يسعى الكاتب المصري في هذه الدراسة إلى تقديم أفكار الناقد البولندي كرافد من روافد النقد الثقافي المعاصر، الذي اهتم بتحليل الحياة والممارسات اليومية، ونقد تجربة التحديث الغربية، وكيف اعتمد كثير من الإسلاميين الوسطيين – وأبرزهم عبدالوهاب المسيري - على أفكاره تلك وخاصة على فكرة السيولة الحداثية إزاء الرواسي الدينية.

النقد الثقافي المعاصر في افكار زيجمونت بومان

محمد الغريـب

 

تناقش هذه المقالة بعض المحاولات الأولية لفهم ابعاد النقد الثقافي المعاصر لدي الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت بومان. وهي علاقة شائكة، فتحاول المقالة مثلا تطبيق منهجية النقد الثقافي في افكار زيجمونت بومان، كأنه نص في ذاته خاضع للنقد وفهم الأنساق المضمرة التي تختبئ في ثنايا افكاره وكلماته، وذلك بجانب الابعاد الثقافية التي تتضمن في افكار بومان، والتي يمكن استعراضها، مثل نقد العلاقات الاجتماعية بين الاشخاص التي تحولت الي فعل تعاقدي، وذلك خلال اهتمامه بتحليل تفاصيل الحياة اليومية.

باومان والهولوكست:
هل يمكن القول أن كتاب زيجمونت باومان الحداثة والهولوكوست، وأيضا بقية كتبه وافكاره التي تعلقت بنقد الحداثة بشكل عام له علاقة بالخليفة اليهودية لبومان، وأيضا للظروف التي مر بها هو وعائلته من قبل الحكم النازي، حيث ولد في بوزنان، بولندا عام ١٩٢٥م لأبوين بولنديين، يهوديين بالاسم. واتجهت عائلته شرقًا إلى الاتحاد السوفييتي بعد الاحتلال النازي لبولندا في عام 1939م. وخدم في الجيش البولندي الأول الذي كان بقيادة سوفيتية كمدرس في العلوم السياسة. وشارك في معارك كولبرج (كولوبرزيج حاليًا) وبرلين. وقد تخلى عن جنسيته البولندية حتى يستطيع الخروج من بلده، فذهب أولًا إلى إسرائيل ليُدرّس في جامعة تل أبيب.

وهل هذه العلاقة هي رد فعل له ضد الحداثة والغرب؟ وما هي المساحات التي توجد في افكاره ضد الغرب، وما هي المساحات في افكاره في رؤيته للمحرقة التي تبتعد بشكل ما عن تحيزاته، وتقترب من فهم هذه المحرقة في اطار اجتماعي وثقافي. نحاول طرح بعض افكاره في رؤية المحرقة، حيث تأثر بومان كثيرا بليفي ستروس وكاستورياديس،  حيث أكد الاخير أن المحرقة ومعسكرات الاعتقال كانت هي ايضا نتائج الأبداع، والثقافة ابداع، كما انها استنساخ، ولكن هذا الادعاء في حد ذاته لا يقول لنا شيئا عن مضمون أو قيمة الثقافة. والثقافات عرضة للنقد، ولكن في صيغه الجمع، وهي في ترحال، أو هي في حركة أو في انتقال الذي هو محوري في الوقت الحاضر.

الحداثة كمشروع حضاري والهولوكوست:
ومن خلال هذا الطرح النظري الذي تأثر به بومان، أوضح في كتابه الحداثة والهولوكوست أن هذه المحرقة، تأتي من خلال الابداع الغربي، والحداثة العلمية، ويرى أن الهولوكوست هو أحدى القنابل الموقوتة التي صنعتها الحداثة الغربية وأن الظروف التي قامت عليها الحادثة كنت ظروف طبيعية جداً تتوافق مع كل شيء نعرفه عن الحضارة الغربية، ويأتي باومان بكلام "فينجولد" عن معسكرات "أوشفيتس" وأن هذه المعسكرات كانت امتدادا طبيعياً لنظام المصنع الحديث، فبدلاً من إنتاج البضائع كان البشر موادها الخام، وكان الموت نتاجها النهائي. ويوضح باومان كيف ترى الحداثة المجتمع في إطار البستنة، وأن الدولة الحديثة تتعامل مع المجتمع الذي تحكمه على أنه بستان، يخضع للتخطيط والفلاحة ومكافحة الحشائش الضارة وإبادتها. فالعالم العقلاني للحضارة الحديثة هو الذي جعلها ممكنة، لم يكن قتل اليهود على أيدي النازيين نتاجاً تكنولوجياً أفرزه العالم الصناعي فحسب، بل كان نتاجاً تنظيمياً أفرزه المجتمع البيروقراطي أيضاً.

البيروقراطية والهولوكست:
يوضح باومان كيف لعبت البيروقراطية دوراً كبيراً في الحداثة فيقول "الدور الكبير الذي تلعبه الهولوكوست في فهمنا للعقلنة البيروقراطية الحديثة لا يقتصر بالأساس على تذكيرنا بأن الهوس بفكرة الكفاءة هو مجرد اهتمام شكلي يفتقر إلى البصيرة الأخلاقية". بل أهمية هذا الدور لا تظهر بصورة كاملة بمجرد أن ندرك مدى اعتماد القتل الجماعي غير المسبوق على توفر مهارات عالية ومتطورة للغاية، ودأب على تنظيم العمل بصورة منظمة ومفرطة في الدقة، والتزام بطاعة الأوامر. فهذا كله باختصار مجرد مهارات وعادات تنمو وتتطور في أفضل صورها في بيئة المكتب، لكن الضوء الذي تسلطه الهولوكوست على معرفتنا بالعقلانية البيروقراطية يحيرنا أشد حيرة، عندما ندرك إلى أي مدى كانت فكرة الحل النهائي للمشكلة اليهودية أحدى نتائج الثقافة البيروقراطية."

ويرجع باومان السبب في ذلك ببراعة إلى نجاعة تنفيذ الهدف من خلال القتل المنظم والذي لا يمكن إنجازه عبر إطلاق العنان للغرائز الحيوانية غير المنظمة فيقول "لم يكن من الممكن طرح فكرة القضاء على الرأفة الحيوانية وتنفيذها عن طريق إطلاق عنان الغرائز الحيوانية الدنيئة، لأنها كانت ستفشل في أغلب الظن عند مقارنتها بإمكانيات العمل التنظيمي، وما كانت كثرة القتلة الهائجين لتضاهي فاعلية البيروقراطية المنضبطة ذات التنسيق الصارم . ولم يكن من الواضح آنذاك على الإطلاق إذا ما كان يمكن الاعتماد على غرائز القتلة والبطش لدى كل تلك الآلاف من الموظفين البسطاء والمتخصصين الذين لا بد وأنهم تورطوا في الجريمة في ضوء حجمها الهائل في المراحل الإجرائية المختلفة."

اليهودية والهولوكست:
يوضح باومان المشكلة اليهودية والذي يتمركز على الهوية اليهودية، وأن أن اليهود أمة غير قومية، فهى منتشرة ومتناثرة في أنحاء العالم، وبالتالي كان اليهود هم العدو الدائم للدول العلمانية القومية، والتي تطمح لسلطة مطلقة ونهائية. فاليهود آنذاك هم جماعات يصعب تعريفها وتحديد هويتها، وبالتالي فهم جماعات متجاوزة للقوميات. برزت هذه المشكلة في قمتها عندما تصارعت الأسر الملكية الحاكمة في بداية بناء الدولة القومية، حيث استخدم الحكام اليهود باعتبارهم جماعة خارجة عن الصراع القومي في الوساطة مع أعدائهم ورعاياهم المدافعين بشراسة عن الأمة القومية. وبمجرد أن تحولت هذه الأسر الملكية الحاكمة إلى دول قومية حقيقية تحكمها العصبية القومية، أصبح هدف الحرب هو تدمير العدو، وحلت الحمية الوطنية محل الولاء للملك، فانقسم العالم باكمله إلى فضائات قومية لا غير.

ولّدت هذه الظروف الجديدة الشك والريبة تجاه اليهود، وأنهم أناس خونة ينقسهم الحمية الوطنية والحماس اللازم لذبح أعداء الأمة، ويظهر هذا في تحذير هيرنش ليو "إن البروز الملحوظ لليهود بين العالم يعود إلى امتلاكهم عقل يصيب كل شيء بالصدأ والتآكل والتعفن."  ويوضح باومان كيف استغلت الحداثة تعبير "الهوية العرقية اليهودية" لمنع اليهود من الانسلاخ في المجتمع، وتقول "هانا أريندت " صحيح أن اليهود تمكنوا من الفرار من الديانة اليهودية والاهتداء إلى دين الحداثة الجديد، لكن لا مفر من الهوية العرقية اليهودية.

ملاحظات علي الهولوكست:
ويلاحظ ان بومان اعتمد علي تحليلات اجتماعية وانثروبولوجية في فهم حادثة الهولوكوست، حيث فهم اليهود بأنهم جماعات يصعب تعريفها وتحديد هويتها، وبالتالي فهم جماعات متجاوزة للقوميات، وهو بذلك يثبت افكاره بأسانيد علمية محكمة، وايضا تكرر الامر مع الفكر البيروقراطي وعلاقته بالمحرقة، ويري الباحث ان هناك اشياء غير مصرح بها لدي بومان، في تحليل هذه الحادثة، وان هناك محاولات كثيرة لربط هذه الأسانيد والحجج بشكل مبالغ فيه، وذلك لصياغة ثقافية لمفهوم الهولوكست، وهي قدرات بومان في التنظير الاجتماعي والثقافي للأشياء، ورشاقته ووضوحه في اثبات الافكار، ويتفق الباحث مع الفكرة في العموم، انه ليس شرطا ان الابداع والعقلانية والتقنية تكون في نفع البشر، ولكن ربط ذلك المشروع الحداثي بشكل مباشر بالهولوكست، مثل ما يربط الحروب العالمية بالحداثة، هي تفسيرات مباشرة وسريعة للأمور، حتي وتم اصباغها بتبريرات اجتماعية وثقافية مثل ما فعل بومان.

زيجمونت بومان وتأثيره الثقافي:
زيجمونت باومان هو لاهوت نقد الحداثة لدي مثقفي الاسلاميين الوسطيين في مصر فتصوره واضح وبسيط، ويعتمد في نقده علي نقد الحداثة في ذاتها افعالها، تطبيقاتها، دون الخوض في ابعاد نظرية وفلسفية واكثر عمقا من الناحية الفلسفية. فهو اقرب الي النقد الاجتماعي للحداثة، توصيفات مثل الحداثة السائلة، الهولوكوست مخرج حداثي بدون تحديد هل الامر شرا ام خيرا، حتي قراء بيجوفتيش من الاسلاميين الوسطيين، يمليون الي افكار بومان، ومنها المثقف الاكبر عبد الوهاب المسيري، الذي بني افكاره في نقد الحداثة علي بومان، هذه العلاقة المصدرية لافكار بومان وهؤلاء المثقفين، هو اشبه بالايديولوجية والبحث عن افكار تؤكد ان الحداثة فشلت وهي مصدر الشر، الا يلاحظ هؤلاء أن بومان نصف افكاره هي ما بعد حداثية تعتمد علي بنيوية ليفي شتروس من الناحية الثقافية والسياسية، وعلي مداخل فوكو في مصطلحات العقاب والسجن والسلطة، وايضا ألم ينظر هؤلاء المثقفون إلى ان بومان يدافع عن الحداثة بتفاؤله المفرط نحو هذا المشروع الحداثي بأنه قابل للتغيير، وايضا هناك اسئلة تتعلق بالنقد الثقافي وخليفات المؤلف، هو علاقة هذا الغضب من جانب بومان تجاه الحداثي، خاصة انه يهودي وكتب كتابا حول الحداثة والهولوكوست. اسئلة كثيرة واشكاليات حول هذا اللاهوت البوماني لمثقفي الاسلام الوسطي.

وكتاب زيجمونت باومن "الحداثة والهولوكست" من ترجمة حجاج أبو جبر وتقديم الدكتورة هبة رؤوف عزت، وقد حصل حجاج أبو جبر على الدكتوراه في النقد الثقافي المعاصر من جامعة القاهرة، وأعد دراسات ما بعد الدكتوراه بألمانيا بجامعة هومبولت، ومعهد الدراسات المتقدمة ببرلين. من مؤلفاته "نقد العقل العلماني: دراسة مقارنة لفكر زيجمونت باومان وعبد الوهاب المسيري" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ومن ترجماته "الحداثة والهولوكوست" (مدارات، القاهرة 2014)، و"الحداثة السائلة" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2015).

وفي كتب المسيري نجد تأثره بأفكار زيجمونت بومان، مثل تحول المجتمع الغربي من مجتمع منتج إلى مجتمع يعيش حمى الاستهلاك أو ما يطلق عليه باومن الحداثة الصلبة التي قامت على فكر الاستنارة وتراجع سلطة الميتافيزيقيا وهيمنة النسق الرأسمالي، ووصولا إلى الإعلان الشهير حول موت الإله. وقد أنتجت هذه الأطروحة الفلسفية مؤسسات وقواعد غاية في التنظيم والصلابة إلى أخرى سائلة بما تعنيه من إذابة وتمييع وصهر. فلعل أول من التقط هذا المصطلح المفكر عبد الوهاب المسيري الذي صاغ منها نماذج تفسيرية في نقد الحداثة الغربية وتحولاتها. ويمثل لفظ السيولة الكلمة المفتاح، ويحاول باومن تتبع ذلك من خلال محاور تمثل مباحث الكتاب: التحرر، الفردية، الزمان/ المكان، العمل، الجماعة.

وايضا وردت تعبيرات السائلة والتمييع والاذابة في النواحي الاجتماعية في افكار المسيري، وقد استعمل باومان كلمة “سائل” بالاستعارة من طبيعة المواد الفيزيائية، فالمواد السائلة تتميز عن المواد الصلبة بعدم قدرتها على الاحتفاظ بقوى التماسك بين مكوناتها في حالة السكون، وفي أنها لا يمكن أن تحتفظ بشكلها بسهولة. ويسرد بومان أن "الحداثة هي عملية إذابة لكل ما هو صلب، وقد ظهر ذلك في محاولة التحرر من الدين والعادات والتقاليد. وكل ما هو صلب قديم واستبداله بمواد صلبة جديدة، وقد عبر عن ذلك ماكس فيبر بقوله "تحرير المبادرة والإقدام من قيود الواجبات العائلية ومن النسيج الكثيف الذي يميز الالتزامات الأخلاقية ولكن المواد الصلبة التي استحدثتها الحداثة تعرضت لسيولة غيرت من معالمها" .

نقده الماركسي للحداثة:
أكّد باومان على كونه قد اعتنق الشيوعية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وأنه لم يجعل من الأمر سرًّا. قد أُلغي بشكل مؤقت من المناهج الدراسيّة البولنديّة باعتبارها حقل معرفي برجوازي - ومن ضمن أساتذته في وارسو؛ ستينسلو أوسوسكي وجوليان هوتشفيلد. مبدئيًا، كان باومان قريباً من المذهب الماركسي الأرثودوكسي، ولكن كان أيضاً متأثراً بأنطونيو جرامشي وجورج سيمل، حيث عُرف بعد ذلك بشكل واسع بأنه ناقد للحكومة الشيوعية البولندية. ولهذا السبب لم يحصل أبداً على لقب الأستاذ حتى بعد أن اكتمل تأهيله لهذا. وأحد أول أعمال بومان باللغة الإنجليزية كانت دراسة عن الحركة العمالية في بريطانيا، وعلاقتها بالطبقات الاجتماعية، حيث تم نشره في بولندا عام 1960م. واستمر بعد ذلك في النشر عن صراع الطبقات في المجتمع، حتى بدايات الثمانينات الذي نشر كتابه الأخير المتعلق بهذا الموضوع "ذكريات من الطبقية". وإن لم تكن كتبه اللاحقة تتحدث عن الطبقية بشكل مباشر، إلا أنه استمر بوصف نفسه كاشتراكي متأثراً بالماركسية وبنظريات ماركس، وخصوصاً أنطونيو جرامشي الذي كان له التأثير الأعمق على بومان.

ويقف بومان دائما في ظل ماركس، هذا واضح في موقفه من المسارات القوية للرأسمالية والاغتراب والتحقق، بل في اللحظات الاكثر ايجابية في اعماله أو في القرائن الدلة التي يأتي بها، كما هو الحال في فكرة الطبيعة، وتتشابك علاقة بومان بماركس بكثير من الفلاسفة ذو الميول الماركسية مثل جورج لوكاتش ومدرسة فرنكفورت، وميشال فوكو، ولكن كانت ماركسية بومان انسانية للغاية، بدلا من ان تكون بنيوية، او علمية في دعواها. وقد استخدم بومان فكرة الذاكرة لإبعاد مفهوم الطبقة، فمركزية الطبقة، وليس الثقافة، مسألة ينأى بومان بنفسه عنها، وفي كتابه، يشير بومان الي ملاءمة المفهوم او وجوده، ولعله ينم عن الشعور بأن هذه الذكريات تثقل علينا مثل الماضي. ولا يزال يُنظر لبومان بهذا المعني، الذي يرتبط بكتابة ماركس التاريخية، فنحن مسكونون بأشباح الماضي، والواقع أن هذه الاشباح مرتبطة أيضا بثقافتنا، سواء عادت بنا مرة أخري الي النضال الطبقي الرئيسي في القرن التاسع عشر، او الي حياة المحرقة كشبح، والقضية الاعم هنا هو المعني الأنثروبولوجي بأننا مخلوقات تعمل بدافع من الذاكرة، من الثقافة، من اختراع التقاليد.

ويشار إلي ان هناك ارتباط خاص بفوكو، في استخدام بومان لكتاب (الانضباط والعقاب) كمنهج في التفكير لا حول مؤسسات السجن بل المصنع، الذي هو في الواقع من منظور واحد مؤسسة للحبس والانضباط ذاته، ونتيجة لذلك، أن ما بين أيدي بومان، إذا جاز التعبير، فضول فوكوي بنبرة ماركسية، وكانت هذه المقارنة البحثية تعدينا إلي كتاب رأس المال لماركس باعتباره دراسة اجتماعية للمصنع وانضباط العامل ذاتا وجسدا وروحا. فغاية الثقافة الرأسمالية هي توليد الناتج والنتائج، واخضاع العمل والاجساد والمهارات لنظام روتيني، واستيعاب هذا النظام باعتباره طبيعة ثانية.

بومان وتفسير الحياة اليومية:
نشر بومان كتاب "علم الاجتماع للحياة اليومية" باللغة البولندية عام ١٩٦٤م، والذي وصل إلى شريحة شعبيّة كبيرة في بولندا، والذي شكل لاحقًا أساسًا لمقرّر باللغة الإنجليزيّة "تفكير بشكل اجتماعي" عام ١٩٩٠م. وأجمل ما في كتب بومان أنها قريبة من القارئ غربيا كان أو عربيا. تلك القدرة على شرح المفاهيم بطريقة بسيطة قريبة له. إذ يرصد الحداثة في أبعادها اليومية التي يتعرف فيها القارئ على نفسه، بعيدا عن التعقيدات التقنية. بالإضافة الي أن تميز ثقافة بومان بالموسوعية مكنته من تناول الظاهرة من خلال مقاربات مختلفة، في تعدد الإحالات، إلى الروايات بالتحديد. وفي سياق تفسيرات بومان حول الحياة اليومية يشير الي أن الفرد في الحضارة الحديثة يستمر مهتماً بشؤون ذاته الخاصة عوضاً عن العامة، ويؤدي ذلك إلي أن يستعمر الفضاء الخاص الفضاء العام والمصلحة العامة، لذا يغدو الفضاء العام مليئاً بقصص الحياة الشخصية للشخصيات العام،ة ونشر وإذاعة الأمور الخاصة. مما يجعل الفضاء العام خلواً من القضايا العامة والحوار بشأنها.

العلاقات الاجتماعية وبومان:
ويشير بومان في قوله حول المجتمع الحداثي أنه يفعّل طاقات أعضائه باعتبارهم مستهلكين لا منتجين، الاستهلاك الذي يهدف إلى تحقيق الوعد المضلل المتلاشي بحياة خالية من المتاعب. فإنه لا ينتهي ما إن بدأ، لقد بدأ المستهلك السباق، لكن ربما لا يكمله لأن خط الوصول دوما يتحرك بسرعة تفوق أسرع العدائين. النزعة الاستهلاكية في شكلها الحالي جعلت الفرد يعبر عن نفسه من خلال ما لديه من ممتلكات حيث أننا نتسوق المهارات المطلوبة لكسب قوتنا، ونتسوق الوسائل اللازمة لاقناع أصحاب العمل بأننا نمتلك هذه المهارات، إننا نتسوق الصورة التي تبدو جميلة إذا ما ارتديناها، أو الطرق التي تقنع الآخرين أننا ما نرتدي، إننا نتسوق طرقا نصنع بها صداقات مع أشخاص جدد نريدهم، وطرقا للتخلص من أصدقاء قدامي لم نعد نريدهم، إننا نتسوق طرقا لجذب الانتباه، وطرقا للتواري عن الأنظار، إننا نتسوق طرقا لكسب حب المحبوب، إننا نتسوق أشهي أطعمة تُسيل اللعاب، وأفضل نظام غذائي للتخلص من عواقب أكلها، إننا نتسوق أقوي مكبرات الصوت، وأكثر حبوب الصداع فاعلية. وأعادت الرأسمالية صياغة وتشكيل طباع الناس وأذواقهم، حتي صارت تتلاءم مع السلع والتجارب والملذات الحسيه، وحتي صار بيعها وحده يعطي شكلا ومعني لحيواتنا.

صارت الروابط والعلاقات في عصر الحداثة السائلة أشياء نستهلكها لا ننتجها، إنها تخضع لمعيار التقييم نفسه الذي تخضع له موضوعات الاستهلاك الأخرى، فلم تعد مهمه الشريكين العمل علي استمرار العلاقة ونجاحها، بل صار الامر مسألة تتعلق بإشباع الرغبة من منتج جاهز للاستهلاك. واذا كانت اللذة الحاصلة لا تصل للمستوي الموعود ولا المتوقع، يمكن للمرء ان يقيم دعوي طلاق، ويستشهد بحقوق المستهلك، وقانون المواصفات التجارية. ومن ثم فان الطبيعية المؤقتة للعلاقات تتحول عادة الي توجه نحو إشباع الذات. ونتيجة لذلك يشدد باومن على ضرورة المقاومة من خلال تقوية التماسك الاجتماعي وخلق وعي اجتماعي وأهدافا للمسؤولية الاجتماعية وخلق روابط مشتركة ووعي جمعي وإجماع أخلاقي.

ملاحظات في التحليل والنقد الثقافي لدي بومان:
الثقافة والحياة اليومية:

ظهر وتبلور مفهوم الثقافة لدي بومان في بواكير اعماله، وذلك خلال عمله الباكر (الثقافة كممارسة) 1973، وكتاب ( نحو علم اجتماع نقدي)، وتعتبر هناك اشارات عابرة لهذين الكتابين الي فوكو، واشارة خاصة لليفي شتروس. فوفقا لبومان الثقافة نشاط بنائي أحيانا ما تكون ناجحه، وسعيدة في بعض الاحيان، وأحيانا ما تكون خلاقة أو عادية أو ينجم عنها دمار مأساوي، وفي بعض الأحيان أكثر دلالة أنثروبولوجيا علي التكرار الإضافي والابتكار في الحياة اليومية. ويربط هنا بومان الثقافة بتفاصيل الحياة اليومية، وهو ما اهتم بفهمه بومان خلال بعض اعماله خاصة التي تعلقت بعلم الاجتماع وبعضها في كتبه حول نقد الحداثة، حيث نقد الحداثة خلال تطبيقاتها في الحياة اليومية. وايضا اوضح انها تعمل في اتجاهين او مسارين، سواء كانت تصب في سعادة الانسان، او شكل من الدمار المأساوي للإنسان.

الثقافة والتراث:
ويضفي بومان معني علي الثقافة عن طريق استغلال محتوياتها المباشرة ضد أكبر علامات وموجات عصرنا، بداية من الرأسمالية إلي الترشيد، وهو يتبع التقاليد الكلاسيكية في تمييز انماط او اتجاهات الثقافة، المنقولة بالقوة او الهيمنة، وكعملية يسعي الي تفسيرها، يبتكر في تحليله  بالتوسط بين علامات الثقافة العصرية والإحساس بإن هناك ديناميكية اجتماعية أكبر أو منطقاً يقف من ورائها، فالابتكار هو عمل داخل التراث وخارجه، إذ تنبع الثقافة من التراث، ولكنها تخترع، والتقاليد الفكرية التي يعتمد عليها بومان متعددة وقوية ومتنوعة، وكذلك ابتكاراته.

الثقافة والممارسة:
يري بومان ان الطبيعة والثقافة نتاج للممارسة الإنسانية، فاذا لم نتحقق في الحياة العامة للرأسمالية أو البيروقراطية يمكن ان نسعي الي التحقق أو الي العلاقات غير المغتربة، في البيت، أو في المجال الخاص. حيث تصبح الرأسمالية متجسدة داخل ثقافتنا ومنضوية داخل النفس، إلي حد أننا لا نستطيع أن نتصور او نعتقد أننا لا يمكن ان نتصور أن هناك سبيلا غيرها للعيش. ويري بومان ان الطبيعة والثقافة نتاج للممارسة الإنسانية. والثقافة هي مستوي الواقع الموجود بيننا وبين الطبيعة، فمشكلة علم الاجتماع، عند بومان هي الوصول إلي المرحلة التي تتحول فيها الـ "ثقافة" او المجتمع " إلي إله لا هم له إلا سحر عبادة السلعة.

النخبة المثقفة:
يتحدث بومان عن النخبة المثقفة، والثقافة الرفيعة، موضحا أنه انتهى الوقت الذي كان من الممكن أن نميز فيه نخبة مثقفة، حيث كان ميراثها “الفن الرفيع”، وعادتها النظر بازدراء إلى المشترك العابر، بدء من أغاني البوب حتى الإشهار التجاري في التلفزيون. وانتهى أيضا الوقت الذي كان فيه الذوق الرفيع أو المألوف علامة دالة على فئة اجتماعية معينة. وأيضا يؤكد بومان أن هذا لا يعني أن لا وجود اليوم لنخبة مثقفة، بل على العكس، هي اليوم أكثر حيوية ونشاطا من أي وقت مضى، لكنها مشغولة جدا بمتابعة النجاحات الفنية والفعاليات الثقافية الشهيرة، بحيث لم يبق لديها الوقت لصياغة نماذج (مثالية) للاعتقاد، أو لتغيير أخرى. لم يعد هناك مثقفون متخصصون في مجالات تحتاج إلى بذل الجهد. بل ثمة مثقفون يلتهمون كل شيء (
Omnivoros)، يستهلكون كل من الأوبرا، والموضوعات الدسمة، والقضايا المبتذلة وحتى السخيفة.

 

**الكاتب محمد الغريب: باحث في فلسفة وجماليات السينما