«أصبحت القصيدة عملاً يومياً تضع المعاناة في فضائها». عندما يصبح البوح ملاذاً فيه كل الأمل الداحض لليأس والكآبة، وبه السلام والعمق البعيد عن التسطّح أو الاختناق، وبهذا العطاء الدافق بالكلام المعبّر عن الشعور، وجدت الشاعرة قصيدتها الملجأ المؤتمن لبنانات فكرها وغمرة عواطفها وتخبّط أهوائها. عندما ذهبت نهلة كامل للعمل كمديرة لمكتب الوكالة السورية للأنباء في بيروت، مباشرة بعد غزو العراق، وجدت الأوراق المبعثرة حاملاً لأفكارها التي تهاجم إستراتيجية الفوضى، وتواجه الحرب الصهيونية على لبنان، وتدافع في الحرب المؤلمة على سورية، لتخبرنا في مقدمة مجموعتها الشعرية «الشرق الغارق المتوسط... يومياتي» الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وتحت عنوان شعر لم يكتب للنشر، كيف رافقتها القصيدة قائلة «وهكذا أصبحت على مكتبي أمامي صفحتان، الأولى لكتابة الخبر والتقرير والدراسة، والثانية لرصد ارتدادات الروح على الأولى، حيث أصبحت القصيدة عملاً يومياً تضع المعاناة في فضائها الواسع، وتمنعني من اليأس والكآبة والتسطح والاختناق».
بين الحُسن والعمق
أجادت الشاعرة كامل تصويب عمق المعنى الذي أفردت له حسن المفردات في العديد من القصائد ومما استوقفنا نقدم لكم قصيدة «هل أحببت بريخت؟».
في برلين
قدم قلبه
على طبق التجربة
قائلاً:
من أشعل بيده
نار الحرب
أخمد روحه
لم يعد حياً ليغيّر
ولا ميتاً ليصمت
جنرال حرب
أحب برتولد بريخت
فأصبح شاهدا- ملكا
قال:
من يجمّل وجه القهر
يخسر روحه
مرتين...
وفي مكان آخر وفي تقديم لقصيدتها «الإنسان يسيل خرابا» بعبارة تعود للمفكر إميل سيوران» نعرف الآن أن الحضارة قابلة للموت، وأننا نهرول نحو الاختناق، نحو معجزات الأسوأ، نحو العصر الذهبي للرعب». فتقول:
لأن الواقع يصيبه بالربو
وضع كرسي التأمل
خارج الراهن
ذريعة للتنفس...
لا يطيق الجلوس
على أرض الحاضر
خرج بعيداً
أبعد فأبعد
حتى آخر المنظور
قائلا:
المياه كلها بلون الغرق...
الرؤية لديه
لا تعني
بالضرورة
اليأس أو الأمل
إذا مضيت خلفها
حتى أطراف الجنس البشري
ستقول
أنت أيضا:
الإنسان يسيل خرابا.
في الطبيعة
لجأت الشاعرة كامل في بوحها، إلى الطبيعة في العديد من الأماكن في مجموعتها، ناهلة من عطاء الطبيعة اللامحدود، ومتأثرة بجمالها في التعبير، ونذكر لكم في قصيدة «شعب أخضر».
أين الينابيع الصافية
والسهول الحرة؟!
حيث كنت تستلقي
فوق حشيش غض
محدقا في زهور برية
وسنابل «نشوى»
لا نهائية المدى،
على مرج أخضر
كان يذوب وجودك
بالتماهي مع كائنات
منسية
كنت تجد قوتك...
وتحت عنوان قصيدة «لمن تنضج السنبلة؟» اجتمع النضال ضد العدو مع رحابة الطبيعة، مشيرة إلى ما حلّ بسوريتنا عبر الأزمة والصراع من أجل المبادئ والثوابت، وضد عصابات الفساد، فتقول:
وعيونهم على سنابل
متوجة بشمس بلادك
يبرمون صفقة مع تجار الحرب،
لمن تنضج السنبلة؟
رجل مثلك قطع عهدا
لهذه الأرض
يغطيها كغيمة
ويرفع فوقها
سيفا من مطر
والسمسار أخذ عمولته
والغزاة يقولون إنها
ستكون كعكتهم الشهية
على فطور الغد...
وأيضاً تستوقف الشاعرة بشاعة الحرب وكيف تنعكس على الطبيعة وتدمرها وتدفع بها إلى الذبول والجفاف، ففي قصيدة «زيتون الجنوب» صور بسيطة ولكنها دالة على عمق الأثر الدامي، ومنها:
لم يأخذ فلاحو الجنوب
غفوة الظهيرة
ولم يقطفوا موسمهم
عيون القرية
شاخصة
إلى زيتون يذبل
وبين اليد والشجر
لغم حرب.
في فلسفة الحياة والموت
تحت عنوان «بيت الأحياء والأموات» يوم مع روح أبي، تشير الشاعرة إلى التخبّط الذي تعيشه الأفكار الواغلة في عمق ما وراء اللامرئيات الغامضة، مع فلسفة الحياة وواجب الموت، لتخط مشاعرها في مفردة شعرية وتقول:
الحياة للأحياء:
إنهم ناجون
والخلود للأموات
إنهم عاشوا وماتوا هنا
أتورط بقصيدة
وأنا أسير
لكن الفكرة منقوصة
وفي مكان أخر بالقصيدة ذاتها تتابع:
بيتي عنوان الأحياء
والأموات:
هنا يعيشون
يراقبون
يعشقون
دون خوف الفراق،
أقوالهم شريعة
وأحكامهم مبرمة
وسلطتهم:
صولجان غيب
لا يمر عليه الزمان
في الحروب
المعاناة والغضب من المستعمر وويلات والآلام حاضرة في المجموعة الشعرية «الشرق الغارق المتوسط» فالحرب هي واحدة مهما اختلف زمن اندلاعها وانفعالها، وعن «لغة الحرب» وفي إهداء إلى شهداء الإعلام تقول:
ورقتك المكتظة:
«المدماة بالأحداث»
تؤكد، وتضيف، وتشير
وتقول، وتوضح، وتلفت
وتختتم
دون ختام،
مرهونة لعواصف العالم
المتقاطعة فوق بيتك
قادمة، وخارجة
في تقاريرك،
وها هم شهداء الأخبار
يرتقون إلى عناوينهم
وأنت إذا لم تمت حقا
فهذا لا يعني
أنك لم تسقط مرات… ومرات:
قبل الأخبار
وبعدها
وفيما بينها،
فضاء واسع
من الذاكرة
يهجع للنسيان
و مراسل ما
مثلك
يصبح أخرس
أمام أثير العالم
في الأوطان
المجموعة الشعرية حافلة بعناوين لقصائد تشدو بالأوطان العربية والمدن السورية، فمن بغداد إلى فلسطين في قصيدة «حجر أريحا»، إلى لبنان في «جودت يحضر إلى بيروت»، ومن دير الزور إلى شام الدنيا في قصيدة «المتاهة الشامية». مشاعر الانتماء الدافقة في قلب الشاعرة والحب غير المشروط إلى أرض حملت فكر الكثيرين واليوم ستحمل فكر نهلة كامل أيضا، وهنا نقف عند قصيدة المتاهة الشامية ونذكر منها:
الأزقة الملتوية
والأبواب الصامتة
لن يدخل الجنة
إلا بنقرة على القلب،
لكنه يفقد التصويب إلى صدري
ومعه إحداثيات حياتي:
توقيت ضعفي، واندفاعة قوتي
قمة نشوتي، ومواصفات متعتي
نوع نباهتي، وفصيلة دهائي
إنه يفقد أثري
ولنفسي مفاتيحها:
العين بالعين، واليد باليد، والبسمة بالبسمة
والسلام بأفضل منه، والضيافة بثلاثة أيامها
والدمعة بالدمعة
والجرح بالجرح
والبادئ أظلم
وأيضاً من القصائد الجامعة للمناطق السورية التي تتحدث عن سحر طبيعتها وطيب أرضها وخيراتها، نقف عند قصيدة «من موطني أبتكر المستقبلا»:
الأبيض قطننا
والأزرق بحرنا
والأحمر جوري دير الزور
الفراتي
وأنت يا صغيرتي
تبدأ الرسم
هذه الألوان أرضنا...
الأخضر زيتنا
والياسمين عطرنا
والذهبي قمح حوران
الذكي
وأنت تتعلم الوطن..
لكنك تخوض الحياة
خارج توقعاتنا
حمل صغير
بلا قطيع
قد تدخل البرية
الأخطار من حولك
حقيقية
والنجاة جهد افتراضي.