتظر أمر ربك!

وهذا ما فعله (فارا) في النهاية.

وعندما أحسّ القمر بأني شردت عنه وعن حديثه الذي أعرف عن مضمونه أكثر منه لكثرة ما قرأت عن تاريخ البشر عموما، سألني من جديد قائلا:

- كأن جوابي مملا ولم يعجبك فشردت عني أليس كذلك؟

فأجبته:

- لا ليس مملا كما تقول، إنما أعرفه وأحفظه جيدا، فهو تاريخ الأرض التي أعيش عليها، لكن ثمة ما يحدث اليوم في بلدان المنطقة العربية عموما ولشعوبها المنتفضة خصوصا، ما هو أكثر خطورة وإيلاما لأنه راهن ومستمر.

وبدأت أحدثه عن الفقر والمجاعة والأمراض التي باتت تفتك بالمدنيين الذين صاروا فريسة سهلة لقذائف المتحاربين في اليمن وليبيا وعن المتظاهرين السلميين في شوارع لبنان والعراق وكيف يتم التعامل معهم بالرصاص الحي وبالسكاكين والخطف، ومع ذلك لا يتراجعون عن حراكهم ومطالبهم.

وعندما بدأت أحدثه عن آلام وعذابات الشعب السوري منذ أعوام، والذي تتعرض أرضه لاحتلالات متعددة. وعن ملايين النازحين المدنيين قسرًا عن بيوتهم وأحياءهم ومدنهم وأرضهم في العراء في صقيع الشتاء بحثا عن ملجأ يحتمون به أو يبدؤون حياتهم فيه من جديد بعيدا عن جحيم المعارك، وكيف صار أغلبهم موزعين في أربع جهات الأرض كلاجئين.

أوقفني وتمنى عليّ أن لا أكمل وقال:

- أعرف كل ذلك وأراقبه يوميا، لذلك كانت نيتي أن ألهيك بحديث طويل، عما تحس به اليوم من عذابات وآلام الشعب السوري لأني أحسست بك منذ البداية عندما لاحظتك تتأمل ضيائي من خلف النافذة. لكن تبين لي أن ما تحس به هو فعلا أخطر وأكثر إيلامًا من حوادث تاريخية قديمة كان من المفترض أن تكون البشرية قد تجاوزتها فعلا منذ زمن بينما مآسي الشعوب العربية اليوم والشعب السوري منها بشكل خاص تتجدد يوميا بشكل يثبت أن التاريخ البشري تستمر فيه المآسي والجرائم والقتل حتى اليوم دون أن تكون لديه أية عبرة من دروس التاريخ الماضي. بل وكما أرى وأراقب من عليائي هذا، لا يوجد في الأفق المنظور أي عمل جدي لحل أو تجاوز لهذه المآسي.

وهنا استدعى القمر سحابة غيم صغيرة يخفي خلفها حزنه عليّ ..علينا.. وربما دموعه أيضا.

أما أنا فانسحبت من الشرفة إلى الداخل لأخفي حالتي عنه بعد أن تأكدت من نقاءه الداخلي، كما أخبرني بداية.

ولذلك كان، القمر، وسيبقى بضيائه البديع ملهم الشعراء والفنانين والموسيقيين العباقرة والأدباء والمفكرين، وملجأ القلقين إنسانيا في عزلتهم.

والأهم صديق العشاق على الأرض ومظلتهم المضيئة بشغف هادئ وجميل، دوما.

هذا ليس تشاؤمًا وليس مناجاة رومانسية للقمر … إنه بكاء داخلي مرّ على حال الانسان السوري وكافة شعوب المنطقة العربية التي تشهد آلاما وكوارث وويلات، ربما لا مثيل لها في التاريخ، بينما العالم يتفرج مرتاح الضمير .. والدول الأقوى تختلف فيما بينها حول كيفية إدارة هذه الويلات بكفاءة أكبر، مع اقتسام بلدان المنطقة فيما بينها.