وإن كانت إشكالية المجايلة، محل نقاش بين الكثير من النقاد، وتتأرجح بين القبول والرفض، إلا أن سمات عامة، تفرض نفسها على كتابة مجموعة معينة، متقاربة من حيث تاريخ الميلاد، والإصدارات. فمثلما لا يختلف أحد على إعتبار بهاء طاهر المولود فى يناير 1935أحد أبرز جيل ما سمى بجيل الستينيات، لتوافق رؤى إبداعاته مع السمات العامة لهذا الجيل، على الرغم من أن أولى إبداعته (الخطوبة) لم تخرج للنور إلا فى العام 1972، فإنه من ذات السياق لا يمكن إغفال قراءة اعتدال عثمان (1942)، المغموسة إبداعاتها فى ذات سمات هذا الجيل. ويبدو هذا بصورة جلية فى مجموعتها الثانية "وشم الشمس"، الصادرة في العام 1992. حيث تجمع بين بعض صفات ما قبل جيل الستينيات، والذى يتمثل فى الوصف الكاشف والمحدد لمعالم الشخصية، والأسلوب الذى يعود بنا إلى جماليات اللغة، وكذلك ما يمكن أن نطلق عليه "جماليات التفاصيل"، حيث يلعب كل ذلك لهدهدة مشاعر القارئ، والتأثير الوجدانى عليه، وصولا لمتعة القراءة، التى نعتبرها أحد أهم عناصر الإبداع عامة.
فضلا عن الوجود الكثيف للكثير من سمات جيل الستينيات، الموضوعية، والشكلية، وهو ما نستطيع تبيه من استعراض قصص مجموعتها "وشم الشمس"[1]، ومن أهمها انكسار الأمل، فجاء الكثير من إبداعاتهم، وإبداعاتها، محمولة بالرؤية الثورية، الداعية للوصول إلى الجنة الفاضلة. وإذا كان صاحب المدينة "الفاضلة" (أفلاطون) قد رأى أن أي مجتمع، مهما كان حجمه أو مكانه، ينقسم إلى مجتمعين، مجتمع الأغنياء، ومجتمع الفقراء – وهو ما يخلق الصراع والرغبة -. فهى ذات الرؤيا التى يمكن استخلاصها من قصة "أشواق شارع عشرة" من هذه المجموعة والتى تنتقل فيها نقلة موضوعية، ونقلة شكلية –عن القصص السابقة- فضلا عن أنها لم تفارق الهم العام، الملازم لكل كتاباتها، القصصية والنقدية.
تتمثل النقلة الموضوعية، فى الانتقال من الريف إلى الحضر، وبإختيار حى من الأحياء الشعبية المزدحمة، والعامرة بالطبقة التحتانية من المجتمع (حى العباسية) وتحديدا أمام شارع عشرة، القريب من قسم البوليس.
أما النقلة الشكلية، فهى التخلى عن الشكل التصاعدى، المعتمد على إمتداد الزمن، إلى الشكل العرضى. بمعنى أن القصة لا تتناول حكاية محددة، من البداية للنهاية، وإنما هى صورة مستعرضة لتلك الطبقة، فى مواجهة الطبقة الأعلى، وبما فيها من فساد. فالقسم لا يفعل شيئا سوى تسجيل البلاغات، دون أن يحرك ساكنا. وأيضا تلك الصورة التى تستعرضها الساردة لما آل إليه الزوج، من جراء فعل (البيه الكبير). { والراجل الله يجازيه، لا يطاوعها قلبها، أولاد الحرام السبب.. قال إيه، البيه الكبير عامل حساب كل حاجة.. ما عليك إلا أن تعمل ودن من طين وودن ... غشيم يا نضرى.. سرقوا المخزن وولعوا حريقة، وطلعوا زى الشعرة .. لبس هو القضية وباقى عليه كتير..}. لتتجسد مأساة الأسرة إزاء تلك المواجهة، فيما تعانية المرأة بعد تلك الواقعة { ومن بين ثنايا القميص التحتانى، تلمست اصابعها حافة كيس النقود المعدنية، صلبة وساخنة ، تلتحم بالجسم الجلدى ، مندى بالعرق ومنتفخ البطن. ارباع الجنيهات المطوية، وكبشة الفكة، لم تعد تنفع فى أبيض أو أسود، شَقَى الجمعة كلها أمام عربة الجرجير والفجل والبقدونس، حتى الليمون السقط، الشوال منه بالشئ الفلانى، البركة راحت، والواحدة لا تعرف كيف تدبر حالها، تأكل هى وعيالها، خمسة فى عين العدو} . ثم تتكشف الصور الأخرى التى لا تقل عن قصة "مسكة" –بؤسا- مثل قصة "سنية البيضا" {ما كادت مسكة تصل ناصية شارع عشرة حتى عرجت على بيت "سنية البيضا". صعدت خمس درجات، تخطت السادسة المتآكلة إلى البسطة مباشرة. وجدت الباب مواربا. تعرف أن المرأة لابد وحدها فى هذه الساعة، الزوج مات من سنين، والبنت فى بيتها، لا تطل على أمها إلا كل حين. والولد سافر من عامين، يعمل مبلطا فى الخليج، والولية يا كبدى مش لاقية اللضا، وهو لا حس ولاخبر، تقولش البعيد ابن حرام}.
وأيضا قصة "سنقر" الذى يعيش وسط أكوام القمامة، ويحلم بالزواج.
كما يتبين مجتمع الأغنياء وما يفعلونه فى (البيه الكبير وزبانيته) وحجمهم (الصغير) فى المجتمع، مقارنة بعدد النماذج من مجتمع الفقراء، الذين تمثلهم بائعة الفجل والجرجير"مسكة"، وما وقع على زوجها من ظلم، واستغلال البيه الكبير، ورفقائها فى البؤس.
كما أن تلك الرؤية فى هذه القصة، ليس وحده ما يشير إلى إنتماء الكاتبة لجيل الستينيات، وإنما قد يظهرها بصورة أوضح ما قدمته فى أولى قصص المجموعة "سلطانة" ، حيث رؤية الكاتبة للوضع المجتمعى، السياسى، لفترة ستينيات القرن العشرين، والذى تعاطف وأيد ما حدث فى يوليو 1952، ثم إكتشاف الحقائق المناقضة، فكان النكوص عن التأييد والمساندة، بل والمعارضة.
ففى قصة "السلطانة" سنجد الزمن الممتد التصاعدى، والاعتماد على "الحدوتة المستمدة من منبع الحكايات "ألف ليلة وليلة"، الذى كانت عليه القصة فىيما قبل الستينيات. كما أننا سنجد الرؤية الستينية، التى استبشرت بما حدث فى العام 52 بما فاض من الوعود، غير أن الأمور تبدلت بعد أن تخلى الواقع عن تلك الوعود. فتبدلت الرؤية. كما سنجد اسخدام الرمز الواضح الدلالة.
ومن خلال الحدوتة تبدأ خيوط الرؤية فى الظهور. تحكى الجدة فى الحدوتة، عن الرجل الكبير غير المعروف صلته بالعمة سلطانة، والتى بدورها ليس لها ولد ولا زوج ولا عائلة {ومن قال: الرجل من صلب أحد أكابر البلد، ممن شاركوا فى هوجة عرابي، وإنه بعد موت والده اختفى فى الريف، هربا من ملاحقة الخديو والإنجليز. ومن قال هو ابن الأميرآلاى محمد عبيد، بطل واقعة قصر النيل. وذهب عدد آخر من العارفين ببواطن الأمور إلى أن الرجل كان زميلا لسعد زغلول.... بل هناك من يؤكد أنه جاء خطيبا لسلطانة، ليس سوى جمال عبد الناصر، وكان ذلك قبل قيام الثورة، فلم يعرفه أحد.. لم نكن نعرف الحقيقة}. ثم تكشف القصة عن تلك البلدة (الرمز) فتقول الحدوتة {فى سالف العصر والأوان كان فيه مدينة بيوتها من رخام أبيض، مصفحة بصفائح الذهب والفضة، وفى دوائر الجدران ألف شباك من خشب الصندل، وألف شباك من النحاس الأحمر الوهاج ....}. فى كشف عن الرمز الذى تحمله تلك البلدة (مصر) وما كانت تحويه من خيرات.
وتكشف الحدوته عن التحول فيتزوج الملك من جوهرة، لتأتى البدايات:{حكم الملك بين الناس بالعدل قال: كل من زرع حصد، وقام بطرد الأغراب، وأنشأ حول البلاد الأسوار. وعاش مع جوهرة فى أرغد عيش...}، حيث تقودنا (من زرع حصد) إلى ذلك الذى أشارت إليه الجدة فيما سبق، فلم يتطلب الوصول إلى أنه جمال عبد الناصر، كثير جهد. ويعقد الملك كل يوم الديوان، ويأتى إليه الرعية كل يحكى حلمه، من أول نومه، والملك ينظر فى أمره، فإن أعجبه الحلم نال الحظوة وأصبح من أهل المشورة والكلمة المسموعة. وإذا أغضبه الكلام يبعث بالرجل إلى جبل قاف، حيث يسكن سارقوا الأحلام، ويظل الرجل ممنوعا من النوم لشهور، أو لأعوام، فيُجن ويهذى. عنئذ يدفع به إلى السياف، فينال جزاءه بقطع لسانه، ردعا لأمثاله، والناس
- خافوا
- ومن الذهاب إلى الديوان}. فى إشارة واضحة لتقريب أهل الثقة، والغضب والاعتقال، لمن يُبدى غير ما يُرضى صاحب السلطة.
وتتحدد رؤية الكاتبة ، التى تشيعها فى كل- تقريبا- قصصها تجاه تلك الفترة عندما تعود الساردة ولم تعد طفلة وتعمل بالصحافة وتكتب المقالات: { والأفكار تتلاحق وتتشكل أمامى على الورق، كلمات وعبارات ضخمة، ذات طنين بغير صدى، بدت كفقاقيع صابونية هائلة، من صنف ما يخرجج من مداد الأقلام كل صباح وينفثئ على أوراق الصحف، وكنت على وشك الانتهاء وإذا بى أتوقف مرة واحدة وأمزق ما كتبت}ص21. حيث يظهر الرفض، ورغبة الثورة.
وهى ذات الرؤية التى يمكن -أيضا- استخلاصها من ثانى قصص المجموعة "موال شوق".
فإذا كان الشعر، يوما هو ما سُمى ديوان العرب، ثم تراجع الشعر، ليخلى العرش للرواية، ولتصبح هى "ديوان العصر" ، فإنه من ذات المنطلق يمكن أن يكون الموال هو "ديوان القرية". يسجل تاريخها، وأحداثها. وهو ما أثبتته إعتدال عثمان فى قصتها "موال شوق" ذلك العنوان الذى غزلته عن قصد ورؤية، فلم يكن، مثلا، شوق فقط أو حكاية شوق، وإنما تعمدت أن يكون "موال شوق" لتمنح الموال دوره الرئيس فى القصة. وإذا كان الموطن الرئيس للموال هو القرية، فقد زرعت بطلة قصتها "شوق" فى عمق الأرض، وأنبتت جمالها تحت شمسها، ليصبح ضياء أحلام كل شباب القرية، مستخدمة كل التفاصيل الدقيقة، التى تعبر عن دقة الوصف، والتؤدة فيه. لتمنح القارئ جو الريف –الذى كان- بما فيه من هدوء وإطمئنان، وكأنه يجلس ساعة العصارى تحت الجميزة ، ويصدح بالموال الذى يبثه شوقه إلى المحبوب، أو لوعته فى مراوغته، أو شكواه من الزمن. فها هى "شوق" رغم وفاة والديها، إلا أنها أصبحت ابنة الجميع. فيسعون إلى مساعدتها، والحنو عليها، دون أن يفكر أحد- مجرد التفكير- فى التسبب بأذية لها. وبعد أن طاب عودها، يأتى إليها (العمدة) ، الذى فى عمر والدها، ورغم أنه متزوج، ليطلبها للزواج. ليخرس لسان "شوق" وينطق الموال بما يعصر ألمها:
وآه يا عين على اللى كان وياما كان
كان فيه صبية فى العشق تسبى العقول
تمشى تهز بروج الفلك كما بنات الحور
كان فيه صبية فى يوم سمعت ندا
طلعت على سحابة تحلب نجوم السما
يا صبية يم الشعر خيلى والحُسن بيلالى
إن كان أبوك القمر والشمس مرسالى
لأشعل أنا القناديل من جمر موالى
وآه يا ليل يا عين على بيتولد كل يوم فى منام
على اللى ما ينتهى ويبتدى بكلام
شوق دخلت الحكاية
شوق دخلت الموال.
وكـأن شوق عندما دخلت الموال، فكأنها وقفت إلى جانب "ناعسة" التى خلد الموال مآساتها مع أيوب. ولنصبح أمام عملية إغتصاب، (العمدة) بما يمثله من رمز للسلطة، واستئثاره بالفوز "بشوق" بوجودها الرمزى –أيضا-. ولتتحول تلك المتعة المبثوثة فى الفاصيل، والمعايش الحميمية لحياة كان الريف عليها، إلى رؤية سياسية مُرة المذاق، مذابة بعناية شديدة فى محلول مسكر الطعم.
وقد تكون الصيغة الأدبية، هى ما أدت إلى تخفى الرغبة فى الثورة على القائم، والرغبة فى التغيير، هى ما استتر وراء قصة "القيلولة". حيث كان ( .. ) ليس لديه طموح، او تطلعات، مقتنعا بأنه قرأ (المكتوب على الجبين) وارتضى ب"حياة النفوس"، رغم صفاتها {فهى ليست غافلة عن قدر نفسها، وإن كان لابد لوصل المحبة من وسيلة وأسباب فلم يكن من أسبابها الحُسن وغصن البان، ذلك لأنها من نسل خبيز محروق، أُخِذت عن خالها قطعة العجين التى تكورت على عجل وقُذفت فى وجهها، فالتصقت مكان الأنف. كما أورثها الوالد شقا متسعا، يخفيه هو بشوارب هائجة، ولا يسعها إلا أن تغطيه بكفها كلما استخفها ضحك مفاجئ، تختفى لمجيئه عيونها الخرز, لكنها على الرغم من كل شئ، لن تعدم وسيلة}. و كان من الطبيعى أن {لايخشى على أولاده من سوء المآل، فقد شقوا طريقهم فى دهاليز التعليم، فحصل الولدان على دبلوم التأهيل، خلال سنتين متعاقبتين. أما البنت فقد اكتفت بفك الخط، وعما قليل يوافيها النصيب. ولن تخذله العناية الإلهية فى رجائه الأخير، فهى وإن ورثت سحنة أمها ولها من أبيها صفات لا تخطئها العين، لكنها أيضا مثال الطاعة والحياء}.
وإذا كانت الكاتبة قد تعمدت عدم تحديد اسم محدد، إلا أننا لا نعدم الرؤية العامة، فهى وإن كانت تمس الإنسان الخمول، غير الطموح، فإنها، لا تعدم الرؤية للإنسان العربى الذى استسلم للقضاء والقدر، فوهنت عزيمته، واستسلم لما يُفعل به.
وتخطو الكاتبة خطوة واسعة فى تكنيك القص فى قصة "الرجل الذى نام مائة عام" لتتناص مع صورة البقرة من القرآن الكريم، وتحديدا إلى [أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يُحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه] لتضع المجتمع كله فى أجواء هذه القرية [الخاوية على عروشها]، ولتخرج بنا من الصورة الأسطورية إلى الصورة الحكائية، باحثة عن كيفية إحياء هذه القرية، أو إعمارها، ليمر الشخص (المُتَوهمْ) بعديد التجارب والأبواب المحروسة بالسيوف والسنون والمعوقات، ولنعيش فى أجواء ألف ليلة وليلة، الحكائية، وأجواء "جودر الصياد" وبحثه عن الكنز الذى تستبدله الكاتبة هنا بالبحث عن الحقيقة، عبر المرور على أبواب سبعة، ولنقرأ عند الباب السابع، ما يفك طلاسم الحكاية،(القصة) {وإذا طلب منك الشيخ أن ترحم ضعفه وتصنع فيه المعروف، مثلما جرى المألوف، ولاَنَ له جانبك فحملته على كاهلك، فإنه يمتطى ظهرك ويطبق برجليه على عقلك، ويجعلك تدور بعجلة الزمان فى عكس الاتجاه. وهيهات لك النجاة. لكنك تأمره بنزع إزار أوراقه، وتشدد عليه الأمر، حتى يقوم وقد استنفد كل حيله، ووقع فى قلبه منك الغيرة، وكلما خلع ورقة نظرتها، واخذت منها النافع وتركت الطالح، وتظل منتبها إليه حتى ينزع جميع ما عليه، فتنكشف لك عورته، وأنت تسارع ببترها بسكين حامية، تجدها مربوطة بين ساقيه}.
ويدفع المقتطف –المصاغ بعناية ناعمة- بالقارئ للنظر فيما ومن حوله، خاصة ونحن نقرأ القصة، ولما تزل قصة إعتلاء الإخوان للحكم فى البلاد، وكذلك أفعال الحركات المنبثقة عنها، لم نزل نعيش أجواءها. فالمقتطف يحدد بعض معالم هؤلاء مثل { وإذا طلب منك الشيخ أن ترحم ضعفه وتصنع فيه المعروف، مثلما جرى المألوف} والذى يَببِنُ عن إسلوب هذه الفئة من النعومة، والمَسْكَنة، حتى يتكمن، ويظهر مكره وخداعه { ولاَنَ له جانبك فحملته على كاهلك، فإنه يمتطى ظهرك ويطبق برجليه على عقلك} وكم هو استبدال ذكى ، ذلك الذى فعلته الكاتبة حين استبدلت (ظهرك) ب(عقلك) وما يؤكده الاستمرار فى القراءة {ويجعلك تدور بعجلة الزمان فى عكس الاتجاه. وهيهات لك النجاة} وكأنه يعود بك إلى الوراء، بالسيطرة على عقلك، وأنى لك الخروج من حصاره. غير أنه إذا ما وصل المصرى، أو الإنسان، للحقيقة، أو الكنز، فسوف نجد
{عمال النظافة يجمعون نفايات الأوراق فى عربات محكمة وجماعة أخرى تنزح الغائط فى صهاريج مهيأة ببطون واسعة. ومن بعيد جاء رجل ذو همة، ووجهه صبيح، ليباشر العمل}.
ولأن الكاتبة لم تحدد تاريخا لكتابة هذه القصة ورغم أن النسخة التى بين أيدينا صادرة عن الهيئة العامة للكتاب فى العام 2018 (طبعة ثانية)، فإنه كان يمكن قراءة القصة على الواقع السياسى فى فترة إقتناص جماعة الإخوان لحكم مصر بعد ثورة يناير 2011. والتى يمكن الوصول بها إلى أن الكنز المبتغى، ما هو إلا الخلاص من تلك المجموعة، وسوءات ما فعلته بالمجتمع، بإعتمادها على الأوراق الصفراء، التى إعتمدوها دستورا لحياتهم ( الأوراق التى يتغطى بها الشيخ)، خاصة ذلك الوصف الذى يشير دون عناء لتلك المجموعة {وها أنت تقبض على السيف وتكتحل بنور العقل} التى شاع فيها إستخدام العنف، وشاع فيها إكتحال العين، الذى استبدلته الكاتبة باكتحال العقل، لا بالكحل، ولكن بنور العلم، وكأنهم يعودون إلى حياة الصحراء، متغافلين عن إختلاف ظروف الحياة المعاصرة، خاصة باستخدام التناص مع القرآن. أما وإن ذلك غير متاح، فإن القراءة تنفتح على المعنى الإنسانى، الذى يرى فى "الكنز" الذى يبحث عنه الإنسان – عامة- هو الحقيقة، وهو الهدف الساعى إليه الإنسان منذ نشأته. باستخدام ما ساقته القصة من إشارات إلى الموت والحياة، حيث يموت كائن ليحيا آخر- وكما تقول حدوتة ألف ليلة، التى تتناص معها القصة ، وباستخدامها قِدَما، وعالمية. وهو ما يُحسب للكاتبة التى استطاعت أن تثير الكثير من التأويلات، والرؤى التى تنفتح على العالم، مثلما تجسد الحالة المجتمعية الخاصة. فضلا عن المتعة القرائية التى تعيد متعة، واستفادة قراءة ألف ليلة وليلة، التى ينضاف إليها، العبر والدرس.
وتصل الكاتبة إلى جوهر القصة القصيرة، فى صورتها الحديثة، فى قصة "يوم توقف الجنون"، حيث استنطاق الجماد- حرف الحاء فى (مكنة) الطباعة - وحيث ينكمش الزمن ويتقلص إلى اللحظة، أو الموقف الذى تبدأ منه الشرارة، شرارة القصة، وشرارة الفعل المتخفى وراء المعانى والدلالات، وما يمكن أن نقرأه من وراء السطور، بانه (الثورة) التى يعبر عنها إلتقاء حرفى الحاء والراء (ح ر) واللذان يمثلان (الحرية - حُر)، حيث دارت المطابع، ونطقت الحروف {لا أدرى ما حدث بالضبط، لكنى أذكر ضجة كبرى، لم أميز منها غير هدير الموتور الذى انطلق من عقاله للحظات، وصوت حامدين منفجرا بعبارات لم أتبيها، وهرج شديد، وأصوات أخرى غاضبة.... وحلقة الفتية تحيط بحامدين تحاول زحزحته من جوار المكنة، وهو يتشبث ... ويواصل صياحه والأصوات تتداخل والأيدى تتشابك، وأشياء صلبة تتطاير فى كل الجهات}.
ويواصل حرف الحاء، منولوجه، ليوضح ماذا يمكن أن يفعله، إلتقاؤه وإتحاده مع حرف الراء، ولتبدأ الرؤيا فى التشكل {أما حكايتى مع زميلتى، الراء، فهى فى الحقيقة.. لاأجرؤ على نطق الكلمة هكذا فاترة، فما بيننا ليس حبا بالمعنى المألوف، فالحروف تتلاقى فى سلام، تتداخل أوتتجاور تشكل كلمات أو جمل، تشق مجرى حياتها العادية فى هدوء ودعة ... إننا معا نستطيع أن نفعل الكثير، نحقق معجزة توقف هذا الجنون ... وجودنا معا، نفرض إرادتنا، وتتبعنا بقية الحروف}. وكأنه ينطق بلسان "حمدين، العامل البسيط، المعجون بزيت المكن، (الحُر) الذى يسعى لأن ينضم إليه الآخرون، ويفصح عنها {فيتناهى إلى سمعى حديث عن التغيير والتجديد والثورة وأشيا غريبة من هذا القبيل، يختلف الناس حولها لأسباب تتجاوز حدود علمى}.
وتأتى ما يمكن الاسطنباط بأنه الأوامر، التى يرفضها العمال، فيثور العمال، متمثلا فى شخص "حمدين" فتبتعد الراء عن الحاء {ما كان الخوف ، ولا أى شئ آخر يفعله حمدين، فى تلك اللحظة، بقادر على تغيير موقفى. كانت إشارتى المبثوثة قد أحدثت أخيرا خلخلة فى الفضاء الفاصل بينى وبين زميلتى الراء، وتم التراسل بيننا، وحدث الوصل}. وكأن الوصل بين حرفى كلمة (حُر) هو الشرارة الداعية إلى الثورة على القائم، والدعوة للحرية، التى تعنى وجود القيود، والمراد تكسيرها.
ويتفق مع رؤية هذه القصة، الداعية لتقديس الحرية، قصة "أسرار السرو" التى تصلح أيضا للقراءة اليوم أمام ما يتهدد النيل من مخاطر وتهديدات، فى الرؤية المباشرة لها، حيث تتفق أيضا
فى تقديس الكلمة، وتقديس الحرية. وكأننا نستحضر كلمات عبد الرحمن الشرقاوى فى مسرحيته الشعرية "محمد رسول الحرية":
الكلمة نور... وبعض الكلمات قبور
الكلمة فرقان بين نبى وبغى .. إلخ
فإذا ما علمنا أن شجرة السرو .. شجرة تتميز بلونها الأخضر الجميل، تُزرع فى الحدائق للزينة، تُحب الشمس، وتتأثر بتيارات الهواء، لأنه يُحدث بها الجفاف.كما يبلغ إرتفاعها لنحو 30 متر.
ما يعنى أن الشجرة تشيع بها الخُضرة، ونضارة الزرع، والرفعة أو الشموخ. وهى الأمور التى أرادت الكاتبة أن تضفيها على ذلك الأمل المنشود، فى الرؤية الأساسية، وما دعتنى الكاتبة إلى استنباطه من خلال إختيار كلمات العنوان، حيث إختارت (أسرار السرو) ولم تختر (شجرة السرو) حيث أسرار تحمل الشئ المتخفى، أو غير الظاهر، وهى إحدى خصائص الكاتبة فى كل القصص.
نجد فى "أسرار السرو" رجلا ميتا، وكأنه غريق، مثلما جرت العادة، ويختطف النيل الكثير ممن يتعاملون معه، لا كعروس النيل، التى تُساق برغبة الأهالى، وإنما هنا يختارهم النيل عنوة، غير أن الروح تدب من جديد فى الجسد الممدد، ولكن هذه المرة، بفعل الأهالى.
فحيث تستنطق الكاتبة الأرض، تُخرج بعضا من أسرارها، ف{يغلى باطنها بانصهار غير مرئى تدمدم بأصوات حبيسة تحت السطح، تتكلم، لغة قديمة كالأزل، حاضرة أبدا، تظهر وكأنها منسية أو مخفية. لغة يعرفها أهل المكان ويحفظونها فى قلوب غويطة بلا قاع، مثل الزمن. لكن أبدا لا تنطق بها الشفاه، إلا فى يوم مثل هذا، صحت فيه أرضهم على شقوق العطش، تتسع الشقوق مثل الجراح، وهم على انتظار صبور لفيض عزيز مؤجل، يغمر الأرض فتلتئم الشقوق، قبل أن تجأر فتوق الأحزان والخيبات الدفينة المترسبة}. فإلى جانب رؤية المقطع لرؤية الأرض العطشى، المتشققة من قلة الماء، فإنها هنا تعبر عن الإنسان، المتشقق باطنه، والحامل لعديد ما يضنيه، لكنه الصامت، الذى لايجد بديلا من التحرك، والثورة، من التوجه للنبع، للحرية نبع الحياة {فى العيون كلام صامت. الأبدان والأرجل كلها متواطئة على أمر واحد، عازمة على التوجه صوب مكان واحد، تبلغه الآن . الهويس .... الماء المُحتجز الغامق يبين عن جسد تسحبه الأيدى وجلة تغالب خوف الصدور العامرة المزدحمة}.
وبعد أن تتوحد الكلمة، ويبدأ الفعل، نجد الميت (أو الغريق) {الرأس الكهل بهالة بيضاء كأنها نور، يومئ إيماءات يسيرة منتشية بأنغام ترنيمة أو ذكر كونى، غير مسموع إلا فى أذنيه. ومع الإيقاع الشجى الأسيان تلين أخاديد الأحزان وتنفرج أسارير الهم والفكر، ويذوب الوجه فى رونق بهاء، ليس بأرضى}.
و .. حينها.. وحينها فقط، يتحول الجسد الميت إلى شجر أخضر، وكأنها الكتكوت يخرج من البيضة، أو الحى من الميت {رأى الناس الجسد يتعملق، حتى كاد يبلغ حدود الوادى، وفى الصدر ينمو زغب مخضوضر كثيف يتحول بسرعة مذهلة سيقان سميكة، منتهية بأوراق عريضة دكناء الخضرة، ممتلئة بعصارات النيل، من بينها تبرز تيجان اللوتس، شاهقة، تتكاثر من نفسها وتتفتح كعهدها لعين السماء}. ويظهر بين الساقين رحم بحجم الأرض، يخرج منه عديد الأجنة التى تكبر بسرعة مذهلة تشق طريقها، وتنضم إلى بقية الخلق. { وما من أحد، من أولئك الذين أتوا من كل فج عميق فى ذاك الصبح، إلا وشهد، فى مخلوقات الرحم المفتوح، ما كان، وما يكون، ما سوف يكون. أيقن الناس ذلك كله على حين كانت الأجنة تتكاثر ونبت النيل يتكاثر وأزهار اللوتس تتفتح كعهدها، بغير انتهاء}. و{حين ذاك أدرك الناس العلامة، فانقض الكلام من جديد، وصاح بصوت واحد: نفتح الهويس}. أو فلنقل، نفتح الصدور، ونُخرج الكلمة، لنعود من جديد نردد (الكلمة نور.. وبعض الكلمات قبور). وهو ما عبرت عنه القصة فى كلمات كشعر عبد الرحمن الشرقاوى، الصارخ المجلجل، ليعلن، أن الخلاص فى الكلمة {ولما كان البدء علامة، والمنتهى علامة، وكانت العلامة كلمة، والكلمة سر يتخلق فى رحم الروح، ثم يتجسد صوتا أونقشا، يشغل الفضاء والحجر والورق، ولما كانت اليد قد خطت منتهاها وملأت صحارى الورق، ولما أدرك الناس السر ونطقوا الكلمة إذ رأوا الشمس تمد أذرعها الألف.. ولما كان ذلك كله، وليس قبله، فقد سكنت الأرض وكف تملم الجسد}.
وتنتقل الكاتبة إلى مجموعة أخرى، تحت عنوان جامع "طرح البحر"، لم تعنون قصصها، بل منحتها أرقاما، لتعلن أننا أمام ما يشبه "رواية الأصوات" حيث يجمعها وحدة واحدة، بعثرت الكاتبة فصولها، واختلفت لغتها، فأخذت منحى السرد الإخبارى، . كما أنه يمكن القراءة مثلما شاع أيضا فى كتابة الستينيات، بشكل متوالية قصصية أو وحدات سرية خمس، بدأتها بالحاضر، ثم عادت للماضى، ومن جديد غرستنا فى الحاضر. وقد يكون من المفيد، فى قراءتنا هذه، أن نعيد ترتيب قصصها، لنتبين رؤيتها، الجامعة لمجموعها. وكما عادة الكاتبة، تحمل عنوان(المجموعة) ما يكشف عن الرؤية. "طرح البحر" وهو العنوان الجامع، الذى سنعود إليه لاحقا.
تتناول المجموعة حياة أسرة مكونة من الزوج (الضابط) والأم ، وابنتين، الكبرى ، الراوية، رغم تعدد الضمائر، وهو ما دعانا للقول بأن المجموعة تأخذ سمت "رواية الأصوات"- والإبنة الصغرى، والإبن آخر العنقود. وقد كانت الكاتبة مقنعة فى تحديد مواصفات كل شخصية من الشخصيات الخمسة، بما يتفق مع ما حددته لهم من مصير.
ففى الحلقة السردية الرابعة، بداية البداية، حيث إرتباط الأم بزوجها تعود الأم إلى تذكر الطفولة، حين لعب الأولاد عسكر، والبنات حرامية، وتقع الأم (الطفلة)، أثناء اللعب، حين تنغرس قدمها فى الطين، وكأنها إشارة داعية للربط بين الواقعة والارتباط حيث ، تحكى حكاية ارتباطها بذلك الشاب، شقيق زميلة تصر الإبنة الكبرى على المذاكرة معها- رغم رفض الأسرة- بابن اسرة بسيطة الحال ، دخل الأخ الحربية، بعد (الواسطة) و{تَخَرَجَ بعد عام ونصف بدبورة، آخر قيافه، ووجه صبيح، وطموح ليس له حدود. خاطبا لى جاء وأبى يصل العرق بالعرق، والبنات ليس لهم سوى الستر. زفة وفرحة وعيشة هنية بدخل محدود. البكرية. عشمنا فى الله كبير.. ...... حرب بورسعيد، اليمن. يصعد ويصعد قافزا سلم المناصب.. قامت القيامة، الحرب، استدعاء، وعاد سالما غير غانم} فى إشارة غير منكورة، لذلك الضابط الذى أصبح ملأ السمع والبصر.
وفى الحلقة السردية الأولى تستعرض الكاتبة حال (الضابط) وفق ما تتحدث به الإبنة الكبيرة حيث كان فيما قبل النكسة {مشغولا كنتَ، اجتماعات وتقارير وسفر متواصل إلى سرادقات، تُنصب فى الأقاليم، وتتصدرها أنت خطيبا لساعات، داعيا إلى .. كلام كتير من صنف ما تنشره الصحف. تظهر صورتك فيها، ويذاع فى نشرات الأخبار.. كلام يتغير والناس لا تتبدل .. لم أكن أفهم وقتها ما يُقال. أجد البيت يشغى بالزوار، عمال وفلاحين، الاتحاد، فئات وضيوف.... يخلو إلينا فى أوقات نادرة، مُرهقا تعبا، بالأوامر الصارمة، لا اعتراض، لا نقاش، القايش فى يده كان كرباجا من جهنم غضبه}.
{ويوم إعلان الحرب بدا متوترا فى زيه القديم، يقول لأمى ساعات، أو أيام على الأكثر، نؤدب خلالها أولاد الكلب، مهمة تأديبية لاغير. واجب لابد من قضائه}.
ثم تتحدث الأبنة عن حال ذلك الضابط بعد يونيو، وقد لعبت "مرايا الرمال" – التى حملها الجنود فى أرجلهم يوم عودتهم المنكسرة، لعبت دورها فى تبديل شخصية (الضابط) { عاد بعد الأيام الستة، سليما بجرح لا أدرى موضعه، فى العينين ، طاطأة الرأس، انحناء قامتك المديدة، تهدل كتفيك.. كبرت مائة عام، فى شهور قليلة غزاك البياض من فوديك إلى رأسك كله.... دوامة من جحيم..}.
وما كان أمام الضابط – كعملية هروب، إلا السفر ليعمل لدى أحد رجال الخليج[2]، حيث يستسلم له ويصبح ذراعه الأيمن والمقرب.. فيزداد تماهيه فى الحياة الجديدة، ويزداد معه اللامبالاة بما يحدث، وبعد السفر لسنوات فى الخليج: {تَرْقُبُ الأحداث عن بعد، العبور، المعاهدة، لم تعترض، لم تبال، عبور الشرخ لم تستطعه والشظايا فى روحك ساخت فى الرمال، رمالنا ثم رمالهم، وأنا تتحاشى نظراتى المتطلعة إليك، عاتبة فى صمت، وأمى تغرق فى قطع الحرير المستورد ومواعيد الخياطة، ومصفف الشعر، وأصناف الطعام ومجاراة الأصدقاء الجدد}. حيث تنغمس الأم فى المظاهر. ويبيع الأب ابنته الصغرى، المستسلمة، صاحبة الكلمات المرضية لأبيها، يبيعها لأحد الأثريا العرب، بالزواج، فترى منه ما لا تطيق ولا تحتمل، وبعد شهور قليلة، يُرجعها إلى أبيها، فلم تعد تصلح له، غير أن الأب لم يترك الشيخ، ليتشارك معه فى شركات (جمع الأموال) التى تنهتى بالخسارة. لينتهى الأمر بضياع كل الأموال، بما فيها مؤخر صداق الأبنة الصغرى. بعد أن يكون الابن "آخر العنقود" قد ضاع فى السهر والمخدرات، والرسوب.
أما الإبنة الكبرى، والتى يمكن أن نرى فيها، ذلك الجيل الذى عاش النكسة، وانطبعت عليه مراراتها، بل قد لا نبالغ إن رأينا أنها حلم جيل الستينيات الضائع {وأنا أفر من هذا العالم، إلى أين؟ لا أعرف أواصل الدراسة وأرفض الزواج، أحمل معى كتبى وتسعة وعشرين عاما، أقترب من لقبى، قدرى اختاره عقلى، الدكتورة العانس}. { أعاقب نفسى من أجلك لأننى منك صورة؟ الصوت، الملامح، سمرة صعيدية رائقة، الأنف والعينان والفم وخفة الشعر، حتى الأفكار، هل تتذكر؟ أدرس أصولها وأدرسها فى الجامعة. جيل جديد لا تعرف عنه شيئا، بهجة اكتشاف عقل يتكون، يسأل، يعترض، يرفض، يحتد..... شباب يتفجر بالغضب، الأصول، العودة إلى ألأصول، وماذا؟. كلام غائم ، أين الحل؟ هروب من واقع، مستقبل مسدود.. منفذ إلى وراء ، لا أرى إلى أمام}. ولتتحول الأسرة إلى { هروب أبى مرايا الرمال. أمى قناع الصباح والمساء، اختى قناع آخر، وأنا .. آه راسى ساخن، لا أعرف لعلى مريضة}.
وتحصل الإبنة الكبرى على الدكتوراه. وتسافر فى بعثة تسعة شهور فى باريس، (ليصبح الرقم تسعة هاهنا، وكأنه فترة الحمل، المأمولة كى تُثمر المنحة، أو يُثمر التزاوج بين التجربة التى عاشتها هنا، والنور المستمد من باريس، هناك. ولتكون الأم فى وداعها، ويكتفى الأب (الضابط السابق) ببرقية منه "مبروك" ف{لم يستطع الحضور، الهم يُثقل كاهله، ضاع شقاء العمر، الصداق والجانب الأكبر من المدخرات، كل شئ حملته الريح، والريح تحملها، تطير بها، حنينها يتدفق من قلبها، يتسع وتتسع الرؤى من أمامها}. وكأن تجربة الضابط ، وحياته، وحياة الأسرة، قد تبخرت مع الريح، وتم تدمير الأسرة ، وليحل الوطن، فى هذه الأسرة، وكأننا أمام تجربة جيل سُمى بجيل الستينيات.
وتنتقل الكاتبة إلى تجربة جديد فى مجموعة جديدة "مَرَجَ البحرين" لتظهر كل كتابة الستينيات، فاختفت علامات الترقيم، وتداخلت الجمل، وغامت الرؤية، وكأنها الضباب الكثيف، ليبحث القارى عن الخيط الشفيف، المتخفى وراء الغمام.
ففى قصة "الزمرد تمرد" نعيش، او نحاول أن نتعايش فى زيارة عبثية للساردة لدى طبيب المخ والأعصاب، تعيش الساردة هلوثات تتخبط بين الماضى الفرعونى، والحاضر، بين الصوفية والتاريخية، بين الآيات والأسفار. فيُنيمها على سرير الكشف، حراس ثلاثة (أرنب وتمساح وثعبان)، ومن فوق الرأس تستطلع الشاشة ذلك المزيج المتداخل العبثى، من داخل المخ.
ضاعت علامات الترقيم فى هذه القصة ليمثل التداخل والتخبط والاضطراب، كما لعبت الشاعرية الظاهرة دورا فى مخاطبة الوجدان. فمنذ البداية نقرأ تلك المقطوعة الشعرية النثرية: {تقدمت واجهة زجاجية لا معة كالبلور لا أرى من الداخل جيوش نمل أحمر تزحف مجنحة بجناح واحد تخترق صدغى الأيمن يتقدم تجمع كبير صوب الجبهة ينهش الشرايين تتمدد نبضها يضرب سمعى يُشهر آلاف المدى تجتز الشعيرات الدموية الصغرى تلتهمها بمقارض دقيقة تنز تحت فروة رأسى لم أعد أستطيع حملها تفلت تواريخى أصابعى تضغط بعنف موضع الألم توقف الزحف المتمادى الأم الجافية صلبة وضاغطة بجنون يعتصر الأم الحنون بصيلات الشعر تزأر منتصبة ملتوية منتحرة المنبت تفر عصافير الفكر وطوفان النمل يعلو ينال دواخلى يصعد عفونة وانشراخا فى الحلق صاح بى سيد الفلك ممتطيا عربة فارهة "اُنْج من بلد لم تعد فيه روح"}. فقراءة المقطع على هذه الصورة، لابد أن يصيب القارئ بالتوهان، والضياع. وهو ذات الإحساس الذى أرادته الكاتبة. فإذا ما قرأنا {تقدمت واجهة زجاجية} سيحتار القارئ ماذا يضع من علامات الإعراب على تاء (تقدت)؟ فهل السكون، فتصح الإشارة إلى الغائب، فتدخلنا الجملة فى سيريالية أكثر متاهة. فهل الواجهة الزجاجية هى الفاعل؟ أم الضمة فتكون الإشارة إلى المتكلم، فيصح المتحدث هو الغائب؟ وهو ما يحتم وضع علامة ترقيم للفصل بين تقدمتُ (أنا) التى تشمل الفعل والفاعل.
أما إذا وضعنا علامات الترقيم، فسيتضح ذلك الإحساس بالمرارة التى تعتصر البدن، بل الوجود. فكم هو الألم الذى يعتصر الساردة فى {جيوش نمل أحمر تزحف.. تخترق صدغى .. ينهش الشرايين .. يضرب سمعى تجتز الشعيرات الدموية .. تنز تحت فروة رأسى}. ثم تخرج من الخاص للعام. الأم الجافية صلبة وضاغطة بجنون يعتصر الأم الحنون...... انج من بلد لم تعد فيه روح}. فكم هو ضائع هذا الإنسان، يعتصره الألم، من بلد كان المفترض أن يكون أما حنونا، فاصبح يكتم الأنفاس ويُغرقه، ولا نجاة إلا بالفرار. وهو ما يعود بنا إلى ما انتهت إليه الإبنة الكبرى فى نهاية المجموعة السابقة "طرح البحر". كما تسرى روح التعليق فى الفضاء، وكأن الإنسان لايستطيع الوصول للسماء، ولا هو بقادر على نيل الأرض، فى تشخيص إبداعى، فتستعين الكاتبة بأمل دنقل، لتستعير منه {نظرت فإذا بحارس ليس بشاب ولا هو بكهل راسه نار وجسده ثلج بينهما رتق فلا النار تلج الثلج ولا الثلج يلد النار}. كما تستحضر رواية ماركيز "الحب فى زمن الكوليرا". كما تستحضر الكثير من أقوال وأفعال الصوفية، فيضفى هذا الاحتشاد الكثير من الغياب عن الأرض، أو السعى نحو هجران الأرض، وكأنها مشتعلة بالنار، إلا أن هناك –دائما- من يقول "ممنوع" لينحبس فى تلك النار، وكأنه العذاب الدائم. وكذلك التناص مع الكثير من آيات الذكر الحكيم، فتجد [ إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض][3]. وبعدها مباشرة نقرأ، وكأنها استكمال ما سبق {يا ذا النون المصرى فأقم لنا سدا لايستطيعون له نقبا. قلت يا عبد الناصر نيران الحرب تثقب جدار القلب} وفى موضع آخر {سفينتى بغير مجاديف النجاة أين الجبل الذى لايموت ياأمل أين؟ لاعاصم لى لا ناصر العهد أتى مسارات ضوئية غريبة تسرق نبضى..}. فالإسقاط هنا لا يحتاج لتأويل. ثم تنغمس فى الفراعنة، وكأنها تستغيث بهم.
ويبلغ التشدد والصريخ الأتى من الشاشة فوق الرأس {قلت دعنى أدخل الحضرة عباد الشمس يتململ فى حزنه ورق الجميزة يسقط فى بحر البلور تمهل لا أعرف كلمة السر لكنى أردت أن أدمر اللؤوم يوم كيل الكلمات إنما الماضى يرفض أن يموت والمستقبل يأبى أن يولد قلت شفيعتى سيدة الزمرد من تشع الشمس على جسدها من تظهر الصورة منذ البدء وثعبان الجحود يرقد فوقها عكر زبرجد شهورها تمساح القلب الهامد} فتأتى الصرحة ، صرخة الاستغاثة التى {جعلت تفتح عينى وفى سمعى تردد الزمرد تمرد.. تمرد ... تمرد}.
ثم تاتى باقى قصص هذه المجموعة، يحتل الفعل فيها مساحة تكاد لا تكون منظورة، وغنما هى وصف حالة، لكنها الحالة التى تصور إنسانا قد وصل إلى حد اليأس، فرأى الدنيا من حوله غائمة، وكأن كل ما سبق، لم يدع للقلب من فرحة، ولا للإنسان من أمل. فكانت هذه القصص ، ميا يمكن أن نطلق عليه" حالة المصرى، بعد النكسة"، حيث "الماضى يرفض أن يموت، والمستقب يأبى أن يأتى" فالغمامة لازالت قائمة،، متسلطة.
وتبدأ القصة التالية، المعبر عنوانها، عن ذات الرؤية "موقف الصمت.. بين الصدى والصوت" حيث ينخرس اللسان. ويفقد الإنسان القدرة على معايشة الواقع.. فلا يصبح أمامه إلا الهجران {وقفت على شعرة الصمت الصمت بين الصدى والصوت، وكنت الرطب واليابس، المُرّ والحارق، والدنيا من حولى سوق بضاعة زاهية، ولما لم أستطع بيعاً ولا شراءً، طويت العمر الكاسد فى حبة القلب، وقلت أيمم وجهى شطر الصحراء}. وتخيلت الراوية أن فى الصحراء الحياة والأمل، غير ان غول الزمن، المعبأة بطنه بالجيف والنتانة، كان قابعا، فكأن الساردة تستغيث بالرمضاء من النار. فيا هول ما يعانى البشر، خاصة إذا ما أعيتهم وأخرست لسانهم على أرضهم، ووسط ناسهم.
وذات ما تفعله فى ثالث قصص هذه المجموعة "بحر لا تحتضنه السواحل" وهو ما يكشف أن الاتساع اللانهائى للمياه، والذى يُشعر بألا نجاة هناك. حيث يكشف الوصف، تلك الحالة الظلامية والكئيبة {أبحث عن لون، رَفة روح، خفقة زائدة، والنفوس معتمة تماما. فراغ ليل ساج، هائل، دامس مدلهم، بحجم الكون. لا اسمع فيه سوى تمتمة ممطوطة، لا أتبين لها معنى}.
ثم نأتى إلى قصة الختام، أو هى قصة القصة "وشم الشمس"، حيث تتجمع كل الخيوط، وكل الرؤية. تذهب الكاتبة، أو تستدعى مراكش، بما عُرف عن المغرب، من الشعوذة، وقراءة الطالع، والتنجيم. يقصدها السائح، كما يقصدها المقيم. وتربط بين السماء، أو النجوم، وبين الأرض وما يدور عليها، فتبدأ بهذ الربط {والقمر قدرناه منازل[4]، منزل من بينها يطل على بحر ومحيط وسواحل} وتمضى فى الوصف ليتحدد المكان. كما تربط بين الماضى والحاضر {حلقات التاريخ سلاسل، مغلقة على أسرارها الغائرة فى الزمن والبدن. تطوق الأعناق بلفات مُحكمة، لاحتكاكها رنين كالأنين} ثم {أهلة لا حصر لها، تركت وشمها على الجسم والروح وغابت فى الزمن} ليتم الربط بقصة "الزمرد تمرد" { الماضى يرفض أن يموت والمستقبل يأبى أن يولد}. ثم تسطع الشمس {أهلة لا حصر لها، تركت وشمسها على الجسم والروح وغابت فى الزمن}. لنستحضر أيضا من قصة "أسرار السرو" { ولما أدرك الناس السر ونطقوا الكلمة إذ رأوا الشمس تمد أذرعها الألف.. ولما كان ذلك كله، وليس قبله، فقد سكنت الأرض وكف تململ الجسد}. ثم نقرأ { تتقدم الصبية، غصن بان مياس، تكشف عن الأهلة بغير كلام... ترنو وتغضى، يرتعش منها الوشم يقول صامتا، خذنى بقوة ... ف الوشم المحجوب المكشوف يتفصد بالنداء}. و {على مقربة لاعب الثعابين، ينفخ مزماره، تطل رأس حية الصَّل من المخلاة.. راس الحية، وهج الحنة، عين شمس مراكش الحمراء أحدق فيها طويلا، ينهار الصمت ما بيننا، وينهمر الزمن، حية الصل تحيط بقرص الشمس المعبود من جانبيه، تتوج رأس الملك المؤله، والملك لما يزل مؤلها}. فمن بين هذه هذه الإشارات، والتداخلات، والرؤى الغائمة، التى شاعت، وربطت بين قصص "وشم الشمس"، نستطيع أن نصل إلى تأويل العنوان الرئيس للمجموعة المجمعة، بما يعنى سريانه كالشرايين داخل الجسد، حيث يبدو الوشم، أنه العلامة، أو الإشارة الصامتة. فإذا كانت الشمس (وليست شمس مراكش) حمراء، مختنقة، فيصبح إحمرارها هو "الوشم" الدال عليها. وإذا كانت الحية تحيط بقرص الشمس المعبود المؤله، حيث تكمن المأساة، فالمأساة الأكبر، أن الملك لما يزل مؤلها. رغم كل ما فعله، ورغم كل ما تحملته الأجيال من بعده، وما كان محور "وشم الشمس " الحمراء، نافثا فى شعبه، تلك الأساليب الخرافية، القائمة على الخزعبلات، وقراءة الطالع، فخاصمها العلم والمنطق، والحقيقة. فكانت سموم الحية المحيطة برأسه، هى الدماء التى سرت فى شرايين الأجيال على مر الزمن { فلا عقل لاجمع لاتفريق لا غيرا
تفتقت زهرة الدم
وكنت أسمع صوتا فى مهامه الروح يقول:
عندما يسطع نور المستنيرين
سترافق روحى أزوريس
وسأتقمص الصقر المجنح
سأخرج إلى الأرض}.
وبهذه الكلمات ترسم إعتدال عثمان رؤية المستقبل، بعد أن بلورت قصة النهاية، أو قصة البداية تجربة جيل، كان الحلم زاده، فاصبح الانكسار زواده.
التقنية
إذا كانت الكاتبة تنوعت كتاباتها -فى المجموعة- من حيث مساحة الزمن، بين المساحة الممتدة، والإخرى المقتضبة، إلا أنها، حافظت على وحدة الشعور، الذى يُبقى القارئ تحت تأثير، وضغط الإحساس، ما يُنسيه تطاول الزمن فى بعض القصص. إضافة إلى تنوع الإسلوب بين الشاعرية، والواقعية والرمزية، والفنتازية، ما ما يدفع بحركية القصة، فيشعر القارئ وكأنه يسير عبر الزمن، متأملا تلك الهضاب والوديان الإسلوبية، ما يمنع (إحساسه) بالمرور. خاصة إذا حفلت القصص بالكثير من جماليات السرد الواصف للشخصية، والكاشف خارجه عن جوهر باطنه، مثلما{لفح الهواء الحار وجه "مسكة" الخمرى المدور. أزاحت ذؤابة الأوية عن جبين عريض ودستها فى تلافيف عقدة المنديل. هفهفت نسمة ضنينة تلاعبت بالشفيف الناحل لطرحة رأسها، دخلها الفكر من زمن. وغطى ما حدث وفاض، ولابد من عمل). وكأنها المحفة التى تحمل القارء، وتغوص به فى قلب الواقع. أو فى وصف الطبيعة التى تنقل القارئ إلى حضنها الدافئ، كاشفة عن أسراره {فجر صيفى. اشجار السرو متأهبة فى تسامقها، وكأنها جند قد استدعاهم الليل فى نوبة صحيان. قاماتها مشدودة فى إهاب الظلمة. وأطراف قممها الإبرية حراب تخز كبد السماء، ولا تسمح للريح أن تفلت أعنة الهبوب الرخى، أو تطلق نسائم الحياة فى هذا الفجر الكابى}.
العناوين
قسمت الكاتبة مجموعتها إلى ثلاث مجموعات. كان لكل مجموعة منها لغة خاصة، وسمة إسلوبية خاصة، وإن لم تفارق الهم العام فى أى منها، بل جاءت تسمية المجموعة، برؤية الكاتبة لهذا الهم العام، مسْتَبطَنة فى مجموعة قصصها. فجاءت المجموعة الأولى منها "تهاويل المحار" فإذا كان المحار هو الحيوان شوكى الجلد، الذى يعيش فى البحار والمحيطات. وإذا كانت "تهاويل" فى معناها المستخدم فى الحياة العادية هى تكبير الشئ أكثر من حقيقته. فقد جاءت قصص هذه المجموعة محاولة استخراج الحقيقة من ركام وضباب ما أشيع وساد خلال فترة من أحلك فترات العصر الحديث فى مصر، فكان الإبداع (الحقيقى) المعبر بالصوت الهادئ، والمنطق الإبداعى.
ثم كانت المجموعة الثانية "طرح البحر" وهو المنطقة المتشكلة من ما يطرحه البحر على الشاطئ، مثل الطمى الذى (كان) يقذفه النيل على جانبيه. وهو ما تشبه به الكاتبة الآثار البعيدة والممتدة لفعل تلك الفترة المشار إليها.
أما المجموعة الثالثة "مرج البحرين" وهو استدعاء للآية الكريمة من سورة الرحمن، حيث حفلت هذه المجموعة بالعديد من صور التناص مع القرآن وغيره. ويكشف هذا التناص "مرج البحرين" أى تكشفت الحقيقة، وانفصل إحدهما عن الآخر، فانفصل العذب عن المالح. غير أن هذه الحقيقة، هى ما عبرت عنه قصص هذه المجموعة، التى استخدمت الكاتبة الشكل فيها للتعبير عن التداخل والتخبط وفقدان الطريق، أو الرؤية.على نحو ما وضحناه سابقا. وإذا أردنا أن ننظر إلى "وشم الشمس" نظرة كلية، فسنجد أن "تحهاويل المحار" استبطنت الحاث، بالبحث فى الأعماق. فكانت رؤية مسببات الحدث، التى تمتد جذورها للعام 1952، وإن لم تُشر الكاتبة إلى التاريخ صراحة. والمجموعة الثانية "طرح البحر" فهو العينى المُشاهد على جانبى البحر، فكانت تناول القصة المركز، ما حدث فى يونيو 67. أما المجموعة الثالثة "مرج البحرين" فهو البحث عن المخبوء، أو البحث عن المجهول، وما لم يعد بمجهول، فكانت نتائج ما حدث.
فإذا كنا قد قرأنا العديد من الروايات التى تنتهج نهج القصة القصيرة، خاصة تلك الروايات التى تنتهج الشكل الدائرى، حيث تكون النهاية هى لحظة البداية، وما أراه جوهر القصة القصيرة، فإننا هاهنا أمام تقنية الرواية، فى شكل القصص القصيرة، فنحن أمام تسلسل روائي يبدأ بالماضى ثم الحاضر ثم المستقبل. وهو ما يشفع للكاتبة المُقِلة. حيث أن إبداعا يظهر بهذا الإِحكام، وهذه الرؤية، يجعل الكاتب لا يتسرع فى التواجد.
ثم إذا انتقلنا إلى القصص الفرعية، حيث تشير عناوين القصص أيضا، إلى دقة فى اختيار الكلمات المعبرة، والناطقة بمضمون القصة، بإعتبارها عتبة رئيسة للدخول إلى عالمها. ففى قصة "موال شوق" ذلك العنوان الذى غزلته عن قصد ورؤية، فلم يكن، مثلا، شوق فقط أو حكاية شوق، وإنما تعمدت أن يكون "موال شوق" لتمنح الموال دوره الرئيس فى القصة. وإذا كان الموطن الرئيس للموال هو القرية، فقد زرعت بطلة قصتها "شوق" فى عمق الأرض السوداء التى أنجبت "شوق" لتصبح (فى الموال)، وكأنها تجعلها على ألسنة الأجيال القادمة، ليعوا تجربتها.
كما يلعب العنوان –أيضا- فى قصة "أشواق شارع عشرة" فلم يكن مثلا ذكريات شارع عشرة، او الناس فى شارع عشرة، إلا أنه بهذه الصيغة يلعب دورا مهما فى إضاءة النص. حيث تحدد "أشواق" تطلعات تلك الطبقة العائشة فى ذاك الحى، فالشوق، يعنى الرغبة أو اللهفة أو التطلع، وهو الرؤية الجوانية التى خبأتها القاصة، وراء تصوير الناس فى هذه القصة.
متعة القراءة، ومتعة المعايشة، وعمق الرؤية، وجمال التعبير عنها، هو ما أضفته إعتدال عثمان على كل قصص مجموعتها الجميلة، فأعادت للإبداع رونقه، ولصدق الرؤية وحرارتها، ما انتقل إلى القارئ، الذى خاطبت وجدانه، رغم أن المنطق والعقل، يقفان فى الخلفية، مؤكدين أن مبدعة تقف على البعد، تنظر وتتأمل، وترفض التعايش مع مجتمع، أفسده، من لعب بالرؤوس، ولم يزل، وكأنها تدعوا لليقظة، أن يا أيها القوم .. أفيقو... فطالما الماضى لم يزل يأبى الرحيل، والمستقبل يرفض أن يولد، فالصمت أو الرحيل... هو البديل. وكأننا أمام عملية "هروب احتجاجى".
شوقى عبد الحميد يحيي
Em:shyehia48@gmail.com