قد تجد نفسك في "كتاب النائمين"، كقارئ، وقد لا تجد نفسك بتاتاً، فرواية "خيوط الإنطفاء" للكاتب السوري أيمن مارديني، (دار رياض الريس)، تتوه بقارئها في مغامرة سردية شكلاً ومضموناً. لدينا راو يتحدث عن أبيه وعائلته التي تمتلك كتاباً عائلياً أسطورياً يسميه "كتاب النائمين"، الذي تتردد عنه أقاويل كثيرة، ويقال إن عمره يمتد 1000 عام، وسوف يكون البحث عنه بمثابة بحث في تيه جغرافي وتاريخي يشبه البحث، ليس عن أسرار العائلة كما يبدو، بل عن أسرار الوجود. يؤكد النص منذ البداية طابعه الما بعد الحداثي، عبر صيغ التشكيك، والسيولة السردية. فأغلب ما يرد على لسان الراوي أيضاً يبدو ميالاً للشك، فهو لا يعرف على وجه الدقة العام الذي توفي فيه أبوه، لكن الأكيد وفقاً له أنه العام الذي شهد اختفاء "كتاب النائمين".
الراوي الذي يستعيد طفولته في مصر مع خاله، يعمل قبطاناً جوياً في شركة طيران مدنية، ويعاني من فقدان حبيبة طفولته نانو، وابنة خاله، التي كانت تمثل جانباً راسخاً من الحضور في حياته، مع ثالثهم سامي، ابن الخال الذي توفي مبكراً في الطفولة، لكن طيفه يظل ملاحقاً لهم باستمرار. "كتاب النائمين"، هو كما يقول الراوي بحسب عائلة الساحر: " كتاب مقدس، كتب بين الأرض والسماء. يحتوي من أسرار عائلتنا على الكثير، إذ كان مدوناً على صفحاته الأولى أسماء من أتى إلى الحياة في سلسال، وتوقف عند أحدهم من مات أو انقضى. رفع أو اختفى، أو لم يرث عنه اسمه أحد. حاول الكثيرون الحصول عليه. قتلوا من أجله، اغتيلوا، سرقوا، وقضوا، لكنه في النهاية اختفى. لم يكن لهم هم أو مأرب في الحياة سوى امتلاك "كتاب النائمين". وأهميته كانت بمكان فاقت دونه كل شيء آخر".
يبحث الراوي عن الكتاب الذي أعيد الى الحياة بواسطة الأب في زمن قديم، والذي بدوره حرص على إخفائه، بعد أن أصلح أوراقه، وتأكد من مضمونه، وبعد أن أوصى بأن يضاف إلى مضمونه ما يخص كل فرد ينضم إلى النائمين. "هو السر، قطع فسيفساء متناثرة، مصمتة، صامتة لا تريم عن شيء، إلى أن قبض عليها أبي، وجبل منها لوحة واحدة، مورقة، خصيبة، سقاها، ورعاها ليل نهار، وجعل منها سراً واحداً عصياً مستعصياً، لكن الحقيقة الوحيدة الآن أنه "اختفى".
الكتاب اللغز
البحث عن الكتاب اللغز من جهة، وسيرة الراوي وخصوصاً علاقته بنانو، ابنة عمه وحبيبة عمره، يشكلان عموداً فقرياً لمضمون النص. أما الشكل فيجعل من هذا المضمون خبيئة لأسرار أخرى، أو مختبراً لسردية تفتح باب التأويل على اتساعه. فقد تكون عائلة الساحر هي عائلة تمثل نفسها، وقد تكون رمزاً للسلالة البشرية، وما واجهته العائلة التي عاشت في مصر في حي منشية البكري، قد يجسد قصصاً مشتتة تكون وجهاً من حياة العائلة، وقد تكون قصصاً تخص عائلات أخرى، وتعبر عن مصائر بشر آخرين.
في متن الحكايات التي يتذكرها الراوي، أو يستدعيها على لسان الخال، ثمة خط أسطوري يتمثل في شخصية سامي. الطفل الذي كان يمثل ثالوث الصداقة والحب: أيمن، نانو، وسامي. صديق الطفولة الذي اختفى، والذي كان يمتلك نتوءا يشبه جناح الطير.
نص تتوالد فيه الأسئلة بلا إجوبة، عن الأب، و"كتاب النائمين"، وعائلة الساحر، ومصر، وأهلها، بوصف البطل الذي ولد فيها وعاش وعائلته فيها، وتحتل مصر ذاكرة الطفولة والصبا والشباب، حتى سافر إلى لندن لدراسة الطيران المدني. يتنقل السرد بسيولة تامة بين تاريخ الكتاب الأسطوري، وسيرة العائلة، وذاكرة الطفولة. ومنها مباشرة إلى كابينة قيادة طائرة حيث تبلغه المضيفة أن إحدى الراكبات تطلب مقابلته، وسيعرف من الاسم أنها ابنة عمه التي قضت على قصة الحب بينهما لأجل أن تكمل دراستها وتصبح طبيبة وتتزوج من طبيب لاحقاً.
وفي هذه السيولة السردية، يتنقل السرد بين ذاكرة العائلة، وبلغة تقتبس أو تستعير من النصوص المقدسة، ما يجعل القارئ يتوقف ليتبين أن سيرة العائلة هي بشكل ما أيضاً قد تكون سيرة البشر. تاريخ البشرية مع الخطيئة والحب والموت والخلود والوهم. حتى "كتاب النائمين" يحيل بشكل ما إلى "كتاب الموتى" الفرعوني، بصفته كتاب أسرار، وكتاب خلود، وكتاباً يتقصى سيرة النائمين بعد أن يناموا.
اسئلة تولّد اسئلة
الخلود تجسده أيضاً سيرة سامي، ابن الخال، الذي توفي مبكراً، اختطفه موت غامض، وكانت سيرته تأتي بين حكايات الخال لكل من أيمن ونانو. الخال الذي يعيش في مصر، ويقضي أوقاتاً طويلة في غرفته التي يسميها القصر بين الموسيقى والكتب، ويحكي لهما حكايات "ألف ليلة وليلة"، ويسمي أفراد عائلته بأسماء من الحكاية الأسطورية، فهذه ست الحين، وهذا السندباد. يحكي لهما بين آن وآخر عن سامي الذي يصوره لهما كملاك بجناحين. يقول لهما الخال المكلوم أن ابنه سامي تعلم الطيران قبل أن يتعلم الكلام. ويتحول طيف سامي في خيال الأب، كما لو أنه أيضاً كلام عن مقدس ما، عن سر من أسرار العالم، يتماهى مع بعض الصور الطفولية لأيمن ونانو حول فكرتهما عن الحلم بالمقدس.
ليست الرواية في الأساس رواية أصوات، لأن الراوي أيمن الذي يمسك بخط السرد يتنقل بين الأساطير والتاريخ والواقع والذاكرة، وصوت خاله وحكاياته. ولكن حتى حين يتولى الخال الصوت السردي في فصول عدة، نجد أنه أيضاً ينتمي إلى الأصوات السائلة، وهي حال السيولة التي يحدثها تدخل صوت ا لراوي الأساسي، إما بتوضيح أو إضافة أو تماه مع خبر مما يقول. تأتي على امتداد النص فقرات تسبقها كلمة "قول" تبدو كما لو أنها مقولة فلسفية تشرح، أو تضيء قولاً من أقاويل الأب أو الخال، أو حتى أسئلة الراوي في موقع ما من الحكاية.نص ينتمي إلى ما بعد الحداثة، ويقدم أيضاً صياغة سردية لواقعية أسطورية بامتياز، فالواقع والأسطورة متدخلان على امتداد النص، والمكان الواقعي الحديث يمكن أن تهطل فيه الأمطار مثلاً، فيأخذها السرد لتغدو أمطاراً تحمل كل تاريخ مصر منذ الفراعنة وحتى ثورة 25 يناير وما قبلها من أحداث تاريخية معاصرة.
الأسئلة تولّد أسئلة وليس أجوبة، كما لو أن البحث عن الكتاب وسر العائلة بالنسبة للراوي ليس إلا بحثاً عن المعرفة وعن الذات، وعن معنى الحب من خلال تعقيدات علاقة الراوي بنانو التي تستمر ولو من بعيد، أو عبر الصدف كما لو أنها قصة الحب التي لا يمكن فهم الحياة من دون وجودها، مهما كانت درامية أو مأساوية.
"خيوط الانطفاء" تجربة سردية، تجريبية، ليست تقليدية، ومع ذلك تقدم اقتراحات سردية عديدة من خلال سيولة الذاكرة السردية والصوت السردي والزمن السردي. وتلقي الضوء على أسئلة إنسانية، متوسلة الخبرة الذاتية من أجل طرح أسئلة وجودية، من دون اهتمام كبير بالأجوبة. فالسؤال دائما هو الأهم. الرواية هي الثالثة للكاتب بعد روايتيه "سيرة الانتهاك" 2011، و"غائب عن العشاء الأخير" 2016.
اندبندنت عربية