يبدو أن زينب عبدالحميد، لم تختر كتاب "جوزيف فوشيه... سيرة سياسي" لتترجمه إلى العربية (مكتبة المتنبي- الدمام)، عبثاً، فكتاب النمساوي ستيفان زفايغ (1881-1942) يتناول الأحداث التي مرت على فرنسا في أعقاب ثورتها، وهو أمر يتقاطع مع ما نعيشه في أعقاب ثورات الربيع العربي، علماً أن المترجمة أنجزت أطروحة دكتوراه عنوانها "اليوتوبيا والديستوبيا في رواية ما بعد ثورة 25 يناير".
نحن أمام سيرة غيرية كتبت بشكل أدبي جذاب حول واحدة من أكثر الشخصيات الفرنسية التي استطاعت أن تلعب على جميع الحبال وتغير مواقفها وتتلون كما الحرباء. صاغ ستيفان زفايغ سيرة جوزيف فوشيه في شكل قصة تقليدية لها بداية ووسط ونهاية، ومكونة من عدة فصول، لكل منها حبكته الخاصة. الفصل الأول حمل عنوان "الصعود"، وفيه نعرف أن جوزيف فوشيه ولد عام 1756 في مدينة نانت لعائلة من البحارة والتجار. فهو ابن لطبقة برجوازية وبسبب ضعف بنيته لم يعمل بحاراً أو صانع سفن لكن اختار حياة الرهبنة وعمل في المسار الديني لعشر سنوات لم يختلف فيها عن القساوسة بأي شكل سواء من مظهره الخارجي أو الداخلي لكنه لم يرسم قسيساً، وعمل مدرس فيزياء. هذا القسيس حين اشتعلت الثورة الفرنسية خلع عباءة الدين وانضم إلى ركب الثورة، وشارك في تحطيم الصلبان وحرق هياكل الكهنة والأيقونات.
وحين تتغير الأوضاع وتهدأ عاصفة الإرهاب ينكر فوشيه ما ارتكبه من جرائم فهو لم يترك دليلاً يدينه. يتصارع مع روبيسير أقوى رجال فرنسا وقتها. معركة صفرية تتطلب أن يقضي أحدهما على الآخر، فيكون الفوز في النهاية حليف الداهية فوشيه، الذي يأكل على كل الموائد ويصبح وزيراً في الحكومات المختلفة، يتعاون مع نابليون ثم ينقلب عليه ويسلمه لأعدائه، ويصبح الحاكم لفرنسا في فترة انتقالية، ثم يعيد الحكم للملكية مرة أخرى بأن يعيد أخ الملك المقتول بالمقصلة إلى الحكم، ثم ينهي حياته منفياً في قرية معزولة، نادماً على ما ارتكبه من آثام. فذلك الملحد القديم المناضل مضطهد المسيحية ومدمر المعابد استدعى في نهاية حياته واحداً من هؤلاء القساوسة الذين وصفهم بالمنافقين ليطلب منه البركة والغفران.
شخصية انتهازية
جوزيف فوشيه في سيرته التي قدمها زفايج نموذج للشخصيات الانتهازية التي تظهر بعد الثورات الكبرى. يستطيع أن يكون ثورياً ومحافظاً. يكون جمهورياً وملكياً. مع الحرية ومكبلاً لها. ينظر إلى الكفة الراجحة في الصراع ويميل إليها. لا يتورع عن بيع صديق له أو حتى قتله إن قضت مصلحته ذلك. كان من القلائل الذين شاركوا في الثورة الفرنسية ولم يعدموا مع تقلباتها الشديدة. وقف في وجه نابليون في وقت كان الجميع يخشاه. كان شديد التلاعب فقال عنه هاينريش هاين: "لقد بلغ من التلاعب ما يجعلنا نشك في نشره مذاكرات كاذبة بعد وفاته".
في بداية الثورة رغم أنه انتخب في المجلس الوطني، فإنه لا يتعجل في إظهار مخططاته. يترك الآخرين يتقدمون الأحداث. هكذا تعلم بعد أن اكتسب خبرته في وقت مبكر. يعرف أن الثورة لا تعطي ثمارها أبداً لمن يبدؤونها ولكن يلوذ بها ويقطفها ثمارها مَن شارك في نهايتها.
ولا تتناول سيرة جوزيف فوشيه أحداث الثورة الفرنسية بشكل مباشر ولكن دائماً هي موجودة في خلفية الأحداث، فنحن أمام تقلبات هائلة من النقيض إلى النقيض يسهل فيها التلاعب بمشاعر الجماهير. وهذا ما يقوم به فوشيه بإثارة المشاعر باسم الوطنية، ويجعلها حجة لقتل المعارضين بأساليب بشعة. يحشد الجماهير ضد الدين يعتبرهم السبب في تخلف الشعوب. يقيم حفلة صاخبة، ويقود حماراً؛ علق على أذنيه صورة للمسيح المصلوب معكوسة، وثبت بذيله الكتاب المقدس. ينزع الكتاب المقدس ويلقي به بين ألسنة اللهب ليحترق مع أوراق الصلوات وأيقونات وصور القديسين الخشبية. إلا أن هذه الأفعال التي كانت مصدر فخر، تتحول خلال وقت وجيز إلى جرائم شنعاء.
التلاعب بالجماهير
تظهر سيرة فوشيه كيف يجري التلاعب بالجماهير عبر نشر شائعات تؤلبهم على من يحكمونهم. يفعل فوشيه ذلك بحرفية شديدة أثناء صراعه مع روبسبيير عن طريق وكلاء يختارهم بعناية كي يكون بعيداً عن واجهة الأحداث. ويرسم زفايغ تلك الصورة بحرفية شديدة في الفصل الثالث الذي يصلح لأن يتحول إلى عمل مسرحي، وفيه استطاع فوشيه أن ينجو من المقصلة، على حساب غريمه روبسبير.
استطاع فوشيه بفضل عدم إيمانه بأي مبادئ تعطل مصالحه أن يصبح وزيراً لكل الحكومات، أينما كان اتجاه الريح يفرد قلوع مركبه، يقفز من المركب قبل غرقها إلى الأخرى الناجية... "تتغير الحكومات والأشكال السياسية والآراء وأصحاب الرأي، كل شيء ينهار للغبار وتيارات العواصف المستعرة في مطلع القرن بينما يمكن لرجل واحد فقط أن نعثر عليه عبر شتى الوزارات المختلفة يحتل المنصب نفسه، تحت ألوية أسياد حين وليّ وزارة الشرطة كانت مهمته الأولى القضاء على الفوضى فعمل على تقييد حرية الصحافة وألقى القبض على أصحاب الاتجاهات الثورية ممن كانوا أصدقاءه واستعملهم بالأمس كي ينجو من المقصلة. صنع جهاز مراقبة للرأي العام يخصه وحده، فكان يراقب الجميع حتى نابليون بونابرت نفسه عبر تجنيده لزوجته جوزفين.
وتقدم سيرة فوشيه جانباً من حياة نابليون من وجهة نظر مغايرة، فقد كان الأول هو من مهد للثاني الطريق كي يستلم السلطة ويحكم قبضته على فرنسا، وكان خادمه الأمين. وفي الوقت ذاته كان هو السبب في إزاحته عن عرش فرنسا وإعادة الحكم الملكي مرة أخرى إلى الحكم، إلا أن شخصية مثل جوزيف عاش أكثر من عقدين في لعبة سياسية استطاع فيها أن ينتصر على خصومه جميعهم يقع في الخمسين من عمره في خطأ تراجيدي حين وصل إلى حكم فرنسا وكان حكمه مقبولاً شعبياً وتؤيده حكومات أوروبا وقتها وتثق فيه وكان يمكنه أن يحتفظ بالحكم إلا أنه اختار أن يسلمه إلى لويس الثامن عشر أخو الملك لويس السادس عشر الذي صوت في العلن على قتله مع بداية الثورة الفرنسية فكانت النتيجة أن نفي عن فرنسا وعاش حياة ذليلة حتى مات في قرية نائية خامل الذكر بعد أن كان ملء السمع والبصر.
اندبندنت عربية