تجري منمنمة نحوي وتتركني
أقول قلبي بلا حبٍ يجعدني
ويترك الشوق يجري بين أوردتي
ظبياً تنقِّطه ظل الغصون. أرى
سيفاً طويلاً على مرآته مدنٌ
تجري، تنقرها الأشجار، ثم أرى
روحي تخيط كلامي وهي جالسة
على سجاجيد من خزٍّ ومن قصبِ
في قرب نافورة تبكي بلا سببِ
أرى هديلاً تمطَّى صهو قافية
حتى توقف تحت الظل عند دمي
وقال لي:"أنت عمَّا لا تراه عمِ "
أرى حميراء تسقيني بآنية
من فضة وتقول: "اشرب! سِفارك يا
هذا يكوِّر قلبي ثم يفركهُ
شيء أحدث نفسي فيه تدركهُ"
ما زلت أشربُ حتى قلت: صار دمي
حنَّاء مئذنة خضراء. ثم جرتْ
بي وردة خرجت من طين أغنيةٍ
تمشي على اللوز من هدبي إلى بلدي
الآن أفهم طعم الوجد في جسدي ...
... قالت: لقد حان أن نمشي لمفترق
يسلُّ أحلامنا من غمد مذبحة
فقلتُ: لي عندليب سوف أتبعه
نايا يتوجني بالزعفران ولي
ما ليس لي من نخيل لست أعرفهُ
فلا تقولي دع الغيماتِ تخرفهُ
وليس لي معطف التاريخ أرقعهُ
فلا تقولي لقرن الثور ينزعهُ
وليس لي فيض جغرافيتي مددا
فلا تقولي أخيط العمر لي بلدا
قالت: خيالك خلخالي ينقشهُ
كعب الرحيل ولي كفٌّ توشوشهُ
قالت: رحيلك يدني لي غمامتهُ
حتى أحط على قلبي عمامتهُ
قالت: لخيلك أن تختار صهوتها
ومن حنينك أن يختار سروتها...
وسرتُ وحدي بلا شيء يشيئني
حتى رأيت حرير اسمي تثقبه
فكاهة الوقت إذ يلهو بأحرفه
واسمي يذهِّبه الزيتون لو قمرٌ
أضاء معدنه بالساهرات ولو
حكْحكْته بمواعين الكلام ولو
عصرتُ ليمونه بالسهد في لهبي
عارٍ من الريح من روحي ومن لقبي ...
وسرت حتى شققت الليل فانفلقتْ
من راحتي بلدة عند الغدير، فما
وجدت غير هضاب نصف معشبة
تنساب منها بيوت فرقت سجعا
على هبوب الصبا بين الكلام فما
رأيت ذئبا بلا ليل سواي ولم
أبصر سواي سوىً، حتى لمستُ مدايْ
غشاء نور شفيف شقَّقته يدايْ
وجدت ظبيا وحيدا قرب مئذنة
كنخلة كسرت نصفين واشتعلتْ
عرى جدائلها الخضراء في البركِ
ظبيا تسربل بالأشواك في شركِ
خشفا تكنَّس في جفني فأرقني
نظرت في عينه اليسرى رأيت دما
مرقرقا سال من سيف ويعصره
ظل على تلة خضراء نائية
نظرتُ في عينه اليمنى رأيت بها
نفسي تلاحق أمسي وهي راحلة
على قوافل في بيداء قاحلة
فقال لي الظبي خذني. والتفتُّ فما
رأيت شيئا سوى حقل يلونه
فيءٌ فقلت له: يا ظبي، تعرفني؟
فمر سرب قطا نحو الشمال، ولم
يجبْ. فقلت له: هيا، سيحملنا
هم ونحمله. لكن نظرت إلى
عينيه ثانية شاهدت قافلة
تمشي على خط وجد بين قرطبة
ومصر. هل رحلوا للماء أم رحلوا
ليصقلوا ليلهم بالحزن إن وصلوا
نظرت حولي، أنا والظبي، لا أحد
هنا سوى نخلة ممشوقة وقفتْ
قلادة علقت في جيد بادية
فسرتُ شيئا فشيئا وهو يتبعني
نمشي بحقل شعير في خلاخله
ترن خطواتنا. أين الطريق إلى
ما لست أعرف من نفسي ومن زمني
بلا دليل إلى الأشياء يسجنني
أين الطريق إلى أمسي؟ وهل مدنٌ
يا ظبي مرت بنا في ثوب قافلة؟
مرت، ولم ننتبه قط ارتعشتُ من
الذكرى وآلمني شوق يسافر بي
برقاً، وهذي التلال الصفر كيف محت
دروبها؟ هل محتها غيمةٌ سحبت
أذيالها مثل طاووس ينقطه
نحاس أحلامنا؟ لا شيء أفهمه
هنا، فأين قناديل القرى؟ فمدى
بلا قناديل لا أرجو نهايته
تحلق الظبي حولي فجأة وجرت
ريح تمشط حقل الروح في جسدي
وقال سر بي أنا الظبي الشريد أنا
طريد ذاكرتي من كل مذأبة
سر بي-التفتُ إذا نمْرٌ تخبئه
حشائش يابسات قصها أفقُ
مذهب بغروب داكن دبقُ..
خذني، يقول. أنا الظبي الشريدُ أنا
أنا الشريد رأيت الماء يشربني
لتختفي صورتي في صفو صورته
أنا غدير الأغادير التي سكبت
قرنيّ نافورة في ساحة هجرت
ولدت نقشا على أسوار غرناطة
أجري على برك الحمراء حيث حنت
واحدودبت سعفات النخل واطئة
واساقطت رطبا في طست فاكهة
بين الجواري-رأيت النمر يزحف في
روية. وهو يحكي، مغصة ركلتْ
حشاي قلت له: هيا! وسرت على
مهل وقلبي يؤز الآن من لهب
كأنما كركدنٌ شد أوردتي
مني وعلمني الجري الثقيل على
تلال خوفي. ”إلى أين الطريق إلى
أين الطريق،“ يقول الخشف مرتجفا
حملته وجريت. الشمس تسبح في
وجهي فلست أرى إلا ملاءتها
على جبيني كأني راية عَلَقت
في دوحة، ساعة، والخيل عادية..
حتى سمعت خطى النمر السريعة في
أذني تدق كمهباج، تدق على
إيقاع خفقة قلبي وهي راكضة
دربي المثقب بالبلوط ضيعني
وها أنا الآن مطروحا كمروحة
في الزمهرير. إلى أين الخروج إذن؟!
وجهي تحجر كالفيروز، وانفصلت
مني، يداي كمجدافين من خشب
في جوف ناعورة دارت بلا عجل
أو جدول، وفمي بئر معطلة،
ساقاي وحدهما كالموج جنَّحتا
بي مثل سرب قطا شق النخيل على
كثيب رمل وضاعت فيه ذاكرتي..
سقطتُ في حفرة والخشف ملتصق
بي، هكذا. لحظة، ثم ارتطمت بما
أظنه بركة طينية وجرى
صمت على شفتي من دهشة وأنا
ما زلت مرتعشا والخشف يضحك من
خوف ومن فرح حتى ظننت لقد
جن الغبي، فقال: الموت يرقبني
منذ انتبهت إلى خدش الحياة كما
لو أنني غصن زيتون سينكسرُ
أو موجة مدها عمري ستنحسرُ
والموت أول شيء كاد يقتلني
لكنني لست أشكو أو أقول: لقد
مللتُ طعنة أيامي. وإن أنا قد
مللت خنجرها في مرج خاصرتي
وما يفيض به من سم فضته
وحر طعنته بين الضلوع. أنا
لا شيء يشبهني، لا شيء أشبهه..
بكى قليلا كأن المزن يسكن في
جفنيه يعصر ما يهوى ويمسكه
نظرتُ فوق إذا بالنمر يرقبنا
يدور دورته كالرخ ثم إذا
سكتُ أسمع أو أرنو توقف في
صمت، أينصت مثلي أم يشم شذى
خوفي الذي فاح كالكمون من عرقي؟
لعابه فوق رأسينا يقطِّره
ناب تلألأ كالسكين من فمه ..
النمر أسود في ظل الغمام إذا
جرى ويخضرُّ في طين الحقول على
ربى مخصَّرة بالمعز ناعمة
يصفرُّ وهو على رمل تلاعبه
هبوب ريح وأغصان محطمة
ويمَّحي لونه من برق وثبته
بين الحشائش والأشجار والقصبِ
كأنه خيط ناي سل من ذهبِ
ما زلت ألهث في صمت وإن سكنت
نفسي قليلا وأطرافي لرعشتها
وخز خفيف جرى في نار أوردتي
نار تكوّي ثقوب الحزن في رئتي
غفوتُ لم أنتبه أني حُملت إلى
حلم وطرت وفي جنبيّ أجنحة
تنمو وتنمو وتنمو ثم تشتعلُ
حتى هويت ونفسي في تنتقلُ
هويت وحدي إلى أعلى ولست أرى
سوى سماء جرى في ماء زرقتها
طير وأشرعة بيضاء ساكنة
حتى بدت لي سماء نصف غائمة
تكشفت عن شبابيكٍ تطل على
بحر وأرصفة شهباء داكنة.
رأيت بحارة يمشون دون هدى
مراكب هجرت في اليم، أبخرة
تطوف، أجنحة في الأفق سابحة
بلا رؤوس، دروب دونما لغة
ولا نوافذ، خيمات مقلَّمة
تفتحت فجأة عبر المدى سُقُفا
طارت بلا غاية ترجى ولا هدفا
جريت وحدي طويلا دون بوصلة
وصرت درباً زراعياً جوانبه
تضيق شيئا فشيئا في نهايته.
وقفت عند قرى مهجورة فتحت
أبوابها، وبيوتات مرقَّطة
بالياسمين، على تل تخططه
حرائق الصيف والأسفلت تشعله
توابل البحر والورد المجفف في
أنامل الوقت. لم أذكر سوى وجعي
كأنما أرخبيلا وسط ذاكرتي
نما وأوسعه ما كان يعصف بي
مراكب الحزن ترسو في موانئه
والخوف يبني على أشجاره عششا
لربما لم أجد ما كنت أطلبه
سفح الحقيقة مخفي ولا سُرُجٌ
في عتمة الظن، والمعنى يفككه
شك المؤرخ في لفظ المكان كما
روته أسطورة شعبية درستْ
هل كان يسعفني فن الملاحة لو
أتقنتُ هندسة الأفلاك في حُلُمي؟
كأنني فكرة منقوشة حُبست
في صخرة أسفل الوادي وما اكتشفتْ
هل كنت أطوي على دراجة زمني
هل كنت أدعك روحي مثل آنية
فضية نسيت في القبو فانطفأتْ
جلست أسأل نفسي وهي تسألني
حتى سمعتُ هدير النمر في أذني