تقدم الكاتبة التونسية هنا قراءتها التحليلية لرواية «حذاء إسباني» التي ننشر فصلا منها، متتبعة كيفية كتابتها ودلالات بنيتها الروائية من العتبات إلى خطوات الراوي وبناء الأحداث وطبيعة الزمن الروائي الذي يتضافر فيه التاريخي مع الراهن إلى تعدد الشخصيات وتضاد ثنائياتها وتجانسها إلى دراسة المكان وتعدد القضايا فيها.

احتضان للتّاريخ وانفتاح على الرّاهن

قراءة في رواية «حذاء إسباني» للرّوائي محمّد عيسى المؤدّب

هـادية الجـنادي

 

رواية (حذاء إسباني)، نقتحمها بلمحة خاطفة إلى الغلاف، فترتدّ إلينا رؤية عامّة خارجيّة، كاتب وعنوان وصورة، واجهة لتراكمات من الصّور الفوتوغرافيّة تمثّل مجموعة من الضّبّاط في مشاة البحريّة الإسبانيّة بعضهم في المقدّمة يصطفّون أمام سفينة في حين ينتظم الآخرون بشكل هرمي من القاعدة إلى القمّة وكأنّ هذه الهرميّة تعكس الرّغبة في الصّعود والتّجاوز والتّحرّر، لاسيّما في ارتباطها بمفهوم السّفينة ورمزيّة الإبحار، يحتلّ المدفع قلب الصّورة بما يعبّر عنه المدفع من حرب ودمار وقتل.

مدفع وميناء وسفينة وضبّاط وهرم، دلالات ومعاني رمزيّة حافّة مجالها الإيحائي لا يخرج عن كلمات ثلاث، حرب وبحر وحريّة. الصّورة بالأبيض والأسود في بعد تاريخي توثيقي ترهينا للحظة فارقة في حياة هؤلاء الضّبّاط، إذ أوقفت الصّورة الفوتوغرافيّة الزّمن بهم وجمّدت اللّحظة وحنّطت التّاريخ والحدث في حياة هؤلاء المشاة الّذين أقبرتهم الحياة والحرب وأحيتهم الصّورة. بعد قراءة في صورة الغلاف تمتدّ أصابعك إلى الرّواية بحذرٍ فيفاجئك شكر خاصّ للدّكتور السّعدي الدّريدي، الّذي ساعد الكاتب في البحث، والدّكتورة فكتوريا فرنانديز بجامعة فلنسيا. وهو ما يوحي بأنّ الرّواية ليست بنت خيال جانح جامح بل ارتبطت برحلة بحثٍ في تفاصيل الحرب الأهليّة الإسبانيّة والنّبش في التّاريخ.

تتقدّم خطوة مع الصّفحات ليطالعك تصديرٌ للشّاعر الثّائر فيديريكو غارسيا لوركا:

             " ما الإنسان دون حريّة يا ماريانا؟

             قولي لي كيف أستطيع أن أحبّك إذا لم أكن حرّا؟

             كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟"

هذا الشّاعر الإسباني الشّهير واجه الموت إعداما بالرّصاص وهو يلقي أشعاره بصوت صادحٍ ويردّد هذه المقولة، شاعر سليل غرناطة أعدم في سنّ الثّامنة والثّلاثين وهو الكاتب المسرحي والرّسّام والعازف والمؤلّف الموسيقي صاحب مسرحيّة "عرس الدّم".

إنّ غارسيا لوركا ليس فقط كلّ هذا، إنّه أيضا الرّمز والثّورة والعلامة الفارقة في تاريخ الحرب الأهليّة الإسبانيّة، ثورة الجمهوريين ضدّ القوميّين بسبب الصّراع الطّبقي الدّيني والسّياسي بين الفاشيّة والشّيوعيّة.

تتوضّح الملامح أكثر بالتّصدير لندرك دون أن نقرأ، أنّ الرّواية لن تخرج عن مثلّث متقايس الأضلاع، حرب – حبّ – حريّة. ثمّ هكذا وبلا مقدّمات تهجم الرّواية عليك، رواية تبدو ملغزة البناء إيحائيّة العنوان.

1. قراءة في العنوان: «حذاء إسباني»:
يطالعنا العنوان مشحونا بدلالات عدّة، مركّب نعتي يحتلّ فيه الحذاء وظيفة المنعوت النّكرة، حذاءٌ، الحذاءُ إنّما يرمز إلى انفجارات معنويّة كبرى، فهل تراه الحذاء اللاّمع الأنيق ذي الكعب العالي المترفّع على أرصفة العفن وإسفلتِ الطّريق؟ أم تراه الحذاء البائس بؤس الأقدام الّتي تنتعله وبؤس أصحابه الّذين لازمهم الحفي زمانا؟ أم تراه الحذاء في دلالته المباشرة لا غير حذاء للدّوس والمحق والسّحق حذاء بدلالات عدّة مكتنرة في هذا المنعوت النّكرة فإذا بالنّعت يمنح هذا الحذاء المجهول هويّة وانتماء وجنسيّة، وإذا هو إسبانيّ. يستبطن النّعت إيحاءات عديدة أبسطها ارتباط الحذاء بالمنشأ أو بالمصدر مكان الصّنع Made in Spain، وأكثرها إيحاءً إنّما هو انتماء لوطن وٱنتساب لبلد لأمّة لشعب، فلم يعد الحذاء النّكرة في العنوان لقيطا هجينا بلا هويّة، إنّما هو في دلالة ارتباط النّعت بالمنعوت رمز لوطن من الأوطان لكنّه وطن مخصوص فكون الحذاء إسبانيّا يثير في ذات القارئ سيولا من الأسئلة وشلالات من الشّجن. لا سيما إذا كان القارئ عرقيا سليلا ربّما لإسباني ما يسكن في صبغيات الجسد وجيناته الوراثيّة، فإسبانيا بالنّسبة إلى العرب أو بعضهم، لا ندري تبقى الجرح التّاريخي النّازف بعد أكثر من خمسة قرون وهي أيضا الحسرة والقهر على تاريخ "لم نحافظ عليه مثل الرّجال" وهي أيضا الحرب الأهليّة بدوافع عديدة سياسيّة كانت أو عرقيّة أو دينيّة أو اجتماعية.

العنوان إذن في دلالات المنعوت والنّعت منفصلين أبواب من الإيحاء وفي اجتماع المركّب اِنفجارٌ للمعنى والدّلالة ليكون العنوان اِكتنازا للمعاني والرّواية، إنّما هي اِنتشارٌ له، العنوان إيحاء ورمز لأحذية عديدة مبعثرة هنا وهناك على أرصفة الفصول في الرّواية ورمز لخطوات خجلى أحيانا عجلى أحيانا أخرى على طرقات السّرد ودروب الكلمات. خطوات لا تتوقّف بل تتقدّم بإيقاع رتيب بطيء حينا، تهرول أحيانا وتلهث ركضا وجنونا أحيانا أخرى، إنّ العنوان إذن إنّما هو شحنة ملغومة من أحذية تدوس وتسحق فيذكّرنا بأحذية الجنود القتلى في ساحة الحرب، وأحذيتهم الّتي تصبح غنيمة وتسلب من أقدامهم بعد المعركة ولا تستطيع تلك الأقدام الباردة موتا اعتراضا ولا رفضا، ولعلّها أحذية تذكّرنا بمصير آلاف الجزائريّين الّذين ألقت بهم القوات الفرنسيّة في نهر السّين في 17/10/1961، بعد مظاهرات اجتاحت باريس ليموتوا غرقا وتطفو أحذيتهم في خيانة مفجعة لأقدامهم، ليس من شأن الحذاء حينئذ أن يكون طوق نجاة. وبين أناقة الحذاء اللاّمع وبؤس الحذاء المثقل بالطّين والعفن.

تمتدّ الرّواية في بناءٍ لافتٍ على وقع خطوات الفصول.

2. خطوات الفصول:
بلمحة خاطفة سريعة للرّواية نرى بناءً تركيبيّا ثنائيّا لفصول مرقّمة 1-2...7، موقعة كخطوات جذلى على أروقة السّرد توازيها حضور لفصول معنونة مكتنزة الدّلالة تمنح الخطوات هويّة وإيحاءً لتسير الأرقام بمحاذاة الكلمات، وليكون التّاريخ تواريخ وأرقاما وأمكنة وشخصيّات وأحداثٍ وذكريات ومحطّات، وإن تعمّقنا في هذا البناء الثّنائيّ لأرقام تقفز وكلمات تتأنى سردا فإنّنا سنكتشف أن الفصول المرقّمة جميعا إنّما ترتبط بحاضر السّرد ويقود المسيرة السّرديّة فيها الرّاوي "أنور" في حين تغدو العناوين المرقّمة مرتبطة حتما بالماضي، بالذّكريات وتتعدّد فيها أصوات الرّواة. الرّواية في بنائها تنطلق برقم 1 فنكتشف الرّاوي أنور في الحاضر لتنغلق بالرّقم 7 برسالة توجه إلى نفس الشّخصيّة وبين البداية والنّهاية تتتالى الأرقام وتتعاقب الفصول والأزمنة والمحطّات في مسيرة الشّخصيّات.

الرّواية إذن دائريّة البناء تنغلق بذات منطق البداية لتحتضن حكايات وحيوات وأبرزها حياة الضّابط في مشاة البحريّة مانويل ﭭــريــﭭــري، البطل القطب، الّتي ترسم حياته في الرّواية عبر فصول في الحاضر هي أرقام وفصول في الماضي هي كلمات وأتساءل هنا هل غدا حاضرنا مجرّد أرقام تتتالى وفصولا مرقّمة تدور حول نفسها كما رواية مالك حدّاد الأصفار تدور حول ذاتها أو هو مكتنز مشحون مكثف نعجز عن استيعابه حتّى اختصر في كلمات أو تواريخ جامدة لا غير؟

هذا البناء الدّائريّ الثّنائيّ للرّواية إنّما يحيلنا حتما على موقع الرّاوي الرّئيسي في الرّواية، الرّاوي حمّالة السّرد:

 

3. الرّاوي حمّالة السّرد:
تنطلق الرّواية في فصلها الأوّل على لسان "سي أنور"، أستاذ العربيّة الّذي يقود دفّة السّرد راوٍ يبدو عليما قادرا على استكناه الأحداث بــاعتباره لا مجرّد سارد بل شخصية اخترقت جماجم الشّخصيّات وسبرت أغوارها وعرفت دواخلها وأفكارها وهواجسها. لذلك نراه حمّالة سردٍ بــامتياز يحلّل ويروي، يعلّق ويعيش الحدث وكأنّه ذلك الّذي يلبس فردة الحذاء الأخرى وينتعل الكلمات والمعاني سبيلا لرواية الأحداث، لا يمكن بأيّ حال أن يسير السّرد بفردة حذاءٍ واحدة. هذا الرّاوي الرّئيسي أنور يتقهقر أحيانا وراء السّتار ليفسح المجال لأصوات أخرى تسرد وتعيش الحدث أبرزها صوت الشّخصيّة الرّئيسّة في الرّواية مانويل ﭭــريــﭭــري فيتوزّع السّرد عبر رؤية من الخارج أحيانا ورؤية مصاحبة أو عليمة في أغلب الأحيان ولا يخطو الحياد خطوة واحدة في مسار السّرد بــاعتبار العلاقة المتينة بين الرّاوي حمّالة السّرد والبطل مشروعا سرديّا أو قطبا للحدث. الرّواية إذن تتوزّع على مستويات رئيسيّة عدّة للمشروع السّردي الّذي ينمو على ألسنة عديدة وهو ما يؤكّد أنّ الرّواية على لسان أنور طريق سردي يستبطن نتوءات جغرافيّة للبناء السّردي للنّصّ على ألسنة الشّخصيّات وأبرزها مانويل ﭭــريــﭭــري.

هذا البناء السّردي في علاقة بالرّاوي لعلّه يتناغم مع ثنائيّة الحكاية والرّواية ولو بدرجات متفاوتة من الأهميّة والوقع وهو ما يحيلنا على بناء الأحداث ومسار الحذاء.

4. بناء الأحداث ومسار الحذاء:
تقوم الأحداث في الرّواية على حكايتين مترافقتين كما ترافق فردة الحذاء اليمنى شقيقتها اليسرى في خطوات لا تتقدّم إلاّ بفردتين فيكون سرد الحكايتين تتابعا للأحداث بخطوات حذاء السّارد - عيب أن يكون السّارد حافيا - في حين من يمشي في الطّريق ويخطو مع الحدث إنّما هو البطل.

أحداث الرّواية تنطلق في زمن الحاضر، حاضر السّرد تحديدا في الخامس والعشرين من شهر جانفي 2015 ذكرى وفاة مارسيلا زوجة سي أنور؛ لترتدّ الأحداث بالرّاوي سحيقا فيستعيد بعض اللّحظات من مرض الزّوجة وعاداتها ولحظة توقّف خطى النّبض في جسدها لتكون طقوس الذّكرى حاضنة قادحة برسالة إلكترونيّة ترد إلى الرّاوي من الصّحفيّة صوفيا تطلب فيها المساعدة من أنور في إعداد بحث حول الضّباط الجمهوريّين الإسبان الّذين هربوا إلى بنزرت يوم 7 مارس 1937 وتحديدا البحث في مسيرة الضّابط في مشاة البحريّة الإسبانيّة مانويل ﭭــريــﭭــري.

هذه الرّسالة أوقدت شرارة السّرد وأعطت إشارة انطلاق سباق الحكي على مضمار الرّواية - يمكن للحذاء أن يكون رياضيّا أحيانا - شرارة السّرد تلك هيّجت تاريخا يطفو إلى سطح الحاضر وأثارت في الرّاوي هواجس حضاريّة وفكريّة عديدة لتنطلق رحلة البحث في حياة مانويل ﭭــريــﭭــري البطل الّذي يرفض الظّهور في صورة البطل: وهو الّذي يقول: "من قتلهم فرانكو أو انتحروا قهرا هم الأبطال" ص22.

تتتالى الأحداث فنتتبّع مسيرة البطل والسّارد في آن ذلك أن الحكاية في الرّواية حكايتان تتبعثران على ألسنة عدّة فمع اكتشافنا لمسيرة الضّابط نتعرّف إلى سي أنور، أستاذ العربيّة، وقد التحق للتّدريس بالمعهد الّذي عُيّن فيه بمدينة قليبة في سنّ الخامسة والعشرين لينزل مقيما في فندق فلوريدا لصاحبه مانويل ﭭــريــﭭــري، البطل الرّئيسي في الرّواية وذلك سنة 1983 لتنشأ الصّداقة بين الرّجلين وتلتقي خطواتهما على دربٍ واحدٍ أحيانا. الحكاية إذن حكايتان ومسارهما إنّما هو خطّان متوازيان، إلاّ أنّهما كسرا نظريّات الهندسة وخرقا قوانين الرّياضيّات لا ليلتقيا تقاطعا أو تعامدا بل ليوشكا على التّطابق تماما أو الالتحام في مسيرة تداخل فيها الماضي والحاضر وتشابكت الأزمنة.

5. دراسة البناء الزّمني للرّواية:
الزّمن السّردي العامّ في الرّواية لا يتجاوز فترة قصيرة فالمدى الحدثي ينطلق بدقّة في 25 جانفي 2015، وينغلّق ذات 6 مارس من نفس السّنة، فترة زمنيّة لا تتجاوز شهرا ونصف تنطلق الأحداث فيها بحاضر الرّاوي وهو يتلقّى رسالة إلكترونيّة من الصحفيّة صوفيا وتنغلق الأحداث برسالة أخرى من ذات الصّحفيّة تعلن عن خطوات حدثيّة ضائعة في مسار السّرد وبين هاذين التّاريخين والفترة الوجيزة تنهض عصورٌ وتنتفض أزمنة وتغرق سنوات وتطفو أخرى، فالأحداث لا تسير وفق تتابع زمني أو تسلسل حدثي كرونولوجي وإنّما تتكسّر زمنيّة السّرد وتختلط الأزمنة حتّى تتشعّب الأحداث وتتداخل بين الماضي والحاضر، فالذّكريات تسيطر وتتماهى بلحظات من الحاضر وكأن الحروف تمشي في ٱتّجاه يعاكس الزّمن والمعاني تلهث متشظّية بين الرّاهن والتّاريخ والحاضر والماضي وإن بدرجات متفاوتة، يقول الرّاوي ص123: "انهالت عليّ الصّور دفعة واحدة دون ترتيب"، ومنذ ثلاثين عاما وقفت أمام الباب الخلفي للمستشفى"، هذا التّداخل بين حاضر السّرد وماضي الحدث، يوحي بأنّ الحذاء كأنّه بقدمي كسيح أو أعرج يتوه منه الطّريق وتضيع منه الخطوات فيتبعثر عبر الزّمن فلئن اِنطلقت الرّواية بالحاضر وبه اِنغلقت فإنّ السّارد والبطل كلاهما يرتدّان في ومضات كثيرة نحو الماضي بدرجاته المتعدّدة فأنور يعجز عن مقاومة التّيارات البحريّة الجارفة لأمواج الذّكريات ويعود إلى سنّ الخامسة وذكرى اليتم ويرتدّ مانويل إلى سن الثّامنة زمن الأنفلونزا الإسبانيّة وسنّ المراهقة في الرّابعة عشرة من عمره وكلاهما يستعيد محطّات رئيسيّة في حياته لتغدو مقاطع عديدة من الرّواية شلالات من الذّكريات يقدّمها السّارد والبطل للقارئ في شكل جرعات من الماضي وهي تنكسر على صخور الذّاكرة اللاّمنسيّة وقد توقفت بعض الخطوات عند الماضي عاجزة عن إيقاف نزيف الذّكريات الّتي نلمحها في ومضات ارتداديّة نابضة حيّة ملوّنة وإن كانت مرسومة بالأبيض والأسود كصورة الغلاف، صورة لا تزال معلّقة أعلى جدار الفنذق: "تلك الصّورة نادرة وثّقت لحظات مصيريّة في حياتي وفي حياة المئات من الجمهوريين الإسبان"، كما يقول مانويل ص41. هذه الومضات نحو الماضي كانت هامّة في دخول عوالم الشّخصيّات لاسيما أنور ومانويل وعلامة بارزة في مسيرة فردتي الحذاء.

الزّمن في الرّواية إذن أزمنة وعصور ولا يرتبط الأمر فقط بزمنيّة السّرد ونظام الأحداث رجعا أو سبقا إنّما "تطفو مستويات أخرى للزّمن لنلمح الزّمن التّاريخيّ حاضنا لأزمنة نفسيّة وعاطفيّة هامّة في نحت كيانات الشّخصيّات في الرّواية الّتي تتشكّل عبر مسيرة الأحداث والسّرد". فإن كان الزّمن السّرديّ لا يتجاوز شهرا ونصف فإنّ المدى الزّمني التّاريخيّ للأحداث يدور على مدى قرن من الزّمان. بداية من بداية القرن العشرين إلى حدود سنة 2015، مدى زمني سرديّ وجيز، اِختصر مسيرة حافلة لشخصيّة قطب ورمز هي شخصيّة الضّابط مانويل ﭭــريــﭭــري مُحاطة بقافلة من الشّخصيّات.

6. دراسة الشّخصيّات:
تضجّ الرّواية بحشد هائل من الشّخصيّات حتّى لنعجز عن تتبّعها إلاّ أنّها جميعا تسير في ذات الدّرب لتصلنا بالشّخصيّة الرّئيسيّة الضّابط مانويل ﭭــريــﭭــري الّذي نتعرّف إليه في مراحل عدّة من حياته بل من ولادته وطفولته إلى موته، فنلمحه طفلا يرتدّ إلى زمن الصّبا ويستعيد أيّام الأنفلونزا الإسبانيّة أيّام الموت المرعبة سنة 1918 وهو في الثّامنة من عمره ونراه المراهق في سنّ الرّابعة عشرة من عمره وهو الهارب مع صديقيه من الانفجارات والمطاردة، هذه الشّخصيّة ترسم ملامحها عبر الأحداث والسّرد المتردّد بين الماضي والحاضر والأهم في حياة هذا الضّابط هروبه إلى شمال تونس ومسيرته في وطن اللّجوء، هذه الشّخصيّة المركّبة الّتي عاشت محطّات هامّة من حياتها وتداولت عليها مهن كثيرة بدءًا من التّدرّب على صنع الأحذية الجلديّة، يقول: "كان الحذاء أوّل سبيل للنّسيان والتّجاوز ولكنّه كان يسمع في كلّ حذاء يتدرّب على صنعه أنين الماعز المذبوح"، مانويل الضّابط، قد تكون المهنة مؤشّرا على حذاء عسكريّ يدوس فإذا بنا نكتشفه مداسا أيضا من قبل الحرب الأهليّة وضحيّة للصّراعات السّياسيّة والإيديولوجيّة، هذه الشّخصيّة الّتي تكسر المفهوم النّمطي للعسكر لتكون الشّخصيّة الفنّانة والأدبيّة والمتذوّقة للجمال والفنون، مانويل اللاّجئ الّذي يأبى النّسيان والذّوبان رغم التّصالح مع المكان، الرّجل الإسباني العاشق المسكون بفلوريدا الحبيبة، البحّار المنفيّ والمتردّد بين الموانئ والقوارب. يقول: "لكي يكون المرء ضابطا حقيقيّا لا بد أن يفهم عالم البحّارة" ص81.

اِلتحق مانويل بالجيش سنة 1931 وهرب من إسبانيا بسبب الحرب الأهليّة بين سنتي 1936/ 1939، فــاشتغل بصنع الأحذية واِستخراج القنفد البحريّ وأسّس مطعما وفندقا وحياة جديدة بحذاء جديد لكن الحذاء القديم الإسبانيّ بقي عالق الخطوات في الوطن الأمّ، إسبانيا، وعجزت الحروب والمآسي عن مسح خطواته على درب الوطن. يقول: "فالبحر لم يتلف ذاكرتي" ص187، هذه الشّخصيّة كانت حمّالة حياة بمعاناتها وقيمها وصراعاتها بكلّ ما تستبطنه من تمازج ملفت بين الحرب والحبّ والحرّيّة والفنّ والجمال بل بكونها إنسانا.

تُحيط بالبطل حشود من الشّخصيّات بعضها حاضر وبعضها طاغي الحضور بالغياب، بعضها عرضي وبعضها رمزيّ، فلوريدا الحبيبة حاضرة في ٱسم الفندق والذّكريات والقلب وٱسم الفندق ليس إلاّ محاولة للمسك بوهم الحضور إزاء فلوريدا تتراءى لنا إيزابلاّ، الغجريّة الإسبانيّة المومس الطّاهرة في حبّها الحقيقيّ لمانويل وسارة الزّوجة والبحّارة المبعثرون على أرصفة الموانئ والقوارب إنّما هم جميعا مرايا تعكس صورا عدّة للبطل لا بالمعنى الذّهني الرّمزي المجرّد بل بالبعد النّفسي والتّاريخي والفكري والحضاري، صور للبطل نابضة ناضحة، ملوّنة حينا وباهتة مغبرّة أحيانا.

تحضر في الرّواية أيضا شخصيّات رمز ومعنى وقيمة سواء أكانت سياسيّة كبورقيبة "الخطيب البارع" وبعضها فنيّة أدبيّة لنرى هذه الشّخصيّات تحوم في محراب الرّواية كغارسيا لوركا والبار كامو والسّيدة نعمة الفنّانة الّتي يحبّها الرّئيس. هذه الشّخصيّات بعضها مسلم وبعضها مسيحي تونسيّة وإسبانيّة وإيطاليّة وفرنسيّة وغيرها تتعايش جميعا وتجمعها صداقات واِبتسامات ودموع ونتساءل إزاء كلّ ذلك، من أين جاءنا اليوم كلّ هذا الحقد؟

أمّا أنور فكان راويا وشخصيّة، كان وعاءً حمله الكاتب مسؤوليّة ثقيلة ترمز إلى الجمع بين حضارتين وتاريخين فهو يفتح الرّواية وبه تنغلق مع الصحفيّة صوفيا الّتي نتعرّف إليها في البداية باحثة في حياة الضبّاط الإسبان الهاربين إلى تونس لنتفاجأ بها في آخر الرّواية حفيدة فلوريدا وصاحبة أمانة وتركة عاطفيّة للجدّة.

الشخصيّات في الرّواية إذن مشحونة بمشروع حضاري وفكريّ يتمحور حول الإنسان وعلاقته بالمكان لا في بعده القصصي التّأطيري وإنّما في بعده التّاريخي والحضاريّ والرّمزي، هويّة ووجودا واِنتماءً.

7. دراسة الأماكن في الرّواية: طرقات السّرد:
تدور أحداث الرّواية في أغلبها في مدينة قليبية الّتي يقول عنها الكاتب: "هذه المدينة لها رصيد تاريخيّ وحضاريّ مخصوص" ص35. هذه المدينة السّاحليّة في الوطن القبلي المطلّة على البحر المتوسّط قد تكون أقرب نقطة إلى سواحل أوروبا بما في ذلك من دلالات مرتبطة بالإحداثيّات الجغرافيّة، هذه المدينة اِستقرّ فيها البطل مانويل والأستاذ أنور. يقول: "في قليبية شعرت بحالة من السّكينة" ص30، بموازاة هذا المكان تكتظّ أمكنة وتتدافع أزقّة وأنهج ومدن اِحتضنت مسيرة البطل الّذي سكن المدينة لكن مدينة أخرى كانت تسكنه كفالنسيا، المدينة الّتي تحكي بعضا من تاريخ العرب" ص46.

هذه الأماكن والمدن إنّما هي هويّة وكيان ورمز مدن ساحلّة تناوب على موانيها القراصنة وقطّاع الطّرق واللاّجئون والغزاة والفاتحون والعسكر والسّراق وقطّاع الأرزاق والأعناق القدامى والجدد هي مدن "لها نفس أشجارنا ونفس مياهنا وذات هوائنا" مدن شواطئها تراود السّفن والأمواج مدّا وجزرا ولها قدرة دافئة على ٱحتضان المغتربين واللاّجئين ولعق جراحهم حتّى تلتئم ولذلك كان للميناء حضور طاغٍ في الرّواية ليعبّر عن مسيرة البطل كقناة نجاة للهروب من الحرب إلى البحر بحثا عن الحريّة، تتشابه الحروف جناسا وتختلف المعاني قلبا. إنّ هذه الشّخصيّات تفاعلت في الرّواية في أنساق عدّة لعلّ التّناقض الانسجامي كان السّمة الغالبة عليها.

8. الثّنائيّات في الرّواية:
كما تصاحب فردة الحذاء الأخرى وبدونهما لا اعتدال في الخطو، فإنّ الخطوات تتجاور في الرّواية بــﭑعتبارها انبعاثا لجملة من الثّنائيّات الضّديدة بــامتياز، رواية الأضداد في انسجاميّة تناقضها وتسيطر عليها ثنائيّة مركزيّة تشطر البطل والأحداث والزّمان، ثنائيّة الماضي والحاضر، ماضٍ يأبى المرور والنّسيان وحاضر يبحث عن موطئ قدم في الوجود والتّاريخ، إنّها رواية الحرب والبحر، حرب الذّات وحرب الوطن وحرب الإنسان وبحر الحريّة والامتداد، رواية الحسّ الملتهب والرّوح المتعالية قيما الهروب واللّجوء، رواية النّواح والبوح، رواية القلب النّابض عشقا والجسد المنتشي لذّة، رواية التّعصّب الأعمى، رواية التّسامح، رواية العرب والغرب والانتصار والهزيمة، الخيبة النّخوة، رواية الشّراع والمرساة، شراع تدفعه رياح السّرد فيوغل بنا في أغوار الماضي ومرساة ترسو بنا على شواطئ الأحداث والموانئ المفتوحة للسّفن والقوارب، كتلك الّتي هرّبت مانويل يوما، إنّها رواية الذّاكرة والتّاريخ الحاضر في أذهان العرب ورواية الرّاهن الجاثم على الصّدور، رواية ارتبطت بالموت والحياة، حياة أبطال لا يموتون بمسيرتهم ونضالهم في سبيل قيم العدل والحرّية والنّور وموت ارتبط بمقبرة جماعيّة يرقد فيها كلّ من فقد البطل والإنسانيّة ملحودا في كيانه، إنّها رواية الأحذية بدلالاتها، أنيقة كانت أو مغبرّة ساحقة أو مسحوقة، رواية الحنين والأنين، رواية البطل والرّاوي والانتماء إزاء الاغتراب، رواية الذّات، واجهة للآخر والمجموعة والقوم والتّاريخ، رواية الصّوت والصّدى، صوت الرّاوي والبطل في مسيرة حياة وصدى التّاريخ والماضي يرتدّ إلى واجهة الرّاهن، إنّها بــاختصار رواية الحذاء والحفي، حذاء يتقدّم أحيانا على أرضيّة موحلة أو يمشي على حمم بركانيّة ملتهبة أو رمال صحراويّة متحرّكة لا أحد يعلم متى تبتلعه حذاء عربيّ لا يدري بعد أين تقوده الخطوات وإن كان فعلا يمشي أم أنّه كسيح معطوب أو دامي القدمين ولا حذاء. كلّ هذه الثّنائيّات كانت قالبا احتضن جملة من القضايا في الرّواية.

9. القضايا الّتي تطرحها الرّواية:
من الطّبيعيّ أن تسيطر قضيّة الحرب على الرّواية اعتبارا للزّمن التّاريخي العام للأحداث وذلك من خلال مانويل الّذي عانى من حذاء فرانكو. يقول: "الأحذية الغليظة لم تكفّ عن مطاردتي، كانت ضرباتها تصل إليّ مثل طرقات المطارق"، هذه الحرب الأهليّة كانت سببا في الفرار والتّهجير والنّفي وأفرزت صراعات إيديولوجيّة وفكريّة وسياسيّة كانت سببا للحرب ونتيجة لها في آن، صراعات بين الجمهوريين والقوميّين. إلاّ أنّ هذه القضيّة الرّئيسيّة كانت محملا لطرح زخم من القضايا لعلّ أبرزها القضيّة الحضاريّة والصّراع بين العرب والغرب ودور الحرب في تجميع البشر أو تشتيتهم وتفرقتهم، فالرّواية لمست مشغلا مؤرقا وهو قيمة التّسامح بين الأجناس والأديان من خلال هذه الحشود من الشّخصيّات المتباينة انتماءً وعرقا ولغة ودينا، فقليبية فيها "أناس من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا" يعيشون في سلام.

مدينة يعلو فيها صوت المآذن تناغما مع أجراس الكنائس، تشمخ هنا كاتدرائيّة وتعلو صومعة في تجاور وألفة. يقول الكاتب عن مانويل: "صحيح أنّه مسيحي لكنّنا نعـتبره ابن بلد"، وأمّا الرّب فهو في قلوبنا جميعا، والمقبرة المسيحيّة تجاور المقبرة اليهوديّة في بلد مسلم ليتجاور الموت دون تمييز بين الأعراق فنحن كما يقول: "شعب مسالم ولم نتعوّد على العنف" وكأنّ الكاتب محمد عيسى المؤدّب كان وفيّا لاسم يحمله فجاور بين محمّد والإسلام وعيسى والمسيحيّة، معا لتأديب الإنسان ودفعه نحو التّسامح وجعل الهويّة مجالا للاختلاف والإثراء والتّنوّع لا للرّفض والإقصاء والسّحق.

إلى جانب هذه القضايا التّاريخيّة والحضاريّة أصرّ الكاتب على طرح مشاغل المجتمع العربي عموما والتّونسيّ خصوصا بعد الثّورة فسرّب بطريقة فنيّة سلسة جملة من الأبعاد النّقديّة لمظاهر موبوءة نخرت تونس، كقضية الهجرة غير الشّرعيّة ومشكلة النّظام السّياسيّ والوضع الاقتصاديّ. يقول: "الوضع الاقتصادي حرج جدّا والسّياحة في أزمة" ومن خلال الحرب الأهليّة وفرانكو عمد الكاتب إلى الإشارة إلى أكثر من نسخة غير أصليّة لفرانكوات آخرين معاصرين يحكموننا ويتكاثرون كالفقّاع ويصرّون على وأد أحلامنا وبتر أرجلنا ولا يكتفون بنزع أحذيتنا، بل يصرّون على إقحامنا في الوحل وتلويثنا بطين صفاقتهم. إنّهم يصرّون على جعلنا حفاة عراةً ولا نظام. وعندما تتساءل الصّحفيّة صوفيا عن إهمال الدّولة للقبور يجيبها أنور قائلا: "إنّ النّظام غير قادر على تنظيف شوارع الأحياء ولا هو قادر على إسعادهم فكيف يفكّر بالموتى؟" ليصرخ مضيفا: "كلّنا موتى، النّظام وحده لا يموت إنّه بسبع أرواحٍ" ص63.

كما تعالج الرّواية قضيّة الحريّة وهاجس الانعتاق الّذي يسكن الإنسان ضدّ أنظمة القمع والاستبداد والمحق، هذا الإنسان الّذي يعيش الاغتراب وتوأد حريّته في وطنه ليجبر على اختيار المنفى والإنبتات في أوطان قصيّة، يقول مانويل: "وكأنّ قدرنا نحن البائسين أن نهرب من أوطاننا لنحيا، فأيّ قيمة لحياتنا إن لم نكن أحرارا، أيّ فائدة نجنيها إن كنّا عبيدا للقتلة، وإن كنّا لا نصلح إلا حطبا لأنظمة الخراب والموت؟"ص192.

الرّواية لا تعالج القضايا التّاريخيّة والرّاهنة فحسب بل تمتدّ حتّى إلى قضيّة الكرامة والذّلّ العربي فنراه يشير إلى قضيّة فلسطين والصّراع البورقيبي اليوسفي بل إنّها ترتدّ إلى القرن الخامس عشر وطرد العرب من إسبانيا الأندلس وتصوّر الحنين ولو على لسان اللّغة، يقول: "كلمة صباط أندلسيّة، فلا تزال الأندلس على لساننا وفي أحيائنا وموسيقانا". صبّاط، هو الحذاء جامعا بين العرب والإسبان في خطوات متقاطعة في التّاريخ، ولم يكن ممكنا للرّواية وللكاتب أن يمرّ دون أن يطرح قضايا حارقة معاصرة لتونس ما بعد الثّورة كقضيّة الإرهاب الّذي نلمحه في إشارات جليّة رشيقة، يقول: "بدت لي وجوههم غريبة بلحى طويلة وعيون حاقدة، هشموا قوارير النّبيذ وكانوا يصرخون، الله أكبر، الموت للكفّار" ص217، بل إن الكاتب يشير إلى منفى الشّعانبي ومعسكرات التّجنيد زمن الحرب، معسكرات خرجت من التّاريخ إلى الحاضر وأصبحت مضمارا جبليّا لممارسة الرّياضة والتّخلّص من الكولستيرول لإخواننا البررة الأجلاء الّذين يبدو أنّنا لن نجد معهم مكانا في الجنّة!!

هذه القضايا المتعدّدة المسرّبة إلى الرّواية بشكل إنسيابي جميل تؤكّد أنّ الكاتب محمّد عيسى المؤدّب أبى إلاّ أن يكون قلما ملتزما بقضايا الحاضر والتّاريخ يبقى قالبا حاضنا لمآسينا ومصائبنا، لذلك كان الرّبط عميقا بين الرّاهن والماضي بالخوض في مشاغل العرب، يقول أنور: "المصالحة عند الشّعوب المتحضّرة لا تتمّ إلاّ عبر الحفر في التّاريخ المنسيّ ومعرفة ما وقع بدقة، أما نحن العرب فإنّنا نهدر الدّماء وبعد ذلك نتقزّز من النّظر إليها نحن نخشى النّبش في تاريخنا الدّامي حاضرنا حيرة ومستقبلنا مبني على الهواء ولذلك نحن لا نتقدّم بل نسير في خطّ دائريّ" ص21. الرّواية إذن حكاية تاريخيّة لحرب أهليّة إسبانيّة لفظت الضّابط على موانئ تونس، وشطّ بنزرت، إلاّ أنّها أدب تلفّظ إبداعا بقضايا حارقة أرّقت الكاتب وأرّقت الإنسان عموما، وما الأدب إلاّ سبيلنا للتّعبير عن مشاغلنا في زمن الدّهشة والاستغباء السّافر وما الفنون والإبداع إلاّ درعنا السّريّ الأخير في مواجهة بشاعة الواقع.

10. إيقاع الفنون في الرّواية:
ليست الرّواية أدبا وسردا فحسب إنّما هي مزيج متناغم من الفنون الّتي تقتحمها اقتحاما فنون تسجّل حضورا جليّا كما لو كانت لوحة فنّية نابضة، فمن خلال شخصيّة مانويل الضّابط نلج حرم الفنون لنرى البطل لا في صورة العسكريّ أو صانع الأحذية أو الغطاس الباحث عن قنفد البحر أو صاحب المطعم فحسب، إنّما يتراءى لنا فنّانا ليجمع في آنٍ بين طرفي معادلة عصيّة على التّوازن فهو كما يقول عنه الكاتب: "شاعر ضلّ طريقه"، وهو الّذي تلتقي في شخصيّته كلّ أشكال الولع بالموسيقى والغناء لتكون الرّواية سنفونيّة عزف وإيقاع تحيط به من كلّ صوب فنراه يستمتع بصوت خوليو إﭭـليزياس وأغنية Nostalgie، حنين، تماما كما يهتزّ نشوة وألما على نغمات الفلامينـﭭو الإسباني أو يترنّح مع موسيقى المالوف أو الرّقص الغجري، نراه يذوب مع جسد إيزابلا ويحب الجمال والموسيقى والرّسم من خلال اللّوحات المعلّقة هنا وهناك، يقول، على لسان مرسلا: "الموسيقى تشعر كلّ من يستمع إليها بالسّكينة وكأنّها تُعِيدُ الرّوح" وإضافة إلى كونه فنّانا، نراه أديبا وشاعرا وقارئا مهتمّا تستهويه مسرحيّة عرس الدّم ويتفاعل مع أشعار ﭭــارسيا لوركا وينشدّ إلى كتاب الأمير الصّغير ويقرأ ورواية الغريب لألبير كامو، مانويل الّذي "كان يقرأ بــاستمرار " كما تقول سارة ص114 ومكتبه "كان مزدحما بالكتب".

إنّها صورة غير نمطيّة للعسكر ليكون الضّابط مانويل من خلال الفنون إنسانًا بكلّ أبعاده. إنسان اختار الهرب اغترابا فكان الفنّ طوق نجاة وهو القائل: "حين يسكننا الغياب يصبح الفنّ ملاذنا لاستحضار الغائب وطي المسافة" ص193. الرّواية إذن أدب وفنّ في رحم التّاريخ تعبيرا عن الحاضر والإنسان في مسيرة ثلاثيّة الأبعاد تحيط بالبطل كمثلّث برمودا بحر وحرب وحريّة. بحر الحياة والتّاريخ والحبّ وحرب الإنسان والوجود، حرب من أجل الحريّة حلما منشودا للإنسان منذ التّاريخ إلى الرّاهن وصولا إلى الأبد، وكأنّ هذه الكلمات بــاحتوائها لحرف الحاء الحلقي حرقة وحسرة وحنينا وحبّا وبحرا وحريّة تسحبنا نحو أعماق البحر لنخوض حروب الحريّة الحمراء دوما سواءً أكنّا ننتعل حذاء أو حتّى حفيانا في الحياة.

على سبيل الخاتمة: آخر الخطوات:
كقارئة تقتحمني الكتابة اقتحاما وتخترق الكلمات مسامات صوتي وجلدي، كانت الرّواية مستفزّة لبعض من ذاتي إذ صادفت فيها بعضا من خطواتي فرأيت نفسي من خلال أنور وأنا أستاذة العربيّة مثله وهو يعترف "أنا في حاجة إلى قهوة لأزيح عن رأسي إرهاق يوم من التّدريس فهذه المهنة الشّاقة تزداد شقاءً كلّما تقدّم بنا العمر"، وجدت بعضا آخر منّي وأنا أركض حافية القدمين حقّا في طفولة غابرة بين أزقّة حيّ الأندلس "حمدلس" بعراقة الاسم وحنين الفقد، بعد طرد العرب من إسبانيا ومحاولتهم تعويض المكان عبر التّسمية وجدت نزرا مني وجزءا من ذاتي الرّافضة لوضع سياسيّ واجتماعي مزعج، وضع مكفهرّ يلجمني بقدر ما يثير فيّ الحنق والقهر من خلال شذرات نقديّة يتلفّظ بها البطل وكأنّ الكاتب يسرّب صوته إلى حنجرة أبطاله عمدا فإذا به لسان حالي. رأيت نفسي التّونسيّة العربية وأنا أتابع رحلات الإسبان وهروبهم إلى شمال تونس زمن الحرب الأهليّة فأستعيد في نفسي هروبا معكوسا من وطن على فوّهة بركان يلقي أبناؤه بأنفسهم في البحر للوصول إلى سواحل أوروبا، رأيت نفسي أندلسيّة عريقة وأنا أطرد من إسبانيا الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر وأغادر غرناطة وقصورها وحدائقها حسيرة مدحورة وأتساءل بعد كلّ تلك القرون، ترى أنحن من كنّا حقا نعلّم العالم التّاريخ أولسنا نعيد ذات الانكسارات والخيبات بذات الحمق والبلاهة؟ ونبكي أوطانا وملكا مضاعا لم نحافظ عليه مثل الرّجال؟ الرّواية قالت كلّ ما كنت أرغب في قوله صراخا لا همسا ونزعت عن قلبي أهرامات من الأشواك والأسلاك الشّائكة.

إنّها رواية استثنائيّة، اِحتضنت التّاريخ وانفتحت على الرّاهن وكانت صرخة تدعو إلى بناء علاقات جديدة بين الأنا والآخر ودعوة إلى إعادة النّظر في دهاليز الأعماق والكهوف المنسيّة، فالتّاريخ العربيّ هزائم ومجازر وانهزامات تتتالى ولا عبرة ولا درس لذلك. كانت الرّواية صرخة حذاء ضدّ الوحل، فلم نر فيها تاريخا جافا جامدا محنّطا كما مكوّنات المتاحف، إنّما صورة لتاريخ خطّ بطريقة إبداعيّة أدبيّة حتّى أكاد أقول إنّه قارب ما أسميته شعرية التّاريخ أو أدبيّة الواقع الغابر. الرّواية فعلا تعيد ترميم علاقتنا بالدّين والجسد والذّات والآخر وإن كانت تنطلق بمتحف صغير يجمع أشلاء أشياء وتركة لأصحابها فعلينا كعرب أن نتعلّم أنّ تركة التّاريخ عبرة تفيدنا أكثر من جثث أصحابها وتوابيتهم.

لقد كان مانويل، الضّابط في الرّواية، "الحذاء الإسباني الّذي هزم حذاء فرانكو" حقّا كما يقول الكاتب، لكنّه أيضا كان رمزا للحلم الّذي يبقى مشروعا، فلا يمكنني أن أمنع نفسي من التّساؤل، ماذا لو فقدت الأدب والكتابة وماذا لو غادرني القلم الّذي يحتلّ شرياني الأبهر ما تراها تكون درعي السّرّية ؟؟ في المقاومة والحلم في زمن تكاثرت فيه آلاف النّسخ من فرانكوات مشوّهة ؟ يحاولون دوسنا بأحذيتهم في زمن كورونا، تعيدنا إلى الإنفلونزا الإسبانيّة.

لكن إن كان هؤلاء يصرّون على نزع أحذيتنا فينبغي أن يدركوا أنّ الأقدام الحافية قد تكون أكثر قدرة على الصّمود والتّقدّم.

فلتبق الكتب، كما يقول البطل مانويل ﭭــريــﭭــري: "جنّة الله على الأرض".

 

المصدر: رواية حذاء إسباني / محمد عيسى المؤدب– مسكيلياني ومسعى للنّشر والتّوزيع 2020 .