هذا الكتاب استخلصت محتوياته من مجموع دراسات ومحاضرات، يلقي ضوءاً كاشفاً في السجال الذي لا يزال يمثل حتى اليوم عنصراً في تلقي أفكارها وتقييمها، لاسيما وأن أرندت عسيرة على التفسير، نظراً إلى أصالتها كمفكرة، وإلى اغتذائها من المنابع الكلاسيكية الأوروبية غير المألوفة للقراء المعاصرين.

حنة أرندت فيلسوفة تتجول بين أحداث القرن العشرين

كـرم الحـلو

 

"إنها للعنة أن يعيش المرء في أزمنة مثيرة" مثل صيني دأبت الفيلسوفة حنة أرندت على ذكره في السنوات الثماني الأخيرة من حياتها على هامش مناقشة أي أزمة من أزمات العالم. كانت تتطلع إلى تفهم أحداث "هذا القرن الرهيب" بالتزام لا يحتمل أي مساومة، وبشغف ألهم طوال سنوات الفنانين والكتاب والمثقفين وكثراً من الذين قرأوا أعمال تلك المرأة الحادة في فكرها وخصوصيتها.

حنة أرندت (1906-1975) من الصعب قول ما الذي كانته. ففيما شدد بعض المعلقين على السمات السوسيولوجية لعملها، وبعضهم على القيمة الأدبية لكتاباتها، واعتبرها آخرون فيلسوفة. تعترض أرندت على هذه التوصيفات لتؤكد أن المهنة التي تمارسها، هي النظرية السياسية، وأن ثمة توتراً حاداً بين الفلسفة والسياسة، فالفيلسوف يمكن أن يكون موضوعياً حين يفكر بالطبيعة أو بالنوع الإنساني، لكن ليس حين يتعلق الأمر بالسياسات.

لم تكن أرندت بطبيعتها منجذبة إلى العالم السياسي، بل إلى فعل التفهم، فمن شأن التفهم كما تقول، أن يصالحها مع العالم الذي كانت تعيش فيه، وهو الذي يسبغ معنى على أي حدث، وقد أسهمت في خلق مفاهيم جديدة، وبدلت في المقولات النقدية للفكر السياسي التقليدي. فمن هي هذه المرأة التي استحوذت ولا تزال على اهتمام جمهور عريض من الباحثين في القرن الماضي وهذا القرن، والتي تقول إنها صارت كاتبة بـ "المصادفة"، أي مصادفة الأحداث الاستثنائية التي عرفها القرن العشرون؟

طرق متعددة
ولدت أرندت في أحضان عائلة يهودية غير متدينة، ونالت تعليماً سخياً وارثة ثقافة غنية عرفت كيف تجسدها بطرق متعددة. وفي عشرينيات القرن الماضي تتلمذت على مفكرين كبيرين من طلائع الفلسفة الوجودية مارتن هايدغر وكارل ياسبرز، الأمر الذي سيدوم ليصبح علاقة عمر ويحررها في آن من العقلنات المنهجية الموروثة، فاختبرت الدهشة الخالصة أمام الوجود، وانبثق لديها نوع مكثف من التفكير الذاتي.

كتاب حنة أرندت "إضاءات لفهم الواقع" (ترجمة الكاتب إبراهيم العريس، دار الساقي 2021) الذي استخلصت محتوياته من مجموع دراسات ومحاضرات، يلقي ضوءاً كاشفاً في السجال الذي لا يزال يمثل حتى اليوم عنصراً في تلقي أفكارها وتقييمها، لاسيما وأن أرندت عسيرة على التفسير، نظراً إلى أصالتها كمفكرة، وإلى اغتذائها من المنابع الكلاسيكية الأوروبية غير المألوفة للقراء المعاصرين.  مع ذلك إن القيمة العاطفية والشاعرية لكتابتها زادت من سمعتها كمفكرة من أكثر مفكري القرن العشرين إقناعاً، ومن المؤكد أن الكتابات المجموعة في الكتاب سوف تسهم في الوصول إلى حكم شامل على أعمال أرندت ككل، وسيشجع ترتيبها الزمني القراء على أن يرسموا صورة مثالية لرحالة تجولت بين أحداث القرن العشرين فيتمكنون من امتلاك منظور ما لتلك الأحداث.

الأهم بين الكتابات التي يغطيها هذا الكتاب الذي جاء على شكل منتخبات أكثر منه أعمالاً كاملة، سلسلة محاضرات عن كارل ماركس وتقاليد الفكر السياسي الغربي وما إذا كانت تلك التقاليد انتهت إلى الإفلاس، وما الذي قالته أرندت عن الفلسفة كفلسفة، وعن إمكان وجود فلسفة سياسية. فضلاً عن مناقشات حول التوتاليتارية، وإحالات إلى اليهود كضحايا للنازيين، والتاريخ اليهودي الحديث والمسألة اليهودية، واللاسامية والصهيونية والعلاقات العربية اليهودية.

وفي الكتاب آراء ومناقشات في تحرير النساء، وفي الوجودية ممثلة ببعض أكبر رموزها، مثل كيركيغارد وكافكا وسارتر وكامو، إضافة إلى الوجودية الفرنسية، وياسبرز وهيدغر كممثلين بارزين للفلسفة الحديثة.

ترى أرندت في كافكا محللاً رزيناً للبنى الخفية السائدة في زمنه، وكان من علامات عبقريته سبر بنى التاريخ الغربي، فيما كانت لا تزال بعد مخفية بعيداً عن عيون العامة. وإذ تنظر في السجال الذي خاضه كيركيغارد ضد هيغل، ترى أن هذا السجال لم يكن موقفاً نقدياً من هذا الفيلسوف، بقدر ما كان رفضاً للفلسفة بوصفها فلسفة. ففي رأي كيركيغارد لم تلامس الفلسفة الفرد في وجوده الملموس، وقد أنكر هيغل الواقع الملموس والفرد، وفسر التاريخ بوصفه سيرورة تتبع مساراً حتمياً.

المسألة اليهودية

وبصدد الحركة الوجودية ترى أرندت أن مصطلحها تحدر من الفلسفة الألمانية الحديثة التي انبعثت بعد الحرب العالمية الأولى، وتمكَنت من أن تؤثر بقوة في الفكر الفرنسي لأكثر من عقد، وقد تزعَم هذه الحركة جان بول سارتر وألبير كامو على الرغم من الاختلافات الفلسفية البينة في ما بينهما.

في مقاربتها للمسألة اليهودية تؤكد أرندت أن لم يكن لها أي علاقة سياسية بالصهيونية ولا حاول الصهيونيون ضمها إليهم. وأن والدتها أتت من حركة اشتراكية ديمقراطية وكانت غير مؤمنة على الإطلاق، ووالدها مات شاباً، ولم تسمع بكلمة يهودي في صغرها، غير أنها بمعنى من المعاني كانت متأثرة بهم، بخاصة في النقد الذاتي الذي كانوا ينشرونه بين اليهود.

لكن أرندت ترى أن الفاشية، كمؤامرة كونية، تجد أساسها في اللاسامية، وقد نشطت منذ البداية بوصفها أممية وكتابها "بروتوكولات حكماء صهيون". لكن لماذا كانت اللاسامية النواة التي تبلورت الفاشية حولها في طول العالم وعرضه؟ ولماذا لا تزال البروتوكولات تصدّق على الرغم من كونها مزيفة؟ ولماذا كان اليهود هم الشرارة التي مكّنت النازية من الانطلاق؟

في رأي المؤلفة أن التنظيم الذي يضم "حكماء صهيون" المفترضين، إنما كان النموذج الذي اتبعه التنظيم الفاشي، وأن البروتوكولات تحتوي على المبادئ التي تبنتها الفاشية بهدف الاستيلاء على السلطة.

تخصص أرندت حيزاً مهماً من كتابها للتوتاليتارية، ترى أن محاربتها تحتاج إلى معرفة أن التوتاليتارية هي النقض الأكثر راديكالية للحرية، وأن هذا النقض قاسم مشترك بين كل الطغاة. الأمر الذي يحيل إلى التمييز الذي يقيمه كنمط بين أنماط الهيمنة وأنماط الحكم، كما بين الحكومة الجمهورية والاستبدادية. فالجمهورية قائمة على تقاسم السلطات وتخضع لرقابة السلطتين التشريعية والقضائية، في حين أن الديمقراطية المحكومة بقرارات الأكثرية من دون أن تخضع لرقابة القانون هي ديمقراطية استبدادية كحكم الطغيان تماماً.

 

اندبندنت عربية