احتفاء بمرور ربع قرن على رحيل إميل حبيبي يقدم الباحث الفلسطيني المرموق هنا دراسة ضافية عن رائعته «المتشائل»، تسرد مختلف التأويلات الفلسطينية لها من مثقفي الداخل الفلسطيني خاصة، فضلا عن تحليله الشخصي لها، وتناوله لإشكاليات الدور الملتبس لبطلها وقدرته على تمثيل فلسطيني الداخل والشتات.

في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل إميل حبيبي

الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل

نبيه القاسم

 

عرفنا إميل حبيبي صاحب «لوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (منشورات عربسك. حيفا 1974) قائدا سياسيّا، ومفكرا أيديولوجيّا للفكر الاشتراكي، ومثقّفا له دوره المميّز في توجيه فكر وواقع الجماهير العربية في إسرائيل. فقد وعى إميل حبيبي آلام شعبه، وعاشها في كل ذرّة من حياته النّضالية الطويلة، فطبيعة العمل السياسي الذي عمل به، وَفّر له هذا الانخراط الكلّيّ في حياة الشعب الباقي. وهو إذ يكتب قصّة هذا الشعب، فهو لا يتطاول على الكلمة وعلى الأدب، فقد عرفناه من خلال كتاباته الأسبوعيّة في جريدة (الاتحاد) وقرأنا له العديدَ من القصص، وأثبتَ مكانتَه الأدبيّة بمجموعته القصصيّة المميّزة (سُداسيّة الأيّام الستّة) التي يحكي فيها حكايات تدور جميعها حول عودة الإنسان الفلسطيني إلى بيته وأهله خلال واقعة الهزيمة عام 1967. وكما يصفها النّاقد فخري صالح «إنّها عودة معكوسة تبدو فيها الهزيمة مفارقة ساخرة وتعليقا مُواربا على "التراجيكوميديا" الفلسطينيّة. وفي الحكايات السّت التي يسردها الرّاوي ويُضيء مشهد اللقاء، لقاء شطرَيّ الشعب الذي مزّقته النّكبةُ، وشرّدته في أقاصي الأرض، المعنى الضّمني الذي يُقيمُ في قَلب هذه الحكايات، ويكشف عن المُفارقة السّاخرة والفرح الأسيان للقاء شَطرَيّ الشّعب المُمزّق تحت حراب المُحتلّ».

قال الدكتور إميل توما أثناء حديثه في ندوة أدبية عُقدَت في مدينة حيفا لنقاش "متشائل إميل حبيبي" "إنّ وقائع سعيد أبي النّحس المتشائل التي كتبها إميل حبيبي كانت الزّفرة الطويلة التي أطلقها إميل بعد الآهات الثلاث التي كانت:

أولها، آهة عام 1954 حيث أخرجت أوّل عمل أدبي لإميل حبيبي وهو قصة "بوابة مندلباوم" التي نُشرت في آذار من تلك السنة.

وثانيها، آهة عام 1962 التي أتحفتنا بتمثيلية في فصل واحد هي "قدر الدنيا" نُشرت في تشرين أوّل من نفس السنة.

وآهة 1963 التي اعتبرها إميل توما الآهة الثانية، وكانت في آذار من عام 1963 وأثمرت قصّة "النّورية".

وأخيراً الآهة الطويلة الجارحة المتألمة في عام 1968 التي أهدتنا إلى هذه الشخصيّة الأصيلة في الأدب. وأعني (سُداسيّة الأيّام السّتّة) التي قرّظتها مجلة "الطّريق" اللبنانية بما يلي «أنّها عمّا كشفت عنه أيام حزيران من تَمزّقات وأشواق وآمال وخيبات وأحزان عمرها عشرون عاماً. إنّها انعكاس هذه الأحداث في أغوار العرب من سكان إسرائيل، وفي تصرّفاتهم، وفي تجلّي الشّعور الحادّ بالتّمزّق الدّاخلي، والعائلي والإنساني، الذي عاناه ويُعانيه هؤلاء خلال أطول عمليّة تعذيب عاناها شعبٌ كامل في التّاريخ.»

وعَلّل إميل توما سبب هذا التّأخّر، وهذه القلّة في إنتاج إميل حبيبي الأدبي فقال:

-"إنّ إميل حبيبي آمن بمبادئ المدرسة السّوفييتية في الأدب التي تقول للأدباء: - لا تكتبوا القصة إلّا إذا ألحّ موضوعُها عليكم حتى لا يعود في مَقدوركم كَبْت هذه الرّغبة. وهذا ما حدث بالنسبة لإميل حبيبي الذي آمن بأنّ دوره النّضالي يُحتّم عليه اتّخاذ المنبر السياسي لقيادة شعبه، وأنْ يترك الأدبَ لغيره من أبناء هذا الشعب. وقد آمن أنّ الأدب ملازم للعمل السّياسي، ويجب أن يكون مُساندا له، وليس مُستقلّا عنه.

لكنّ الذي حدث، أنّ الإلحاح الشديد اشتدّ كثيراً على إميل حبيبي حتى أنّه لم يعد بمقدوره كَبته أكثر، فخرجت الآهة الأولى لتُبشّر بأنّ الأولاد الآتين سيكونون أجمل وأروع. وهذا ما كان. فالسّداسيّة التي فغَرنا أفواهنا أمامها، وعصبنا شراييننا عند قراءتها، كانت الإبداع الأوّل المُبشّر بمجيء الإبداع الثاني المتمثل في "متشائل" إميل حبيبي".

مصادر قصّة إميل حبيبي:
في ندوة أدبيّة أذاعها التلفزيون المصري واشترك فيها عدد كبير من كبار الأدباء في مصر، قال الدكتور طه حسين: "إنّ على الأديب الحَقّ أن يتعرّف على الكتاب ولا يعترف بمصدر ثقافي غير الكتاب، إذ أنّ قراءة الكتاب هي الكفيل الوحيد بتَعميق ثقافة الأديب واتّساع أفقه في مَجالَي النّقد والأدب." وأذكر كلمات طه حسين وأنا أستمع إلى صاحب المتشائل "إميل حبيبي" في النّدوة التي حضرناها معا وهو يُعدّد الكتبَ العديدة التي قرأها قبل أن يبدأ بكتابة قصّته.

قال حبيبي:
- "عندما فكّرت بكتابة المتشائل قرّرتُ مُراجعة كلّ أعداد جريدة "الاتحاد" من أوّل يوم صدرت فيه إلى آخر يوم. ومراجعة كل أعداد مجلة "الجديد" و"الغد" وباقي صحف الحزب التي واكبت هذا الشعب خلال تاريخه الأخير. كذلك قرأتُ المصادر العديدة حول الغزو الصّليبي للبلاد، وقرأت بعض مؤلفات إخوان الصفا، وكتاب العقد الفريد، وبعض كتب الجاحظ لأنّني أعتبره القمّة في تاريخ أدبنا العربي، هذا بالإضافة إلى العديد من الرّوائع العالميّة لكثير من الكُتّاب المعروفين".

وإميل حبيبي الذي قرأ كلّ هذه الكتب قبل شروعه في كتابة "وقائع المتشائل"، احتاج إلى ثلاث سنوات طويلة لإتمام قصّته هذه. فالكتاب الأوّل من قصّته صدر في شهر شباط من عام 1972، والكتاب الثاني صدر في شهر كانون أول من عام 1972. أمّا الكتاب الثالث فصدر في شهر أيار من عام 1974.

والآن إلى "متشائل" إميل حبيبي:
"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل" عبارة عن رسائل يتسلّمها الرّاوي من أحد نزلاء مستشفى الأمراض العقلية في عكا، وهو يقوم بنَقلها إلينا، ولا يتدخّل في نصّها، وفقط يقوم ببعض التّعليقات أو الشّروح في الهوامش. وهي تتكوّن من ثلاثة أجزاء، نُشرَت على فترات زمنيّة مُتباعدة في مجلة "الجديد" أوّلا، ثم صدرت على شكل قصّة واحدة.

الشخصيّة الرئيسيّة أو البطل هو سعيد أبو النّحس المتشائل، العربي الفلسطيني الفاقد لشخصيّته، يعيش حالة هزيمة روحيّة تُسيطر عليه وتَدفع به لأحضان العدوّ، ليقوم على خدمته. هذه الهزيمة الرّوحيّة سببها أنّ سعيد ينحدر من أسرة عريقة في العَمالة والتّعاون مع العدوّ، كونه ابن رجل أعدَمه الثوّار من قبل، وأوصى ابنَه، وهو على فراش الموت، بأنْ يلجأ إلى ضابط البوليس الصهيوني المتقاعد (الأدون سفسارشك) ليُشغّله ويَحميه، كما فعل مع أبيه من قبل. وأيضا بسبب ضعف شخصيّته أمام كل مَنْ هو أقوى منه.

ويرى النّاقد خضر محجز "أنّ هذا الامّحاء الكلّي لشخصيّة سعيد، ترك وراءه جذوة من مُقاومة، توشك أنْ تتوقّد فتخبو، فتُوجّه نقمتَها نحوَ واقعها، توجّها يُمعنُ في تدمير الذّات، من خلال السخريّة منها ومن كلّ ما حولها، الأمر الذي كاد أنْ يحوّلَ الكلّي للرواية، إلى اعتذار بلاغيّ عن الخيانة، تستدعيه شفقةٌ إنسانيّةٌ على مثل هذا النّوع من البشر المذبوحين". (خضر محجز. إميل حبيبي الوهم والحقيقة. قَدْمُس للنّشر والتّوزيع. الطبعة الأولى 2006 ص196)

يروي سعيد أعجوبة بقائه في الحياة من بداية الكتاب الأوّل (يُعاد)، يروي عمّا وقع له من أمور عجيبة، أهمّها اختفاؤه، مع مجموعة من المخلوقات الفَضائيّة، التي نزلت على الأرض، وأخذته معها. ويسترجع قصّته مُعلنا أنّ حياته الماضية، في إسرائيل، كانت فضلة حمار: إذْ كان حمار سائب هو الذي أنقذه من الرّصاص المنطلق نحوه، حين صرع رجالُ المقاومة أباه، فتلقّى الحمارُ الرّصاص بدلا منه، وهرب هو ناجيا بجلده إلى عكا، ومنها إلى لبنان، لكنّ سعيدا سرعان ما يُقرّرُ العودة إلى إسرائيل، بعد أنْ أنفقَ كلّ ما لديه، فعاد برفقة عشيق أخته، الدكتور العامل في جيش الانقاذ العربي، الذي لم يكن قد أتمّ انسحابه من فلسطين على ما يبدو.

يدخل سعيد إلى "إسرائيل" ويتوجّه رأسا إلى مَقرّ الحاكم العسكري في قرية كفر ياسيف، ليعرض نفسَه كعميل، يُريد تجديدَ ارتباطه مع (الخواجا سفسارشك). فينقله الحاكم العسكري إلى عكا، حيث يتذكّر، في الطريق، حبّه الأوّل "يُعاد" الفتاة الحيفاويّة التي تعرّف عليها خلال سنيّ دراستهما في المدرسة الثانوية في مدينة عكا، والتي تسبّبَ أستاذه في إخراجها من المدرسة، حتى يُفرّق بينهما.

ويستمر سعيد في رواية قصّته، وما حدث له خلال السّنوات الأولى حتى بداية السّتينات (من القرن العشرين) بعد قيام دولة إسرائيل في الكتابين الثاني والثالث، برسائله التي يُرسلها للكاتب الذي يقوم بدوره بنَقلها إلينا. وتنتهي الرواية بعودة المتشائل، من كل هذه الاستطرادات الاسترجاعية، إلى اللحظة الرّاهنة، التي كان قد ابتدأ بها قصّته من فوق الخازوق، يطلب المساعدة للنزول على الأرض، فلا تأتيه. وعندما يظهر له كلّ من يُعاد وباقية وسعيد الفدائي، ويدعونه إلى الذهاب معهم، يرفض. إلى أنْ يحضر صديقُه الفضائي، فيحمله على ظهره، ويُحلّقان سويّاً في الفضاء.

تتبلور من الصفحات الأولى صورة "المتشائل" في شخصية الرجل المثير للتّساؤل الذي يعرف الكثير وإنْ كان لا يُظهر إلّا القليل، فمن الصفحة الأولى نجد شخصية سعيد المتشائل الذي يعرف دوره في الحياة، وأنّ عليه واجباً يجب تأديته. وهو في اختياره لشخصيّة إميل حبيبي ليرسل له هذه اللوحات الرائعة أكبر دليل على وَعيه وإدراكه لعِظَم مسؤوليته بالرّغم من أنّه كان في حياته يقوم بدور سلبي يعود على شعبه بالويلات. كما أنّ هذا الاختيار يُعبّر لنا عن عُمق الشعور بالنّدم الذي ألمّ بسعيد بعد انتهاء دوره السّلبي، وبلوغه لحظة الذّوبان في فراغ هائل لا نهاية له.

المتشائل يُوضّح أسمَه ويُعرّف نفسَه:
يقول سعيد أبو النّحس: إنّ كُنية المتشائل التي يتسمّى بها تعود إلى أيام تيمورلنك الذي أطلقها على عائلتهم بعد مذبحة بغداد. والكلمة مأخوذة من كلمتي (المتشائم والمتفائل)، ويُعلّل سعيد سببَ التسميّة فيرسم لنا طريقة تفكير أبناء عائلته بقوله: "أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنّه لم يقبضني في المَنام، فإذا أصابني مَكروه في يومي أحمده على أنّ الأكْرهَ منه لم يقع".

أما مَن هو المتشائل؟ فيُعَرّفه علي الخطيب، رئيس تحرير جريدة "الشعب" المقدسية بقوله: "إنّه الإنسان الفلسطيني العربي، مَن نزح منه عام 1948 ومَن بقي، هو صورة الاحتلال الأوّل للناصرة وكلّ الجليل ويافا وكل المثلث، وهو أيضاً صورة الاحتلال الآخر عام 1967". ويستمر علي الخطيب في تعريفه للمتشائل إلى أن يُفضّله على الكثيرين غيره حيث يقول: "ولهذا كان ميراث أبي النّحس سعيد صغيراً في العَمالة عن صغار بعض المتأردنين والمتأمركين والمتأسرلين".

ويُعرّفه الدكتور إميل توما بدراسته القيّمة للمتشائل في جريدة الاتحاد 13/9/74 بقوله: "إنّه نموذج عرَفته جماهيرُنا العربية في شكل بارز بعد قيام الدولة يُمثّل الاستسلام والهَزيمة، وفي أحسن الحالات الاتّكاليّة والتّمسّك بالأحلام الغيبيّة. إنّه النموذج الذي ينبذه الشعب ويتركه لمصيره أو لشَتاته".

لكنّني أنا، ومع كل تقديري للصّديق إميل توما فإنّني أميل إلى رأي علي الخطيب وذلك اعتماداً على تعريف المتشائل لنفسه بنفسه. ففي الصفحة 14 يقول سعيد معرفاً نفسَه: - "أنا الندل يا محترم .. فكيف لم تنتبهوا على اختفائي؟؟"

وأسأل بدوري: هل عملنا في هذه البلاد غير عمل الندل المحترم جداً جداً؟

ويقول سعيد صفحة 17: - "وآخرون الذين اعتقلوا وترفّعت الصحف عن ذكر أسمائهم، هؤلاء أنا. الصّحف لا تسهو عني فكيف تزعم أنّك لم تسمع بي؟ أنّي إنسان فَذّ، فلا تستطيع صحيفة ذات اطّلاع، وذات مصادر وذات إعلانات، وذات، وذات قرون، أنْ تهملني، إنّ معشري يملأون البيدر والدسكرة والخمرة أنا الآخرون، أنا فَذّ".

وفي الصفحتين 102 و 103 يُعرّفنا سعيد على نفسه بصورة غير مباشرة قائلا: "عشتُ في الدّار الخارجة، خارج الدّياميس، عشرين عاماً وأنا أريد أنْ أتنفّس فأعجز، كالغريق، عن التّنفس، ولكنّني لا أموت، وأريد أن أنطلق فأعجز، كالسّجين، عن الانطلاق، ولكنّني أبقى حرّاً. عشرين عاماً أهرّ وأموءُ حتى أصبح هذا الحُلول يقيناً في خاطري. فإذا رأيتُ هرّة توسوَسْتُ: لعلّها والدتي رحمها الله، فأهشّ وأبشُّ، وكُنّا نتماوأ أحياناً".

ويصف حالَه قائلا: كحال الفتى العربي في شعب بوان      غريب الوجه واليد واللسان

ويقول صفحة 182: "لقد رأيت يُعاد، عشرين عاماً من يُعاد دَفعة واحدة، في عينيها وفي صورتها وفي شَعرها وفي قامتها. فكيف تشعر سمكة أطاحت زوبعة، دفعة واحدة، بثلج تراكم على سطح نهرها عشرين عاماً؟ يا ترابَ القطب الجنوبي قل لهم كيف يكون شعورُك لو انحسرت من فوقك ثلوج الدّهر دفعة واحدة؟ يا لظى البراكين اروِ لهم حكايتي، ويا صخرَ بلادي انفجر ينبوعا".

وفي صفحة 183 يقول: "واستحوذتني رغبة جامحة في أنْ أصفّق، في أنْ أغنّي، في أنْ أزغرد، في أنْ أصرخ حتى تنهار من على صدري طبقاتُ الخنوع والمذلّة والحاجة والصّمت، نعم يا سيدي، عظيم يا سيدي، أمرك سيدي، فينطلق قلبي من صدري، حرّاً، يطير، يُحلّق في أجواء السّفور، يُنادى على الناس: مثلكم أنا يا ناس، شجاع مثلكم، ومثلكم لي قَدَمان ثابتتان على الأرض وظهر مستقيم وقامة طويلة ورأس في السماء. سعيد بشجاعتي مثلكم يا ناس، يعاد إلى جانبي يا عالم، صغيرة كعصا الراعي، جديدة كالحلم القديم، عشتُ الأعوام العشرين لوحدي. عشتُها عن يعاد عشتها حتى الثّمالة، حتى القَعْر. شربتُ كأسَها المرّ كلّه وحدي، فلم يبق لها منه أيّة قطرة، أنقذتها من هذه السّنوات العشرين المريرة، فبقيت يُعاد صبيّة في العشرين وبدون عشريني، عادت إليّ كما كانت، هي هي، تضحك وتبكي، تتحدّى وتُحب، وتناديني: سعيد".

وقوله صفحة 187: "وسجين زندة المقيم (الذي هو أنا)، يا يُعاد، ألا تعودين إليه؟"

كلّ هذه الاستشهادات وكثير غيرها تُؤكّد رأيي في موافَقتي لعلي الخطيب في رأيه، ولمُخالفتي للدكتور إميل توما في قوله "إنّ سعيد يُمثل الاستسلام والهزيمة والاتّكاليّة والتمسّك بالأحلام الغيبيّة". فسعيد كما رأينا، وإنْ كان يصوّر ما قال إميل توما في بعض مَواقفه، إلا أنّه يرمز إلى النّقيض الذي يرفض الاستسلام، ويدعو من أجل التّغيير. فهو يُمثل هذا الشعب في كلّ حالاته. في الضّعف والقوّة. في الاستسلام والتمرّد. في البَلادَة والذكاء. هذا هو سعيد المتشائل. هو أنا وأنت في كل طوْر من أطوار حياتنا المتغيّرة أبَدًا في هذه الخمس وعشرين سنة. وإنْ كان استسلامه للخازوق في نهاية القصة أوحى لإميل توما بهذا الاعتقاد حول هويّة سعيد، فأنّه يجدر بنا أنْ نعترف بأنّ هذا الخازوق الذي لم يعرف سعيد أن يختار الأفضلَ منه كان من نَصيب كلّ واحد منّا بعد حرب حزيران.

وكما حدث لنا، حيث رمَينا بالخازوق بعيداً، وأعدنا ثقتَنا بأنفسنا، وعُدْنا لنحضن الأمل ولنعمل من أجل تحقيقه، كذلك حدث لسعيد. وأكبر دليل على قولي هذا كتابتُه هذه التقارير السريّة جدّاً جدّاً من مَكانه الخطير جدّاً جدّاً. ورغم الحصار الأمني جدّاً جدّاً .. وإرسالها إلى الشخص الملائم جدّاً جدّاً، وهو إميل حبيبي، ليُعبّرَ عن رَمْيهِ لعَهد الاتّكاليّة والاستسلام والمَذَلّة.

مفاجأة اعتراف إميل حبيبي بأنّه هو سعيد أبو النّحس المتشائل:
وقد جاءت في اللقاء الذي قام به محرّرو جريدة "دفاتر ثقافيّة" صحيفة وزارة الثقافة الفلسطينيّة الأدباء: ليانة بدر وزكريا محمد ومنذر عامر مع إميل حبيبي في الثالث عشر من نيسان 1996 في بيت الوزير ياسر عبد ربّه في مدينة رام الله، قبل وفاته بأسبوعين، (في ليلة 1-2 أيار 1996 توفي إميل حبيبي في مستشفى العائلة المقدسة في الناصرة. وهو يحمل سره الذي لم يعُد سرّا). ومن ثمّ قامت مجلة "مَشارف" التي كان يُصدرها ويرأس تحريرها إميل حبيبي بنشره في عددها التاسع المخصّص لذكرى إميل حبيبي بعد موته. فعلى سؤالهم له:

-هل هناك أصل واقعي لشخصيّة سعيد أبي النّحس المتشائل؟

قال معترفا في لحظات تَجلّ: «كنتُ أكذبُ وأقولُ في الماضي إنّ شخصيّة سعيد أبي النحّس هي عكس شخصيّتي. ولكنّني الآن في عمر لم أعد فيه بحاجة إلى الكذب. لقد كنتُ أتحدّثُ في «المتشائل» إلى حدّ كبير، عن نفسي. أتحدّثُ عن نفسي بمعنى العَقلانيةّ. وعَقلانيّته هي عَقلانيّتي إلى حَدّ ما. وقد كنتُ، حتى في قيادة الحزب، أحاولُ أنْ أمنع أيّة مُغامرة بأعضاء الحزب وبالشعب كله. ربّما أكون أوّل مَنْ نجح في وقف خطئنا الكبير والأساسي، وهو أنّنا عادينا كلّ مَنْ وجدَ عملا ليعتاشَ منه، في إطار المؤسّسة الإسرائيليةّ الحاكمة.»

وقفة مُراجَعة:
كنتُ قد اتخذتُ جانب رئيس تحرير جريدة «الشعب» المقدسية علي الخطيب في تحليله لشخصيّة «سعيد المتشائل» في دراستي للرّواية، ورفضتُ ما قاله الدكتور إميل توما بأنّ «سعيد المتشائل نموذج عرفته جماهيرُنا العربية في شكل بارز بعد قيام الدولة يُمثلّ الاستسلام والهَزيمة، وفي أحسن الحالات الاتّكاليّة والتّمسك بالأحلام الغيبيّة. إنّه النّموذج الذي ينبذهُ الشعبُ ويتركه لمصيره أو لشَتاته.» ولكن بعد اعتراف إميل حبيبي بأنّه هو سعيد أبو النّحس المتشائل أجدني اليوم أطلب الاعتذار من إميل توما لتسَرّعي في رفض أقواله.

ورغم أنّني، بحَدسي اللاشعوري، كنتُ ألمحُ قوّةَ التمّاهي بين شخصيّة سعيد المتشائل وشخصيّة إميل حبيبي خلال قراءتي للمُتشائل، وعندما كتبتُ دراستي عن الرواية، إلاّ أنّني لم أفكّر للحظة الجَزْم بالتّطابق بين شخصيّة إميل حبيبي وسعيد أبي النحس المتشائل. ويأتي إميل حبيبي، ويعترف بأنّه في حديثه عن المتشائل كان يتحدّث عن نفسه، لأنّه هو التّجْسيد الكامل للمتشائل. وينقلنا اعترافُه هذا إلى مَشهدَين مُتماثلين:

الأول: مشهد رحيل أو هرَب إميل حبيبي إلى لبنان على أثر قيام «عُصبة التّحرّر الوطني» بتأييد قرار تقسيم فلسطين، وغضب الجماهير الفلسطينية على أعضاء العُصبة، ومُلاحقتهم، واضطرارهم إلى الهرب والاختفاء، ومن ثم عودة إميل حبيبي إلى البلاد بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في تموز 1948.

الثاني: مشهد عودة سعيد أبي النّحس المتشائل إلى البلاد مُتسلّلا بعد أنْ كان تركها هاربا إلى لبنان بعد مَقتل والده على يد الثوّار العرب لتَعامله مع اليهود ضدّ ابناء شعبه. ويقول عنه سعيد «ووالدي ،رحمه الله، كانت له أيادٍ على الدولة قبل قيامها. وخدماته هذه يعرفها تفصيلا صديقُه الصّدوق ضابط البوليس المتقاعد، «الأدون سفسارشك» ويروي قصّة هربه إلى لبنان: «ولماّ استشهد والدي ،على قارعة الطريق، وأنقذني الحمارُ، ركبنا البحر إلى عكا. فلمّا وجدنا أنْ لا خطرَ علينا، وأنّ الناس لاهون بجلودهم، نجونا بجلودنا إلى لبنان حيث بعناها واسترزقنا.» ويحكي عن عودته إلى البلاد: «فلمّا لم يعد ما نبيعه تذكّرتُ ما أوصاني به والدي وهو يلفظ أنفاسَه على قارعة الطريق. قال: رُح إلى الخواجة سفسارشك، وقل له: والدي، قبل استشهاده، سلمّ عليك، وقال: دَبّرني!»

ويصف عذابات رحلة العَودة والتّسلّل إلى البلاد من لبنان برفقة دكتور من جيش الإنقاذ انتهازيّ وخائن: «بلغنا قرية ترشيحا حين كانت الشمسُ والأهالي تهجرها. فاستوقفنا الحرس. فاظهر الدكتور بطاقته فحيوّنا، وكنت مذعورا. فضحك الدكتور وشتمهم فشتموه وضحكوا. وبتنا في معليا، وتغدينا في أبو سنان، وكانت في ذلك الوقت أرضا حراما، لا يطرقها سوى الجواسيس وتجّار الغنم والحمير السّائبة. واكتروا لي دابّة هبطتُ على ظهرها إلى كفر ياسيف .. وكان ذلك في صيف 1948. وعلى ظهر الجَحش من أبو سنان إلى كفر ياسيف احتفلتُ بصيفي الرابع والعشرين، وأرشدوني إلى مَقرّ الحاكم العسكري. فدخلته راكبا على جحش بن أتان. وكانت على عتبته ثلاث درجات صعدتها الدّابة في خيلاء. فتدافع العسكر نحوي، مذهولين. فصحتُ: سفسارشك، سفسارشك.»

هذا التّماثل في ما جرى للاثنين في قصّة هربهما إلى لبنان نتيجة لغضب الجماهير عليهما لمواقفهما المرفوضة أثناء حرب 1948 وعودتهما إلى البلاد بعد قيام الدولة صيف 1948، دفعت بالباحث خضر محجز إلى استنتاجات بعيدة ليست في صالح إميل حبيبي. يقول محجز: «إلى ما قبل اعتراف إميل حبيبي بأنّه هو المتشائل، فقد ظللنا متحيرّين في هذا الخطاب، الذي يدعم، وعلى طول النصّ، هذه الشخصيةّ المتعاونة مع الاحتلال. لقد لاحظنا ذلك من خلال اشتراك أسلوب المؤلف المدَني، في الدعوة إلى نفس القِيمَ التي يؤمن بها سعيد. بل إنّنا لاحظنا كذلك أنّ مَقولات سعيد، هي نفس مَقولات إميل حبيبي، السّياسي والمفكّر، وبالطبع هي مَقولات المؤلفّ الضمني.»

ويرى خضر محجز: «أنّ الثّيمةَ الأساسيّة في هذه الرواية ،هي ضرورة إعطاء العميل فُرصته، لا ليبرّرَ فِعْلَ الخيانة فحسب، بل لكي يجعل هذا الفعل أمرا عقلانياّ، تقتضيه الظروف ويفترضه المنطق السّليم، مؤكّدا بأنّ لا حيلة للمَهزوم سوى الإمعان في الهزيمة، والسّخرية السّوداء من النّفس والهويّة. كأنّ المؤلفّ الضمني يُريد مناّ أنْ نتسامح، مع هذا الشخص المنهال على نفسه بالتّحطيم، فلا نزيد بؤسَه بؤسا!».

ويؤكد خضر محجز أنّ إميل حبيبي لم يكتف بتَبنّي سعيد أبي النّحس المتشائل، وإنّما جعله مِثالا لرَجل الشارع البسيط، من العرب المتبقّين على أرضهم، بحيث يُساوي بين العَميل والعرب البسطاء المبثوثين في فلسطين المحتلة ويجعله ناطقا باسمهم، يتحدّث نيابة عنهم ويقول: «إنّ مَعْشري يملأون البيدر والدّسكرة والمخمرة. أنا الآخرون». وهذا الاعتراف لإميل حبيبي دفع الباحث خضر محجز لينبهنا إلى ما ورد في «المتشائل» من إشارات وتلميحات واعترافات قصدها إميل حبيبي ولم ننتبه إليها، أو فسّرناها بعيدا عن مُراد الكاتب.

يقول خضر محجز: «يحمل المتشائلُ فوق ظهره سرّا، ينوء به ما تَبقّى من ضميره، ويبحثُ عمّن يستطيعُ أنْ يُصارحه به، لعلّ في ذلك اعترافا يسبق التطهير. لكنه يعترف ولا يتطهّر، بل يتحوّل، مَجازيّا، إلى هرّة من كثرة ما يُحاولُ أنْ يقول فيمتنع، ليخرج الكلامُ من تحت شاربه مواء غير مفهوم. فأيّ سرّ هذا الذي يحمله المتشائل؟» وكلام خضر محجز هذا جاء ليوضّح الكلامَ الذي تبودل في الحوار ما بين سعيد أبي النحس المتشائل وصاحبه رجل الفضاء: «وكم من مرّة هتفتُ بمَنْ حولي: يا قوم، إنّ فوق كتفي لسرّا خطيرّا أنوء بحَمله، فأعينوني! فما خرجَ من تحت شاربي سوى مواء الهرّة. حتى آمنتُ بحلول الأرواح. هكذا حالي: عشرين عاما أهرّ وأموء، حتى أصبح هذا الحلول يقينا في خاطري. فهتف صاحبي الفضائي، وقد انبسط صدره: على رسلك يا ابنَ النحّس! أراك تأهّلتَ للانتقال إلى المرتبة التاسعة من مَراتب الدعوة.

قال: كان أسلافنا من إخوان الصفا وخلاّن الوفا، شبهّوا الخَلق من أمثالك بالبهائم العجميّة. فلُجُموا كما تُلجَم البهائم بلُجم الحديد الثقال والأرسان، لتقُادَ حيثما قيدَت، وتمتنع عن الكلام بما أرادت، حتى يأذن ربّها بانتباه نائمها، وبقيام قائمها، وبظهور النّاطق. فيفكّ البهائم الأسيرة، والأشخاص الذّليلة من أسْر العبوديّة وقَيْد المملكة ورقّ الذّل، ويجعل الذين أهانوها في مثل ما كانوا فيه، جزاء ما كانوا يعملون.

فهتفتُ به: فأنطقني!

قال: عُد إلى الكتابة إلى صاحبك.

قلتُ: أخرجني إلى الناس وكأنّني خارج عن الناس.

قال: وهل الذي استشعر منهم بمختلف كثيرا عنك، أمّا أنتَ فتقمّصتَ هرّة. وأمّا هو فتقمّص شاعرا. وكلاكما يهربُ حتى يتنفّس، ويختنق حتى لا يموت. ومنهم مَن احترف الأدب عجزا. ومنهم مَن هربَ من موقفه بتغيير موقعه.

قلتُ: وسرّي الدّفين؟

قال: فجُد به.

وها أنا فاعل».

وقد قال الدكتور عادل الأسطة، المحاضر في قسم اللغة العربية في جامعة النجاح في نابلس، في مقالة له بعنوان «جَدليّة الموقع والموقف في الأدب الفلسطيني» نشرها في مجلة الجامعة: «وكان إميل يقصد حين قال: «ومنهم مَن هرب من موقفه بتغيير موقعه» محمود درويش، الذي ترك حيفا، وغادر إلى القاهرة، فبيروت، وتغيرّت، إثر ذلك، مواقفه السياسيةّ» (خضر محجز. إميل حبيبي الوهم والحقيقة ص368). وبعيدا عن هذه الآراء والمفاجآت أعود لقصّة إميل حبيبي عن المتشائل مُتجرّدا من كلّ موقف يجرّني إلى اتّخاذ موقف مُسبَق.

قصّة سعيد هي قصّة الشّعب كلّه:
يرسم إميل حبيبي في روايته لنا قصة سعيد المتشائل قصةَ كلّ شعبنا خلال الخمس وعشرين سنة الماضية بكل قطاعاته: المتهادنة والمتحديّة، البليدة والذكيّة، الاتّكاليّة والديناميكيّة، القانعة والطموحة، اليائسة والمتأمّلة، الجاهلة والمثقّفة. وضمن هذه التّصويرات لهذا الشعب، والتي أبدع الكاتب في إبرازها بصورة رجل الفضاء الذي يلتجئ إليه سعيد في ساعات الضّيق، والتي برزت بشكل مثير في جواب سعيد ليُعاد الثانية (أنا وأنت نختبئ، أما أخوك سعيد فيكافح ص203). وفي مواضع عديدة أخرى، يقف الكاتب على العَديد من الآفات التي عانى، ويُعاني منها مجتمعنا العربي، مثل:

آفة عدم شَحذ الفكر: التي تظهر في كلمات الأستاذ صفحة 43 "فأصبحوا (أيّ العرب) الآن يتخلّون عن مَلَكة التّفكير لغيرهم". وقوله في نفس الصفحة "فقد كان العرب حين يُفكّرون يعملون ثم يحلُمون، لا كما يفعلون الآن، يحلُمون ثم يظلّون يحلُمون". وكلمات سعيد في نفس الصّفحة "منذ ذلك الحين وأنا أحلم بأنْ يذكرني التاريخ حين يذكر فلكيينا الأقدَمين أحلم على هذا المنوال حتى جندلوا والدي رحمه الله، وقامت دولة إسرائيل."

وآفة الشّكّ بكلّ إنسان: التي لا تزال تتملّكنا وتُفتّت من أعصابنا والمتمثلة في قول سعيد ص52 "فسحبتُ كفّي من كفّه فزَعاً، وحبستُ لساني قبل أنْ يزلّ فيما لا تُحمَد عُقباه، كان أبي رحمه الله قد علّمنا أنّ الناس يأكلون الناس، فحاشا أن تثق بمَن حولنا من الناس. إنّما علينا أن نسيء الظنّ بكلّ النّاس، حتّى ولو كانوا أخوتك من بطن أمّك ومن ظَهر أبيك، فإذا لم يأكلوك فقد كانوا يستطيعون أنْ يأكلوك". وفي كلمات ولاء الرائعة صفحة 143 "في المدرسة حذّرتموني: احترس بكلامك، فلما أخبرتكم بأنّ معلمي صديقي، همستم: لعلّه عينٌ عليك! لمّا سمعت حكاية الطنطورة، فلعنتهم، همستم في أذني: احترس بكلامك، فلمّا لعنوني: احترس بكلامك، وحين اجتمعتُ بأقراني لنُعلن إضراباً قالوا لي هم أيضاً: احترس بكلامك. وفي الصباح قلتِ لي يا أمّاه: إنّك تتكلّم في مَنامك، فاحترس بكلامك في منامك. وكنت أدندن في الحمام، فصاح بي أبي: غيّر هذا اللحن. إنّ للجدران آذاناً، احترس بكلامك .. احترس بكلامك."

وآفة الخنوع: التي لاصقت بعض صغيري النّفوس من أبناء شعبنا والتي يُبرزها إميل حبيبي على لسان المتشائل بشكل بارع جداً. ففي الصفحة 68 يقول سعيد "فلطمني، فلم يخطئ الهدف. فقلت في نفسي. لا أطرش ولا ضرير، بل هو رجل كبير حقاً. فتصاغرتُ له، وقلت اسأل عنّي الأدون سفسارشك". وفي الصفحة 162 يقول سعيد: "فانهالوا علي لَكْماً ورفساً وأنا أصيح: النّجدة أيّها الرّجل الكبير. ولفظتها بلغة عبرية فصحى لأقنعهم بعُلوّ كعبي، وحتى أقوم من تحت أكعابهم". وقول الرّجل الكبير لسعيد في السجن صفحة 163 "إذا ناداك السّجان فليكن أوّل جوابك- نعم يا سيدي، فإذا انتهرك السّجّان فعليك الاكتفاء بأمرك يا سيدي، وإذا سمعت من زملائك المسجونين كلاماً فيه أي مَساس بأمْن السجن، ولو تأويلا، فعليك أنْ تشي بهم إلى المدير، فإذا ضربك مدير السجن فقل له". وقول سعيد صفحة 171 "ثم قام- يقصد مدير السجن- عن مَقعده وأخذ يتصنّع دورَ عُطيْل وهو يُقبّل ديدمونة القبلة القاتلة، فاستلقيتُ على الأرض ديدمونة. فقال: قُم، لم يحن أوانُ ذلك بعد، فقمت وقامت معي الهواجس". وقوله في نفس الصفحة وعن نفس الموضوع (أروى عن الأول- المقصود شيكسبير- وأستلقي كالثّالثة- المقصود ديدمونة".

وآفة النّفاق الاجتماعي: (ص132) والنّفاق السياسي: (ص133)، وانتقاد ظاهرة تغيير الأسماء العربية التي يتّبعها الكثير من شبابنا الصّغار للفوز برضى المواطن الآخر أو الحلوة من الشعب الآخر بقوله (ص 133) "والنّدل شلومو في أضخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان بن منيرة، ابن حارتنا، ودودي، أليس هو محمود؟ وموشي، أليس هو موسى بن عبد المسيح".

سعيد النّاقد السياسي:
كما اهتمّ إميل حبيبي أنْ يُعرّي الآفات الاجتماعية المُزمنة التي نُقاسي منها، فقد اهتمّ أيضاً بتَعرية المواقف السياسيّة السّلبية التي وقفها كلّ مَن له علاقة بقضيّة الشعب المشرّد، وفضحها. وهو في تَعرية هذه المواقف المزرية يُقرّبنا من سعيد، ويُحبّبنا به، لأنّ سعيداً لا يظلّ في أعيننا ذلك الإنسان السّلبي المتآمر، وإنما يتغيّر إلى إنسان آخر يُحسّ بإحساسنا ويتألّم لآلامنا، ويرفع بأصبعه العشرة ليدلنا على المجرمين بحقّنا كلّنا، حقّ هذا الشعب الذي شُرّد. وقد بدأ سعيد اتهّاماته ضدّ الزّعامة التقليدية العربية في فلسطين، هذه الزّعامة التي لم تقُم بأيّ تنسيق فيما بينها، وإنّما اكتفت ببث روح الذّعر والخوف، ونَشر القتل والموت. الأمر الذي أدّى في النهاية إلى هرَب وتشريد هذا الشعب بدون تنسيق أيضاً (ص 17).

ويُتابع سعيد انتقاداته فينتقل إلى اتّهام الجيوش العربية التي دخلت الحرب دون استعداد فخسرت المعركة. ويُوجّه سهامَه القاتلة إلى جيش الإنقاذ الذي بَدَل أن يُحارب إلى جانب القوّات العربية باع الشعب الفلسطيني، وساعد على تشريده. ويظهر هذا الاتّهام الشديد في صفحة 20-21. حيث يصوّر سعيد الدكتور اللبناني الذي كان يُغازل في حيفا أخت سعيد، ولما وصل سعيد وأهله إلى بيروت هاربين ممّا في البلاد من نيران الموت وجدوا هذا الجندي الباسل، من جيش الإنقاذ قد سبقهم إلى بيروت. ولم يقف عند حَدّ هربه، بل ساعد على تشريد سعيد وإبعاده عن أهل بيته وأخته خاصّة، لتظلّ له فقط ويستفرد بها. ولم يكتف من أخت سعيد وإنما تابع في امْتهان كَرامة شعبه عندما ضحك مع الحرس على الحدود وشتموه وضحكوا معاً. وتابع طريقَه ليمتهن شرف شعبه في شخصية تلك الزوجة التي استضافتهم في معليا حيث ضاجعها في غَفْلة من زوجها. وهذا الاتّهام الخطير للجيش اللبناني بالتآمر يبرز أيضاً في قصة سعيد حول سَفَره مع ثلاثة من أصدقائه لشراء السلاح من بيروت. (ص 45،47). والاتّهام للدول العربية، وللخَونة من العرب يُبرزه الكاتب في القصة التي يرويها سعيد على لسان الشّجر حيث قال (ص 54): "سمعت في بلاد فارس حكاية فأس ليس فيها عود ألقيَت بين الشجر، فقال الشجر لبعض: ما ألقيت هذه هنا لخير، فقالت شجرة عادية: إن لم يدخل في است هذه عود منكن فلا تخفنها." (ص54).

ويُبرز اشتراك العرب واليهود والإنكليز في ظلم الشعب بقوله ص 82 "أخذوها- المقصودة هي يُعاد الأولى- مع غيرها من المتسلّلين وألقوا بها في سهل جنين بين ألغام الإنجليز والعرب واليهود". ومثلا آخر على المشاركة في تعذيب الشعب يورده سعيد في قصة قرية برطعة التي ذاق سكانها العذاب من جنود الأردن وجنود إسرائيل (ص 100،101). ويُبيّن تواطؤ بعض الزّعماء العرب في صفحة 106 بقوله عن بلدة زخرون يعقوب فانصرف أهلها القادمون من أوروبا، إلى صناعة النّبيذ الجيّد، فتضعه مَصايفُ العروبة، وقد تعدّدت أسماؤه، على موائد أمراء الجزيرة، فسيتذوّقونه فينشد مُنشدهم:

يا بشر ما لي للسيف والحرب وأنّ نجمي للّهو والطرَب

ويوجّه الاتّهام المباشر إلى حكام الأردن بقوله: ثم أقبل أيلول الأسود، عام 1970، على صورة دبابة هاشمية نقيّة تقيّة من طراز شيرمان هدمته فلم يخرج من تحت الأنقاض سالماً سوى الثريا وطويّتها السليمة. (ص123) ولم يهمل الكاتب الإعلامَ العربي من الاتّهام فقال في صفحة 189على لسان دعد: "إنّ صُحف الأقطار العربية تُطوّقنا بالانتصارات، كالأطواق فوق رؤوس قدّيسيها، فلا يبقى مكان فيها لطوقكم، وما انفكوا يطوّقوننا بأطواق الانتصارات حتى اختلط الحابل بالنّابل فلم تعُد تُفرّق بينها وبين أطواق الزهور على القبور". وقولها متابعة: "القضيّة يا سادة هي وجهة نظر، فأنتم ترون في ما أصابكم مصيبة، أما نحن فإنّ الطّوق هو حياتنا. تقولون: من المهد إلى اللحد. أما نحن فنقول: من الطوق إلى الطوق، فلا تنتظروا من الذين يعيشون حياتهم كلّها في التّطويق والتّفتيش، نهبَ كلاب الأثر حتى ضياع الأثر أنْ يشعروا بمصيبتكم التي أصبحت حياة أمّة بأسرها، من الخليج حتى المحيط."

ينتقد خضر محجز إميل حبيبي على هذا التّماهي بينه وبين سعيد بقوله: "إلى ما قبل اعتراف إميل حبيبي بأنّه هو المتشائل، فقد ظللنا مُتحيّرين في هذا الخطاب. (خضر محجز ص206)

سعيد المصوّر الأمين لشعبه:
من اختيار كنية المتشائل لسعيد نقف على مَدى صدق الكاتب في تصوير هذا الشعب في شخصية هذا السّعيد. فالمتشائل- كما وضّحنا تجمَع بين كلمتَي التّشاؤم والتّفاؤل. وهل حياة شعبنا هنا غير حياة الصّراع بين الدّمعة والبَسمة، واليأس والأمل، والتّشاؤم والتّفاؤل؟؟ فقصة سعيد كما قلنا، هي قصّة كلّ الشعب بكل قطاعاته. وكما أنّه لم يُهمل ذكرَ والده الخائن، ولم يتحرّج عن سَرْد أعماله المزرية، فأنّه كان أميناً في ذكر بائع الجريدة، ونَقْل كلمات ولاء ودعد، والشيخ من قرية السلكة، ويُعاد الأولى والثانية بالتفصيل .. وقصة الطنطوريّة الباقية بقاء سنديان الجليل.

كما وأنّ سعيد كان أميناً في تصوير حياة الشعب اليومية، وتصور مَظالمه وآماله. فهو عندما يقول: (واستلقيتُ على ديدمونة) (ص171) ويُقارن بين حالة وحال كنديد بقوله: "ويعرون من فورهم كالقرود، ومن الأمور التي تُثير العَجب سرعة تعرية هؤلاء السّادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم أصبعاً إلى مكان فينا جميعاً لم نكن نحن النساء لندع شيئاً يُدَسّ فيه غير أنابيب المحقنة" (ص99). وتعليق سعيد على هذا بقوله في نفس الصفحة "فحتى يومنا هذا تُطبّق حكومتُنا هذا القانون الدولي على الترك والتركيّات من العرب. جوّاً وبحراً وبراً". وفي الصفحة 101- حيث يُعلّق على قول كنديد "كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه، وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلا ممّا يحدث في عالمنا روحاً وبدناً" بقوله: "أمّا أنا فحتّى الأنين لم يكن مُتَيسّراً لي".

عندما يقول هذا الكلام ينقل لنا سعيد صورة أمينة لا يُنكرها واحدٌ منّا. كذلك في انتقاده لإهمال اللغة العربية في البلاد بقوله صفحة 64: "وفيما بعد تذكرتُ ما كنّا قد تعلّمناه في المدرسة عن فَكّ رموز الهيروغليفية، فأخذت أقرأ أسماء الدكاكين بالإنكليزية، فأقارن الحرف الإنكليزي بقرينه العبري على لوحة الدكّان حتى فككتُ الحرف، فتابعته في الجريدة العبرية، وتكلّمتها بأسرع مما قرأتها".

وتصويره لجَهل العربي تراثه بقوله صفحة- 33- "نحن أولاد حيفا كنّا نعرف عن قرى سكوتلندة أكثر ممّا كنّا نعرف عن قرى الجليل". ولا ينسى أنْ يُلَمّح لبعض التّصريحات الشوفينية التي أطلقها البعض من العنصريين هنا حيث قالوا إنّ تثقيف العربي خطر على أمْن الدولة، فهو في حديثه عن شكسبير وما سبّبه شكسبير لرواية أبي النّحس حيث اضطر على الاستلقاء على ظَهره كديدمونة يصوّر لنا هذا الوضع المزري الذي نُعانيه. وفي نَقْله لصور شعبه المختلفة لم ينسَ سعيد أنْ ينقل إلينا تلك الصور الإنسانية للآخرين. لم ينس ذلك الموقف الإنساني لبعض الجنود الذين حاولوا إخفاءَ أنظارهم من الخجل، ويُعاد تُقاوم جنوداً آخرين يَدفعون بها إلى السيارة العسكرية. (ص 81) وذلك الطفل اليهودي الذي جالس سعيد على الشاطئ وكلّمه، والذي جعل سعيد يقول: "لو ظلّ الناس أطفالا لما كبر ولاء ولما ضاع .. ألم يكن الرجل الكبير في يوم من الأيام طفلا صغيراً؟؟".

إميل حبيبي الكاتب الساخر:
من اليوم الأوّل الذي صدر فيه الكتاب الأوّل تساءل الكثيرون: -تُرى لماذا اتّبع حبيبي هذا الأسلوب السّاخر؟ وبمَن من الكُتّاب تأثّر؟ وهذا السؤال ظل يتكرّر، وقد برز في النّدوة التي أشرتُ إليها سابقا. فأحدُ الحضور سأل عمّا إذا تأثّر الكاتب بأسلوب قصة «الأمّ» لغوركي. وآخر هو الصّحفي والقائد الحزبيّ صليبا خميس جَزَم بأنّ الكاتب تأثّر بأسلوب المقامات. وقال: «لو سمّيتُ الكتاب أسمّيه «مقامات إميل حبيبي» وضحكنا، وضحك إميل حبيبي. ولكن كبد الحقيقة أصابها الشاعر حنا أبو حنا الذي قال في نفس الندوة: «لماذا نُحاول التفتيش عن المصادر التي تأثّر بها الكاتب. ولماذا هذه المقارنات؟ إنّ حياة إميل حبيبي اليوميّة أكبر مصدر لكم لمعرفة سريّة هذا السّخر. فهو ساخر في تصرّفاته وكلماته ونكاته. وقد قيل إنّ أسلوبَ الكاتب هو شخصيّته.»

لقد صدق الشاعر حنا أبو حنا. لأنّ العارف لحياة إميل حبيبي يعرف إلى أيّ مدى هو ساخر في حياته. والذي يسمعه وهو يتكلّم ورفاقه في البيت والمكتب والشارع يعرف مصدر هذا السّخر، والذي تُتاح له الفرصة ويجلس مع إميل حبيبي وإميل وتوما وسميح القاسم وحنا نقارة وباقي الشلّة كما يقولون "يفغر فمَه انذهالا، ويخرج من بينهم مثل الأطرش في الزفّة. فالتّورية والكناية والتّعليل وما إلى ذلك يطغى على كلامهم "طبعاً الكلام الذي لا يقولونه إلاّ بين بعضهم البعض ولبعضهم البعض".

وإميل حبيبي نفسه في كلمته ليلتها ذكر الجاحظ وإعجابه الشديد به. وفي هذا أكبر دليل على طريقته السّاخرة. ثم أننا نعرف أنّ الأدب الهادف اللاذع النّاقد هو الأدب السّاخر. ونجد ما يؤكّد كلامَنا في كتابات كلّ من مارون عبود أو عمر الفاخوري، أو موليير. وحتى الجاحظ رغم صعوبته على أبناء هذا العصر. ونحن نعلم أنّ اليونانيّين القدماء كانوا يعتبرون الفن الهزلي الكوميدي فنّاً لاذعاً مُوجهاً. والعرب ترجموا كلمة كوميدي إلى العربية "هجاء".

والسّخر في قصة إميل حبيبي يبرز في كثير من اللوحات والمشاهد. وهو يُضفي على القصّة جوّا مرحاً مُحَبّبا يُبعد الملل عن القارئ، ويجعله دائمَ الابتسامة رغم تصويره للألم وًالحزن. وتقول الناقدة المصرية فريدة النقاش: «إميل حبيبي ابتدع في فن السخرية أسلوبا فريدا، خاصّا به، لم يسبقه إليه أحد، ولم يستطع أنْ يقلّده أحد. فهو أسلوب قائم على المفارقة والمقابلة بين ما هو مأساوي، وما هو باعث على السّخريّة. وهذه الفضيلة الفريدة في أدبه، والتي بنى على أساسها شخصيتّه الفَريدة، تعود إلى معرفته العميقة بالتراث العربي الإسلاميّ وبفنونه المختلفة.»

ويقول إميل حبيبي في حواره مع ليانة بدر وزكريا محمد ومنذر عامر لجريدة «أوراق فلسطينيّة » «ما كان من الممكن أنْ نتحمّل الحياة دون مُتنفّس السّخرية. بعض السّياسيّين اتّهمني، أنّني بهذه السّخرية، أقوم بالعمل الذي يقوم به صَمّام الأمان. يعني آنّني أُنَفّس خزّان البخار حتى لا ينفجر. ويتّهمونني أنّني بكتاباتي أمنع الانفجار الشّعبي. أنا غير موافق على هذا الكلام وإذا أردتُ أنْ أشَبّه السّخرية عندي فأشبّهها بمانعة الصّواعق. أنا أردتُ أنْ أمنعَ الصّاعقةَ من أنْ تحرقَ شعبي. من دون السّخرية كان يمكن لشعبي أنْ يحترقَ. وقد لاحظتُ، ومنذ وقت طويل، جنسا في الأدب العربي لم يستطع الطّغاةُ أنْ يزيلوه. هذا الجنس هو السّخرية. الطّغاة، على مرّ العصور، استطاعوا أنْ يُزيلوا أعمالا أدبيةّ كثيرة. أمّا جنس السّخرية فاستطاع أنْ يعيشَ، وأنْ يتلافى كلّ مُحاولات الإحراق. وأنا أتحدّث عن الكلاسيك. يعني مثلا كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربّه الأندلسي، يتكوّن من قصص رَزينة وأخرى ساخرة. وقد لاحظتُ، عدّة مرّات، أنّ الكاتب بوكاشو كتب رواية «دكاميرون» على المنوال نفسه. ربّما يكون قرأ «العقد الفريد». كتابات الجاحظ أيضا سخرية لاذعة .«المقامات» سخرية لاذعة. «ألف ليلة وليلة» مستوى رفيع من السخرية. فإنّ تراث السّخرية قديم ومتواصل ولم يتوقّف. لقد بقي حَيّا، وهو سلاح ماض ومباشر، وقد يكون أقوى من الشّعر. هناك مَثلَ على قوّة سلاح السّخرية بالمثل المشهور عندنا، فلسطينياّ: «حسّبنا الباشا باشا أتاري الباشا طِلِع زَلمة». كل نظام الدولة يوهمك أنّ الباشا/ الحاكم/ يختلف عن بقيةّ الناس. فنأتي نحن أصحاب سلاح السّخرية ونثبت أنّ الباشا مُجرّد زَلمة».

إميل حبيبي وإبراز الوجه القومي:
قال إميل حبيبي في ندوة المتشائل موضّحاً خطّه الذي اتّبعه في قصّته: «لقد اجتهدتُ في قصة المتشائل أنْ أكونَ أمينا للشعب الذي أكتب عنه وله. وقد عملتُ قاصدا على إبراز المواقف السّلبيّة المتطرّفة التي برزت بين فئات شعبنا، وما سَبّبَتْه لنا من ويلات. وإلى جانبها أبرزتُ دورَ المواقف الإيجابيّة التي عارضت التّطرّف. وآمنت بالطريق العقلانية البعيدة عن العواطف وتأثراتها.» (مَشارف العدد التاسع 1996) وليس غريباً أن أسمع هذا القول من قائد حزبي يُؤمن بمبادئ إنسانيةّ لا تنظر إلى هويّة هذا الفَرد أو ذاك، وإنّما إلى انتماء هذا أو ذاك إلى هذه الطبقة أو تلك. فهو يُقيِّمُ الفَردَ طبقَيًّا وليس قوميّاً.

لكنّني وأنا أقرأ أجملَ مزامير المتشائل «آخر الحكايات حكاية السّمك الذي يفهم كلّ اللغات»، ذلك المزمور الذي يدور فيه الحوار بين ولاء وأمّه على شاطئ الطنطورة المهجور، حيث كان ولاء مُختبئا في قَبْو، ودوريّة من الجنود تُطوّقُ المكان. ولاء الثائر الذي يريد أن يُغيرّ العالم والواقع بساعده. وأمّه التي تُحبّه وتعملُ المستحيلَ لتُبصّره بطيشه وسخف تسَرّعه المزمن. وانا أقرأ هذا المزمور، وأصل إلى التلّاحم بين ولاء وأمّه. واندفاع الأم لاحتضان ابنها والدّفاع عنه. أتساءل:

-ترى هل قصد الكاتب إميل حبيبي أنْ يقول لنا هنا، شيئاً ما؟؟.

عندما وجّهتُ هذا السّؤال لإميل حبيبي في النّدوة قال:

  • إنّ الأم ّرغم معارضتها وعدم موافقتها لابنها في كثير من الأمور والمواقف، لا تستطيع أنْ تقف ضده، ولا تستطيعُ إلّا أنْ تحميه.

وعندما ركّزتُ على التّناقض بين فكر إميل حبيبي الشيوعي وهذه الحَميميّة والاندفاع في الحوار بين ولاء وأمّه، بينما الدّوريّة الإسرائيليةّ تُحيط بهما، انتفض إميل حبيبي وسألني بغضب:

  • هل تقصد بقولك هذا أنّي قومَجي؟! وهل أنا بلا إحساس؟

وفي كلامه هذا أكبر جواب، وإنْ ظلّتْ بعضُ جوانب السّؤال تتلهّفُ إلى المزيد. والمزيدُ هذا يستطيع القارئ الذّكيّ أنْ يجده في روعة هذا المزمور، واندفاع الكلامُ فيه اندفاعا موسيقيّا يجعلك تنسى نفسَك. وكلّنا يعرف أنّ أجمل ما يتًركه لنا الًكاتب هو هذه الكلمات التي يُخرجها في ساعات يتعطّل فيها العقلُ عن التأثير، فتكون كلمات خارجة من القلب وإلى القلب .. وما أصدق هذه الكلمات على مزمور إميل حبيبي.

كذلك يبرز هذا الموقف الذي اعتقد أنّ الكاتبَ قصَده عندما وضّح أنّه يشعر بالخجل والندّم عند مُراجعته لبعض فَقرات القصّة، في جواب المضيف من قرية السلكة ليعُاد عندما سألته عن الأصدقاء والشّيوعيين (ص195) قال: «على الرأس وفوق الحاجب، إلا أنّ غذاءنا الأساسيّ هو زيت الزيتون، نستحلي أعوادَ الخرفيش إلّا أنّها تنقصف. لا بأس بالبرق ولكنّه لا يزيل ليلنا الصّامت. سنظلُّ نُجرّبهم ونُجرّبهم ونجرّبهم، في صمت، حتى يُطعمونا من زيتونهم، صياح الدّيك لا يُطلع الصّباح، ولكنّ ديوكنا ستصيح حين يطلعونه، فعلى أصدقائنا أنْ يتعلّموا النُّطقَ بلغتنا، لغة الأرض والدّواب والمحراث- الصّمت الدّؤوب.» وفي تعليق سعيد على كلام الأستاذ (ص44) عندما قال: «لقد خرج الأتراك وأتى الإنجليز فلم يتزحزح أستاذُنا المغضوب عليه عن نظريّته هذه، فكيف أتزحزح عنها أنا الشابّ، وعمري كلّه أمامي بعد أنْ خرج الإنجليز وأتَتْنا إسرائيل.»

لا رموز عند إميل حبيبي:
عندما رغبتُ في تناول قضية الرّمز في "المتشائل" شعرت بالعَجز. إذ أنّني لم أجد هذا الرّمز الذي أتحدّث عنه. فكلّ شيء واضح. طبعا للقارئ الفالح. ولكن حتى لا أكون السبب في توجيه التّهم بالضّحالة والرّجعيّة وحتى الجَهل لصاحب المتشائل، خاصّة ونحن نُواكبُ عصرَ الرّمز الموغل في الإبهام والضّارب بفَهم القارئ، حتى المثقّف الجامعي منه، عرضَ الحائط. فإنّني أكرّرُ ما وضّحه الدكتور إميل توما في دراسته للمتشائل بأنّ «يعاد ترمز إلى طموح الشعب العربي الفلسطيني في عودته إلى وطنه، وباقية ترمز إلى إصرار بقيّة هذا الشعب على الصّمود على تربة الآباء والأجداد، ويُعاد الثانية تُعرب عن رفض التّشاؤم والأمل في تحقيق الأماني.» (الاتحاد 13/9/1974) أمّا سعيد فقد وضّحته أكثر من اللازم.

ما لا يُعجبُني في قصّة المتشائل:
اعتدنا في قراءتنا لما يُكتَبُ من نَقْد في صحفنا أنْ نقرأ فيه التقّريظ، وأنْ نلمس التّركيز على الموضوع والمعنى دون الالتفات إلى الشكل في الأداء والنّواحي الجماليّة فيه. والحقّ يُقال إنّني كدتُ أنساق مع هؤلاء. والسّبب هو شدّة إعجابي بالمتشائل. لدرجة أنني فضّلته على "السّداسية". فمن الأمور التي لم تُعجبني كَثرة استعمال الفواصل والنّقاط لسبب وغير سبب، وقلةّ استعمالها في كثير من الحالات اللازمة. كذلك عدم الاهتمام بالفَصْل بين كلام الواحد والثاني حتى كان يختلط على القارئ في مَعرفة هويّة المتكلّم. وكان يُفَضّلُ لو بُدئ كلام كلّ واحد بسَطر جديد حتى لو احتاج ذلك إلى زيادة عدد صفحات الكتاب.

كذلك هذه التّسمية المكثّفة للفصول، وتجزئة القصّة إلى هذه اللوحات العديدةبالرغم من روعة بعضها- فإنها مُرهقة للقارئ وتُنبئه بصورة دائمة، أنّه ليس أمام عمل قصصي، وإنّما أمام عَرْض جميل لواقع شعب مَظلوم يُحبّه.

أمّا ما أغضبني من الكاتب فهو الفّصل الأخير الذي سَمّاه «للحقيقة والتّاريخ». الذي أراد به أن يُنصف التاريخ ويُسرّ المؤرخين، لكنّه لم يدر أنه بعمله هذا أغضب مُحبّي الأدب، وأفقد قصّته روعتها. فالقصّة يا محترم (وليسمح لي سعيد اتّباع أسلوبه في الكلام) كان يجب أنْ تنتهي كما قال الصّديق إميل توما بمسك الختام، بكلمات يُعاد: «حين تمضي هذه الغيمة تُشرق الشمس.»

أمّا ما أعجبني في صاحب المتشائل: فهو اعترافه أمامنا في النّدوة الجميلة، أنّه ليس راضيا عن كلّ ما كتبه في قصّته، وأنّه لو كتبها من جديد لكان غَيّرَ فيها الكثير. كذلك حُسْن اختياره للقصائد المقدّمة لكتبه الثلاثة، وخاصّة استبداله لمقدمة الكتاب الأوّل التي كان قد اختارها من كتاب المعري «رسالة الغفران» بمَقطع من قصيدة للشاعر سميح القاسم، مُعبرّة وملائمة للقصّة. كلّ هذا يُضاف إلى روحه المرحة المتشائلة المُضْفية على القصة جوّا مرحا مُحَبّبا كما قلتُ سابقا. أمّا اللوحات الفنيّة والخطوط الفنيّة فأتركُ لنُقّاد الفنّ قولَ رأيهم فيها.

لقد قال لنا الكاتب إنّه بكتابه هذا أراد أنْ يُحارب الخوف في إنساننا العربي، وأن يبعث فيه عنصر الشّجاعة وحبّ الشجاعة، حتى أنّه كان يريد تَسْمية الكتاب باسم «حُبّ الشجاعة»، أو ما له علاقة بالشجاعة، لأنّه يرى أنّ مشكلة الجُبن وعدم الثقة هي من أبرز المشاكل التي نُواجهها. ويجب الانتصار عليها والتّحرّر منها .

وشخصيّة البطل النّقيض التي أكثر الصديق إميل توما بالكلام عنها، والتي فشل سعيد، على حدّ قوله، في التّحوّل إليها، لدرجة أنّ يُعاد رفضته. ولم يجد أمامه غير الخازوق والآمال الكاذبة في شخصية الرّجل الفضائي، رمز الاتّكالية والعَجز ليلتجئ إليه. والتي تناولها أيضا الشاعر حنا أبو حنا في كلامه. شخصية النّقيض هذه انتصرت، وتركًت أثرها عليّ. أمّا شخصيّة سعيد الجبان الخائن العاجز فهي التي انّمَحت وذابت مع ذوبان الغيمة السوداء. وأعتقد أنّ في انْطباع صورة البطل النّقيض لبطل القصة في ذهن القارئ وفي إيمانه أكبر دليل على نجاح إميل حبيبي في تحقيق هدفه من كتابة القصّة، وهو الحَثّ على الشجاعة والدّعوة إليها.

ولكن بعد اعتراف إميل حبيبي بأنّ سعيد أبا النحس المتشائل بطل قصّته، هو نفسه إميل حبيبي، يجعلني أعاود التّفكير ثانية في تسرّعي بالقَطْع أنّ سعيد استطاع أن يتحوّل إلى البطل النقّيض وأَميل إلى رأي الدكتور إميل توما الذي أكّد فشلَ سعيد في التّحوّل إلى البطل النّقيض، وظلّ على صورته المرفوضة الخائنة لدرجة أنّ يُعاد رفضته ولم تقف إلى جانبه.

مسك الختام:

أمّا مسك الختام الذي أريد أنْ أنهيَ به كلمتي عن "المتشائل" فهو كلمات النّاقد فخري صالح: «إنّ رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل" تدشّن عمارة جديدة في الرواية العربية المعاصرة وتفتح أفقا لتجديد حياة هذه الرواية، وتوسّع لها مَسالك لم تسلكها من قبل. إنّ "المتشائل" هي من بين الأعمال الروائيةّ العربية التي استطاعت أنْ تفلت من أَسْر الشّكل الرّوائي التّقليديّ، الذي يُعيد مُحاكاة العالم الواقعي بشخوصه، ومجريات أحداثه، من خلال حبكة نعرف مقدّما بدايتها ونهايتها. وقد عمل إميل حبيبي في نصّه الروائي الشهير على التّخلصّ من أسلوب المحاكاة، ملتجئا إلى أسلوب تمثيل العالم من خلال شخصيّات غير مكتملة، بل إنّها تبدو تخطيطات لشخصيّات تُعَّبّر من خلال عدم اكتمالها عن الواقع الكابوسي الذي تروي عنه.» (مجلة نزوى العدد السّابع 1996).

وكذلك كلمات الشاعر سميح القاسم التي قدّم بها الكتاب الثالث من ثلاثية إميل حبيبي "المتشائل. (مجلة الجديد . نيسان 1974) - «ما أنا ممّنْ تُشغلهم المنجزات الأدبية في خانات وإطارات، من هنا فلا يعنيني في شيء أنْ تنسجم أو أنْ تتنافر أعمال إميل حبيبي مع هذه المعايير أو تلك من مسلمات النّقد الأكاديمي. الذي يعنيني هو أنّها «شيء جديد» بالنسبة لما قرأنا من الأدب الفلسطيني. وهي مُثيرة في جدّتها، مالكة بما تخلقه من أثر، وبقُدرتها البارزة على البلوغ والإبلاغ.» ويؤكد سميح القاسم «ولعلّ أبرز سِمَة من سمات أعمال إميل حبيبي هي تلك الجَماعيّة في الحديث والانسياب، تلك الجَماعيّة الملحميّة التي جعلت سداسيّة الأيام الستة وثلاثية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل أشبه بمَقاطع من الياذة فلسطينيّة. هذا الحسّ الجماعي يندر أنْ نقع على مَثيل له بين أدباء العربية المعاصرين. ولعلّ ما يلفت النّظر أنّ أبرز شريك لإميل حبيبي في هذا الحسّ الجماعي الملحمي هو كاتبنا الشهيد غسّان كنفاني. وهل من قبيل الصّدَف أن يكون هذان الكاتبان من نَسل الشعب العربي الفلسطيني المأساوي؟»

ويقول: «في سعيد أبي النّحس المتشائل مَلامح متراوحة بين الخُفوت والحدّة، من ملامح الجندي الشّجاع شفيك. غير أنّ "المتشائل" ينحسر عن «شفيك» في لحظات الذّات الفرديّة. ويمتدّ عليه ويربو في لحظات الذّات الجَماعيّة. ومَنْ كان مثلنا، يدرك تماماً معنى الذّات الجَماعيّة».

 

الرامة - فلسطين