تقريرمن المغرب
ندوة حول محمد أنقَّار
نظم المركب التربوي والثقافي آية بمرتيل مؤخرا، في إطار الملتقى الرابع للتربية والثقافة والإبداع لقاءا نقديا لمسرحية "الببوش أو أكلة الحلزون"، آخر إصدارات الأديب محمد أنقار، بمشاركة الدكتور يوسف الريحاني، وذ. عرفة بلقات، وقد استهل بعرض شريط وثائقي قصير بعنوان "محمد أنقار: سيرة أدبية" مونتاج التلميذة نجلاء الحمدي، وإخراج عثمان أنقار. الجلسة النقدية التي سيرها باقتدار وتمكن الأستاذ عرفة بلقات. وابتدأ بأن عرف بإسهاب بالأستاذ الريحاني الذي قرأ عرضا مركزا بعنوان (أكلة الحلزون، أو حينما يصير المسرح بيت الحاضر)، ركز فيه على قيمة النص ضمن مكونات الإبداع المسرحية، إلى درجة يصير معها تاريخ المسرح في معظمه تاريخ مؤلفين دراميين. لينتقل بعد ذلك إلى التنويه بمبادرة أنقار الذي اختار هذه السنة أن يتواصل مع قرائه عبر الجنس المسرحي، بإقدامه على نشر مسرحية "الببوش أو أكلة الحلزون". وهي أول عمل من هذا النوع يصدر لهذا المبدع الذي تفنن في كتابة الرواية ومختلف صنوف النقد البلاغي.ثم انتقل بعدها إلى تشريح مكونات هذا النص، الذي جاء مكثفا في ثلاثة فصول مقسمة عبر فضائين: فضاء السوق، وفضاء المستشفى. وبالارتكاز إلى بعض النماذج العاملية، يصل إلى تحليل أهم العلاقات الرابطة بين المحاور الدلالية في المسرحية، كعلاقة الرغبة التي تسكن أعماق البطل، وعلاقات الصراع والتواصل، ليصل في النهاية إلى أن المسرحية عكست انهيار أحلام الطبقات الوسطى في تحقيق النهضة المدنية المرجوة. أما على مستوى اللغة الدرامية، فقد ركز الباحث على أناقتها وسهولة تدفقها على لسان المؤدين، وتوقف بشكل مستفيض عند لغة الإرشادات التي أفسح لها محمد أنقار حيزا واسعا، وهي في مجملها تكشف عن شاعرية وتمكن من لغة العرض المسرحي. وقد ختم الباحث يوسف الريحاني عرضه بالوقوف عند بعض الملاحظات التي سجلها بخصوص هذا العمل على مستوى التقديم والنشر، مستنتجا بان هذا العمل كشف عن مؤلف مسرحي كبير، لو تفرغ لكتابة المسرح لأغنى الخزانة المغربية والعربية بأعمال رائعة لهذا الجنس الأدبي الذي ما يزال حضوره هشا ضمن الأدب العربي. ثم تناول الكلمة بعد ذلك الأستاذ عرفة بلقات بمداخلة وسمها ب"فعل السخرية في مسرحية: "الببوش، أوأكلة الحلزون" تطرق فيها إلى جملة من العناصر، بدءا من مقاربته لعنوان النص سميائيا: لماذا لم يختر المؤلف كلمة: "غلال" ـ بضم الغين ـ (= الحلزون) التي تنتمي إلى ذاكرته اللغوية المحلية، واختار، للتعبير عن نفس المسمى، كلمة ببوش؟ ـ معتبرا أن طرحه لهذا السؤال كان الغرض منه التوصل إلى أن السمات الصوتية لكلمة "غلال" لا تنسجم مع الحدث المركزي في المسرحية المتمثل في هذا الرجل (= الزوج/ عمر) الذي كان يأكل ببوشا فابتلع دبوسا، مؤكدا أن السمات الصوتية لهذه الكلمة هي الجهر بوصفها سمات لا تنسجم مع حالة الانكتام الصوتي الذي ينتج عادة، كرد فعل طبيعي، عندما نباغت بضربة تكتم الأنفاس، أو عندما يباغت عمر بأن دبوسا قد علق في حلقه. فالأصوات المكونة لكلمة ببوش بالنسبة للباحث، كلها أصوات مهموسة، وفيها من الشدة ما يثير الفطرة اللغوية للمتلقي ويهيئه وجدانيا لحدث اختار المؤلف أن يبتدئ به المسرحية مباشرة بعد رفع الستار بقليل. وأشار بلقات إلى أن "المناسبة" بين الطبيعة الصوتية للعنوان والحدث المركزي في المسرحية، تمثل جزءا هاما من بلاغة هذه الأخيرة. متسائلا: كيف يعقل أن تفقد الطبيعة قدرتها على التمييز بين أبسط مظاهر احتكاكها بنقيضها فيتسلل دبوس إنجليزي من بين أنامل رجل، كان يأكل "ببوشا"، ويسلك طريقه إلى حلقه ويستقر فيه عابرا أدغالا من العضلات والعظام دون أن يشعر بشيء، شيء يدعو للسخرية، فعلا، هل لأن الدبوس أسرع من الحلزون إلى حلقه؟ لو كان طفلا لكن الأمر عاديا، ولكنه رجل، اشتهى ببوشا فابتلع دبوسا، انغرس في حلقه كما تنغرس غصة الحياة ومرارتها في حلق الإنسان فلا يقوى على استساغة أي شيء فيها، لو كان طفلا لقلنا إن الأطفال معرضون لمثل هذه الحوادث، ألا يبتلع الأطفال النقود والأشياء الصلبة حتى إننا لنضحك، أحيانا، كيف أن هذه الأشياء وجدت طريقها إلى معدتهم بدون إصابات؟ وأحيانا نهرول بهم إلى المستشفى، ومع ذلك لا نلومهم، ولا نستغرب لأفعالهم، يلوم الكبار الكبار، ويستغرب بعضهم أفعال بعض، يسخرون منها، وأحيانا يجدون الفرصة مواتية للشماتة، غير أننا لا نلوم الأطفال لأن تصرفاتهم متوقعة عادية، أما تصرف هذا الرجل الذي أراد أن يأكل ببوشا فابتلع دبوسا فإنه، بكل تأكيد، تصرف فوق العادة. لكن لماذا علينا أن نشعر بهذه السخرية بينما حياتنا نفسها مليئة بمثل هذا الحدث؟ كم مرة استقرت في حلوقنا دبابيس الحياة وتألمنا كثيرا، ظللنا، مثل هذا الرجل المسكين مضرجين في أحزاننا، مثلما ظل مضرجا في دمائه ينتظر الغوث والإسعاف ـ طيلة الفصل الأول ـ دون فائدة؟ كم مرة ظللنا مثله عرضة للشماتين أمثال هذا الحمال الذي وجد الفرصة مواتية لكي يصب كامل شماتته وسخريته وحقده على هذا الرجل الذي أتى من المدينة، مع زوجته، لمزاحمة الضعفاء في أرزاقهم، فكان هذا هو مصيره؟انغرس الدبوس في حلقه. ولكننا في حالة الضعف، نستكين لآلامنا ولا نقوى على شيء، ونكتفي بالمتفرجين الذين قد يحولقون كشخصية الحكيم، أو يولولون كزوجة الرجل أو يتهربون من المسؤولية كبائع الببوش، أو يتفطنون لمسؤوليات شبيهة بمسؤوليات هذا الأخير كبائعي السردين المشوي والنقانق و "المغارس" فيتسللون لواذا، أو يتعاطفون بشكل سلبي، كشخصيات أخرى في المسرحية. كما تطرق الباحث إلى سخرية بعض الأحداث بوصفها جزءا من تراجيديتها الموغلة في عمق الحياة التي نحياها، وفي صلب الموافق الإنسانية التي تتدفق بمختلف تناقضاتها، يمكن للضحك أن يستغرقنا ونحن نستمع أو نقرأ أو نتفرج على رجل كان يأكل ببوشا فابتلع دبوسا، غير أنه يمكن أيضا أن نبكي ليس كما تبكي زوجة هذا الرجل المكلومة، بل كما يمكن أن نبكي ونحن نتأمل حظوظنا المتعثرة التي ساقنا، أو قد يسوقنا، إليها القدر. يضيف ـ بلقات ـ إن فعل السخرية في مسرحية الببوش يمثل جزءا من تراجيديا اجتماعية قائمة على هذا التقابل بين حدث مسرحي مصنوع وحدث اجتماعي مطبوع، في هذا التقابل يتجاور الحدثان كما لو كان الأول كناية والثاني حقيقة، أوكما لو كان الأول رمزا والثاني واقعا، وفي هذا التقابل، وحده الواقع هو الذي يجعل الصناعة مقنعة، فحدث مثل "كان رجل يأكل ببوشا فابتلع دبوسا" ليس مقنعا إلا بحسب الإسقاطات الاجتماعية على هذا الحدث التي تحول السخرية إلى سؤال اجتماعي كبير ومؤلم مثل "كيف للأحداث التافهة في حياتنا أن تحولها إلى جحيم". لا تتمثل السخرية في مسرحية الببوش في طبيعة الحدث، فحسب، ولا في المواقف المختلفة والمتناقضة التي ترتبت عنه، بل، أيضا، في كيفية تفسيره من قبل الزوجة التي، بعد أن اطمأن قلبها لنجاة زوجها، في الفصل الثاني، لم تجد من مبرر سوى انشغال زوجها بامرأة أخرى في المجموعة التي كانت متحلقة حول بائع الحلزون، لدرجة أنه لم يستطع التمييز بين الببوش والدبوس. إنه تفسير الزوجة الغيور الذي ـ بغض النظر عن ألم الحدث الذي حصل للزوج ـ هو في حد ذاته تفسير مؤلم، يصل إلى درجة الشماتة، ولذلك لابد من موقف أخلاقي بلورته الزوجة في قرار ألزمت به الزوج وهو الاعتذار لبائع الببوش الذي ناله منها، في الفصل الأول، من الشتائم ما يشعرها الآن بتأنيب الضمير.لكن هل تفسير الزوجة صادق فعلا؟ من هي زوجة عمر، تلك التي كان قلبها يتقطع خوفا عليه أم تلك التي يتقطع قلبها غيرة عليه، أم تلك التي تتراجع كلية عن إدانة بائع الحلزون، أم تلك التي تأخذها الرحمة بالشمام، فتصر في الفصل الثالث على إطعامه في حالة إسقاط نفسي لحالته على ابنها عبد الجليل؟ مختتما مداخلته بأنه ليس من الضروري أن نفهم، لكي نسخر ربما علينا ألا نفهم، ربما،أيضا،علينا ألا نَعْتَبِرَ، لأن العبرة تقتضي الفهم، والتجاوز، ومن ثمة تطوير أفعالنا ومواقفنا، في حين مثلت الرغبة في الاعتذار شيئا مناقضا للاعتبار، وفي نفس السوق البلدي الذي سقط فيه الزوج بين الموت والحياة، وقد علق في حلقه دبوس، سيسقط فيه وقد انكسر رجله بعد عراك مع الحمال. لينتهي إلى أن عدم ضرورة الفهم لا يتعلق بتصرفات الزوجة، فحسب، وإلا فكيف يكون الحمال حمالا وهو في الحقيقة غني؟ وكيف يكون الحكيم حكيما دون أن يبصر الناس بالحدث كيف حدث؟ وكيف يكون الزوج مطيعا وهو يعرف أن ما سيحدث سيكون تكرارا لما حدث؟... إلخ. شخص واحد يفسر طبيعة هذه الأحداث، إنه الشمام الذي ـ بتموقعه خارج الوعي بالأحداث ـ يمثل شكلا من أشكال الحياة الساخرة التي نحياها دون أن نفهمها. إثر ذلك فتح باب المناقشة تناول المتدخلون قضايا عديدة من بينها: لماذا تسمية المسرحية بالببوش وليس "غلال" السائد في الشمال؟ هل الحافز على ذلك جغرافي أم أن تراجيديا الواقع هي التي أملت ذلك؟ ألم يوقع ذلك الاستعمال المؤلف في تناقض من حيث التسميات؟ وهل يعني ذلك أن المؤلف لا يزال أسير البلاغة والظاهرة اللغوية في حين أن المسرح يركز على المرئي وعلى الصورة؟ دلالة صغر حجم المسرحية، وقراءاتها المتعددة، لماذا تأخر أنقار في كتابة المسرحية؟ ألم يخطط لكتابة نصوص مسرحية أخرى؟ وكيف أن الشهوة انطلاقا من موضوع المسرحية يمكن أن تكون قاتلة؟ كما أثارت التدخلات إشكالات ترتبط بعلاقة المسرحية بالتحول الذي حدث في البادية المغربية، وتعقد مقارنة بين المدينة والقرية، والمسرحية بين الفكاهة والإصابة بعدوى التوتر والقلق. ولقد رد الكاتب محمد أنقار بعدها بتركيز شديد على معظم تلك القضايا خاصة فيما يتعلق بالعنوان. وذكر أنه لم يقصد إلى كتابة مسرحية شمالية أو جنوبية، شرقية أو غربية، وإنما هي نص مسرحي إنساني منفتح على كل الآفاق، خاصة أنه اشتغل كثيرا بالقضايا المحلية في روايته "المصري" و "باريو مالقه"، وفي عديد من قصصه القصيرة فأراد في هذا العمل أن يستبعد عن نطاق المحلية الضيقة. لذا طالب أن يقرأ "الببوش" في ذاته، وأن نغمض عيوننا في الظلام، ونسرح وراء الإيحاءات التي تثيرها اللفظة في أذهاننا. أما عمل الكاتب بعد ذلك هو تسجيل تلك الإيحاءات مسرحيا، وصياغتها في حوارات وأفكار. وضرب لذلك أمثلة من المسرح العالمي التي انطلق فيها أصحابها من كلمات أو مواقف مبهمة من أجل محاولة تصويرها لا يفهم" في انتظار غودو "لصموييل بكيت، و "ياطالع الشجرة" لتوفيق الحكيم، والسطر الأخير في مسرحية "المغنية الصلعاء" ليوجين يونيسكو. ثم أبدى الكاتب اختلافه مع من قسم المسرح إلى اشتغال باللغة من ناحية ثانية ونفى أن يكون ثمة فصل بينهما. أما صغر حجم المسرحية فقد أرجعه صاحبها إلى العنصر المادي، ولم يتفق مع من قال إن هذه المسرحية هي مقدمة لنشر "ملحمة" في القريب، واعترف بالمقادير الضخمة التي نفقها من جيبه عندما أصبح ينشر أعماله على حسابه، ونفى أنقار أن يكون قد تأخر في كتابة المسرحية. ذلك أن تاريخ بداية كتابة "الببوش" يعود إلى سنة 1992، وأنه انشغل عن نشرها إمعانا في التنقيح وانصرافا إلى نشر أعمال أخرى بما فيها كتاباه النقديان "بلاغة النص المسرحي" و "صورة عطيل". وفيما يخص الفكاهة اعترف بوجود عديد من سماتها في المسرحية، لكنها فكاهة سوداء مفعمة بالتوتر والقلق. وعن علاقة الكاتب بنصه اعترف المؤلف بأنه يخضع كل أعماله إلى أنماط من النقد الصارم، ويَسْتَبِقُ الأسئلة التي يمكن أن تطرح عليه بعد أن ينشر العمل، وأنه يستحضر شتى التأويلات التي ترد على خاطر قرائه.
نظم المركب التربوي والثقافي آية بمرتيل مؤخرا، في إطار الملتقى الرابع للتربية والثقافة والإبداع لقاءا نقديا لمسرحية "الببوش أو أكلة الحلزون"، آخر إصدارات الأديب محمد أنقار، بمشاركة الدكتور يوسف الريحاني، وذ. عرفة بلقات، وقد استهل بعرض شريط وثائقي قصير بعنوان "محمد أنقار: سيرة أدبية" مونتاج التلميذة نجلاء الحمدي، وإخراج عثمان أنقار. الجلسة النقدية التي سيرها باقتدار وتمكن الأستاذ عرفة بلقات. وابتدأ بأن عرف بإسهاب بالأستاذ الريحاني الذي قرأ عرضا مركزا بعنوان (أكلة الحلزون، أو حينما يصير المسرح بيت الحاضر)، ركز فيه على قيمة النص ضمن مكونات الإبداع المسرحية، إلى درجة يصير معها تاريخ المسرح في معظمه تاريخ مؤلفين دراميين. لينتقل بعد ذلك إلى التنويه بمبادرة أنقار الذي اختار هذه السنة أن يتواصل مع قرائه عبر الجنس المسرحي، بإقدامه على نشر مسرحية "الببوش أو أكلة الحلزون". وهي أول عمل من هذا النوع يصدر لهذا المبدع الذي تفنن في كتابة الرواية ومختلف صنوف النقد البلاغي.ثم انتقل بعدها إلى تشريح مكونات هذا النص، الذي جاء مكثفا في ثلاثة فصول مقسمة عبر فضائين: فضاء السوق، وفضاء المستشفى. وبالارتكاز إلى بعض النماذج العاملية، يصل إلى تحليل أهم العلاقات الرابطة بين المحاور الدلالية في المسرحية، كعلاقة الرغبة التي تسكن أعماق البطل، وعلاقات الصراع والتواصل، ليصل في النهاية إلى أن المسرحية عكست انهيار أحلام الطبقات الوسطى في تحقيق النهضة المدنية المرجوة. أما على مستوى اللغة الدرامية، فقد ركز الباحث على أناقتها وسهولة تدفقها على لسان المؤدين، وتوقف بشكل مستفيض عند لغة الإرشادات التي أفسح لها محمد أنقار حيزا واسعا، وهي في مجملها تكشف عن شاعرية وتمكن من لغة العرض المسرحي. وقد ختم الباحث يوسف الريحاني عرضه بالوقوف عند بعض الملاحظات التي سجلها بخصوص هذا العمل على مستوى التقديم والنشر، مستنتجا بان هذا العمل كشف عن مؤلف مسرحي كبير، لو تفرغ لكتابة المسرح لأغنى الخزانة المغربية والعربية بأعمال رائعة لهذا الجنس الأدبي الذي ما يزال حضوره هشا ضمن الأدب العربي.
ثم تناول الكلمة بعد ذلك الأستاذ عرفة بلقات بمداخلة وسمها ب"فعل السخرية في مسرحية: "الببوش، أوأكلة الحلزون" تطرق فيها إلى جملة من العناصر، بدءا من مقاربته لعنوان النص سميائيا: لماذا لم يختر المؤلف كلمة: "غلال" ـ بضم الغين ـ (= الحلزون) التي تنتمي إلى ذاكرته اللغوية المحلية، واختار، للتعبير عن نفس المسمى، كلمة ببوش؟ ـ معتبرا أن طرحه لهذا السؤال كان الغرض منه التوصل إلى أن السمات الصوتية لكلمة "غلال" لا تنسجم مع الحدث المركزي في المسرحية المتمثل في هذا الرجل (= الزوج/ عمر) الذي كان يأكل ببوشا فابتلع دبوسا، مؤكدا أن السمات الصوتية لهذه الكلمة هي الجهر بوصفها سمات لا تنسجم مع حالة الانكتام الصوتي الذي ينتج عادة، كرد فعل طبيعي، عندما نباغت بضربة تكتم الأنفاس، أو عندما يباغت عمر بأن دبوسا قد علق في حلقه. فالأصوات المكونة لكلمة ببوش بالنسبة للباحث، كلها أصوات مهموسة، وفيها من الشدة ما يثير الفطرة اللغوية للمتلقي ويهيئه وجدانيا لحدث اختار المؤلف أن يبتدئ به المسرحية مباشرة بعد رفع الستار بقليل. وأشار بلقات إلى أن "المناسبة" بين الطبيعة الصوتية للعنوان والحدث المركزي في المسرحية، تمثل جزءا هاما من بلاغة هذه الأخيرة. متسائلا: كيف يعقل أن تفقد الطبيعة قدرتها على التمييز بين أبسط مظاهر احتكاكها بنقيضها فيتسلل دبوس إنجليزي من بين أنامل رجل، كان يأكل "ببوشا"، ويسلك طريقه إلى حلقه ويستقر فيه عابرا أدغالا من العضلات والعظام دون أن يشعر بشيء، شيء يدعو للسخرية، فعلا، هل لأن الدبوس أسرع من الحلزون إلى حلقه؟ لو كان طفلا لكن الأمر عاديا، ولكنه رجل، اشتهى ببوشا فابتلع دبوسا، انغرس في حلقه كما تنغرس غصة الحياة ومرارتها في حلق الإنسان فلا يقوى على استساغة أي شيء فيها، لو كان طفلا لقلنا إن الأطفال معرضون لمثل هذه الحوادث، ألا يبتلع الأطفال النقود والأشياء الصلبة حتى إننا لنضحك، أحيانا، كيف أن هذه الأشياء وجدت طريقها إلى معدتهم بدون إصابات؟ وأحيانا نهرول بهم إلى المستشفى، ومع ذلك لا نلومهم، ولا نستغرب لأفعالهم، يلوم الكبار الكبار، ويستغرب بعضهم أفعال بعض، يسخرون منها، وأحيانا يجدون الفرصة مواتية للشماتة، غير أننا لا نلوم الأطفال لأن تصرفاتهم متوقعة عادية، أما تصرف هذا الرجل الذي أراد أن يأكل ببوشا فابتلع دبوسا فإنه، بكل تأكيد، تصرف فوق العادة.
لكن لماذا علينا أن نشعر بهذه السخرية بينما حياتنا نفسها مليئة بمثل هذا الحدث؟ كم مرة استقرت في حلوقنا دبابيس الحياة وتألمنا كثيرا، ظللنا، مثل هذا الرجل المسكين مضرجين في أحزاننا، مثلما ظل مضرجا في دمائه ينتظر الغوث والإسعاف ـ طيلة الفصل الأول ـ دون فائدة؟ كم مرة ظللنا مثله عرضة للشماتين أمثال هذا الحمال الذي وجد الفرصة مواتية لكي يصب كامل شماتته وسخريته وحقده على هذا الرجل الذي أتى من المدينة، مع زوجته، لمزاحمة الضعفاء في أرزاقهم، فكان هذا هو مصيره؟انغرس الدبوس في حلقه. ولكننا في حالة الضعف، نستكين لآلامنا ولا نقوى على شيء، ونكتفي بالمتفرجين الذين قد يحولقون كشخصية الحكيم، أو يولولون كزوجة الرجل أو يتهربون من المسؤولية كبائع الببوش، أو يتفطنون لمسؤوليات شبيهة بمسؤوليات هذا الأخير كبائعي السردين المشوي والنقانق و "المغارس" فيتسللون لواذا، أو يتعاطفون بشكل سلبي، كشخصيات أخرى في المسرحية. كما تطرق الباحث إلى سخرية بعض الأحداث بوصفها جزءا من تراجيديتها الموغلة في عمق الحياة التي نحياها، وفي صلب الموافق الإنسانية التي تتدفق بمختلف تناقضاتها، يمكن للضحك أن يستغرقنا ونحن نستمع أو نقرأ أو نتفرج على رجل كان يأكل ببوشا فابتلع دبوسا، غير أنه يمكن أيضا أن نبكي ليس كما تبكي زوجة هذا الرجل المكلومة، بل كما يمكن أن نبكي ونحن نتأمل حظوظنا المتعثرة التي ساقنا، أو قد يسوقنا، إليها القدر. يضيف ـ بلقات ـ إن فعل السخرية في مسرحية الببوش يمثل جزءا من تراجيديا اجتماعية قائمة على هذا التقابل بين حدث مسرحي مصنوع وحدث اجتماعي مطبوع، في هذا التقابل يتجاور الحدثان كما لو كان الأول كناية والثاني حقيقة، أوكما لو كان الأول رمزا والثاني واقعا، وفي هذا التقابل، وحده الواقع هو الذي يجعل الصناعة مقنعة، فحدث مثل "كان رجل يأكل ببوشا فابتلع دبوسا" ليس مقنعا إلا بحسب الإسقاطات الاجتماعية على هذا الحدث التي تحول السخرية إلى سؤال اجتماعي كبير ومؤلم مثل "كيف للأحداث التافهة في حياتنا أن تحولها إلى جحيم".
لا تتمثل السخرية في مسرحية الببوش في طبيعة الحدث، فحسب، ولا في المواقف المختلفة والمتناقضة التي ترتبت عنه، بل، أيضا، في كيفية تفسيره من قبل الزوجة التي، بعد أن اطمأن قلبها لنجاة زوجها، في الفصل الثاني، لم تجد من مبرر سوى انشغال زوجها بامرأة أخرى في المجموعة التي كانت متحلقة حول بائع الحلزون، لدرجة أنه لم يستطع التمييز بين الببوش والدبوس. إنه تفسير الزوجة الغيور الذي ـ بغض النظر عن ألم الحدث الذي حصل للزوج ـ هو في حد ذاته تفسير مؤلم، يصل إلى درجة الشماتة، ولذلك لابد من موقف أخلاقي بلورته الزوجة في قرار ألزمت به الزوج وهو الاعتذار لبائع الببوش الذي ناله منها، في الفصل الأول، من الشتائم ما يشعرها الآن بتأنيب الضمير.لكن هل تفسير الزوجة صادق فعلا؟ من هي زوجة عمر، تلك التي كان قلبها يتقطع خوفا عليه أم تلك التي يتقطع قلبها غيرة عليه، أم تلك التي تتراجع كلية عن إدانة بائع الحلزون، أم تلك التي تأخذها الرحمة بالشمام، فتصر في الفصل الثالث على إطعامه في حالة إسقاط نفسي لحالته على ابنها عبد الجليل؟ مختتما مداخلته بأنه ليس من الضروري أن نفهم، لكي نسخر ربما علينا ألا نفهم، ربما،أيضا،علينا ألا نَعْتَبِرَ، لأن العبرة تقتضي الفهم، والتجاوز، ومن ثمة تطوير أفعالنا ومواقفنا، في حين مثلت الرغبة في الاعتذار شيئا مناقضا للاعتبار، وفي نفس السوق البلدي الذي سقط فيه الزوج بين الموت والحياة، وقد علق في حلقه دبوس، سيسقط فيه وقد انكسر رجله بعد عراك مع الحمال. لينتهي إلى أن عدم ضرورة الفهم لا يتعلق بتصرفات الزوجة، فحسب، وإلا فكيف يكون الحمال حمالا وهو في الحقيقة غني؟ وكيف يكون الحكيم حكيما دون أن يبصر الناس بالحدث كيف حدث؟ وكيف يكون الزوج مطيعا وهو يعرف أن ما سيحدث سيكون تكرارا لما حدث؟... إلخ.
شخص واحد يفسر طبيعة هذه الأحداث، إنه الشمام الذي ـ بتموقعه خارج الوعي بالأحداث ـ يمثل شكلا من أشكال الحياة الساخرة التي نحياها دون أن نفهمها. إثر ذلك فتح باب المناقشة تناول المتدخلون قضايا عديدة من بينها: لماذا تسمية المسرحية بالببوش وليس "غلال" السائد في الشمال؟ هل الحافز على ذلك جغرافي أم أن تراجيديا الواقع هي التي أملت ذلك؟ ألم يوقع ذلك الاستعمال المؤلف في تناقض من حيث التسميات؟ وهل يعني ذلك أن المؤلف لا يزال أسير البلاغة والظاهرة اللغوية في حين أن المسرح يركز على المرئي وعلى الصورة؟ دلالة صغر حجم المسرحية، وقراءاتها المتعددة، لماذا تأخر أنقار في كتابة المسرحية؟ ألم يخطط لكتابة نصوص مسرحية أخرى؟ وكيف أن الشهوة انطلاقا من موضوع المسرحية يمكن أن تكون قاتلة؟ كما أثارت التدخلات إشكالات ترتبط بعلاقة المسرحية بالتحول الذي حدث في البادية المغربية، وتعقد مقارنة بين المدينة والقرية، والمسرحية بين الفكاهة والإصابة بعدوى التوتر والقلق.
ولقد رد الكاتب محمد أنقار بعدها بتركيز شديد على معظم تلك القضايا خاصة فيما يتعلق بالعنوان. وذكر أنه لم يقصد إلى كتابة مسرحية شمالية أو جنوبية، شرقية أو غربية، وإنما هي نص مسرحي إنساني منفتح على كل الآفاق، خاصة أنه اشتغل كثيرا بالقضايا المحلية في روايته "المصري" و "باريو مالقه"، وفي عديد من قصصه القصيرة فأراد في هذا العمل أن يستبعد عن نطاق المحلية الضيقة. لذا طالب أن يقرأ "الببوش" في ذاته، وأن نغمض عيوننا في الظلام، ونسرح وراء الإيحاءات التي تثيرها اللفظة في أذهاننا. أما عمل الكاتب بعد ذلك هو تسجيل تلك الإيحاءات مسرحيا، وصياغتها في حوارات وأفكار. وضرب لذلك أمثلة من المسرح العالمي التي انطلق فيها أصحابها من كلمات أو مواقف مبهمة من أجل محاولة تصويرها لا يفهم" في انتظار غودو "لصموييل بكيت، و "ياطالع الشجرة" لتوفيق الحكيم، والسطر الأخير في مسرحية "المغنية الصلعاء" ليوجين يونيسكو. ثم أبدى الكاتب اختلافه مع من قسم المسرح إلى اشتغال باللغة من ناحية ثانية ونفى أن يكون ثمة فصل بينهما. أما صغر حجم المسرحية فقد أرجعه صاحبها إلى العنصر المادي، ولم يتفق مع من قال إن هذه المسرحية هي مقدمة لنشر "ملحمة" في القريب، واعترف بالمقادير الضخمة التي نفقها من جيبه عندما أصبح ينشر أعماله على حسابه، ونفى أنقار أن يكون قد تأخر في كتابة المسرحية. ذلك أن تاريخ بداية كتابة "الببوش" يعود إلى سنة 1992، وأنه انشغل عن نشرها إمعانا في التنقيح وانصرافا إلى نشر أعمال أخرى بما فيها كتاباه النقديان "بلاغة النص المسرحي" و "صورة عطيل". وفيما يخص الفكاهة اعترف بوجود عديد من سماتها في المسرحية، لكنها فكاهة سوداء مفعمة بالتوتر والقلق. وعن علاقة الكاتب بنصه اعترف المؤلف بأنه يخضع كل أعماله إلى أنماط من النقد الصارم، ويَسْتَبِقُ الأسئلة التي يمكن أن تطرح عليه بعد أن ينشر العمل، وأنه يستحضر شتى التأويلات التي ترد على خاطر قرائه.