عن آخر جولة صراع انتصر فيها شرقي المتوسط على غربه، وأعني ما يسمى بالحروب الفرنجية، والتي يصر الغرب على تسميتها بالحروب الصليبية، عن هذه الحروب التي يعلق عليها محارب مسلم مثقف عاصر تلك الحروب، محارب يجسد كل صفات الفارس النبيل، فلقد كان شاعرًا، أميرًا، مؤرخًا، عالم بلاغة، صيادًا، وكان دبلوماسيًا فارسًا، هذا الرجل كان اسمه أسامة بن منقذ. وأسامة هذا يعلق على الحروب التي فرضها الغرب حديث التنصر على الشرق العربي المتنوع بين الإسلام والمسيحية واليهودية حينها، يعلق فيقول: أما الفرنجة، لعنهم الله، فلا شيء يميزهم إلا الشجاعة والقوة، وهذه موجودة لدى السباع والحيوان، أما الإنسان فيتميز بالعقل والحكمة والشعر!!!
هذه الحروب التي استمرت مئتي عام تقريبًا، وخرج منها الشرق محررًا لأرضه، طاردًا للقوى البربرية عن أرضه، هذه الأرض إذا ما استقرأنا أهلها المنتصرين سابقًا، استقرأناهم الآن أي بعد ثمانمائة عام وسبرنا عائلاتهم كلهم.
كبيرهم وصغيرهم، نبيلهم وحقيرهم، بحثًا عن عائلة واحدة تعلن بفخر أني حفيدة ذلك العلم، أو الفارس العظيم، أو الأمير الكبير الذي شارك في الحروب الفرنجية، فلن نجد عائلة واحدة.
فأين من يدعي أنه من أحفاد نور الدين محمود، أو أين من يدعي أنه من أحفاد صلاح الدين الأيوبي، من أحفاد مظفر الدين كوكبوري، من أحفاد بهاء الدين قراقوش، من أحفاد القاضي الفاضل، من أحفاد أسامة بن منقذ.
على الجانب الآخر، أي على الجانب الغربي المهزوم في تلك الحروب، فإن سألت أسر أوروبا النبيلة، والإقطاعية كلها، أو معظمها على الأقل، عن أصولها، فستجدهم جميعًا يفخرون ليس بأن جد هذه الأسرة، أو تلك، كان الأمير، أو الكونت، أو الفارس الفلاني، الذي شارك في الحروب الفرنجية، بل حتى بكون الجد قد شارك فيها جنديًا عاديًا، أو سرجنديًا، أي رقيب، أو حتى برجاسيًا، وتعني بورجوازي، أو تاجرًا من تجار حروب الفرنجة.
والسؤال لماذا حرصوا على تذكر تاريخ تلك المرحلة بهذا الإصرار والحنين، وحرصنا على إضاعته وخسارته وتجاهله حتى لم يتبق من أحفاد أولئك المنتصرين من يخبر عنهم؟ هذه الحروب استمرت مئتي عام، وأصر مؤرخو الشرق العربي على تسميتها بالحروب الفرنجية، بينما أصر الغرب على تسميتها بالحروب الصليبية. فمن هؤلاء الذين سموا أنفسهم بالصليبين. التاريخ يؤكد أن الكتلة الكبرى من مقاتلي الحروب الفرنجية كانوا من النورمان، يليهم الفرانك، الذين سيعرفون بعد قرون، وبعد تشكل الدولة الفرنسية، باسم الفرنسيين، النورمان هؤلاء، أو شعوب إسكندنافيا، الذين دوخوا أوروبا، والأندلس الإسلامية، تحت اسم الفايكنغ، قراصنة القتل والنهب، هؤلاء النورمان كانوا قد تنصروا مؤخرًا، ولم يمض على تنصر بعضهم مئتا عام، وعلى البعض الآخر مئة عام.
وكانوا قد دمروا أوروبا وثنيين، ثم دمروها متنصرين، وحين حمّلهم البابا أوربان، الصليب ليغزوا به الشرق، كان يريد التخلص من شغبهم وتدميرهم العنيف لأوروبا قديمة المسيحية، فوجههم إلى الشرق. وحين اتجهوا إلى الشرق كان أول ما دمروا هو هنغاريا، ثم بلغاريا الأرثوذكسية، ثم بيزنطة وعاصمتها القسطنطينية الأرثوذكسية، أيضًا، فزرعوا القتل والغصب والحرق والنهب في العالم المسيحي بشقيه قبل أن يصلوا إلى شرق المتوسط.
كان الشرق المسلم قد فقد وجهه السياسي العربي الحاكم، ولم يبق للعرب فيه إلا بضع إمارات ممزقة ما تزال تعوم في بحر السلاجقة الإمبراطوري الذي ساد العالم المسلم إذ ذاك، فقد بقي للعرب إمارة بني عمار في طرابلس، وإمارة بني منقذ في شيزر، وإمارة بني صدقة في جعبر، ودولة متداعية للفاطميين في القاهرة، ودولة لم يبق منها إلا الرمز للعباسيين في بغداد، فمر الفرنجة في ما بينهم مرور السكين في الزبد.
ولم يتركوا وراءهم، وحيث حلوا، إلا الخراب والحرائق والدمار البشري، في المعرة، وفي القدس، وفي نيقية، وفي أنطاكية، سيول ودم وركام من جثث. ثم جاء المد الإسلامي، فكسحهم واختفوا من التاريخ، غير مبقين إلا حصونًا عسكرية كانت تحميهم يومًا ما. وذكريات من سواد لم يمح عن الصراع بين الدينين، وليس بين الحضارة والبداوة.
بعد خمسمئة وأربعين عامًا ونيف، قدم الفرنسيون إلى الجزائر ليصنعوا صفحة جديدة من الصراع بين الشرق والغرب، ولن يسموه هذه المرة بالحروب الصليبية. ولكن أعظم الدارسين للحروب الصليبية هم الفرنسيون، أرادوا دراسة ومعرفة الأسباب التي جعلت أجدادهم يخفقون في حروبهم الاستئصالية والاحتلالية في الساحل الشامي، وكان مما وصلوا إليه أن الخطأة الكبرى كانت في أن الصليبيين في إقامتهم في الساحل الشامي حافظا على كونهم أرستقراطية عسكرية تكتفي بجباية الضرائب والريوع من الفلاحين العرب الذين ظلوا على أرضهم فلم يختلطوا بالتراب، ولم يصبحوا وطنيين، فما إن ضعفت قواهم وانحل وتر شدتهم، الذي دخلوا عبره إلى الشرق وهزموا الهزيمة الأولى حتى تبخروا كأن لم يكونوا، وعادت البلاد والأرض إلى أصحابها.
قرر الفرنسيون محتلوا الجزائر ألا يكرروا الخطأة نفسها، فقرروا ازدراع الأراضي الجزائرية بأنفسهم، فاستقدموا الحالمين، والراغبين في صنع فردوس أرضي على الأرض إلى الجزائر. فطردوا الفلاحين عن أفضل الأراضي، وصنعوا للحالمين بالاشتراكية مستعمرات، ومستوطنات، واشتراكيات، وتبدى وكأن حلم تغيير العالم إلى العدل، وإن على حساب الفقراء والضعفاء، من اصحاب الأرض، ولكن لم تمض بضع عشرات من السنين، أو أقل، حتى مال الحالمون والاشتراكيون إلى الراحة والاستعانة بالفقراء من المحليين في العمل الشاق الأسود، وهكذا ما إن انحل الطوق العسكري المنتصر حتى اختفت القشرة من المدعين الأوروبيين عن الجزائر.
ثم... كانت الصهيونية التي تغلغلت هذه المرة في اليهودية، ولكن ما علاقة الصهيونية باليهودية، ومن هؤلاء الأوروبيون الشقر الذين يدعون اليهودية. ويدعون حقًا بالساحل السوري الشامي الجنوبي، ثم يدعون الصهيونية، ويدعون أن فلسطين لهم، وأنهم أحفاد سليمان وداوود، وما إلى هنالك من قصصهم.
التاريخ يذكر مأثرة للعباسيين، وهي أنهم انقلبوا وقاتلوا وطاردوا الخليفة الأموي الأخير، مروان بن محمد، حين كان قد هزم الخزر في باب الأبواب، أو الدربند، أو في دولة الخزر. طارده العباسيون بعد أن قارب جعل الخزر يسلمون، أو يصبحون من رعايا الدولة، بمنطق ذلك الزمن، فهرب مهزومًا إلى مصر، وقتل في أنشاص في مصر، وانشغل العباسيون، وعلى رأسهم، أبو العباس السفاح، بأمورهم الداخلية، وطارد أعداءهم، وتركوا الخزر يصنعون تاريخًا جديدًا.
توسع إمبراطورية يهود الخزر (ويكيزيرو) |
كان الخزر قومًا من الترك وثنيين صنعوا لأنفسهم امبراطورية تجارية بين الشرق والغرب، وحين قويت دولة المسلمين خرجوا من وثنيتهم، فاستدعى خاقانهم، أي ملكهم الأكبر، حسب الباحث والروائي الهنغاري اليهودي، أرثر كويستلر، الذي كانت مراجعه كلها عربية، بدءًا من ابن فضلان، ومرورًا بابن حاصول، وابن حوقل، والبلاذري، والمسعودي،... إلخ.
استدعى الخاقان شيخًا مسلمًا، وحاخامًا يهوديًا، وبطركًا مسيحيًا، وقال لهم حدثوني عن دينكم، فإني قررت أن أتدين. فصار كل منهم يمتدح دينه، ويزدري دين الآخرين. سئم وحار الخاقان الوثني، فتسلل إليه الحاخام خلسة، وقال: لن أعيد القول بأن اليهودية هي الخير، ولكن استدع الشيخ المسلم وسله: أيهما خير، المسيحية، أم اليهودية، وأنا راض لجوابه، ولما كانت المسيحية الدين الخصم للإسلام وقتها، في خصومة سياسية، فهي دين الروم البيزنطيين، فقد خيّر اليهودية على المسيحية، ثم قال الحاخام للخاقان: استدعي المسيحي وسله: أيهما خير، الإسلام أم اليهودية، ولما كان الإسلام دين الخصومة السياسية وقتها، أي دين الدولة العباسية، فقد خيّر المسيحي اليهودية، أيضًا، على الإسلام.
وهكذا اختار الخاقان اليهودية دينًا له، وكانت الدولة اليهودية الأقوى والأخطر في التاريخ الوسيط، الدولة التي حكمت الطريق التجاري بين الشرق والغرب والتي أذلت الروس الوثنيين واسترقتهم وباعتهم حتى باتت كلمة الصقالبة، أو السلاف، تعني العبيد، فهي بالفرنسية Esclve، وبالإنكليزية Slave.
استمرت دولة الخزر اليهودية قرنين، أو أكثر، ثم دمرتها دولة الروس التي تنصرت أخيرًا، وتمزق يهود الخزر بين الدول السلافية، حتى استقرت كتلة كبرى منهم في بولونيا. وكان القرن التاسع عشر القرن الذي أثرى فيه يهود المارينو، والأسفاراد، الهاربون من إسبانيا، والذين خجلوا من يهود الخزر المتسربين من سلافيا، بفقرهم وأفكارهم الراديكالية، وهكذا بدأت حكاية الحروب الصليبية الجديدة، أو الصهيونية، والتي ألقت أوروبا عن ظهرها بمكروهيها ومشاغبيها من اليهود، فرمت بهم إلى الساحل الشامي الجنوبي، لتبدأ مأساة جديدة في بلاد الشرق، إنه الاستيطان الصليبي، ولكنه بنجمة داود هذه المرة.
بعد دراسة الفرنسيين لأسباب تهاوي المشروع الفرنجي في الشام، جاء الآن اليهود الأشكناز، لدراسة أسباب هذا التهاوي لتحاشيه. يقول إسحق رابين: "إن أكثر ما يخشاه على اسرائيل هو أن تذبل إذا أصابها جفاف الهجرة، كما حصل مع الدولة الصليبية، قبل ثمانية قرون". أما يوري أفنيري، الصحافي والسياسي الإسرائيلي، وصاحب صحيفة هعولام هزيه، أو "هذا العالم"، فيتساءل في مقال شهير له: هل انقراض الدولة الصليبية سيتبعه انقراض إسرائيل؟ وفي هذا السياق، يقول خبير استراتيجي أميركي: قد تظل إسرائيل متفوقة إلى أمد، ولكن المنطق، وقانون المعدلات، يوحي بأن اسرائيل الصغيرة المحاطة بكتل بشرية هائلة من العرب ستفقد في زمن ما تفوقها... وعندئذ. إن المقارنة بين الاستيطان الصليبي في بلاد الشام، والفرنسي في الجزائر، قد يفيدنا بشكل جيد في قراءة ودراسة مصير إسرائيل، بين ظهرانينا.
عن (ضفة ثالثة)