هنا مخطوط يتأهب كي يصبح ديوانا للشاعر والمسرحي المغربي عبداللطيف الصافي، نصوص قريبة من دفتر المخرج المسرحي حين يخط شذرات أولية لتصور لا يتحقق على فضاء الركح، بل في فضاء البياض، صوت واحد وشخصية وحيدة، نصوص تسترسل في الوجد والغياب والتمسك بالقيم وبالوطن، وإصرار على جعل لغة البوح لغة إضاءة الحياة.

برولوغ للوجع (ديوان العدد)

عبد اللطيف الصافي

 

الى وعد.. صغيرتي، كوة الأمل المتفردة

1.

تفكر في حافز

يفجر نهرا دافئا

في لغة قلبك المسكون بالوجع

والإنتظار

يبدد هذا الضباب المتراكم

فوق خد فراشة من نار

ترفرف في قصائدك المحشوة بالغموض؟

كيف يكون هذا الحافز صهيلا

او نشيدا جميلا

وأنت

لا تكف عن توضيب حقائب الخيبات

في جوف الريح

تطاردك حلمتان تسبحان في قصائدك

كماستين نادرتين

وتهرب من عينين

تفوح منهما رائحة البنفسج

تغازلان الليلك في العتمة

تصرخان في صمت

تفضحان جبنكَ اللعين

تسألانك من بعيد

أي حلم تريد؟

و لا تكفان عن حشو أقدارك

بالدعاء الصالح

و بالكلام المقدس

المنذر بالضياع الأبدي

و أنت

لا تزال تفكر في حافز

يتلاشى كالسراب

بين ظلال حظك

السيء..

 

2.

قَلبي

قمرٌ غائمٌ

و سَمائي دَاكنةٌ كمِرآةٍ مجْروحةٍ

تنزفُ ثلجاً

برائحةِ البنفْسجِ

وأنتِ

امرأةٌ مُعلقةٌ

وسطَ هذا الضَّباب الغَريب

تُردِّدين أنشودةً قديمةً

لَيْلي ليلَكٌ

وليلُكِ نيزَكٌ

فمنْ منَّا يضيءُ الطريقَ

إلى فتِيتِ حلمٍ مبعثرٍ في الغَبَش..

يلُمُّ أشتاتَ أُغنِياتهِ؟

الحُبُّ رِسالَتي

و قِبْلتي

وإمَامي

ذِكرياتي حُطامٌ يحاصِرُني

في الزَّمانِ والْمَكانِ

و خَلْفي و أمَامي

أقْتاتُ منْه ما يُبْقيني

واقفاً كالأشجارِ ذواتُ الأفْنانِ

و أنتِ

سامقةٌ كغصنِ البانِ

سمفونيةٌ

تنسابُ عذْبةً بينَ أصابعِ الزَّمانِ

تُسامرينَ النُّجومَ في ليلةٍ زرقاءِ

قلْبي

سحابٌ ماطرٌ

وأرضي مَرْعى لغَزالةٍ

تقْضم عُشْب قمَرٍ

يمطِرُ ضوْءُه في عُيونِ الْفَجر

فَترْتَوي منْه أسرابُ الْحَنينِ

وأنتِ

غيثٌ فِي أرْضِ السَّوادِ

نداءٌ صُوفيٌ يَطْلَعُ منْ جوْفِ الْغَيبِ

تتَوَسَّدينَ كفوفَ ظِلِّي

و تَبْتسِمينَ في خَجل

قَلْبي

قَمرٌ أخضَر

وسَمائي حَدَائِقُ فَرحٍ و أمَل.

 

إلى أين تقودكَ جيادكَ المجنحة
أيها المسافر

في الحب العظيم؟

يدكَ في يد الفجر

تخترق مواكب من الظلال الخضراء

عيناكُما تتعانقان

كمِزهرية أمام مرآةٍ من العشب اليابس

والنجومُ تطفو فوق سطح قلبكَ

تُعمِّده بالضوء المنفلت

من حَلَماتها

ها أنتَ

أيها المسافر في جنائن الحب

تَخيطُ قوس قزح

بدم الريح النازف

و ترشقُ حلمكَ الموشومَ في الذاكرة

كشروقِ الشمس

بِرذاد المطر العاصفِ

تُرى..

كيف مزقتَ أوتار الصمت في أوردتكَ الحائرة

وجنحتَ للبوح

للجنون؟

هل هو القدَر الذي يقود جيادكَ المُجنَّحة

في السماء الزرقاء

ملتفًّا في ضوء الشروقِ

وصدركَ يتلألأ فيه الغيم

و صدى البروقِ؟

ها أنتَ

تَسقي جوارحكَ المتيَّمة بدمع الحجر

وعيناكَ على فراشة بنفسجية

تحاورُ ورداً أبيضاً

يمدُّ جذوره

في جوْف صخرةٍ من محارٍ أخضر.

فإلى أين تقودكَ جيادكَ

أيها المسافر في نسْغ الحياة

مبتلاًّ بندى الأمنيات..

 

أما تعبتَ من هذا السفر؟

إلى روحين عزيزتين : دماحة العبدي و فاطمة العزيزة قادري.. ألف رحمة عليهما وسلام.

حزين هذا المساء

مثقل برائحة الموت

والتشظي

الضباب الشاحب يلف الأشجار

والأرصفة المهجورة

تنوح

بينما صدى الذكريات

ينبض بترانيم عشق مجروح

ها دماحة العبدي

المرأة الطيبة

الأنيقة

تغوص في الصمت الأبدي

تترك لنا إبتسامة معلقة على جبين الفجر

ذاك عزاؤنا الوحيد

نحن الذين لم نبرأ بعد من فجيعة الفقد

نسمع خطىً تزهر في الضفاف البعيدة

زغرودة من نور

ياااااااه

فاطمة العزيزة قادري

يا تفاحة من برق

لن تعاني بعد اليوم من الوحدة

والبرد

أعدي ما استطعت من أناشيد الفرح

و مواويل " التسنكيف"

وكل ما تجمع لديك من حكايات الليل

وأسرار النهار

تعرفين هذه الضحكة التي تنشر الفرح

تقترب منك

إنها "دماحة العبدي " ترفل في الأضواء

أما نحن هنا

مصابيح أزقتنا القديمة

يلفها الظلام

و أحلامنا عقيمة

وغدنا حطام.

 

5.

(إلى موراد.. صاحبي)

أتعرفُ فيمَ أفكرُ أيها الصاحب

القريبُ

الوهيبُ

أفكرُ

في أنْ أقضمَ شظيَّةً من أحْلامي

وأوزِّعها على المَنْبوذينَ

في ممالكِ الجنونِ

وأنْ أسحبَ جَسدي المُتَهالكَ

من أرائِكِ الحزْنِ الدَّفينِ

وأجوبَ حقولَ المعْنَى

مُتحرراً منْ صقيعِ القَوافي

أفكرُ

في أنْ أُغرِقَ في يمِّ المَجازِ

كلَّ العُيونِ التِي ازْدانتْ بها مَوائِدي

فاكْتحلتْ بالسُّهادِ

وأَنْحثَ منْ خُدودِ الغَانياتِ

غمَّازاتٍ تليقُ بقَصَائدي

أفكرُ يا صَاحبي

في أنْ أمنحَ قَلْبي حرِّيةَ التَّحليقِ

معَ الفَراشاتِ المَنْذورةِ للحبِّ

و أنْ أمْلأَ حَقَائبي المَرْكونةَ في ذاكِرَتي

بِما تيسَّرَ لي منْ خيالٍ

أحْزمُها

وأبْعثُها معَ أولِ قطارٍ يمرُّ في حُلْمي

مُتَوجهاً إلى أيِّ مكانٍ.

 

6.

أفكرُ

في أنْ أكْتبَ رِسالةً

إلى نجْمةٍ تضيءُ أقَاصي الرُّوحِ

أطلبُ منْها ،

بكثيرٍ منَ الأدَبِ،

أنْ تكفَّ عنِّي لِسانَها الرَّطْبَ

و تَكُفَّ عنْ مُغَازلتي منْ بعِيدٍ،

وأُخْبرها أنَّ قُبلاتها تَصلُني جَافَّةً

و لنْ تُنْقذني منْ وجَعِ الْحَنينِ.

أفكرُ

في أنْ أُصبحَ راعِياً للْوُرودِ،

بعْدَ أنْ أتَقاعدَ طبْعاً ،

و أجْمعَ الرَّحيقَ في عُلبٍ منْ معْدنٍ أصيلٍ

أجوبُ بها مَنافي العشقِ البَعيدة.

وأنْ أُطعمَ أسْماكَ مَدينتي

تغاريدَ الطيورِ المهاجرةِ في دَمي

يا صاحِبي المُفَضلُ

أيها الجميل المُبَجلُ

هلْ حقاً لا تعرفُ فيمَ أفكرُ؟

أفكرُ

في أنْ أحرِقَ كلَّ شَواهِدي

ورسَائِلي

و مَواعِدي

وكُتُبي وعَقائِدي

وكلَّ حُروفِ النُّدْبةِ

وآخرَ سُلّمٍ صعَدْتهُ إلَى هاوِيَّتي

فَيغْدو دُخَانها الكَثيفُ سحابةً ،

أسْتمطرُها حباتِ نَدى

تمسحُ الصُّدودَ عنْ شرفاتٍ هدَّها الإنتظارُ.

أفكر ُ

في هذا الهامشِ الذي توغَّلْتَ فيهِ بجرأةِ ناقدٍ

اخْتبَرَتْهُ دروبُ الوعْيِ الشقيِّ

وهامَ في تحْليلِ الخِطابِ

وتبْديدِ الأوْهامِ.

ما أضيَقَ الهوامِشَ!

حينما أفكرُ فيكَ يا صاحِبي

وأنتَ تنْبشُ في الحفْرياتِ

والْمُنمْنماتِ

الْمَحْظياتِ

شبيهَاتُ الرِّجالِ

كأَني بكَ تحفرُ بئراً في الرِّمالِ

 

7.

أرَى نَبْضاً

يتَكسَّرُ فوْقَ خَدِّ غَيْمةٍ

تُعَاقرُ عَيْنَ مَاءٍ

عنْدَ أوَّلِ غُروبٍ

أرَى شَرارةَ بُرُوقٍ

تَلْمعُ مِثْل زُمُرُّدةٍ

عَلَى تُوَيْج وَرْدةٍ

أرَى أُغْنيةً غَجَريةً

تتَدفَّقُ مِثْل حبَّاتِ اللُّؤْلؤِ

مِنْ شَفَتيْنِ ذابِلتَيْنِ

أرَى برْداً طافِحاً باللَّذَةِ

يتلَوَّى في جَسَدي

مِثْل أفْعَى مَجْروحَةٍ

أرَاكِ يا حَبِيبَتي

في حُلْمِي الْمُلْتهِبِ

كَفَراشَةٍ منْ نُورٍ

تَطُفو علَى وَجهِ الْقَمرِ

فامْنَحِيني شَالكِ الْأزْرقَ الدَّافِئَ

ألفُّهُ بِرِفْقٍ حَوْل خَاصِرتي

وَما تَبقَّى منْهُ

أحْمِلهُ عَلى كاهِلِي

كفَناً للرِّيحِ.

 

8.

شارعٌ أسْودُ

أسْودُ

يضيقُ

يلوذُ بالصَّمتِ الْوَقورِ

يلْتهمُ أحْلامَنا الْمُحْتشدةَ

أمامَ مَرايا مكسوَّةٍ بعُيونٍ يابِسةٍ

ينْعكسُ عليْها حزْنُ الْمَلائكةِ

شارعٌ أسْودُ

أسْودُ

يُبَعثرُ كلَّ الْقَصائدِ

الَّتِي تشِعُّ بالبرْقِ الأخْضرِ

يكْنسُ النَّدى الأبْيضَ عنْ وجْههِ

بَيْنما كِلابُ اللَّيلِ

توزِّعُ نُبَاحها الْمَسعورَ

جُمْلةً وَ أقْساطاً

عَلى أرْصفةٍ مكْتظَّةٍ بأقْدامٍ عَاريةٍ

يَسيلُ منْها صَدى رَكضٍ

يُسابقُ الرِّيحَ

شارعٌ أسْودُ

يَضيقُ ويَتَّسعُ

يتَّسعُ وَيَضيقُ

كلُّ الخُطى فِيهِ مُعْتقلَة

كلُّ قَوافِيهِ مُفْتعلَة

وَحْدها ذاكِرةُ فبْرايرَ الْمجيدَة

ما تَزالُ مُشْتعلَة

تفْتحُ بابَها للسَّماءِ

للْحبِّ

لزغْرودةٍ تُعيدُ للْعَصافير أعْشَاشها

وللْموْجِ صَوْتهُ الْمسْلوبَ

 

 

9.

تَعْلَمينْ

يَا امْرأةَ النُّورِ

أنَّكِ عِنْدَما لَا تَأْتينْ

فِي نَشِيدي

وَ فِي يَديْكِ تَلْمَعُ مَنَاديلُ الدَّهْشةِ

سَأنْتَظِركِ

قَابِضاً عَلَى جَمرَةِ الْحَنينْ

و تَعْلَمينْ

يَا امْرَأةَ النُّورِ

أنَّكِ عِنْدَما لَا تَجْلِسينْ

فِي قَصِيدي

عَارِيةً مِثْل الْقَمرِ

مَحْفوفةً بالَّلذَّةِ الْمُشْتَهاةِ

تَتَزاحَمُ فِي رَأْسِي أَصْواتٌ

تَلْهجُ بِاسْمكِ الْعَذْبِ

وتَعْلَمينْ

يَا امْرأَةَ النُّورِ

أنَّكِ عِنْدَما لَا تُقْبِلِينْ

مُضِيئةً مِثْل نَجْمةٍ مُوَشَّاةٍ

بالْأرَقِ

تُطِلُّ عَلى ضِفَافِ نَهْديْكِ

الْمُضَرَّجيْنِ بِدَمْعِ الشَّفَقْ

أَغُوصُ عَمِيقاً فِي تَأَمُّلاتي

وأَغْرَقْ

آهٍ يَا امْرَأةَ النُّورِ

تَعْلَمينْ

عِلْمَ الْيَقينْ

كَمْ هُوَ رَائعٌ هَذا الْحُبُّ

الَّذِي يتْعِبُ قَلْبَيْنِ منْ ذهَبٍ

يُظَلِّلهُمَا بِجَناحَيْنِ منْ حَرِيرِ

فَانْتَظِرينِي صَاحِيَّةً عَلَى سَريرِ الْفَرحِ

حَيْثُ يَسْتحِمُّ الْوَردُ

وَتَطْفُو جَدَائِلُ الشَّمْسِ

 

10.

في القَلْب حِكَايةٌ

لا تُرْوَى للَّذِينَ نضَبَتْ أشْوَاقُهمْ

تحْتَ خيْمَةِ الْخِذْلانِ،

للَّذِينَ علَّقُوا كلَّ آمَالِهمْ عَلى جفْنِ غَيْمةٍ

مَشْحونةٍ بالهَذَيانِ،

لِلَّذِينَ نَامُوا عَلى ضَجيجِ الْوَهمِ

واسْتَيقَظوا مُتَأخِّرينَ وَعيُونهُمْ مُتْخمةٌ بِدَمعِ الأَنْبِياءِ،

لِلَّذِينَ رَاوَدُوا الشَّمْسَ عَنْ دِفْئِها

خِلْسةً

وَنَسَجوا منْ خُيوطِ دَمِها مِحْراباً لِلفُقَراءِ ،

لِلَّذِينَ يَطْلُبونَ دَوْماً وجْهَ الله

دُونَ وجْهِ حقٍّ

ويَنْثُرونَ أمَامَ عَتَباتهِ نُذُوراً للدَّهْمَاءِ،

لِلَّذِينَ أَثْقلَتِ الْفَجائعُ كَوَاهِلهمْ

فَلَمْ يَدُقُّوا بَابَ الْخَزَّانِ،

في قَلْبِي حِكَايةٌ

لَا تُرْوَى لِمَنْ لَمْ تَلْمعْ في أَحْداقِهمْ لَوْعةُ ناي

وصَبابةُ راعٍ

وَأُغْنيَّةُ شُحْرورٍ،

وَدَمْعةُ نَاعٍ

لِمَنْ لَمْ تَرْتَوِ حُقُولُهمْ بِنَدَى الْأُمنِيَّاتِ

ودِفْءِ الْقُبلْ،

لِمَنْ لَمْ يُوَاجِهوا صَهِيلَ الَّليْلِ

بِصُدورٍ أَيْنعَتْ فِيهَا سَنَابلُ الْأَملْ.

فِي قَلْبي حِكَايةٌ

بالْوُرودِ

تَوَّردتْ شِفَاهُها

واصْطَبَغتْ بِالخَجلْ

لَا تُرْوَى إِلَّا لَكِ أنْتِ وَحْدكِ

يا حَبِيبَتي

 

11.

عِنْدما أُفكِّرُ فيكِ

يَا أَنتِ

أَيَّتها الحَارِسةُ حُدودَ وَجَعي

أَسْمعُ خَشْخشةً غَرِيبةً تحْتَ أَظَافِري

يُسَاوِرُني الْقَلقُ

وتَنْتابُني الوَساوِسُ

و الْحُمى و الْأرَقُ

أُمَدِّدُ أَصَابِعي عَلى مشْيَمَةِ رُوحِي

أَعْصرُها بِقُوَّةٍ

فِإِذا بُرُوقٌ تَنْهمرُ مِنْها

تَلْمعُ في أَحْدَاقي صافِيَّةً

يَرَتجُّ صَدْري بِمُوسِيقى عَذْبةٍ

تَتَقَاطرُ زَفَراتٍ لَامِعةٍ مِثْل قُرْص الشَّمْسِ

مُعَطَّرةٍ بِرائِحَةِ اللَّيْمونِ

تُحلِّقُ فوْقَ رَأْسي الْمُعفَّرِ بالْبَياضِ

مِثْل أَيْقونةٍ جَامِحةٍ

أوْ سَمْفونيَّةٍ صَادِحةٍ

قبْلَ أنْ تشُقَّ طَرِيقَها

إِلى قَلْبي الْمُثخنِ بالْخَيْباتِ

و بالإنْتِظاراتِ الرَّتِيبةِ

تُعِيدُ تَشْكيلَ مَفازاتِ الدَّهْشةِ

بيْنَ ضُلُوعي

وحَديقَةَ ورُودٍ لِوعُودِنا الْحالِمَة

وتَدْعوني لِسَفرٍ طَويلٍ

يَقُودُنا منْ نَبْضةٍ لِنَبْضةٍ

ومِنْ سَماءٍ لِأُخرى

و بَيْن حُلْم و حُلْمٍ

نُوقِظُ اللَّهْفَةَ النَّائِمَة

في مَحطَّاتِ الْعِشْقِ الْمُهَلَّلة بِالنَّدى

والْغيْثِ الْمَطيرِ

 

12.

أَعْرِفُ أَنكِ

مَشْغولةٌ بِغَرسِ وُرودِ الأُورْكِيدا

عَلَى خُدودِ الشَّمسِ

وَوشْمِ ذاكِرةِ الطِّينِ

وأنَّكِ

مُنْهَمكةٌ في رصْدِ اتِّجَاهاتِ الرِّيحِ

و تَعقُّبِ دَوَائرِ الغُبارِ المُسْتطيرِ

وتَأْويلِ منْطِقِ الطَّيْرِ

وأعْرفُ أنَّكِ

ستَكُونينَ مُنْهكةً

حينَ تَعُودينَ إِلى وحْدَتكِ

تُحَاولينَ تفْجيرَ أزْرَارَ الَّليلِ

و تقْريبَ المَسَافةِ

بيْنَ حلْمٍ منْقوعٍ في السَّدِيمِ

وهَذا الْوَلهِ الأسْطُوريِّ

الجَاثمِ في صَبَاحاتِ عيْنيكِ

أعْرفُ هَذا

وأعْرفُ أنَّكِ

أنِيقةٌ، جَذَّابةٌ

و رَسُولَة

حتَّى وأنْتِ تُخْفينَ خُيولَ الدَّهْشةِ

بيْنَ تلَابِيبِ الرَّغْبةِ الْخَجولَة

أَوْ حينَ تبْتَسِمينَ

فَتكْشفينَ سرَّ صَهيلٍ خَافتٍ

ينْسَكبُ ضوْءُهُ شَفيفاً من شَفَتيْكِ

يَغْمُرني صَداهُ

يُبَعْثرُني رَوَاهُ

 

13.

ثمَّة همسٌ خفيفٌ

يطلعُ من وِسَادتي

مثل حفيفِ أجْنحةِ اليَمامْ

يُهدْهِدني برفقٍ

لأنامْ

ثمَّة هسيسٌ غريبٌ

يلحَس فرْوة رأْسِي

مثل لسانِ أفْعى

يؤرِّق ذاكِرَتي المُلتَهِبة.

ثمَّة ضوءٌ مجنونٌ

يندفعُ كنزيفِ ثوْرة جائعَة

من بيْن شقوقِ فجرٍ مشحونٍ

بالفُرَص الضائعَة.

ثمَّة نصْل حادٌّ

يمدُّ بريقَه لمُصافحةِ نَهدٍ

تفرَّق شَظايا

بينَ المرايا النائمَة

ثمَّة سَاعةٌ قَديمَةٌ

تدقُّ بابَ قَلْبي

مثل أنَّةِ عُصْفورٍ

. فقَدَ عُشَّه في غَاباتِ الأمَازون

ثمَّة نسْمةٌ عابرةٌ

تزْحف بين أصابِعي المُتورِّمة

كالجُذوعِ الذَّابلة.

ثمَّة سريرٌ ضَامئٌ

محشوٌّ بدِماء الشُّهداء

ترفرفُ حوْله فراشاتٌ حبْلى

بآلافِ القُبلِ العَاثرة.

ثمَّة حبٌّ صغيرٌ

يشقُّ صَدري

يكْبرُ في كنَفِ غيْمةٍ ماطِرة.

 

14.

أرِيدُ أنْ أنامَ اللَّيْلةَ

عارِياً منْ فُحولَتي

فأَصْحو في الصَّباحِ البَاكرِ

علَى رَنَّاتِ رِسالةٍ نَصِّيةٍ منْ تُفّاحةٍ

منْحُوتةٍ في ذَاكِرَتي

مثْلُ زَهرةِ اللَّيْلكِ

يُدَنْدنُ صَوْتُها في رَأْسِي المَحْشوِّ بالأَحْلامِ

تَقولُ فِيها: أَعْترفُ

لَكَ أعْزِفُ

لَيْتكَ تَعْرفُ..

تلْكَ التُّفَّاحةُ

التِي سَقَطتْ علَى جَوانحِ لَيْلي

مُتَلَألأةً مِثْلُ نَجْمَة

فابْتَلعتْها الظُّلْمَة

هَلْ أكُونُ أَنا

ذَاكَ العاشِقُ السَّيِءُ الحَظِّ

الذِي تحَجَّرَ البَوْحُ في دَمهِ

فلَمْ يجْرؤْ علَى تَحْريكِ شفَتيْهِ

وَلاَ التَّلْويحَ بيَدَيهِ

أو التَّلْمِيحَ بعَيْنَيهِ

أنَا العاشِقُ المَعْجونُ بالصَّمْتِ

المَنْفِي في صَحْراءِ حلْمَتيْكِ

وأَنتِ التُّفَّاحةُ النَّاصِعةُ كالْفَجرِ

يُمَزِّقُني شُرودُ عَيْنيكِ

و كُلُّ مَا لَديْكِ

طُهرُ الحَمامِ

مِسْكُ الكَلامِ

نُورُ المَقامِ

وارتعاشة شَفتَيْكِ

فَمَتى تَصِلُني رِسَالَتكِ النَّصِّيةَ

مُعَبَّأةً باعْتِرافٍ مُخْتَصَر

وقَلْبٍ أخْضَر؟ .

 

15.

أنا

جَنُوبيُّ الرُّوح والهَوى

أَغوصُ عَميقاً في وَجَعِ السَّرابِ

أَمْشي عَلى هَدْيِ النُّجومِ

أقْتَفي أثَرَ الحِكاياتِ في شِفاهِ الأَرْيامِ

وسَمَرِ الخِيّامِ

دَلِيلي سُعالُ الرِّيحِ في لَيْلٍ بَهيمٍ

وَصَدى عَواءٍ قديمٍ لذِئبٍ شاردٍ في البَيْداءِ

أَرْهَقني الْبَحثُ بينَ شجَرِ السِّدْرِ

والطَّلْحِ

وبيْنَ دمْعٍ تكلَّسَ في الجُفُونِ

عنْ رعْشةِ رَضيعٍ تخَلَّفتْ أُمّهُ عنِ الرَّكْبِ

فاخْتَفى وسطَ العاصِفةِ الهَوْجاءِ

وعَاشَ في حضْنِ النَّعَامِ

يَسْكُنني هوَسُ الرَّمْلِ الَّذي لا بحْرَ يَحدُّهُ

أو يَأْويهِ

سِوى قلْبِي حينَ يَعْصفُ به الحَنِينُ

يُوقِظهُ صوْتُ "سْرَيْسَرْ ذَهْبو" الشَّجيْ

وهي تردِّدُ : ارَا رَيْدا ارَا رَيْدا

أَمْتَطي صَهيلَ اللَّيلِ

وأمْضِي بعيداً.. بعيداً

وَحْدي في هَذا الْمَدى اللَّانِهائيْ

الْمَليئِ بالسْحرِ

بِالغَرابةِ

بالصْمتِ والتِّيهِ

أَعْدُو بِلاَ ظلٍّ تحْتَ جمْرِ الهَجِيرةِ

هلْ تَسْمعني الآنَ يا "سْمَيْمِيعْ الندَى" ؟

هلْ تَهتمُّ لأَمْري؟

هلْ تنْتَقمُ لي؟

أنَا جنوبيُّ الرُّوحِ والْهَوى

أجِدُني في مفْتَرقِ الطُّرُقِ

حيثُ الْبِركةُ جفَّتْ

والشجَرةُ يبِسَتْ

والنَّاسُ ما عَادُوا يَهْتمُّونَ بالحِكَاياتِ

وأنَا

الجَنُوبيُّ الْمَفْتونُ ببَسْمةِ الغُروبِ

ما زالَ قَلْبي يحفَظُ أسْرَارهُ

عنْ ظهْرِ غيْبٍ

ويَأْبى الْهرُوبَ

ومَا زِلْتُ أهُشُّ النُّجُومَ بِيَمِيني

وعَيْني عَلى قمَرٍ لا يَأْفلْ

 

* ولْد النْعَامْ و سْرَيْسَرْ ذَهْبو و سْمَيْمِيعْ الندَى شخصيات من المحكي الشعبي الصحراوي..

 

16.

حلم معلق بين حلمتين

جلله المزن

تتدلى منه غيمات جامحة

أثقلها الحزن

أيها الحلم

الذي يرغب ان يصبح طفلا مدللا

محاطا بجيش من الكلمات

العاريات

يداعبن أطيافك التي تميل نحو الشروق

كم عاما

توشحتك الريح مثل قوس قزح

حملتك وهنا يجره وهن؟

النجمات

حارسات المعنى في جسد القصيدة

المبللة بدمع الندى

اللائي أنهكهن الوقوف على ناصية المجاز

سكبن نذورهن في عتمة لياليك

نفثن أسرارهن بين سطور اللهفة

وانتحرن بحبل قوافيك

أيها الحلم

المطوق بلعنة النهايات

كم عاما

انتظرتك العصافير تحت أسوار الفجر

ولم تأت

ولم تسأل؟

هل كنت أسير العزلة

وأنت ترتب ندوبك على تقاسيم الدهشة

وتشدو وحيدا مثل الغريب.

تشحن كل مشاعرك في حاوية بلا أقفال

وترحل؟

 

17.

أي عزيزتي

أنا هلالك في العتمة

ظلك الآخر

أفرغي ما في صدرك من هم

وغم

ألقي إلي بكل أحزانك

وأشجانك

لا تتركيها تغطي قلبك

تكسو دمك بالفخار الاسود

اشعلي موقد الروح في سرير نومك

واستدعي ينابيع الفرح لحقل أحلامك العاري

اتركي شعرك يتأرجح وسط الريح

متحررا من وهم الماضي الهش

دعيه يسبح بصحبة النجوم

والغيوم

أي عزيزتي

بوحي بسرك للقمر الذي يحدق في نهديك

عانقيه برموش عينيك

ومن دون حياء

اكشفي له عن مواهبك في التحليق الحر

كالعنقاء

وفي تربية العشب المتوهج بين ساقيك

لا تتركي الحزن يغزو جفنيك

لا تدعيه يقتات من عمرك بجمر الرثاء

دمريه بضحكة جامحة

دوسيه تحت قدميك المبللتين بضوء الغروب

أي عزيزتي

أنت في فؤادي كلمة طيبة

مشاعر متوقدة

وأنا لم يسبق لي أن رأيت امرأة مثلك

تولد من شهقات الطين

يتموج صوتها في قلبي كخرير الماء

يفوح منها عبق الياسمين

تخلق من صوت النايات ممرا للحنين

تغرس رايات الغضب في ظلمة الحاقدين.

 

18.

هل تعرفين

كيف يزين الصمت ميسم الورد

في صباح مكسوّ بالضباب؟

هل تعرفين

كيف يذرف الصمت دمع الشوق الحارق

في عيون السراب؟

هل تعرفين

كيف يكتب الصمت بالأحمر أسرار عشق

منقوش على مقعد الغياب؟

هل تعرفين

كيف يراقص الصمت الندى فجرا

يخبره عن سحر السحاب؟

هل تعرفين

كيف يغار الصمت من المطر

حين يلثم وجه التراب؟

هل تعرفين

بأي لغة يحاور الصمت حفيف الأشجار

في ممالك الغاب؟

هل تعرفين

متى يزهر الصمت في قصائدي

يوشم فيها أثر انسياب؟

هل تعرفين

أن الصمت يغدو نشيدا

في ليل العاشقين وسمر الأحباب؟

هل تعرفين

متى ينتفض الصمت في قلبي

يذكي فيه جمر العتاب؟

هل تعرفين

أن صمتي يصرخ بالرعد

إذا ما طيفك جاء طارقا بابي؟

 

19.

الى أين يؤدي هذا الشارع

المكتظ بالعويل

وحشرجات أحذية محشوة بأسرار الموت

وأناشيد الرحيل؟

أتوغل فيه متوجسا

وأنا أحصي خسائر هذا العام الطويل

على الرصيف

حيث الرغبات تصلبت

وماتت واقفة كالنخيل

يسقط مني قلبي

فالتقطه بخفة ساحر بارع

قبل أن يرتطم بعواء المحطات المسعورة

أعيده الى مكانه بين النهر والنحر

و قبلة

كنت قد خبأتها في صدري

تتدحرج أمامي مدفوعة بأنفاسي الحارقة

فتموت

وفيما كنت أفكر في إكرامها بدفنها

طارت بها حذأة مارقة

واختفت في شارع لا نهاية له

كلما توغلت فيه تمدد أكثر

و ازداد اغترابي

المشهد سوريالي بامتياز

تتقدمه قرابين من الدمى المتحركة

ترقص حولها حشود من جيوش الزومبي

تسللت الى الشارع تحت مظلة الحاكم الابدي

الذي كان شخيره

بمثابة إعلان حرب ضروس على الحوريات

في كل الحارات

و إيذانا بانطلاق مهرجانات القهر

من البحر إلى النهر

هل يكون هذا الشارع عربيا؟

 

20.

في شارع كسيح

مبلل برائحة امرأة

ينام

في كفيها الحمام

أمشي وحيدا

أداعب ظلي بأصابع مرتعشة

يهرب مني ضاحكا

ويختفي

بين أغصان شجرة تمتد جذورها في قلبي

أمشي وئيدا

بلا ظل يحملني

مثقلا بخيبات لا تحصى

في شارع ينام كل ليلة على صفير الريح

وصدى ضحكة مهملة

لظل يتدلى متأرجحا

بين أغصان شجرة أينعت جذورها في قلبي

 

21.

هذه المدينة الموغلة

في الرماد

تتثاءب من هول الكساد

عيون الماء التي كانت تغسل أوجاعها

جفت

الساحاتُ

التي استوطنها التمر والقمح

والحصير

ورائحة القصب و القطران

استباحتها أشباح من دخان

والعصافير

التي اعتدنا رؤيتها في الصباحات الباكرة

تحيي القادمين من الواحات

وهم يلتحفون ضوء الفجر

كفوفهم الداكنة تشقها الأخاديد الغائرة

يدفعون أمامهم أحمالا من الخضار

والتين والرمان

تلك العصافير الصغيرة الملونة

والسنونوات المعلقة

اختفت في ليل بلا أقمار

للمدينة ذاكرة ممزقة

مهترئة

مثل جمجمة ناقة

نافقة

نخرتها الديدان

وأنا لايزال الحنين يرهقني

وحدها دموع الليل

تمسح عن وجه المدينة ملح السؤال

المعفر

و مجازات الموال

المبعثر

وحده السؤال القديم : ما العمل؟

يستوقفني

فأشعل نار الوصل في أشعاري

أعيد ترتيب أفكاري

وأضع على رأس أولوياتي

أن أحب قدر ما أستطيع.

 

22.

يغمض النهار عينيه

تختبئ غيمات الشتاء

تحت وسائد محشوة بالأحلام

ورائحة الكوابيس

والألغام

تفقأ الشمس ذاكرتها

يتكسر قوس قزح

فوق مراياها التي غمرها الحزن

أتعبتها وجوه المحاربين القدماء

الباردة

و مثل كل عام

تنحني طواحين الماء

والنار

والهواء

في ذكرى سقوط اسم دونكيشوط دي لامانشا

ذاك المحارب النبيل

النحيل

من لائحة المدعوين

إلى حفل تنصيب سانشو

حاكما لمدن الملح والقطران

تذبل الورود غما

تطير الفراشات بأجنحة محنطة

تسكن كهوفا مرفوعة على ألسنة من دخان

و حينما تبتلع السماء آخر نجمة في الأفق

ويبسط الحمام الأبيض ريشه على المدى

تنتفظ أوتار الدهشة

فيغمض الليل عينيه

 

23.

أي مدينتي

يا وردة ذابلة

من ألبسك الأحزان

و الأوهام القاتلة؟

من أوصد بابك

أمام الخيل الصاهلة؟

من سمم الاقحوان

في أعراسك الآجلة؟

من حرض الخرافة

أمن العرافة

أسكت القافلة؟

أي مدينتي

سنعلنك سماء حابلة

بالغيوم الماطرة

والشمس الثائرة

سنفتح بابك للريح العاصفة

للمطارق والمناجل

وصدى الرعود الزاحفة

سنضمد جراحك الغائرة

نغسلها بدمع البلابل

وحين تعود طيورك المهاجرة

تلك التي غادرت

أو هربت

تحت قيظ الهاجرة

سنكسر السلاسل

نمسح عن وجهك غبار السنين الغابرة

و عن كاهلك المثقل بالحنين

سنسقط الأحكام الجائرة

نهدم جدار الصمت المؤقت

نهجر ضفاف الأنهار التي جفت

ونقيم اعراسنا الظافرة

على كفوف الأمل

نزرع في حقولنا بذرة القبل

 

24.

سكينة

يا أمنا

يا أم البدايات

كيف تغيبين عنا

و النهارات التي كنت تنثرين حبات الفرح

على موائدها

لا يزال عبق الخبز المعجون بعرق التكنيات

يملأ سماءاتها

سكينة

يا فخر النساء

من ذا الذي بعدك سيعد لنا المساءات

لنسمع حكايات الأنبياء

و صهيل الخيل

والليل

و البارود الذي ولول في ليالي وادنون الشماء

بشيرا

و نذيرا

يلقي المحبة في قلب الصحراء

سكينة

يا أجمل الابتسامات

فيك اجتمعت الفضائل والدرر

مهابة العباس

صدق الإحساس

كرم اعلى ولد عمر

و حب الناس

فلك مني السلام

حيث انت

مع الصديقين والصالحين والشهداء

يا أجمل التكنيات

 

25.

ممتلئ بالفراغ

هذا الصدى العابر للسلالات

قديمها وجديدها

يتسكع مخمورا فوق حطام الذاكرة

في ليال بلا أقمار

بين شظايا حلم موغل في الإنكسار

بلله الصدأ

ونالت منه شواهد الأقدار

يا أيها الصدى الغريب

إلى أين تقودك العتمة

والصباح الكئيب يوشك على الإنتحار؟

كل الخرائط التي تعمدت بدم الفصول

عبثت بها الريح البلهاء

غمرها ضجيج الأنبياء

والأصوات الجامحة كوعد العاصفة

تلك التي كانت تسابق الموج مكشوفة الوجه

لتشق صدر الرمل

ها هي تمر كسحابة شاحبة

هامسة

مبحوحة

ناحبة

لا تلتقطها مسامع الحقول

ولا ترف لها مدامع الخيول

فمن يعيد للنايات أغصانها

ويزف للغابات صدى الأغنيات الجميلة

يطلق عصافير الأمل

وسط هذا الضجيج المفتعل؟

من..

من..

من.. ؟

 

26.

أسند رأسه على جدار المقبرة

فتح رجليه

ثم تبول أحزانه وهو يدندن بأغنية

" ما هموني غير الرجال الى ضاعو"

تحته

على البركة التي انطفأت فقاقيعها الصفراء

رأى وجها يتموج في القاع

لم يكن وجه كلب

ولا وجه ذئب

وأيضا لم يكن وجهه

كان وجه جمجمة بأنف مكسور

وعينين غائرتين

وفم فاغر من الدهشة

أو ربما من الذعر

تفوح منه رائحة الدم والدخان

هل تعود لرجل ام لامرأة؟

لفقير طاو

لم يتسن له شراء كسرة خبز لأبنائه العشرة

ومات من الحسرة..

أم لغني

نسي مفاتيح خزنته في جيب عشيقته الشقراء

ووجد منتحرا بين مؤشرات البورصة

ذات صباح داكن؟

هل صاحب الجمجمة مات واقفا كالأشجار

وهو يحرس الفراشات

من صقيع الذكريات

ويحصي عدد النوتات في موسيقى العصافير..

أم سقط صريعا تحت سنابك الخيانة

في ملهى ليلي

وهو يتوسد صدر امرأة عجوز

ويبكي

كطفل تركته أمه في العراء؟

أي سر يكون قد فاه به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة

تحت سياط من جلد أسود متين؟

أي صلاة كان يؤدي وهو يطارد الساحرات

مختبئا في العتمة؟

حين فتح عينيه

كانت الشمس قد أشرقت من جديد

وكان وجهه يستحم في ضوئها

وصوت أغنية يدندن في رأسه

"ما هموني غير الرجال الى ضاعو.

 

27.

تتوهج ابتساماتكِ

كارتعاشة الماء العذب

في ضوء نهار دافئ

وصوتكِ الناعم

الذي يشبه رذاذ المطر الخفيف

يشق نهرا من الأغنيات

في أنفاس ليالي الباردة

يا حبيبتي

طالما تثقين في الورد

تطوقينه بعنايتك الرحيمة

تغسلين به حيرة روحك

في الصباحات المبللة بأناشيد الفجر

تصنعين للفراشات بيت أحلامها

وسط صخب الأطفال المثقلين بألواحهم الخشبية

ستشرقين

في كل الجهات من قلبي

تضيئين عتماته

تتدفقين في قصيدتي حلما عاصفا

يوقظ صبابتي

شهقة رخيمة

تفجر البواح المتراكم في صمتي

وحين تقطر أصابعك خجلا

فوق كفي

يزهر البنفسج في كتفي

فأغدو طفلا بهوية عاشق

يسابق الغيم في ضوء النجوم العارية

ولا يتعب

 

28.

العالم سيتعافى من لوثة الجنون

ومن نوبات الحزن

والديون

هكذا تكلم

خمس نفر من الجن الأزرق

يتبعهم سرب من القهقهات الناعمة

لكن زوابع الجنون الهائمة

ما زالت تحصد العواصم التي أينعت

عاصمة تلو عاصمة

وما زالت طواحين الخوف تدار

من بعيد

وكريات الدمع القارسة

تتكدس على حوافي اليابسة

في عالم أحمق

يحكمه

خمس نفر من الجن الأزرق

 

29.

أيها النسر

الواقفُ فوق جثة الجدار الأخير

دعني

أرى ذراعكَ المنقوشةَ على أبواب الزمن

كمطرقةٍ مندفعة نحو قدرها المسكوبِ

في سِفْر الحتميات

تعانقُ بسمةَ ثائرٍ

دعني أَقيسُ عضلاتك المفتولةَ

المقوسةَ

كمنجلٍ يلمع في يد امرأة عارية

تُرضع طفلها حليبَ الغيماتِ

من ثديٍ نافرٍ

أيها النسر

المتوَهجُ في أحلام الكادحينَ

دعني أقرأُ في نظراتِ عينيك الثاقبتين

المسافرتين إلى تُخومِ الشك

الشغفَ المتمردَ

كراسَ الخبز المالح

الحزنَ المتوردَ

كخدِّ الشمس في يوم لافح

ها أنذا ارتب الكلمات على صفيح الخيبات

ألعن في سرِّي

كل المدن التي سقطت تحت صدإ الآلات

و أنتظركَ عند نهاية المنعطف

كي تُساعدني في تفكيك أزرار الوَعْي الشقيِّ

وتُخرجني من بياض الخطابات المغموسة في الآثام

والأوهام

تعالَ أيها النسر

كالفرح الصاخبِ

تعالَى

كالنجم الثاقبِ

انشرْ جناحيكَ على موائد الزنابق العذارى

والفصول الجائعة

وامطرْ أعشاشَ العصافير الحيارى

برحيق الندى

و دلِّل خطواتنا الضائعة.

 

30.

جالسا في الظل

يرتدي معطفا باهتا

ملطخا ببعض البقع الزيتية

يذكرني بمعطف غوغول

خاصة أزراره المدلاة

و رائحة الثلج التي تفوح منه

يخرج من جيبه دمعتان كالبلور الصافي

يقذفهما في الهواء

و بحركة دائرية من يديه

يلتقطهما بخفة ومهارة

ثم يضعهما في كأس من معين

يخرج حبات قمح ممتلئة بالبرق

و بحذر شديد

يرسم بها دائرة

و من جيبه الآخر

يخرج أحلاما كانت مخبأة

في علبة كبريت قديمة

بعد عدة محاولات فاشلة

يتذكر كلمة السر المكونة

من حزمة أوجاع ونجمة

ينجح في فتح العلبة

فتقفز الأحلام وسط الدائرة

يسقيها الدمعتين

يطعمها حبات القمح

يلفها بالبرق

ثم يواريها التراب

ويغطيها بالظل الذي كان يفترشه

قائلا في نفسه:

ربما تنبت هاهنا شجرة أحلام حقيقية

ويختفي في بياض العدم.

 

31.

أحيانا

أفكر في أن أصير فراشة

تتمايل مزهوة على تويج بنفسجي

ترفرف على مرمى قبلة منكِ

تمنحك أسرار الجمال

وتوقظ شامة نبتت في جفنيك

وأحيانا أخرى

أفكر في أن أصير نجمة

تنير ليل القوافل المطوقة بالملح

والرمل

او فكرة متوهجة

تقف على حافة غيمة حابلة

تراقب السهول النائمة تحت كروم العنب.

ما يعجبني في هذا الأمر

الذي قد يبدو خبرا زائفا

في قصاصات أخبار الصباح

أو مجرد إشاعة باردة

لتضليل الأعداء الطبقيين

المتربصين بسنابلنا الفتية

سواء كنت فراشة

أو نجمة

أنْ لا أحد سيسأل إن كنت ذكرا أم أنثى

مؤمنا أم مرتدا

غنيا يوزع البؤس بالتساوي على الفقراء

أم فقيرا رمت به الأقدار في سلة المهملات

شاعرا مغمورا

أم سكيرا مشهورا

بائعَ أحلام

أم شاحذَ أقلام

عاطلا يبحث عن اسمه

في لوائح المفقودين في عرض البحر

أم بطلَ رواية مصاب بالزهايمر منذ ولادته

بقي عالقا بين السطور

أحيانا كثيرة

أفكر في أن أكون نوتة ناي

تتسكع مع القمر

مثل عاشقين يلتحمان في الضوء

ويغرقان في السديم

ونادرا

نادرا جدا

ما أفكر في أن أكون سكينا

يقطع أصابع النهار

ليطعم أقداره المنطفئة.

 

32.

أفكر كثيرا في الحرب

و في كل الدروب

التي سلكتها منذ فجر الحياة

غيرت مجرى التاريخ مرارا وتكرارا

وما تزال مثقلة بأوزارها

قد تكون

حبرا أرجوانيا يوثق أخطاء العالم

يعيد ترتيب أوجاعه الأبدية

وقد تكون

عروسا أصابها العمى ليلة زفافها

فكلفتها الآلهة بمهمة تنظيف الأرض

من الفائض الذي لا قيمة له

لا تكترثْ لما يقوله المغرضون

تقول العرافة لزبون جديد

هؤلاء الذين يفتقدون للبصيرة

وللحكمة

وبعد النظر

لا تصدقْ دعاة السلم

يقول الحاوي لتاجر الحديد

هؤلاء الذين يتقنون فن الكلام

عن الإنسانية

يلقون باللائمة على الامبريالية

يدَّعون أنها تتغذّى من الفولاذ المنصهر في ذاكرة الليل

وينسون حقيقةَ أن الأرض يحكمها قانون العرض والطلب

وفائض القيمة من العبيد

والمرابين

والحمقى

ولصوص المعابد

وأننا في عالم كل شيء فيه معد للبيع

في بورصة بلا قيم

أما أنا فأقول لك يا صاحبي

لا..

ليست الحرب نزهة

على ضفاف نهر دجلة

أو على أنقاض مملكة سبأ

وليست خدعة

لشق البحر حتى تمر مواكب الشعراء

الذين يلاحقهم الغاوون

ولكنها سفر طويل

طويل

لا متناه

لذلك إذا ما صادفتَ جثثا متفحمة

تصعد منها أدخنة داكنة

تكاد تحجب الشمس عن قلبكَ

فلا تسأل عنها السماء

بل اسأل نفسك أين تنمو جذور الكراهية؟

وماذا تخبئ لنا هذه الحرب

إذا لم نغسل أوزار رائها؟

 

33.

أنا الآن خارج النص

أحترف رتق الكلمات التي لم يعد لها معنى

الكلمات التي لم تعد تصنع حلما

الكلمات التي أصابها صدأ الكلام

الكلمات التى اعتراها اليأس

المنسية

العابرة

الكلمات التي فقدت بكارتها في الليلة الألف

على سرير الفجيعة

الكلمات التي نطقها المجانين سهوا في صحواتهم

والأطفال وهم يختبرون المشي على أصابعهم الطرية

الكلمات التي سقطت من أقوات الجائعين

و من أنفاس الثوار الذين يتوسدون أحلامهم الطائشة

وينتظرون بأعين مفتوحة

صوت النايات يشنف آذان الغاب

أنا الآن خارج النص

أعيد هذه الكلمات لأبجديتها

أرمم نتوءاتها

ثم أنثرها في طريق ريح صرصر

لا شرقية

ولا غربية

بعد أن أعجنها بغبار الذكريات

ترقص الريح في دائرة صغيرة

تدور وتكبر

تدور وتتمدد

دوامة تعانق السماء

تشرئب بعنقها مثل أفعى

أغمد قلمي الصغير في صدرها الملتهب

فتشتعل الكلمات في أحشائها

ويولد منها نص جديد

أنا الآن داخله.

 

34.

هذه الوجوه التي تقف لاهثة

كالظلال المائلة على أرصفة الفصول العجاف

أعرفها

من وقع أقدامها الثقيلة

وهي تؤدي رقصة الجوع في البحيرات الراكدة

او حين تمشي بمشقة على جراح الوقت الميت

مثل سكين مغروس في قلب الطين

تلتقط أحزان الطريق

تصنع منها خرائط للنهار الغامض

و شاطئا يغري بعودة النوارس

و تلك الابتسامة الزئبقية

أعرفها

متى تلمع كالبرق في خد المساء

حينما تعود العيون المتورمة وقت الغروب

مكتظة بالصمت

واليأس

أتعبها التطلع إلى السماء

تجر وراءها حملا ثقيلا من الأغنيات القديمة

وفي حدقاتها أحلام نائمة

وهذي الشفاه المعجونة بالقمح والندى

أعرفها أيضا

قبل ان تخمد نار الشوق على أطرافها

وتهجر حياض العشق

ومواسم الرقص و الحناء

 

35.

تعاليْ

كغيمةٍ تُصافِحُ كفَّ السَّماءِ

مُرصَّعةً بالنُّجومِ

وهُناكْ

دعِي أحْلامَكِ الْقَديمَةَ تَنْزفُ

تَحْت أنْظارِ الْقَمرِ الْخَجولِ

حِينَها فقَطْ ستَعرفينَ أنّكِ

أجْملُ منْ ملَاكْ

*****

وَ تعاليْ

مَحْفوفةً بأشْعارِ نَيرودَا

وأسْرارَ عَيْنيهِ الْبَارِدَتَيْنِ

أغْمِدي أفْياءَ ظِلالِكِ في جُرْحِ الظَّلامِ

أفْرِشي للرِّيحِ مَناديلَكِ البيضاءَ

ودَعِيها تَطْفو

علَى مَرافِئ الْحَنِينِ

و تغْفُو

عَلى صَدْر الْيَمامِ

 

36.

لا أعرف..

كيف تسلل هذا الديناصور إلى رأسي،

ومتى كان ذلك.

فرأسي الصغيرة،

لا تحتمل أكثر من بضع غرامات من الأعشاب البرية،

وقليلا من ورق بردى الطري،

يكفي لتسجيل ما تقدم من ذنبي وما تأخر،

و ما تراكم علي من أرقام..

و بضع قصائد قصيرة،

قابلة للتداول في سوق عكاظ،

تشبه تنورة رولين برايتون في فيلم الشقراء الذرية.

لا أعرف ،

كيف أخرجه من رأسي،

دون ان أحدث ضجة تهز النظام العالمي

وتقلب موازين القوى في صدري.

فرأسي الصغيرة ..

لا تحتمل مثل هذا الحمل الثقيل

الذي يزحف بين المخ والمخيخ

يلتهم تفكيري

يبعثر ذكرياتي

يخلخل مشاعري

و كل المعلومات التي جعلت مني إنسانا حداثيا

إنسانا عاطفيا

إنسانا مؤثرا

وماهرا في تحديد الاشكال والأوزان

وفي تدوير اللغة

هذا الديناصور الخفي الذي لا أعرفه البتة

و لا أعرف كيف تسلل إلى رأسي

ومتى كان ذلك

لم يعد يهمني أمره

لأني توصلت بعد تحليل دقيق للقشرة الخارجية من دماغي

أن غشاء واقيا صلبا يحمي جمجمتي من أي تسلل خارجي

وأن المكان الوحيد الذي يمكن التسلل منه إلى دماغي

هو أذني

لذلك قررت أن أغسلها بموسيقى فيروزية

وأطيل النظر الى وجه حبيبتي

لأبقى على قيدها.

 

37.

عنْدما يُدرِكُني الحلمُ

يكونُ طوْقُ ابْتسامتكِ قدْ اكتملَ حولي

حِينها

يكونُ بوُسْعي أنْ ألْمسَ وجْهكِ

بيَديَّ الجائعَتينِ

وأنْ أفُضَّ بكارةَ الليْلِ

بسيْفِ الرّغبةِ الجَامحةِ

متأبِّطاً رُقادي

ملفُوفاً في سُهادي

تتدفَّقُ العتمةُ مثْل مدِّ البَحرِ

أهَبُها رعْشةَ الريحِ المُتحوِّرةِ بينَ فخِديْكِ

يتأوَّهُ القمرُ

كَعصفورٍ صغيرٍ

ينقِّبُ عن حبَّةِ قمحٍ وسطَ الْحَصى

ألَا تريْن أيتُها المرأةُ الفاتنةُ

 كمْ سَيكونُ الأمرُ جميلاً

لو تلْتَحفي غيْماتَ رُوحي

لو انتَبذْنا مكاناً قصياًّ تحْت الشمسِ

نقَّلنا إليهِ قلبيْنا

و انْتهكنا معاً أسرارَ البوْحِ

و معاً

نتعلَّمُ كيفَ نشذِّبُ حُقولَ المحبَّةِ

في كُتبانِ الرَّملِ

نرتِّبُ حروفَ الأبْجَدية

فوقَ الماءِ

ونكتبَ أسْماءنا الحُبلى بألْفِ ميعادٍ

نقَاومُ غِوايةَ المُومياواتِ

وعيُونَ الفزَّاعاتِ

نَخرُجُ سالِمَيْنِ منْ زُحامِ الأسئِلةِ

نبْني للنُّجومِ سماءً جَديدةً

ونَنْتظرُها كلَّ مَساءٍ

كيْ تقصَّ عَليْنا أحٰسنَ القَصَصِ

 

38.

السماء كئيبة

وأنا

لن أتجهم

سأبتسم

لطفل يجري خلف فراشة

يمسك بجناحيها

ويطير فرحا

لامرأة طاعنة في الصبر

تنتظر مد البحر

لتسأله عن وحيدها

الذي قاد رحلة الصيف

وما عاد في رحلة الشتاء

ولم تيأس

لمدينة تطاردها الساحرات

كل خمس عجاف

ولم تخرس

سأبتسم

لسر صغير في صدري يتنفس

لأجلك يا حبيبتي

سأبتسم

 

39.

لا أطلب منك شيئا

أيتها المدينة

المعجونة بنكهة الغبار

وهزائم الإنتظار

لم تعد مساءاتك جميلة

كما كانت

منذ ان احتضنتك آلهة السراب

باتت معفرة بالملح الأسود

ورائحتك مقززة

حتى وأنت تستحمين بضوء الأقمار المتلألئة

بين فخديك

لا أنتظر منك شيئا

طالما شمسك مودعة

في جلباب الليل الطويل

والأشجار التي جردت من أغصانها

مكسورة الظهر

تنحني بالرغم منها للغرباء

والعصافير الصغيرة

بلا أجنحة

تبني أعشاشها من حطام الذكريات

ماذا يلزمك أيتها المدينة

كي تصرخين صرخة الولادة

ها قوافل الغيوم تمر صامتة

فوق رؤوسنا المكسوة بالندم

تحمل رائحة المزن

وأرضنا العقيمة تستغيث

و الرمل الذي يحرس خطى العاشقين

اغتالته الريح الهوجاء

لا أحبك

لا أكرهك

لا أطلب منك شيئا

لا انتظر منك شيئا

افتحي فقط باب قلبك لهدير النايات

تدثري بالزغاريد

التي تتقدم موكب عرائس الفجر

واستعيدي زمنك المفقود

 

40.

أنتِ

نبْضٌ متْعَبٌ

يختبِئُ

تحتَ ظلِّ ورْدةٍ شائِكَة

وَميضُ نجْمةٍ

يتأرْجحُ

بينَ عَقْربيْ سَاعةٍ مُتهَالكَة

*****

أنَا

قمَرٌ تائِهٌ

يتدَحْرجُ

مثل كبةِ صُوفٍ بالِيَّة

نايٌ مكْسورٌ

تُصفِّرُ

الرِّيحُ فِي أحْشائِهِ الدَّامِيّة

*****

أنْتِ

سمْفونِيَّةٌ صَمَّاء

يَسْرِي

بيْنَ أصَابِعِها النَّسِيمُ

مرآة صامِتَةٌ

يَغْفُو

علَى أطْرافِها السَّدِيمُ

*****

أنا

ضَبابٌ مُتَمرِّدٌ

يَتحَدَّى

عَوَاصِفَ الرَّمْلِ

قلْبٌ أحْمَقٌ

يُلْدَغُ

منْ حُبٍّ وعَذْلِ

*****

أنتِ

شلالٌ عذْبٌ

يُداعِبُ

خَرِيرُهُ قوْسَ قُزحْ

فَرَاشةٌ بنْفسَجيَّةٌ

تُعطِّرُ

حَدَائِقَ الدَّهشَةِ والْفَرحْ

*****

أنا

صَدَى رُوحٍ

تعَمَّدتْ

بِنارِ العِشْق و مَاءِ الْحَنينِ

قِطارٌ جَامِحٌ

يَعْدو

عَلى سِكَّة الزَّمَن الْحَزينِ

*****

أنتِ

عِشْتارُ الْفُصُولِ

تُكَلِّلُ

القَصَائدَ الْمُشْتَهاة

أنا

أرِيجُ الْحُقُولِ

يُبشِّرُ

بانْتِصارِ الْحَياة

 

41.

يُدْهِشُني

صفيرُ بلبلٍ يُهَدهدُ شَفَتيْكِ

غمازةٌ جَامِحةٌ تضُجُّ بالحَنِينِ

يُعْجبُني

بَرِيقُها علَى وَجْنتيْكِ

وفي عيْنيْكِ

نَظراتُ طائِرٍ تُصَافحُني

بِخَجلٍ فاتِنٍ

كُلّما رَمَيْتهُ بِمعْجونِ الْبوْحِ

يرْتعِشُ قلْبهُ المُوَزَّعُ بيْنَ سمَائَيْنِ

وظِليْنِ

يتَأرْجحُ في قفَصهِ بيْنَ مدِّ وجزْرٍ

وأَنا نَايٌ

محْشوٌ بشدْوِ العَصَافيرِ

في غَابَةٍ مهْجُورةٍ

ملَلْتُ منَ الإنْتِظارِ

عنْدَ مُنْعطفاتِ الخَيْبةِ

سأُصْغي للرِّيحِ يا حبِيبَتي

إذْ تُبلِّلُ شفَاهَكِ الذَّابِلةَ

ورَفِيفُ فَرَاشةٍ

تَطايرَتْ أَجْنِحَتُها منْ كفَّيْكِ

وتوَسَّدَتْ ذاكِرَتي

أسْتدْعِي فخَاخَ اللّيْلِ

لأهْرُبَ مِنْكِ

يَهْزمُني الْأرَقُ

فَأجِدُكِ في حُلْمي

مثْلُ دَاليَّةٍ

تَحْنُو

عَلى غُصْنِها المَيَّالِ إلى الْيَسَارِ

ترْعيْنَ خِرافي

عَلَى وَقْعِ النَّدى الشَّفِيفِ

تُرتِّبينَ سلَّةَ الضَّوءِ

في عَتْمةِ رُوحِي

وتَبْتسِمينَ فِي الْخَفاءِ

 

42.

غيْمةٌ حابِلةٌ،

تشْدو معَ العَصافيرِ كلّ فجرٍ..

و تخْتفي في رذاذِ السَّرابِ؛

فلَا تتْركُ للشَّمسِ..

أيةَ فرْصةٍ للرَّقصِ مَع نجْمةِ الصَّباحِ.

مَاذا بمَقْدوري أنْ أفْعلَ،

كيْ أسْتَمطِرها؟

لأغْسلَ الحزْنَ الَّذِي يمُوجُ في صَدْري،

مِثْل دبيبِ النمْلِ..

و أنْجو..

منْ ظِلِّها الَّذِي يَشيخُ ،

و يَحْبو..

علَى حُطامهِ.

يَتْبعُني..

متَّكئاً علَى قُبْلةٍ خَجولةٍ،

تَغْفو ..

علَى شِفاهِ الليْلِ.

ربَّما قدْ أُفْرغُ جِرَاري،

منْ بقَايا مَناديلَ بلَّلَها الحَنينُ المُرُّ..

لِتسَعَ،

نبَضاتِ قلْبٍ تفحَّمَ في الْعَراءِ.

وقدْ أُعيدُ تقْريبَ الْمَسافةِ،

بيْنَ غشاوَةِ الحُلْمِ،

وتجَلِّي الْماءِ..

لأَسْتمْطِرَ غيْمةً حَابِلةً،

قبْلَ أنْ يَبْتلعَها غبَشٌ..

ينامُ في حضْنٍ بلَا دُموعٍ.

 

43.

هلْ أخبرتكِ يوماً

ياااااا

حَ

بِ

ي

بَ

تِ

ي

أنَّني

كلَّما أجْهشَ الغيْمُ

في حَدقاتِ السَّماءِ

وتشَّققَ الحَنينُ

في بَرْد الْمساءِ

ألوذُ بعيْنيكِ

اللَّتانِ

تخبئُ فيهِما العصافيرُ أغَانيها العذْبةَ

و رسالةَ حُب صامتة ؟ٍ

عيناكِ اللَّتانِ

تفوحُ منهُما رائحةُ الرَّبيعِ

تمْنَحاني كلَّ يومٍ

صباحاً مشْرقاً مِثل قلْبكِ؟

عيناكِ اللَّتانِ

تفِيضانِ بِما يُقالُ سراً

وما لا يقال؟

ليتَ قلْبي حَجرْ

مَا غَنى و مَا جهرْ

ليتهُ كفرْ

ليتهُ حملَ سرَّهُ الْجميلَ

واصطَبرْ

يقولُ لي الدَّرويشُ

لا تعتذرْ عمَّا فعلتَ

يقولُ لي قَلْبي

لا تعْتذرْ عمَّا قلْتَ

لكنَّني سَأعتذرُ

مسْنوداً بقلقِ الْمَعانى

و نُضوبِ الأَمَاني

في غُرْبةِ الْقصيدةِ

سأعْتذرُ للْفَراشاتِ التِي تحرسُ أَرَقي

منْ همْسِ الغُبارِ

لمسَاءاتٍ أثْقلَ كاهلَها حنينُ النَّاياتِ

وشبقِ الأوْتارِ

ومن وَحْيِ وَجَعي

الذِّي يبْرقُ في دَمي كَخاطرةٍ قَديمَةٍ

كتبَتْها يدُ الأَقْدارِ

سأعْتذرُ للقدَرِ ياااا

حَ

بِ

ي

بَ

تِ

ي

لهَذا الفجرِ المسكونِ بالضَّجرِ

الَّذي انتظرَتْه قوافِلُ عِشْقي

أمامَ عتباتٍ بلَّلَها النَّدى

وغَمرَتْها وعودُ المطرِ

فهلْ يتغيّرُ لَوْنُ ماءِ القلبِ

إذا قلْبي اعتذرْ؟

 

44.

علَى كَاهِلي

ترْعَى خيولٌ مطهَّمةٌ

تلتهمُ الحشائشَ الذابلةَ فوْق صَدْري

تَسْقِيني لَبنَ الْحَنينِ

صَهيلُها الليْليُّ يصْطادُ النُّجومَ

المتراقصةَ علَى جَسدي

تهْمسُ في أذُني مثْل ذئابٍ عاويةٍ:

هلْ ترَى تلكَ الأشْباحَ

التِي تتقمَّصُ دوْرَ عارضاتِ الأزياءِ

في مدُنِ الملحِ والنارِ

والغبارِ

تعْدو مُلتحفةً ضوْءَ القمرِ؟

إنَّها مجرَّدُ سرابٍ

يحاولُ أنْ ينشُبَ أظافرهُ المعْقوفةَ

في خدِّ أولِ نجمةٍ تسقطُ في غَيبوبةٍ

وتلكَ المَرايا المغْروسةُ في بيْداءِ روحكَ

التِّي تنعكسُ علَيها أحلامكَ

وأحلامُ أسلافكَ الْغابِرينَ؟

إنّها مجردُ همهماتٍ مصابةٍ بالثَّرثرةِ

و بدوارِ السفرِ عبرَ الزَّمنِ

تعْرفُني الخَيلُ

ويعْرفُني اللَّيلُ

كمَا تعْرفُني البيداءُ

والسماءُ

والقلمُ والماءُ

أنا الآنَ

عازفٌ هاوٍ

منْ حيٍّ يشبهُ كثيراً حيَّ هارلمْ

حيثُ المُوسيقَى مقدَّسةٌ

يمْتزجُ " الهَجْهوجُ "مع "التِّدِينِيتْ"

و يتَعانقُ صوتُ " ديمي منتْ آبَّ"

معَ أصواتِ "ناسْ الغَيوانْ و" الشيخْ إمامْ""

وأغَاني الثُّوارِ في الغاباتِ البَعيدةِ

أنا الآنَ

مصارعٌ ترهَّلتْ أوْصالهُ

وخرجَ منْ كلِّ الحلَباتِ مُصاباً بداءِ الحبِّ

أمشُطُ شعَرَ الليلِ بأسْناني

وأنتظرُ أمامَ نافِذتي المُطلةَ على الخرابِ

عاصفةً منْ رمادٍ

وطائراً بأجْنحةٍ منْ فولاذٍ

ومطراً غزيراً يندفعُ في شَرايِيني

مثْل الموْجِ

وأنتَظرُ

ربَّمَا قدْ تأْتي خيولٌ أخْرى

تلتهمُ ما نَبَتَ منْ حشَائشَ

في صدْري.

*الهَجْهوجُ : آلة موسيقية

*التِّدِينِيتْ : آلة موسيقية

 

45.

يا زِنْبقَتي الْحُلوة

ها أنتِ

تكْبرينَ أمَامي

خُطوةً خطْوة

تسْقينَ ورودَ أيَّامي

بأجملَ الأنغامِ

يا أرقَّ غُنوة

صوتكِ العذبُ

يطرقُ أُذُني

مثْل رياحِ البحْرِ في ليَالي الصّيفِ الْحارَّةِ

شغبكِ

صخبكِ

صراخكِ

يُعِيدني إلَى مهْدِ الحِكايةِ الأُولى

عنْدما كنتُ ، مثْلَما تَفعلينَ الآنَ،

أطاردُ خَيالاتِ ظلالٍ تترنَّحُ عَلى الجُدرانِ

بكاؤكِ

جفاؤكِ

غضبكِ

يرعشُ قلْبي المُبللَ بسَديمِ عيْنيكِ

يا وَعْد

حِينما تقْتربينَ مِني

تفِيضُ منْ شفَتيْكِ ابتِسامةٌ مُتَوهجةٌ

يُصبحُ العالمُ بينَ يديَّ كُتلةً منْ نورٍ

وأنتِ سَماؤهُ المُضاءةُ

وحِينَما تُحاكينَ الطَّبيبةَ

تجسين نبضي بآلة تعتبرينها سماعة

تطلُبينَ منَّي بحزمٍ أنْ أشربَ الدَّواءَ

أُحسُّ كأنَّ الملائِكةَ تَنْحني لكِ

مُتخشِّعةً

أمَّا عنْدما تضَعينَ رأسَكِ الصَّغيرَ

على صَدْري الْمُتعبِ

وتنَامينَ

تطوِّقكِ بأجْنِحتها العَصافيرُ الْمُلوَّنةُ

فإنَّ نسْمةَ فرحٍ تنْدفعُ كموجة بَيْن جَوانِحي

تغسِلُ كلَّ أحْزاني..

 

عبداللطيف الصافي (أصاف)، شاعر ومخرج مسرحي مواليد مدينة كلميم المغربية، مدير فرقة أدوار للمسرح الحر بكلميم وأحد الأطر المغربية في مسرح الطفل، أدار وأسس العديد من المبادرات الثقافية والفنية في الجنوب المغربي، كما ساهم في إدارة مهرجان شعري عالمي بنفس المدينة باب الصحراء. له العديد من المسرحيات التي قدمها (ممثلا ومؤلفا ومخرجا)، الى جانب كتاباته الشعرية ومقالاته السياسية ومتابعاته وكتاباته النقدية في المسرح (الحساني خصوصا).