يقدم الباحث المغربي هنا عرضا لأهم الدراسات التي يتناولها كتاب الباحث عبدالرحمن السليمان المهم عن ضرورة العودة إلى علم التأثيل/ معرفة أصول الكلمات في اللغات التي انحدرت أصلا منها، وتطور معانيها عبر الزمن، كي نفهم الكثير من الإشكاليات التي نعاني منها في فهم المصطلح أو في الترجمة.

علم التأثيل ودور علم اللغة المقارن

مراجعة لكتاب «دراسات في اللغة والتأثيل والمصطلح» لعبد الرحمن السليمان

التيجاني بولعوالي

 

عن الكاتب والكتاب:
يعتبر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السليمان أحد الكفاءات العربية والمسلمة الرائدة في الوسط الأكاديمي البلجيكي، فهو لغوي وأديب ومترجم من أصل سوري. في سورية حصل على الثانوية العامة عام 1979. وفي جامعة أثينا في اليونان درس الأدب اليوناني القديم من عام 1980 إلى 1985، ثم درس اللغات والآداب السامية/ الجزيرية في جامعة خانت في بلجيكا من عام 1986 إلى 1991. أنجز دكتوراه في الأدب العبري القديم (الموضوع: "إشكاليات ترجمة غريب التوراة" من الجامعة نفسها عام 1995)، وأنجز أيضًا دكتوراه ثانية في الترجمة (الموضوع: "وثائق الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية: مدونة الأسرة المغربية أنموذجًا") من الجامعة نفسها عام 2009. ويعمل منذ عام 2003 أستاذا للترجمة الأدبية والترجمة القانونية في جامعة لوفان في بلجيكا.

وهو يجيد مجموعة من اللغات الميتة «كل اللغات السامية/ الجزيرية الشرقية والغربية بالإضافة إلى اللاتينية والإغريقية ولغات أخرى»، ومجموعة من اللغات الحية «الهولندية والإنجليزية والفرنسية واليونانية الحديثة والعبرية الحديثة»، ويلم إلمامًا متوسطًا بالألمانية والأمازيغية الحية (اللهجة الريفية/ تاريفيت المستعملة في شمال المغرب). وهو خبير في علم اللغة المقارن والآداب القديمة والديانات القديمة وفرقها ومللها ومصادرها الأدبية. وقد أصدر العشرات من الكتب والمقالات العلمية باللغة الهولندية والإنجليزية والفرنسية والعربية، ومنها كتاب (دراسات في اللغة والتأثيل والمصطلح) الذي نراجعه في هذه المقالة.

إن كتاب (دراسات في اللغة والتأثيل والمصطلح)، الذي صدر عام 2019 عن عالم الكتب الحديث في الأردن، يتضمن 212 صفحة تتوزعها "سبع دراسات تلتقي كلها في البحث في علم اللغة المقارن وعلم التأثيل مُسقَطيْن على الدراسات المصطلحية والترجمية". وقد تبلورت مادة هذا الكتاب نتيجة التواصل العلمي في موقع (الجمعية الدولية لمترجمي العربية) وفي بعض المواقع الأخرى التي تشتغل بعلم اللغة وعلم الترجمة وما إليهما من علوم لغوية نظرية وتطبيقية.[i] ويشغل علم التأثيل وعلم اللغة المقارن حيزا مهما في رؤية الباحث لأهميتهما ودورهما "في ضبط المفاهيم الاصطلاحية للمصطلحات العربية، وتأصيل معانيها وذلك بمقارنة الجذور المؤسسة للمفاهيم الاصطلاحية مع الجذور المجانسة لها في اللغات الجزيرية التي ترتبط العربية بها بقرابة لغوية، على مستوى الأصوات والصرف والنحو والمفردات، وهي المستويات الأربعة التي بناء عليها يُحكم بالقرابة اللغوية بين اللغات من عدمها."[ii]

وهذا يدل على أنه "لا يمكن الاستغناء عن توظيف علم التأثيل وعلم اللغة المقارن في الدراسات المعجمية بشكل عام والدراسات المصطلحية بشكل خاص، وبالأخص في عملية استقراء المصطلح الأجنبي المعرب استقراء صحيحا واستجلاء مفاهيمه الأصلية استجلاء واضحا."[iii] بل وأكثر من ذلك، فإن عدم توظيف علم التأثيل وعلم اللغة المقارن في الدراسات المعجمية والمصطلحية من شأنه أن يؤدي إلى الوقوع في الخطأ عند تعريب المصطلح الأجنبي وفي سوء التقدير عند صياغته في العربية، وإلى فتح الباب على مصراعيه أمام محاولات تزوير الدلالات وإثارة الشبهات اللغوية وعولمة اللسان العربي.[iv]

وهكذا فإن الباحث السليمان يرى أنه من شأن هذه الدراسات العلمية أن تحقق هدفين جوهريين: أولهما يتحدد في الإسهام في إثراء المخزون المعرفي للباحث/ القارئ العربي وتمكينه بالمعلومات التاريخية الصحيحة المتعلقة بلغته وثقافته وتاريخه ومستقبله، ويتمثل الهدف الثاني في تكوين جيل من الباحثين العرب والمسلمين الذين يتخصصون في دراسة اللغات الجزيرية (السامية سابقا)، وذلك بهدف إنشاء مدرسة عربية أصيلة تدرس هذه اللغات وآدابها انطلاقا من الإطار المعرفي للثقافة العربية الإسلامية.[v]

دراسات في كتاب:
إن كتاب (دراسات في اللغة والتأثيل والمصطلح) يتضمن سبع دراسات تتقاطع كلها في البحث في علم اللغة المقارن وعلم التأثيل. وسوف نحاول في هذه المقالة تقريب القارئ من مضمون الدراسات الخمس الأولى التي لوثوق علاقتها بعلم التأثيل وعلم اللغة المقارن، ويحذونا الأمل في أن نستكنه رؤية الباحث بشكل صحيح، ومن ثم إعادة طرحها وقراءتها في هذه المراجعة.

أـ عن اللغات والكتابات الجزيرية:
تحت عنوان (مقدمة في اللغات والكتابات الجزيرية) يعالج الباحث مفهوم اللغات الجزيرية الذي يبدو للوهلة الأولى غريبا على القارئ غير المتخصص، لكن بمجرد ما يمضي قدما في قراءة هذه الدراسة المهمة يتبدد الإبهام وينبلج المعنى، ويتحدد المراد بشكل تدريجي. يوضح الباحث أن اللغة العربية تنتمي "إلى أسرة (اللغات السامية). وتنتمي (اللغات السامية) إلى أسرة لغوية أكبر هي أسرة (اللغات الحامية السامية). وتتكون هذه الأسرة اللغوية الكبيرة من لغات استعملتها مجموعات كثيرة من البشر منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، ولا تزال تستعملها حتى اليوم، ومن منطقة تمتد من الجزيرة العربية حتى المغرب، ومن جنوب تركيا حتى إثيوبيا. أشهر تلك اللغات العربية والأكادية (أو البابلية) والأوغاريتية والفينيقية والآرامية والعبرية والحبشية والمصرية القديمية والأمازيغية."[vi] غير أن كلا التسميتين (اللغات السامية، اللغات الحامية السامية) غير دقيقتين، وتثيران جدلا كبيرا في الأوساط اللسانية واللغوية. لذلك يقترح الباحث تسمية بديلة، وهي اللغة الجزيرية التي تنقسم إلى اللغات الجزيرية الشرقية كناية عن أسرة اللغات السامية، وإلى اللغات الجزيرية الغربية كناية عن أسرة اللغات الحامية.[vii]

ويبرر الباحث هذه التسمية بقوله: "إن مصطلح (اللغات الجزيرية) أقرب إلى الحقيقة التاريخية من غيره من المصطلحات المستعملة للدلالة على هذه الأسرة اللغوية المهمة. لأن أولئك الأقوام خرجوا جميعهم من شبه الجزيرة العربية، كما يذهب أكثر الباحثين إلى ذلك. وهذه التسمية ليست لنا، ذلك أن أول من أطلق مصطلح (اللغات الجزيرية) هو عالم الآثار العراقي الأستاذ طه باقر في كتابه (من تراثنا اللغوي القديم ـ ما يسمى في العربية بالدخيل)".[viii]

ويمكن تقسيم اللغات الجزيرية إلى أسرتين: أسرة اللغات الجزيرية الشرقية، وتتضمن مختلف اللغات واللهجات أهمها العربية والأكادية (أو البابلية) والأوغاريتية والفينيقية والآرامية. ثم أسرة اللغات الجزيرية الغربية التي تتألف من اللغات الكوشية، المصرية القديمة والأمازيغية. ويثبت الباحث أن "القرابة اللغوية بين أسرتي اللغات الجزيرية الشرقية والغربية ثابتة علميا، إلا أنها دون القرابة بين أسرة اللغات الجزيرية الشرقية فيما بينها نسبة، ولا تبدو بوضوح لغير المتخصص إلا بعد رد الجذور الثلاثية إلى جذور ثنائية". وينمذج لذلك بالجذر الدال على الإيمان، وهو في اللغات الشرقية (أمن) وفي اللغات الغربية (من)، ويعني في كل هذه اللغات: صدق، ثبت، ثبت بالإيمان.[ix]

وبعد ذلك، يبسط الباحث الحديث عن الكتابات أو الأبجديات الجزيرية التي مرت في تاريخها الطويل عبر ثلاث مراحل أساسية. أولها المرحلة الصورية، حيث إن أول كتابة ظهرت في التاريخ هي الكتابة المسمارية، التي هي في الأصل صورية، بمعنى أنه إذا أراد الكاتب أن يكتب الكلمة الدالة على الرجل في لغة القوم فإنه كان يرسم هيئة الرجل، تماما كما في الكتابة الهيروغليفية التي هي أيضا كتابة صورية. وثانيها المرحلة المقطعية التي شهدت ظهور الكتابة المقطعية الصوتية التي تتألف من مقاطع صوتية تبدأ بحرف صامت يتبعه حرف صائت قصير، أو يتبعه حرف صائت ممدود، وأول من مارسها أواخر السومريين وأوائل الأكاديين بمنطقة الرافدين. وثالثها المرحلة الأبجدية التي سميت هكذا نسبة إلى ترتيب الحروف في الأبجدية الجزيرية الأولى وهي (أبجد هوز...).[x]

وتعتبر الأبجدية الأوغاريتية أقدم من الكتابة الفينيقية، عكس ما كان يعتقد. وبالإضافة إلى هاتين الأبجديتين شهدت اللغات الجزيرية الشرقية أبجديات أخرى، كخط المسند، والأبجدية الآرامية، والأبجدية السريانية، والأبجدية العربية. أما فيما يتعلق باللغات الجزيرية الغربية فهناك فقط الأبجدية الهيروغليفية وكتابة تيفيناغ الأمازيغية.[xi]

ب ـ الدراسات المقارنة في العصر الوسيط
الفصل الثاني من الكتاب خصصه الباحث للدراسات الجزيرية المقارنة في العصر الوسيط، التي ظهرت وسادت في الأدب اليهودي العربي الذي يقصد به "المؤلفات العربية التي كتبها الكتاب اليهود في العصر العباسي، وفي الدولة الإسلامية عموما، وفي العراق ومصر والمغرب والأندلس خصوصا؛ والتي تتعلق مواضيعها بالديانة اليهودية وشرائعها، وباللغة العبرية وآدابها من نثر وشعر ومقامة، وما إلى ذلك من الأنواع الأدبية."[xii]

ويعتبر ابن حزم الأندلسي أحد أهم العلماء المسلمين، بالإضافة إلى السريان واليهود المعتمدون على مناهج العرب اللغوية، الذي اكتشف القرابة اللغوية الواضحة بين العربية من جهة والسريانية من جهة أخرى. وقد وظف اليهود على الأخص آلية الدراسات اللغوية المقارنة "بهدف إلقاء الضوء على نصوص التوراة، ذلك أنهم واجهوا عند درس اللغة العربية صعوبات كبيرة، لأن النص العبري للتوراة كان يعاني في تلك الفترة من معضلتين كبيرتين هما: "فقدان الإسناد في الرواية" لأن العبرية التوراتية أصبحت لغة ميتة، ابتداء من القرن الخامس قبل الميلاد، ولأن النص العبري للتوراة روي منذ ذلك الوقت حتى وقت أبي الأسود الدؤلي بدون إعجام ولا إشكال. الشيء الذي يعني أن أحدا لا يعرف على وجه الضبط كيف كانت كلماته تُنطق، من جهة، والإهمال من جهة أخرى، لأن التوراة أصبحت في القرن الثاني الهجري نسيا منسيا لدى جمهور اليهود، بسبب طغيان التلمود البابلي عليها. وقد أدى هذا الوضع إلى نشوء فرقة لدى اليهود أطلق عليها فيما بعد اسم "القرائين" نسبة إلى كثرة "قراءة المقرأ" أو كتاب العهد القديم".[xiii]

جـ ـ أهمية توظيف علم اللغة المقارن:
يتمحور الفصل الثالث من الكتاب حول موضوع أهمية توظيف علم اللغة المقارن، حيث يشير الباحث السليمان إلى أن اللغة العربية لا تزال "تفتقر إلى معجم تأثيلي يعالج أصولها معالجة تأثيلية، ويبين ما تشترك العربية فيه مع أخواتها من اللغات الجزيرية، وما تنفرد به وحدها من الألفاظ التي طورتها بمعزل عن التراث اللغوي الجزيري المشترك، وما اشتقته من جذورها خلال مراحل تطورها الكثيرة، وما استعارته من لغات أخرى وطوعته لينسجم مع أوزانها وأبنيتها."[xiv] ويقوم علم اللغة المقارن على أربعة أصول هي: الصوتيات والصرف والنحو والمعجم.

وإذا لم تثبت القرابة اللغوية على أساس هذه الأصول الأربعة ولا تحكمها قوانين صوتية مطردة لا يمكن الحديث عن قرابة لغوية بل عن محض صدفة. وفيما يتعلق باللغات الجزيرية، فإنها ترتبط "بقرابة لغوية ثابتة صوتيا وصرفيا ونحويا ومعجميا، مما يفترض انحدارها من لغة أمّ، كانت تستعمل في الجزيرة العربية قبل تفرق القبائل المتحدثة بها وهجرتها إلى العراق والشام ومصر والمغرب".[xv]

ويشدد الباحث الدكتور عبد الرحمن السليمان على ضرورة توظيف علم اللغة المقارن في تأليف المعجم التاريخي للغة العربية، وذلك لأهداف متنوعة، يذكر منها أربعة أهداف جوهرية. الهدف الأول يعني أن علم اللغة المقارن يوظف من أجل التأثيل للمفردات، وهو يقصد بذلك التأريخ التأثيلي للفظة، وهو خلاف التأريخ الزمني لها. فالتأثيل يؤصل اللفظة بردها إلى جذرها بالمقارنة مع ما يجانسه من جذور ومفردات في اللغات الجزيرية، بينما يختص التأريخ الزمني للمفردة بتتبع تاريخها منذ ضبط وجودها في الكتب والمدونات.[xvi] أما الهدف الثاني وهو أنه بواسطة علم اللغة المقارن يمكن إثبات أصالة الكلمة في اللغة، وينتقد الباحث في هذا الصدد الباحثين الشعوبيين الجدد الذين يردون "كل كلمة عربية ذات أصل جزيري مشترك إلى السريانية لأنها أقدم تدوينا من العربية. وهذا مذهب فاسد، لأنه يقتضي بالمنطق رد جميع الكلمات السريانية ذات الأصول الجزيرية إلى العبرية، لأن العبرية أقدم تدوينا من السريانية.

كما يجوز وفقا لذلك المذهب رد العبرية إلى الأوغاريتية لأنها أسبق تدوينا من العبرية، والأوغاريتية إلى الأكادية وهلم جرا".[xvii] في حين أن الهدف الثالث يتمثل في أن علم اللغة المقارن من شأنه أن يثبت عجمة اللفظة ويشرح معناها الأصلي فـ"مثلما نضطر إلى نفي إثبات العجمية عن كلمة عربية بالبحث في أصلها وتأثيلها، كذلك ينبغي أن نثبت عجمة الكلمة الداخلة في العربية، ونقتفي أثر دخولها في العربية وشرح معناها الأصلي إن أمكن ذلك".[xviii] ويمثل الباحث لذلك بكلمة (هيكل) التي يرجح أنها دخلت العربية عبر الآرامية، ذلك أن هذه اللفظة سومرية الأصل، وهي مركبة من E، أي البيت، وGAL كبير، فال E-GAL تعني البيت الكبير والمعبد.[xix]

وفي الأخير يمكن بفضل علم اللغة المقارن تفادي أخطاء الترجمة والتعريب، التي يحصل معظمها "بسبب عدم فهم المصطلح الأصلي المراد ترجمته أو تعريبه وتوطينه في العربية. بل إن سوء فهم المصطلح الأجنبي والخطأ في ترجمته في العربية على علاته من أهم مشاكل الثقافة العربية المعاصرة." ويرجع ذلك إلى أسباب متنوعة كالجهل مثلا إما باللغة الأصلية المنقول منها، أو باللغة المنقول إليها، وعدم التنسيق بين المترجمين العرب والإدارات العربية وعدم وجود أنظمة معيّرة عند العرب.[xx]

والخلاصة من هذا "أن توظيف علم التأثيل وعلم اللغة المقارن كفيل بتفادي مثل هذه الأخطاء لأن علم التأثيل يؤدي إلى الفهم الدقيق للمصطلح الأجنبي، ولأن علم اللغة المقارن يؤدي إلى معرفة تاريخ المصطلح وسياق توظيفه وتوطينه واستعماله وانتقاله من لغة لأخرى عن طريق التقارض، أو بواسطة الترجمة المستعارة الصحيحة أو غير الصحيحة."[xxi]

د ـ تفكيك العلمانية:
يخصص الباحث الدراسة الرابعة لتفكيك مصطلح العلمانية في اللغة العربية والتأريخ له بتتبع مفاهيمه الأصلية في اللغات العربية أولا، ثم برصد عملية إدخاله في العربية وتطوره وتطور مفاهيمه فيها ثانيا.[xxii] وبعد أن تعمق في بحث المفاهيم الأصلية القديمة والحديثة لمصطلح العلمانية في اللغات الغربية، متتبعا تاريخ مصطلح العلمانية في العربية يستجلي الباحث "أن مصطلح (عَلْمانية) وضع في العربية أولا للدلالة على (أ) مفهوم (العَلْمانية) القديم أي جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (="عومنة"). وأقدم ظهور لهذا اللفظ بهذا المفهوم وجدناه في كتاب (مصباح العقل) لساويرس ابن المقفع المتوفى سنة ٩٨٧ ميلادية كما تقدم. ثم حمل مصطلح (العَلْمانية) هذا في العربية: (ب) مفهوم "الدنيوية؛ الدهرية" (secularism) الذي نشأ في إنكلترا سنة ١٨٥١، و(ح) مفهوم الإيديولوجية العَلْمانية "اللائكية" (laïcité) الذي أدخل في الاستعمال في فرنسا سنة ١٨٧١ للدلالة على هذه الإيديولوجيا فيها."[xxiii]

غير أنه على مستوى الاستعمال العادي اكتسب هذا المصطلح دلالات أخرى مثل (الإلحاد)، وذلك جراء عملية تأويلية معنوية يمكن مقارنتها بـ "تحميل العَلْمانيين العرب مصطلح العلمانية معنى (العِلْم) بكسر العين. فمثلما يؤول العَلماني العربي العَلمانية على أنها منهج علمي، ويسحب تجربة الصراع بين العلماء الغربيين والكنيسة الغربية على الإسلام ليرتكب بذلك خطأ منهجيا تاريخيا. ذلك أن الإسلام لم يعرف في تاريخه صراعا بين أهل النقل والعقل، يمكن أن يقارن بالصراع المرير بين أهل العلم والنقل في الغرب، قبل عصر النهضة فيه ـ فكذلك يؤول المتلقي العربي ـ حتى المثقف ثقافة عالية ـ العَلْمانية على أنها إلحاد وكفر وهرطقة واستغراب."[xxiv]

هـ ـ حول المرجعية اليهوديةـ المسيحية في ترجمة القرآن:
يتعرض الباحث في الدراسة الخامسة لدور المرجعية اليهوديةـ المسيحية للمترجم في ترجمة القرآن الكريم، حيث يذهب إلى "أن ترجمة المفاهيم الدينية ترجمة صحيحة ودقيقة أمر في غاية التعقيد والأهمية، وذلك لمن يتوخى الدقة في ترجمتها، ويجتهد في إيصال المعاني إلى قراء اللغة المنقول إليها بدقة متناهية، وسلاسة لغوية، حيث يؤخذ فيهما بعين الاعتبار المخزون اللغوي والديني والثقافي للغة المنقول إليها، لأن ذلك شرط لإنجاح الترجمة."[xxv]

بالإضافة إلى ذلك، فإن الباحث يميز بين التوظيفين الموضوعي وغير الموضوعي للمرجعية الكتابية. ويقصد بالتوظيف الأول اعتبار الإسلام والنصرانية واليهودية ديانات توحيدية خرجت من بوتقة واحدة، دون الوحي فيها بلغات تعود إلى أصل واحد هي العربية والآرامية والعبرية. ويجعل هذا الاعتبار توظيف المرجعية الكتابية في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات ذات الإطار الكتابي، أمرا سائغا من حيث المبدأ. لولا أن تطورات كثيرة طرأت على المفاهيم اللغوية والمصطلحات الدينية في تلك الديانات مما أحدث فروقات مفاهيمية كثيرة بينها".[xxvi]

في مقابل ذلك، يقصد بالتوظيف غير الموضوعي انتفاء الموضوعية لدى المترجم اليهودي أو المسيحي الذي لا يستطيع التحرر من أحكامه المسبقة حول الإسلام، وبالتحديد اعتباره الإسلام منبثقا عن اليهودية والنصرانية. إن هذا المترجم المتشبع بالأحكام المسبقة هو الذي يلجأ، بوعي أو بدون وعي، إلى النظر إلى القرآن الكريم من خلال مرجعيته الكتابية وترجمته انطلاقا من مرجعيته الكتابية هذه. وقد أوقع هذا المذهب المترجمين المتشبعين بهذه الرؤية في أخطاء فادحة، تعج بها ترجماتهم التي تفتقر إلى العلمية في هذا المجال".[xxvii]

ولأجل تحقيق ترجمة تقريبية وسليمة للقرآن الكريم إلى لغات ذات مرجعية فكرية كتابية، يقترح الباحث السليمان منهجا للترجمة يأخذ بعين الاعتبار أمرين أساسيين. الأمر الأول يتعلق بالأمور العقدية، حيث يجب الالتزام بسلطة النص الأصلي للقرآن الكريم التزاما تاما، مع الرجوع إلى التفاسير المعتمدة لضبط معاني الألفاظ القرآنية وترجمتها بما يقابلها في اللغة المنقول إليها، بإعمال تقنية التكافؤ اللفظي أو المعجمي في الترجمة، بمعنى الترجمة الحرفية بما يقابله معجميا في اللغة المترجم إليها. أما الأمر الثاني يقترن بالقصص القرآنية الموازية، إذ ينبغي التمييز بين ضربين من القصص القرآنية الموازية للقصص الواردة في أسفار العهد القديم والجديد. أحدهما مواز مجانس نسبيا لقصص القرآن الكريم، كقصة الخليقة، وقصة يوسف وقصة المائدة، والآخر مواز لقصص القرآن الكريم أيضا لكنه يحتوي على إشكاليات عقدية أو أخلاقية تثير لدى المتلقي الغربي حساسية معينة، وتتسبب لديه في تأثير سلبي على عملية تلقي الترجمة، كقصة جماع لوط لبنتيه وهو تحت تأثير الخمر. وقصة كذب سارة على الله، وقصة مصارعة يعقوب لله وانتصاره عليه، ومثله كثير في أسفار العهد القديم.[xxviii]

فيما يتعلق بالنوع الأول لا شيء يمنع من مخاطبة الموروث الديني والفكري للمتلقي الغربي أثناء الترجمة، أما النوع الثاني فيقترح تطبيق منهج التكافؤ البرغماتي المؤسس على نظرية الغائية في الترجمة، بهدف إعمال منهج براغماتي في أثناء الترجمة عن طريق تقريب المصطلح الشائك مقاربة وظائفية براغماتية. واضعا نصب عينيه هدف الترجمة. ويمثل لذلك بترجمة صداق/ مهر إلى الكلمة الإنجليزية  dowryالتي تعني المال الذي يقدمه الأب إلى ابنته أثناء زواجها، في حين فإن الصداق في الإسلام هو ما يقدمه الرجل للزوجة، وهو يشكل ركنا من أركان صحة النكاح في الإسلام. وليس له ما يقابله وظيفيا في الشريعة النصرانية أو في القوانين الوضعية. لذلك لا يمكن اعتباره مكافئا وظيفيا للصداق أو المهر، لكن المترجمون يجمعون على ترجمة dowry بالصداق، ما يعني أن الأمر عادة أو اصطلاح.[xxix]

خلاصة:
بناء على ما سبق، يبدو أن الباحث الدكتور عبد الرحمن السليمان أماط اللثام عن مختلف القضايا اللغوية واللسانية التي ظلت تثير الكثير من الجدل ليس في الأوساط الأكاديمية اللغوية فقط، بل على المستوى الثقافي والإعلامي أيضا، كالمرجعية الكتابية التي هيمنت قرونا طويلة على الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم، الذي كان يقدم دوما بكونه عملا شيطانيا، أو هرطقة أو محاكاة للعهد القديم، والجدل الإيديولوجي حول ما إذا كانت الأمازيغية لغة أو لهجة، وحول ما إذا كان أصلها شرقيا أو غربيا، ومفهوم العلمانية الذي ظل يفسر في الفكر العربي المعاصر بشكل مسف، سواء فيما يتعلق بالمصطلح أو بالدلالة، وغير ذلك. ولعل نجاح الباحث في هذا الأمر يفسر بالدرجة الأولى بطبيعة المنهجية التي يعتمدها في بحوثه ودراساته، وهي منهجية تتأسس على علم التأثيل الذي من شأنه أن يحفر عميقا في جذور المعنى من جهة، وعلى علم اللغة المقارن الذي يمنح كل لغة هويتها الحقيقية التي بها تقوم وتتجدد وتستمر من جهة ثانية.

 

كلية اللاهوت والدراسات الدينية، جامعة لوفان ـ بلجيكا

 

الكتاب:    

العنوان: دراسات في اللغة والتأثيل والمصطلح

 الكاتب: عبد الرحمن السليمان

الناشر: عالم الكتب الحديث، الأردن

اللغة: العربية

عدد الصفحات: 212 صفحات

سنة النشر: 2019

رقم الإيداع الدولي: 978-9957-686-47-5

 

 

[i] السليمان، عبد الرحمن، (2019) دراسات في اللغة والتأثيل والمصطلح، إربد ـ الأردن: عالم الكتب الحديث، ص 5.

[ii] المصدر نفسه، ص 5.

[iii] المصدر نفسه، ص 5.

[iv]  المصدر نفسه، ص 6.

[v] المصدر نفسه، ص 10.

[vi] المصدر نفسه، ص 11.

[vii] المصدر نفسه، ص 11، 12.

[viii] المصدر نفسه، ص 12.

[ix]  المصدر نفسه، ص 14.

[x] المصدر نفسه، ص 19ـ23.

[xi]  المصدر نفسه، ص 23ـ30.

[xii] المصدر نفسه، ص 31.

[xiii]  المصدر نفسه، ص 37.

[xiv] المصدر نفسه، ص 53.

[xv] المصدر نفسه، ص 55،56 .

[xvi] المصدر نفسه، ص 70.

[xvii] المصدر نفسه، ص 75.

[xviii] المصدر نفسه، ص 79.

[xix] المصدر نفسه، ص 79.

[xx] المصدر نفسه، ص 81، 82.

[xxi] المصدر نفسه، ص 82.

[xxii] المصدر نفسه، ص85 .

[xxiii] المصدر نفسه، ص 110.

[xxiv] المصدر نفسه، ص 110.

[xxv] المصدر نفسه، ص 113.

[xxvi] المصدر نفسه، ص 117.

[xxvii] المصدر نفسه، ص 122، 123.

[xxviii] المصدر نفسه، ص 136، 139.

[xxix] المصدر نفسه، ص 139، 141.