يكشف لنا الشاعر والكاتب العراقي هنا عن أثر عقود من العنف والاستبداد على سلوك الشخصية العراقية وما نراه في العراق من دمار، وتدمير للذات. وكيف أفرزت ما يعاني منه عراق اليوم من الفساد والجريمة والتخلف. لتهيئة ظروف زرع القيم الإنسانية الايجابية، الطاردة لمسوخ عهود الظلام والاستبداد وإفرازات الحروب القذرة.

وسائل ترويض الانظمة الاستبدادية للشخصية

الشخصية العراقية نموذجاً

حمـيد الحـريزي

 

يتحدث الكثير من الكتاب وأخصائي علم النفس والاجتماع عن ظواهر السلوك للفرد العراقي، دون محاولة الغوص للبحث عن الأسباب والظروف التي أدت إلى هذه الظاهرة، سواء أكانت ايجابية أم سلبية؛ وكأنها صفات وراثية جينية مغروسة في ذات الأنسان كما هو حال لون الشعر والعينين وسواد وبياض البشرة والطول والقصر وما إليه. وليست هي عبارة عن صيرورة بيئة اجتماعية مكتسبة من خلال البراكسيس الاجتماعي، ابتدأً من الطفولة والصبا والفتوة والشباب، فالكهولة من خلال الأسرة والمدرسة والبيئة في الشارع وموقع العمل. وبالتأكيد هنا لا نغفل دور صحة ونضج الجهاز العصبي للإنسان وسلامته من الأمراض وعاهات النقص الجنيني أو الولادي.

وفي هذا المجال توجد سلوكيات وممارسات اجتماعية سائدة (كونفورميا أجتماعية) وهي عبارة عن القيم والأعراف والتقاليد السائدة في مجتمع من المجتمعات المعينة، وخلال فترة زمنية محددة، وهي قابلة للتجديد والتغير والاختراق والتبدل حسب نوعية ومتطلبات الحراك الاجتماعي، سواء بالطرق والوسائل السلمية، كما هو الحال في الممارسات الديمقراطية السياسية والاجتماعية. أو عن طريق الثورات والانتفاضات العنيفة، بسبب ما تلقاه هذه (الكونفورميا) الوليدة من مقاومة القديم على الرغم من كون هذا الجديد يمثل أغلبية ساحقة من أفراد المجتمع، لكون القديم غالباً مايكون ممسكا بصولجان السلطة وأدوات القمع.

لا نريد أنْ نسهب في إيضاح هذه المسألة ولكن الذي يهمنا إنَّ كل المجتمعات الإنسانية تحمل (كونفورميا) اجتماعية أو رأس مال اجتماعي متراكم تم بناؤه وتكوينه على مدى تاريخ نشوء وتطور هذا المجتمع. وإنَّ هذا الرأسمال الاجتماعي يحمل الإيجابي المتطور القادر على استيعاب التحولات التقدمية والعلمية للفرد والمجتمع نحو ماهو أفضل وأكمل؛ أو نزوعه نحو الأمن والسلام والخير والعدالة ورفض الظلم والعنف والإرهاب بكافة إشكاله وأساليبه. ومنها ما يكرس التحجر والتكلس ورفض التغير والتحول لما هو أفضل. وهنا يكون دور السلطة السياسية المهيمنة على زمام الحكم في دولة معينة بناء أو ترويض المجتمع في فترة تطور، أو تشكيلة اجتماعية محددة.

فان كانت تمثل مصالح الغالبية الكبيرة لأفراد المجتمع فإنها تسعى من أجل ترسيخ وتطور وتبني القيم والأعراف والتقاليد الإيجابية الفاعلة وتعمل على سن قوانين ودساتير يمكن تقبلها من أغلب أفراد المجتمع لأنها تنسجم مع مصالحه وطموحاته وغالباً ما يحدث هذا من قبل السلطات المنتخبة بصورة ديمقراطية حقيقية كخيار اجتماعي طوعي وهنا تقترب القوانين إلى حكم العرف الاجتماعي أو الكونفورميا الاجتماعية.

أما بالنسبة للحكومات التي تهيمن على السلطة بطريقة الانقلابات والمؤامرات وقوة الغدر والسلاح، فإنها تعمل على اللجوء إلى أساليب القمع والقهر لإخضاع أفراد المجتمع لشرائعها وقوانينها وقيمها وأيدولوجياتها، حيث إنَّ الأيدولوجيا (ماهي إلا تصورات نظرية لإعادة صياغة العلاقات ،ومبادئ ضبط العلاقات الاجتماعية بما يؤمن مصالح حامليها قبل كل شيء).(1) نظرا لوجود صراع قوي ومقاومة شرسة من قبل الكونفورميا الاجتماعية السائدة للأيديولوجيا المفروضة بالقوة والعنف، لتكون هي البديل عن الكونفورميا الاجتماعية السائدة، مهما أدعت هذه الكونفورميا المفروضة إنها تمثل طموح الشعب وسعادته، وحتى وانْ صدقت في إدعائها.

ومن الملاحظ كما يصف ذلك الدروبي، إنَّ المجتمعات العربية «أنظمتها الكونفورمية من بين الأنظمة السائدة تضم في جنباتها ما هو سلبي وما هو ايجابي ومن أهم هذه العادات والتقاليد ما يتعلق بالحرية الشخصية وبناء الذات الفاعلة»(2).

مما يميز شخصية الفرد العراقي لقاحيته وطبيعته التي غالباً ما تقف على نقيض مع سلطة الدولة الحاكمة وقوانينها وفروضها. بالإضافة إلى قيم الشهامة والنخوة ونصرة المظلوم ومقارعة الظالم وعدم السكوت على الباطل، والثأر للكرامة الشخصية، وعدم قبول سلوك الإهانة، والابتعاد عن ظاهرة التسول الأخلاقي والمجاملة والمداهنة والتملق للسلطات والحكام. هذه السلوكيات المدانة من قبل القيم الاجتماعية السائدة والتي تنظر بعين السخط والنقمة لمن يمارسها حتى وان كان هذا السلوك مضمرا ومستترا. ولكنه موجود ويتم التعبير عنه في الوقت المناسب. ونحن لا ندّعي ان المجتمع العراقي بأكمله مطبوعا بالوصف الذي قدمناه، بل هي الصفات السائدة في المجتمع قبل فترة الحكومات الديكتاتورية وخصوصا الديكتاتورية الصدّامية. فكتورية المجتمع أو ماسيته (mass.) هو الأمر السلبي والذي تسعى إليه اغلب الأنظمة التولتارية والديكتاتورية، من أجل أنْ تجعل من الأشخاص آحادا ضمن قطيع واحد موحد مقلد متعبد للقائد الأوحد والزعيم المخلد، كما سعى إلى ذلك صدام حسين. فوصل به الأمر إلى حد تعليم الناس كيف تأكل وكيف تشرب وكيف تغتسل كيف تلبس متحكما حتى بوزن الإنسان، حيث يجب ان يكون كل شيء كما يريد ويشاء المعلم الإله.

وهذا ما سعت إليه السلطات والحكومات الدكتاتورية التي حكمت العراق خلال عقود طويلة ومنها الجمهوريات منذ 1958 ولحد الآن، وبالأخص سلطة البعث التي أصبحت على رأس السلطة في انقلاب 17-30 تموز 1968 بقيادة صدام حسين كما أسلفنا. وكما يقول محمد الدروبي «ان الأنظمة السياسية والحقوقية الدستورية والاقتصادية، والمؤسسات التابعة لهذه الأنظمة وغيرها من المؤسسات السائدة في البلدان العربية، لم تكن وليدة أحكام كونفورمية أبدا وإنما وليدة ايدولوجيا ضيقة أو وليدة تطلعات نخبوية أو إحكام أسرة مالكة، أو نتيجة إرادة فرد منفرد بالقرار وبالناس وأحوالهم. لقد أتت بمعظمها نتيجة اعتداء على حق المجتمع وإفراده في ممارسة وإنتاج وتنمية الكونفورميا الخاصة بالمسائل الحيوية العامة، لهذا كان لابد من تطوير أساليب القهر الاجتماعي، واسر الحرية واستعباد الإفراد. هذه الأساليب بلغت في بعض البلدان العربية حدا مقيتا بما في ذلك التصفية الجسدية بطريقة مؤلمة جدا، وذلك بسبب موقف أو رأي أو نشاط سياسي».(2)

فمن أول ما أقدم عليه هو زرع حالة الخوف داخل الذات العراقية، وإيجاد سبل شرعنة إجراءات السلطات التعسفية ضد الإفراد ومراقبتهم، خوفا من عدو خارجي يوصف بالمتحفز بشكل دائم للانقضاض على الشعب والوطن. مؤكدا ان هناك شبكات تجسسية متغلغلة بين صفوف الشعب، هي ذراع هذا العدو وأداة تنفيذه لمخططاته المعادية (للحرية والتقدم والوحدة والاشتراكية) حلم الشعب والموطن العراقي. فأقدم على إجراء محاكمات شكليه بطريقة المحاكم الخاصة لإصدار الإعدام بحق مجموعة من التجار والإفراد ومن ديانات مختلفة بتهمة التجسس لصالح (إسرائيل) وصلت لحد سماع إذاعة إسرائيل تعتبر تهمة تستحق الشنق، وعُلقت جثث المشنوقين في ساحة (التحرير) للفرجة العامة!! وان جل ما يهدف إليه النظام من ذلك بغض النظر عن صدق ادعائه أو عدمه إلى:-

زرع حالة الخوف والتحسب داخل ذات العراقي، وإمكانية توجيه هذه التهمة إليه، وسهولة تصديقها وإعلانها على عموم الناس ان هو عارض (السلطة الثورية) الحاكمة، وانتقد بعض إجراءاتها وقراراتها، أو الاستماع إلى رأي معارضيها حتى بالراديو. مما يجعل العراقيين بين متوجس خائف، وبين مصفق هاتف، وبين مساند منافق زائف. وهي الخطوة الأولى في طريق ترسيخ سلطة الحزب الحاكم وقردنة الذات الإنسانية. بحيث ارتأى الكثير من العناصر ذوي الشخصيات التابعة والضعيفة إلى الانتماء إلى حزب السلطة وأجهزتها القمعية، كأسلم طريق للابتعاد عن الشبهات.

والخطوة الخطرة الأخرى التي أقدم عليها النظام تقمص دور وشعارات القوى ذات الوجود الشعبي الواسع المناصرة لقضية الفقراء والمعدمين؛ لأجل المزايدة عليها في سعيها للاشتراكية ومحاربتها للرأسمالية والإقطاع والاستغلال. وتقربها من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في الوطن العربي والمعسكر الاشتراكي والعالم. وحتى رشوة بعض قادة القوى والأحزاب الشيوعية والاشتراكية الحاكمة في المعسكر الشرقي مما جعله يخطف بريق وهيبة ومشروعية القوى والأحزاب الاشتراكية والشيوعية، ويزرع البلبلة بين صفوفها في عدم جدوى، لا بل خطل قرارها في الانتماء لهذه الأحزاب (اليمينية). لازال حزب السلطة يسعى وبهذا الحماس والاندفاع (الثوري) لتحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية. وقد اكتمل هذا الهدف بانضمام الحزب الشيوعي العراقي للتحالف مع حزب البعث، واعترافه بقيادة السلطة السياسية على عكس كل مبادئه وتنظيرا ته في كونه حزب الطليعة القائدة معطيا الشرعية والثورية (والطليعية) لحزب السلطة.

وبذلك يمكن إظهار السلطة وحزبها بمعسكر التقدم والاشتراكية والسلام خادمه مصالح الجماهير ومحققه سعادتها والمقاومة للرأسمال العالمي الامبريالي الاستغلالي معززا ذلك بقرار تأميم النفط في 1972. وقد فعل الشيء نفسه في المزايدة على كل القوى والتنظيمات والحركات القومية العربية، فهو فارس الأمة ومخلصها وموحدها، وبذلك فان من يعارض السلطة إنما يقف في المعسكر المعادي، ويتوجب تصفيته وقمعه بكافة الوسائل. وهنا هو يعمل من اجل المزيد من تآكل قيم وتقاليد مقاومة التعسف والظلم لدى الفرد العراقي، وانسحاب هذه القيم للداخل وعمله لتجيير الرأسمال الايجابي المتراكم لهذه العناوين والقوى السياسية والاجتماعية لصالحه، وإظهار هذه القوى كأنها عناوين وحركات وأحزاب زائدة وفائضة بوجود حزب السلطة القوموي الوحدوي الاشتراكي اليساري العروبي، والذي يضم تحت خيمته القوميات الأخرى كالكرد والتركمان وغيرهم، ليناضلوا من اجل و حدة الأمة العربية؟!

حرم النظام ومنع ذكر الألقاب العشائرية، ليفك السند الاجتماعي والحماية المتوارثة التي توفرها القبيلة للفرد، وإحساسه بقوته وأمانه من خلال ارتباطه بإحدى هذه القبائل والعشائر. محاولا استبدالها بالحزب والانتماء للسلطة وأجهزتها، لتكون الملاذ الأخير للفرد العراقي وبذلك يحكم تسلطه ويسحب قسطا من استقلاله وضمان حمايته. وقد أقدم على إعدام عدد من أكثر شيوخ العراق شهرة وهيبة، وخصوصا في الفرات الأوسط ممن لم يركبوا مركب السلطة، ومن أشهرهم راهي الحاج عبد الواحد السكر وهو الابن الأكبر لأبرز ثوار ثورة العشرين في العراق، وهي رسالة دموية إلى كل عشائر وشيوخ العراق لتدخل تحت خيمة وسلطة الحزب، وإلا سيكون مصيرها الموت.

رافق ذلك اقتصار المؤسسات التنفيذية للسلطة كالجيش والشرطة والمخابرات والأمن لأفراد الحزب الحاكم فقط، وألغى اغلب الضوابط المهنية الواجب توفرها بضباط ومراتب الجيش. وسلط على قادته عناصر المخابرات والحزبين، وحتى من غير العسكريين المحترفين. وأذل الرتب العسكرية بان اخذ يوزع هذه الرتب وبأعلى المراتب على أزلامه، وان لم يخدموا في الجيش يوم واحدا. والغي الضوابط التي تحرم وجود العناصر الشاذة جنسيا في الجيش. أقدم كذلك على تجنيس (الغجر) بالجنسية العراقية، وزجهم في أجهزته القمعية، وخضوعهم للخدمة العسكرية الإلزامية على الرغم من قلة عددهم. لا انتصارا لمظلوميتهم وتخليصهم من النظرة الاجتماعية الدونية إليهم، أو انتصارا لإنسانيتهم بل من اجل إغلاق كل منافذ الخلاص للمواطن العراقي من تعسفه ومحارق حروبه القذرة. وخصوصا بعد ان لاحظت أجهزته الأمنية ازدياد ظاهرة الغجرنة والاتصاف بوصفهم من قبل فئات اجتماعية ليست منهم ارتضت الغجرنة خلاصها من ملاحقة السلطة الديكتا تورية وأجهزتها القمعية.

ثم توغل ابعد من ذلك حيث ضرب العمود الفقري لقيم ومعارف ومبادئ الفرد العراقي وذلك باعتبار وزارة التربية والتعليم العالي مغلقة لحزب البعث. وإخضاعها لأيدولوجيته. طاردا المئات من الأساتذة والمدرسين والمعلمين ممن لم ينتم للحزب من هذه المؤسسات. محاولا بذلك غلق الطريق أمام أية فرصه للعقل الناقد والمقاوم لنظام حكمه. بالإضافة إلى تدجين وتربية الأجيال الشابة وفق مبادئ الحزب والقائد الضرورة. وبذلك فقد افلح بتخريج إعدادٍ كبيرة من (المثقفين الاسفنجين) سلط كافة أجهزته القمعية في الشارع والمدرسة والجامعة لاحتواء الشباب انطلاقا من مقولته الشهيرة (نكسب الشباب نضمن المستقبل). يقصد بذلك ضمان مستقبل سلطته ودوام حكمه. تم تكريس منهج التلقين في العملية التربوية والتعليمية المتبع في المناهج الدراسية في العراق وفي مختلف أنظمة الحكم.

ومن الملاحظ ايضا الابتعاد كليا عن إدخال الفلسفة في المناهج، لكون الفلسفة تفتح عيون الأجيال وتزرع في عقولهم بذرة التساؤل والتشكيك والنقد والبحث عن جذور ومعاني وأهداف الظواهر على اختلافها. وهذا مالا تريده السلطات الديكتاتورية والاستبدادية، لأنه يودع الإنسان شرارة التمرد ورفض الخضوع والخنوع الغير مشروط ومن غير قناعة أو تفكر. وهذا الأمر مازال ساريا في مناهجنا التعليمية والتدريسية في الوقت الحاضر ايضا.

تحت ذريعة المتطلبات الأمنية أقدم على تجفيف الاهوار، وهي أحدى الملاذات وحيز الحرية المفتوح أمام الفرد العراقي، لرفض سيطرت السلطة الاستبدادية سواء العشائرية أو الإقطاعية، أو سلطة الدولة وأجهزتها القمعية.

عسكرة المجتمع العراقي فمن لم تشمله قوانين الخدمة العسكرية تتم عسكرته ضمن قطاعات الجيش الشعبي، وجيش النخوة وجيش القدس وفدائي صدام وأشباله، عدا أجهزة الأمن والمخابرات. و . و . و. واضعا الفرد العراقي وراء الأسلاك الشائكة وتحت الرقابة العسكرية الصارمة، لقمع وصد أية محاولة لاستعادة أنفاسه ومراجعة قراراته ومواقفه من السلطة. ومعلوم ان عقوبة الإعدام هي مصير كل من يهرب أو يتمرد داخل هذه الوحدات العسكرية، أو الهروب منها مع دفعه لثمن طلقات موته، إمعانا في تعذيب ذويه. كمن يشعرهم أنهم قاتليه لتكون المعسكرات الإجبارية للكهول والشباب والصبيان وحتى النساء عبارة عن سرير بروكست لتصب الشخصية العراقية بقالب واحد. هو قالب واحد قالب السلطة والحزب الحاكم. ولتكون فلترا وحاجز نار سيحترق بلهيبه كل من يحاول التملص والتمرد أو المراوحة والمراوغة. وبذلك يمكن ان يستفز الرفض المضمر للفرد ليظهر بشكل عمل وفعل ظاهر ومعلن وعنها يقع الرافضون للسلطة وحكمها في فخاخ المخابرات والاستخبارات والرفاق البارزين والمستترين، ليتم بذلك فرزهم وتصفيتهم بطريقة وحشية، وأمام أنظار الجمع المتفرج من رفاق السلاح. ومن تهون عليه كرامة وحياة الآخرين يجرد من إنسانيته ويدخل في قطيع العبودية الخاضعة.

تنمية روح التكسب الدنيء، وغلبة روح كسب ود السلطة ومكرماتها ومغانمها، بأي طريقة أو وسيلة. مما دفع ببعض الآباء لقتل أولادهم أو تسليمهم للسلطات الأمنية بسبب هروبهم من جيش الموت الصدامي في معاركه ومحارقه ضد دول الجوار. وتشجيع النساء للوشاية بأزواجهن وتجنيدهن بأجهزة الأمن والمخابرات. وبذلك يحطم أكثر الروابط الإنسانية قوة بين بني البشر من خلال تحطيم قيم الأسرة العراقية، وتضحياتها بأبنائها، المرأة بزوجها مقابل هبات ومكارم ومغانم الديكتاتورية. وبذلك يحقق هدفا مزدوجا بتصفية المتمرد المعارض، ومسخ وقتل روح الإنسان عند المتعاون القابض، وغالبا ما تلجأ أجهزة النظام إلى نصب الفخاخ والشباك المموه لاصطياد اكبر عدد ممكن من المواطنين الأبرياء، والبعيدين عن خط السلطة وبالتالي مساومتهم ليكونوا أدوات طيعة بيد أجهزة السلطة القمعية لتحقيق أهدافها.

وقد تدرج النظام في بث الرعب من عموم المجتمع إلى القبيلة ثم الأسرة. وانتقل بعد ذلك إلى حزبه، حيث تم فبركة تهمة التآمر بالتعاون مع النظام السوري، ليعدم وبشكل مباشر عناصر قيادية بارزة من كوادر الحزب، ودون محاكمة أصولية علنية. وقد شارك في عملية الإعدام الجماعية عناصر مختارة من كل فرقة حزبية على نطاق عموم العراق، للمساهمة والتورط في جريمة إعدام الرفاق بدعوى الخيانة والتأمر على الشعب والحزب والوطن. وليس محاولة إيقافه عند حده والخلاص من استبداده. وبأساليب حزبية ديمقراطية، وحسب النظام الداخلي للحزب. وبذلك تمكن من زرع الخوف والشك والريبة داخل صفوف حزبه ورفاقه، سادا إمامهم أي طريق أو وسيلة لتنظيم قوى المعارضة داخل الحزب، ضد النهج الدكتاتوري للقائد الضرورة، والقائد المختار. ثم انتقل إلى أبناء عشيرته وأسرته فأقدم على إعدام العديد منهم، وبدون محاكمات وتحت أعذار وتهم مختلفة، ومنهم المدلل منه، وزوج ابنته حسين كامل.

تدرج في شعاراته من (كل مواطن مخلص أو شريف هو بعثي وان لم ينتمِ) وبذلك فرض صفة البعثية، كصفة تحمل في ذاتها قيم الإخلاص والوطنية والقومية والحرية والاشتراكية. ولا يمكن ان تكون نابعة من ذات الفرد وطباعة وقناعاته، وإنما لايمكن ان يحملها أو يدّعيها أو يعمل بها إلا ان يكون بعثيا بالوصف، وبذلك فتح صفحة جديدة في سلب الذات العراقية حرية الخيار والتصرف. فإما ان تكون بعثيا صدّاميا، وإلا فأنت لا يمكن ان تكون مواطنا شريفا ولا مواطنا مخلصا، ولا حتى إنسانا. وقد حصر الصفات في البعثي فقط.

ثم عزز دور القائد الفرد على ركام هذه الإجراءات والقرارات الماسخة للذات العراقية لتكون كل قيم القوة والرجولة والوطنية والكفاحية والقومية والعدالة والكرم والشجاعة مجسدة بشخصه فقط، كآلهة جبارة يجب أنْ يخضع لها الجميع ويقدمون أرواحهم وأرواح أبناءهم وبناتهم وأموالهم قربانا لرضائه، وكسب عطفه وامتثال أوامره ... الخ. كل القيم الإنسانية الايجابية والخارقة مجسدة في القائد الرمز، دون غيره والقائد ضرورة بقدر ضرورة الشمس للحياة، حيث رفع شعار (لا حياة بلا شمس ولا كرامة بلا صدام) مقرنا كرامة شعب كامل، بوجود شخص الدكتاتور. ونظر المثقفون المقاولون وسطروا آلاف الصفحات، ومئات المجلدات لوصف ذكاء ودهاء وعبقرية وتفرد القائد. ليس هناك من يدانيه في العلم والمعرفة والدهاء وقوة الحدس وإمكانية النفاذ في دواخل كل من يراه. لتتكشف أمام عينيه السحريتين النوايا المطمورة هذه. هذا الإله الذي إذا قال قال العراق! هذا الذي يحرق سنا عظمته وجبروته ورهبة عرشه كل من يحاول أنْ يقترب منه، أو يدانيه أو يناهضه. وبذلك خلق حوله قطيعا من المصفقين والعبيد المبهورين بعظمة وقدرة وعصمة وحكمة معبدوهم الجبار، وسيدهم المختار.

جعل من نفسه الإله المخلص والكريم المنعم، من يلقاه يلقى السعد والرفاه والثروة، حتى غالبا ما كانت تُفبرك العديد من الصدف، ليكون فيها القائد حاضرا ليفك أزمة محتاج، ويسد لهفة ملهوف. لينتقل بقدرة القائد من مفلس بائس فقير إلى ثري ذو جاه ومال غزير. ليجعل الملايين من البؤساء يحلمون بلقائه، فلقائه يعني لقاء السعد والرفاه. وكأنه يوزع أموال أبيه، وليس أموال الشعب وخيراته. كما حدث في احد المحافظات الجنوبية إذ اصطنعت مفاجأة السيد الرئيس (المخلص) الموعود شابا وعروسته في سيارة التاكسي، فيوقفهم (المخلص) ليهبهم إحدى سياراته التي كان صندوقها يحوي على ملايين الدنانير العراقية.

فأمر المانح (المخلص) الحماية بترك الأموال والسيارة للعريسين، وتركهم التكسي البرازيلي القديمة، وقد ظل هذا العريس المحظوظ يجوب الشوارع بسيارته عدة أيام، واضعاً في مقدمتها لافتة تقول ان السيارة هدية الرئيس القائد. وهناك من هذه القصص الكثير مما يزرع في نفوس الناس التشبث بالقدر، والتمني والاستجداء وجنة المصادفة والحظ كمن يقامر في أوراق اليانصيب.

العمل على تفتيت العمل التضامني والعقل الجمعي العراقي الذي قد يؤدي إلى بلورة حالة من الرفض والمقاومة حينما تنظم مظلوميتها ومطالبها كطبقة أو فئة أو شريحة اجتماعية معينة. فاصدر قراره المعروف بتحويل العمال إلى موظفين، ساعيا إلى قتل روح التضامن الطبقي العمالي وعموم الكادحين وبقية المهن والشرائح الاجتماعية. يخلق مكاتب الحزب المهنية والتي كانت لايمكن وصفها بأقل من دوائر أمن مختصة بمراقبة ومحاسبة ورصد أي حالة نضوج أو مقاومة لنهج السلطة. وحالة نمو عمل منظم من اجل مطالب مهنية أو اجتماعية أو سياسية. وهذا ما حصل لاتحاد نقابات العمال والمرأة والطلبة والشباب والمحامين والأطباء والجمعيات الفلاحية حتى انه عمل على تشتيت المؤسسات التعليمية والكليات ونثرها على بقع متباعدة تفاديا لأي حشد أو تجمع بشري كبير تصعب مراقبته أو السيطرة عليه وخصوصا الفئة الشابة من الطلبة والأساتذة حملة العلم والحماس والثقافة. مما ساعد على قتل روح التضامن الطبقي والمهني للفرد العراقي وربطه بمصلحة الحزب فلا جمع ولاتجمع غير جمع الحزب والقائد فقط ساعيا كذلك إلى طمس حالة وضوح الفرز الطبقي بكبح قيام ونشوء المعامل والمصانع والمزارع التي تعزز بالضرورة كم هائل من الشغيلة أو العمال اللذين لا يمكن ضمان حقوقهم إلا بظل منظمات فاعلة وسلطة ديمقراطية حقيقية تمثل طموح وتطلعات الشعب وهذا يتعارض تماما مع نهج الاستبداد والاستغلال .

وإمعانا في بسط سيطرت الدكتاتورية وهو ديدنها في كل البلدان والأزمان افتعال الحروب وخلق عدو وهمي توجه اهتمامات الناس باتجاه وإعطاء المبررات لحالات الطوارئ والقوانين الاستثنائية للتحكم بمصائر الناس وحريتهم. وبالفعل تم سوق مئات الآلاف من الشباب إلى سوح القتال مع الجارة إيران والكويت. وحل محلهم العمالة المستوردة والوافدة من الدول العربية والأجنبية، وعسكرة المؤسسات الصناعية الباقية خدمة للمجهود الحربي، تحت رحمة أصحاب الزي الزيتوني من أزلامه وجلاديه.

وليس هناك من دليل بالغ الوضوح على ما ذكر من تحويل الدكتاتورية هزيمتها وبنادقها إلى صدور الشعب المنتفض، واصفا إياه بالغادر والغوغائي. ليتحول النظام من مُدان ومجرم، إلى جلاد وقاضي وتتحول جماهير الشعب الغاضبة والمنتفضة إلى غوغاء ومخربين وغادرين تم قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية في طول وعرض البلاد، ودون أية رحمة. وهذا مما يجعل المواطن العراقي مداناً ومحاسبا ومعاقبا على طول الخط، ان اندفع وأقدم مدان، وان تراجع وانسحب مدان، فما عليه إلا ان يسلم زمام حياته وقياد ذاته إلى الأقدار. فلا حول ولاقوة له في ما يخص حياته ومستقبله.

إشاعة البطالة في المدينة والريف العراقي، مما خلق جيشا من البرولتاريا الرثة، الذي تنمو في داخلها وبين جنباتها أكثر نماذج القتلة والمجرمين ومتصيدي الفرص. مجندين أنفسهم لخدمة أية جهة أو هدف مقابل الحصول على لقمة العيش، وبعض الضمانات المالية الرخيصة نتيجة البؤس والفقر. حيث يولد حثالة البرولتاريا التي وصفها ماركس «حثالة البرولتاريا الموجودة في جميع المدن الكبيرة والتي تختلف اختلافا بينا عن البرولتاريا الصناعية. فان هذه الفئة التي تقدم اللصوص والمجرمين من كل نوع تتألف من عناصر تعيش من فتات مائدة المجتمع، من أناس ليست لديهم مهن معينة من أفاقين - وهم يتميزون عن بعضهم البعض تبعا للمستوى الثقافي للأمة التي ينتسبون إليها. ولكنهم يحتفظون في كل مكان وزمان بسمات اللاتساوروني المميزة – كنية عناصر متفسخة طبقيا، من حثالة البرولتاريا في ايطاليا غير مرة استخدمت الأوساط الملكية الرجعية اللاتساروني في النضال ضد الحركة اللبرالية الديمقراطية» ماركس النضال الطبقي في فرنسا من 1848 إلى 1850 دار التقدم موسكو ترجمة الياس شاهين.

وتردي الوعي بين صفوفها وطول فترة الظلم والقهر والبؤس التي عاشت ولازالت تعيشه هذه الفئات في ظل الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة، مما وفر للسلطة خزيناً لا ينضب من الجلادين والجواسيس والقتلة، وبأبخس الإثمان وأخس الوسائل. التخطيط المدبر لغلق باب الوعي نتيجة إشاعة روح العمل الفردي غير المنتج: كصباغي الأحذية، وباعة المفرد، وسماسرة صغار التجار لخدمة تجار السوق السوداء، والطفيليين والمهربين، وملاكي العقارات وشبكات الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض والمخدرات .. وغيرها. وعمل على خنق واستحالة نمو طبقة برجوازية صناعية منتجة كالتي تقع على عاتقها في مجرى التطور والصيرورة التاريخية للمجتمعات مهمة هدم وكسح وتفكيك القيم والتقاليد والأعراف العشائرية والإقطاعية في المجتمع، والتي تقف حائلا دون تطور العلم والعمل وحرية الإبداع والابتكار. وهي من أسس التطور الصناعي للبرجوازية الناهضة وهي بذلك تفتح الطريق واسعا أمام ولادة وصيرورة طبقة عاملة منتجة قوية تتقدمها نخبة برولتارية كطبقة لذاتها تسعى لردم المجتمع الطبقي وبناء الدولة الاشتراكية ونشر العدل والمساواة وكما ذكر ماركس «ان تطور البرولتاريا الصناعية مشروط على العموم بتطور البرجوازية الصناعية وفي ظل سيادتها فقط تكتسب البرولتاريا الصناعية وجودا قوميا واسعا قادرا على رفع ثورتها إلى مستوى ثورة وطنية وفي ظل سيادتها فقط تصنع البرولتاريا الصناعية وسائل الإنتاج العصرية التي تشكل في الوقت نفسه وسائل تحررها الثوري.»(4)

ومما ساعده على ذلك هو ومن يماثله من أنظمة كونها أنظمة ودول ذات بنية اقتصادية ريعية، تعتمد في دخلها القومي وتدبير مصروفات جيوشها وجلاوزتها من واردات النفط الضخمة، التي تستحوذ عليها ولتكون في خدمة بقاء وتأبيد وحماية أنظمتها، ومن بين ذلك تدمير وعرقلة نهوض اقتصادي صناعي زراعي منتج، يمكن ان يخلق طبقة عاملة واسعة وطليعة بروليتارية مناضلة تواجه الظلم والاستغلال.

ومن الشائع كثيرا ان يرتبط مفهوم (الثوري) بالعنف والتدمير والسلاح وهو ليس المعنى الحقيقي والجوهري للثوري الذي يعني التغيير الجريء والشامل والفوري المقدام الغير متردد لبناء جديد ونبذ كل ماهو قديم وبالي ومعرقل نمو وسيادة قيم أو قوانين وأنظمة جديدة تناسب تطور البنى التحتية والحراك الاجتماعي في فتة معينة من تاريخه وفي المجتمع مفهوم الثورية نبذ وتنحية القيم المعيقة للتقدم الاجتماعي والتي أصبحت متخلفة ومعيقة لتطور قوى الإنتاج وكما ذكر أنجلس ساخرا ممن يرشقون القوى الثورية بتهمة حب العنف من اجل العنف حيث يقول «ان من سخرية التاريخ العالمي تقلب كل شيء رأسا على عقب فنحن "الثوريين"، "الانقلابيين" نحرز من النجاحات بالأساليب الشرعية، أكثر مما نحرز بالأساليب غير الشرعية، أو بالانقلاب، إما الأحزاب التي تسمي نفسها بأحزاب النظام، فإنها تهلك من الوضع الشرعي الذي خلقته بنفسها .... إننا نكسب في ظل هذه الشرعية عضلات مرنة وخدودا حمراء، ونزهر كالحياة الأبدية. وإذا ما انزلقنا نحن في لجة الحماقة إلى حد ان ننجر إلى نضال الشوارع، لما فيه صالح هذه الأحزاب، فلا يبقى لهذه الأحزاب في آخر المطاف غير أمر واحد ، هو ان تنتهك بنفسها هذه الشرعية المشؤومة».(5)  فمن يتأمل شابا واقفا وراء عربة بيع الطماطة مثلا وسط سوق الخضرة بين العشرات من أمثاله ليرى عملية الغش في المعروض فالوجهة من الدرجة الأولى والخلفية من النوع الرديء والتالف، ثم عملية الغش في الميزان. ان هذا الفرد سوف يتميز لا وعيه للسلوك التالي:- ظاهر تقي نقي ومستتر مزيف ملوث، ليكون هناك تناقض كبير بين المظهر والجوهر. فغالبا ما يظهر بمظهر المتدين الورع، والعفيف الطاهر. التضرع حيث الجبهة المختومة من اثر السجود، والأصابع المزينة بالخواتم والمسبحة السوداء واللحية المنمنمة. ولا باس بصورة لأحد (السماحات) للبركة فوق العربة، فهو يتزيا بزي المهيمن السائد حزبا أو ديننا أو طائفة أو قومية أو قبيلة.

لا يمكن ان يقبل الاعتراض لا على الكم ولا على النوع من أفكاره وهي بضاعته. ومن يعترض على وزنه وجودة ورفعة أفكاره لا يواجه إلا بالعنف والرفض والاستهجان. فهو ولا غيره من يتحلى بأكمل الأفكار وأحسن البضائع في السوق والمجتمع على حد سواء. يتمنى ان يتم تدمير كل ماعداه ممن يحملون نفس البضاعة (الفكر) منافسة لفكره اوبضاعته، حتى وان كانوا من المقربين. لا يعرف سببا مقنعا للمتبضعين للتبضع منه أو من منافسه عدى قوة خفيه مستترة وراءها مدبر مجهول تتحكم في تصريف بضاعته أو كسادها مما تجعله يتمسك بالغيب والقدر والخرافة كمنهج في الحياة مفتشا عن حبل إنقاذ يخلصه من الوهم والقدر المخبوء والواقع الموبوء فلا ثقة بالنفس ولا قدرة على الفعل والمقاومة وهذا هو الهروب من المسؤولية والتعلق بقيود العبودية ، فهل لنا ان نسال بعد هذا عن بواعث وأسباب وكوامن الإرهاب والجريمة في عراق اليوم.

وقد عبر الدكتاتور عن ذلك بعقلية إجرامية جهنمية، سبقت الإحداث بإطلاقه سراح الآلاف من المجرمين والسفاحين والقتلة والسراق والمهربين من سجونه، قبيل انهياره وسقوطه. لتشكل سرايا من كلاب وذئاب مسعورة لسرقة الدوائر والبنوك والمصانع والمخازن والمستشفيات ودور العبادة والمزارع. لتشل البنية التحتية وتحيل دوائر الدولة ومؤسساتها إلى ركام وخراب. وبتشجيع وإسناد وتحريض من قوى خارجية وافدة مع قوات الاحتلال وبرضاها. مما ساعد على استمرار حالة الانفلات الأمني وفقدان الأمان وعدم ترسيخ نظام القانون. لأنه لا يصب في مصلحة مثل هذه النماذج التي أصبحت من القوى ذات السطوة والنفوذ، بتغلغلها في مؤسسات السلطة الأمنية والعسكرية والسيطرة على عمليات التصدير والاستيراد في البلاد، والعمل على عدم نضوج واكتمال بناء مؤسسات القانون والدستور.

كل ذلك ساعد ايضا على ان تقدم السلطات إلى دوام فرضها حالة الطوارئ وقمع كافة المحاولات للمطالبة بالحقوق والعمل ونقد الممارسات التعسفية وخرق حقوق الإنسان من قبل الأجهزة المخترقة من قبل المجرمين والقتلة و من بقايا أجهزة النظام السابق الإجرامية . المواطن حاليا يجد نفسه في قفص الاتهام والشك والريبة وهو يمر عبر نقاط التفتيش والسيطرات الحكومية العديدة لإعادة تدجينه وخضوعه لكل ما تقدم عليه السلطات تمهيدا لقيام دكتاتورية جديدة تحت حجج الطوارئ وتردي الظروف الأمنية ملتهمة كل وعود الحرية والديمقراطية ليعود الإنسان العراقي للخضوع لكابوس الخوف هذه المرة من قبل قوى الاحتلال وقوى السلطة ومؤسساتها الأمنية وقوى المليشيات و الإرهاب المسيطر في أكثر محافظات العراق

وضع برنامجاً يبدو عفويا وتلقائيا وغير مقصود، في خلق الأزمات المختلفة لتشمل مختلف نواحي الحياة، وخصوصا ما يخص الحياة اليومية للمواطن العراقي. فمرة أزمة الطحين أو التمن، أو المعجون والغاز، وصولا إلى الشخاط والملح بالإضافة إلى أزمات النقل ... الخ ما يدفع الفرد العراقي للاصطفاف في طوابير انتظار طويلة وما يرافق ذلك من التدافع والحيل وبروز الأنانية الضيقة لحصوله على ما يريد. مفضلا نفسه على ماعداه، دون الاهتمام بالعمر والوضع الصحي وحاجة الأخر. حتى في الصعود للسيارة وحجز مقعد الجلوس خصوصا بالنسبة للعسكريين عند التحاقهم لوحداتهم حيث ينتظرهم الانتقام والويل والثبور، ان هم تأخروا عن الموعد المحدد أو مايسمى بالغاية.

وليس خافيا ما يترك هذا التكرار ولسنين عديدة لهذا الفعل في اللاوعي للإنسان وتطبعه بروح الانوية الضيقة، على حساب تجريف القيم الايجابية المتراكمة لديه كاحترام كبير السن والمريض والمرأة والطفل. بحيث تؤدي به أنويته للتصرف وفق غريزة الفعل ورد الفعل المباشر فيكون فعل الاضطرار المؤقت فعل خيار دائم في اللاشعور. ومن الطريف في هذا المجال ان نرى التدافع وسحق الغير وإبعاده بشكل حيواني غريزي مبتذل، أثناء الولائم العامة، ومنها مايقام في المناسبات الدينية تقديسا واستذكارا للشهداء والمضحين، وخصوصا من أهل البيت عليهم السلام. متناسيا تماما الأهداف السامية والتضحية بالنفس التي قدمها الشهيد من اجل ان يغرز قيم الإيثار والتكافل الاجتماعي والبذل في سبيل الغير. فينسى المتدافعون كل ذلك من اجل ان يسبق غيره في الحصول على (ماعون قيمة) أو (لفة كباب) غير مدركين ان فعلهم هذا هو قتل جديد للشهيد وقيمه السامية، وابتعادهم عن القيم والمبادئ. والأمر من كل ذلك إننا لم نزل نعيش بما هو اشد من الأزمات والطوابير والاختناقات في كل ماهو ضروري للحياة اليومية واستمرارها؟؟!!

تناغم وتخادم الخطاب الديني (خطاب وعاظ السلاطين) والخطاب السلطوي لمسكنة الشخصية وإلباسها لباس المذلة والتبعية، وجلد الذات بشكل جماعي عبر طقوس الصراخ والنحيب والعويل. وكأن هذه الجماهير البائسة هي سبب كل ماحصل من إجرام وقتل وطغيان في التاريخ. وليس كونها هي الضحية الأساسية في كل عصور الظلم والطغيان. وبدل ان توجه نبالها وسياطها لجلاديها أخذت تجلد ذاتها وسط مباركة ودعم وارتياح الجلاد المتمثل بقوى التغليل والتجهيل والاستغلال في مختلف العصور للوصول للهدف المشترك وهو إحكام السيطرة على سلوك الفرد والجماعة وانقياد الجمهور للسلطة الدينية والحكومية في ان واحد وكما ذكر ذلك خليل احمد خليل «المشترك بين السياسي ورجل الدين ليس هذا الجمهور المتدين المنقاد الذي يبوس يد الشيخ رمز الطاعة فلا يعود يتردد في بوس يد الحاكم (طاعته بلا شرط) وحسب بل ليضع وخصوصا استخدام كل الأجهزة، كل المعلومات المتوفرة وحتى العلوم والفلسفات والتقنيات ... لتسويغ خطابها المشترك غالبا، المختلف أحيانا المنطوي دائما على مشروع سيطرة وهمية في آن على الجمهور من فوق ومن داخله».(6)

وقد لاحظنا هذا السلوك لكثير من الإفراد ومن مختلف المستويات والمواقع اجتماعية دينية ومدنية وعشائرية وغيرها وهي تنكب على أيادي صدام حسين لتقبلها، وخصوصا في أواخر أيامه، عندما أصبح (عبد الله المؤمن). وبدت الحالة مقبولة وشبه شائعة كماهي بالنسبة للآيات والسماحات (الدينية) التي غالبا ما تبسط أياديها ليس للعطاء، بل للتقبيل والتبجيل من قبل الجمهور، وسط الصلوات والتبريكات. ولا باس من بصقه من فم (المقدس) يتبرك بها الجمهور المعدم البائس للشفاء والرزق والدواء!!! نخلص من كل ذلك وغيره مما لا يسع له الدرس والمقال من طرق اختراق الذات العراقية وتحويلها إلى مسخ ضيق، وببغاء مصفق مردد لشعارات السلطة ومقولاتها، والى متسول أخلاقي ومدعي كاذب، لا يشعر بأي حرج في لبس وتبديل وتنوع الأقنعة حسب المطلوب، في ساحة المزايدات السياسية والاجتماعية كنتيجة طبيعة هيمنة على اللاوعي، من خلال تنقله بين أكثر من مهنة وعنوان خلال العام الواحد وحسب طلب سوق العمل الراكد وخضوعه إلى آليات غير مفهومة. سائرا مع القطيع دون ان يعرف الهدف.

يشير إلى ذلك الدروبي قائلا «الشخص بخضوعه المتوالي بغض النظر عن الظروف الاخضاعية لمبادئ وإرادة الجماعة يتحول إلى مدافع عنيد عن تلك المبادئ وعن نهك الإرادة التي تجذرت تاريخيا في جملة مواقفه النائبة بسبب هذا الخضوع حتى أصبح من غير الممكن له تحديد أو فصل إسهاماته في المجتمع في تحديد حيوية مواقفه وأرائه».(7) مما يجعل الشخص يسلك مثل هذا السلوك عدة عوامل ومن بينها:-

الانتماء الديني: فانه أكثر تعقيدا واشد باسا من إيه من الانتماءات الأخرى (مثل الانتماء الايدولوجي) فهذا الانتماء لا يمر عبر المرشح العقلاني إلا نادرا. ثم حين يمر منه يمر مدعوما بقوة العاطفة، وببعض فضائل القدسية. فالانتماء الديني يورث توريثا وليس لدى الفرد إلا احتمالات قليلة جدا لإعادة صياغة موقفه وانتماءه الديني. فالانتماء الديني على مر العصور وفي وقتنا الحاضر، يجعل الفرد على استعداد لدفع حياته إلى النهاية، وذلك ليس في سبيل الحفاظ على هذه الدائرة الانتمائية فقط بل وبغية توسيعها من حيث الكم الانتمائي ايضا. كما نلاحظ ان الانسان يزداد تعصبا وتمسكا بانتمائه الديني بازدياد سيطرة هذا على شعوره الانتمائي، وبازدياد تلبية هذا الانتماء لحاجاته المادية والروحية، وانسجاما مع هذا، ينخفض استعداده للدخول في أي نقاش أو لاكتساب أية معلومات لها ان تثير أدنى شك بسلامة انتماءاته الدينية. وهذا يعود إلى محدودية الأطر الانتمائية المتوفرة له والتي كان يمكن لها ان تشبع الحاجات الانتمائية الروحية والتحقيقية الوجودية.»(8)

وهذا ما يفسر لنا ظاهرة الاحتراب والاقتتال الطائفي الديني في عراق اليوم. مثل حالة الوصف السابق الذي أوردناه في الدراسة وسيادة كونفورميا اجتماعية متكلسه ومتخلفة ومتصلبة مما يشجع إلى سعة انتشار وإشاعة احد أنماط السلوك الاجتماعي الخطيرة إلا وهو:-

النمط التأقلمي الابتزازي: «الفرد من هذا النموذج يستوحي نشاطه من أهدافه الحقيقية الوجودية المباشرة، ويقتصر في ذلك على غاياته النفعية فهو لا يهتم بما يتوصل إليه من حقائق حول سلامة الدور الوظيفي الاجتماعي للعلاقات والمبادئ. ولا يقف عند توعيتها وإنما يحدد علاقته معها بناءا على ما تقدم له هذه العلاقة من خدمات شخصية مباشرة. وبتفسير عالم النفس فرويد فان هذا الإنسان يرمي إلى الحياة الاجتماعية كونها وسيلة وهي لا تمثل له غاية أبدا. وعليه لا يهتم بها إلا من الجانب الوسيلي. فان هذا الشخص لا يتوانى عن الانسياق كما يريد النظام الانصياعي/ الكونفورمي لا يدخر جهدا من إعلان قرار التزامه الكونفورمي وكثيرا ما يظهر بمظهر المدافع الحريص على ما اقتضاه النظام الكونفورمي. وبعبارة أخرى فهو لا يعول كثيرا على قناعاته ومعارفه المجردة في تحديد نشاطه. وينطلق بحثا عن الأوجه في هذه المبادئ التي يمكن استخدامها في تحقيق أهدافه المادية والروحية .... ففي حين يرمي الهدمي السلبي (من أنماط المناضلين) بذل الجهد في حدود الممكن لتفسير علاقات كونفورمية (مريضة) يرمي التاقلمي الابتزازي إلى المتابعة الحريصة للتحولات الجارية في المفاهيم الكونفورمية بغية الاستثمار الأمثل لما يمكن لها ان تقدم له من إمكانيات لتحقيق مأربه الغالب في توجهاته الوجودية الاجتماعية. مستبعدا من نشاطه أيَّة إجراءات تنطوي على تضحية دون مردود مباشر ومضاعف (وللحسنة عشرة أمثالها) (وللدينار عشرة أمثاله)(9).

ولنا في كثير من النماذج التي خلعت مظاهر الطاعة للنظام الملكي ولبست الأربطة حمراء وتطرفت بطرح الشعارات الشيوعية في أيام المد الأحمر بعد ثورة تموز 1958 والتي سرعان ما غيرته وارتدت بدلة الحرس القومي (الفاشي) بعد انقلاب 1963 الأسود، وركبت موجة التصحيح الذي قاده عبد السلام عارف ضد البعث، وتصدرت حملة مطاردة البعثيين والحرس القومي، ثم تزيت بالزى الزيتوني وادعت التضحيات من اجل ثورة 17 تموز 1968 وكيف أصبحت من عبيد الطاغية ومسبحة بحمده ونعمته وشعاراته ليل نهار، واقترحت وضع تمثاله الذهبي في مدار خالد حول الفضاء وانتخابه مدى الحياة. وها نحن نراها الآن وقد ارتدت العمامة، وتختمت بالخواتم، وكوت جباهها لتبدو سيماؤهم في وجوههم من اثر السجود، وهي تغير جلودها وألوانها وأصواتها، أسرع من أية حرباء، وابرع من أي قرد أو مهرج. وبالتأكيد سنرى مثل هؤلاء أول من يلبس وجوه أي تغير مرتقب، سواء كان محرما أو مكروها أو واجباً أو مستحباً!!

تسعى الأنظمة الديكتاتورية والفاشية في كل مكان ان تلبس لباس الدين بشكل مباشر كآله والإمبراطور والخليفة وأمير المؤمنين فإنها تسعى لخلق طبقة من (وعاظ السلاطين) الذين يرتدون عمائم وجلابيب وخواتم المتدينين لإسناد حكمهم وشرعنة مظالمهم واغتصابهم للسلطة، وكبح لتطلعات وطموحات الجمهور نحو الحرية والرفاه والديمقراطية والأمن. وفي هذا يقول خليل احمد خليل «الجمهور هو قيمة استعماليه تبادلية يتبادلها السياسي ورجل الدين ويستلبان طاقات القوى المنتجة (كل الشعب العامل ماعدا القوى التي تستغله هذا الواقع الاجتماعي للجماهير هو الذي يفسر كونها الظرفي واستسلامها الراهن والعابر ايضا، إزاء التحديات المتواصلة كما يفسره ايضا بعد القمع السياسي الديني للعلمانيين والديمقراطيين واللبراليين في العالم العربي، الذي وصل إلى أقصى اليمين، غياب الطبقة الثقافية أو الطليعة السياسية، المفصولة عن الجماهير بقوة الديكتاتورية السياسية - الدينية العامة، وهكذا وسط انحدار الثقافة العلمية السياسية وفصل ماتبقى منها نابضا عن الجمهور العربي، أمكن تسلل الاصوليات "الظلامية" إلى داخل الجمهور، حيث قدمت نفسها كثقافة سياسية بديلة وكحل "جديد" للقضايا القديمة.»(10)

ولا يفوت الدارس والمراقب للظواهر التي أعقبت اختفاء رمز الدكتاتور السابق كيف التف الجمهور حول الرمز ومشروع الدكتاتور اللاحق، الذي وظف بعلم او دون علم، أو كونه بالنتيجة مشبع بفكرة التقديس وعبادة الفرد وثقافة الرمز الأوحد والقائد الممجد ليعوض للجمهور ما افتقده وأدمن عليه من مظاهر التقديس وعبادة القائد الضرورة، والمخلص، مضيفا اليه هذه المرة القدسية الدينية والموروث الجهادي للشهداء والمناضلين وضحايا الدكتاتورية الصدامية، ليضيفه إلى رأسماله الاجتماعي، وإتباع نفس الأساليب والوسائل الديماغوجية والهستيرية القطيعية ومعالجة عقدة النقص والاهانة والدونية التي يحس بها عدد غير قليل من الجمهور الشاب خصوصا، في عهد الدكتاتورية. فيثار لنفسه عند امتلاكه السلاح والتخويل من قبل الرمز، لإذلال الناس وكبت الحريات، تحت مختلف الحجج والذرائع، والظهور بمظهر المتسلط الحاكم المقتدر، وليس ذلك المنبوذ المهان المستلب، الذي يجب ان يهابه الجميع مقلدا في ذلك ما مورس ضده من قبل أزلام الدكتاتورية، ولكن ضد أبناء وطنه المسالمين المظلومين، الذي يدعي انه جاء لتحريرهم من الظلم والطغيان.

إننا إذ نسهب بالتعريف والوصف لطرق ووسائل مسخ الإنسان العراقي واستعراض النماذج الناتجة عن هذا التفكيك وإعادة التركيب وفق هوى الديكتاتورية وقوى الظلام والجريمة، لا نعني أبدا ان هذه القوى تمكنت من ترويض وتدجين وتعفين وقردنة كل أبناء الشعب العراقي ذو التاريخ الكفاحي المجيد، لا! بل رأينا آيات من البطولة والصمود والمقاومة، وهي كنجوم زاهرة في ليل الظلم والظلام، وشموسا يمكن للأجيال الاهتداء بنورها واحتفاظها بمبادئها وإنسانيتها ووطنيتها وحبها للخير والسلام والعدالة والرفاه. وقدّم الشعب آلاف الشهداء على طريق الحرية والسيادة والازدهار. ومن مختلف الألوان والأطياف والعقائد والأديان والمذاهب والأحزاب السياسية دينية كانت ام علمانية، وإنما أردنا ان نضع أيدينا وأيدي كافة العراقيين المخلصين وحسب اجتهادنا المتواضع جدا على بعض مواطن الخلل التي انتابت الشخصية العراقية وأفرزت الكثير مما نشهده ونعاني منه في عراقنا اليوم من الفساد والجريمة والتخلف والعمل على اجتثاث أسبابها ومسبباتها والعمل الجاد والمثابر لإيجاد الأرضية الخصبة والأساس المتين لبناء الذات العراقية الفاعلة، لتخليصها مما علق بها من الأدران والسلوكيات السلبية، واستئصال كافة العوامل والممارسات الباعثة والمولدة للأنانية وضيق الأفق ونبذ الآخر، وتهيئة ظروف العمل والتعليم والثقافة لزرع القيم الإنسانية الايجابية، الطاردة لمسوخ عهود الظلام والاستبداد والديكتاتورية ومخلفات وإفرازات الحروب الخارجية والداخلية القذرة.

 

اديب وكاتب عراقي: عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق

 

 المصادر

-----------

1-محمد الدروبي-وعي السلوك-الكونفورميا وأنظمة الوعي ص2004 دار كنعان الطبعة الأولى.

2- المصدرنفسه ص2208

8- المصدر نفسه ص196

9- المصدر نفسه ص200-201

3- من (النضال الطبقي في فرنسا من 1848-1850) دار التقدم موسكو.

4- ص44 من المصدرنفسه

5-ص28 من المصدرنفسه

6- خليل احمد خليل سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصرص334 -المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 2005.

7-ص188 من المصدر نفسه