أقنعتنى هذه الرواية أنّ التعصب العنصرى، لايزال مسيطرًا على غالبية مواطني المجتمع الأمريكي. كما أنها أقنعتي أنّ من بين المبدعين الأمريكيين، من لديهم القدرة والشجاعة على انتقاد هذه العنصرية. والأكثر من ذلك تعريتها والسخرية منها. وهو ما فعله المبدع الأمريكى (كون سيلرز) فى روايته الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر- عام2013 - ترجمة دكتور رجا سمرين.
الرواية عن مواطنة أمريكية من أصل صينى. وهى التى تحكى تجربتها، وأنها قابلتْ أحد الروائيين الأمريكيين. وطلبتْ منه أنْ يــُـسجــّـل ما ستحكيه، لينشره. واشترطتْ عليه أنْ يكتب ما سترويه بأمانة. ولايتدخل بالتزويق والتنميق. وذلك حتى يعرف الأمريكيون المدللون، حجم معاناة مجتمع (بنما). تبدأ الأحداث منذ ولادة الطفلة، حيث هاجم مرض الحمى الصفراء قريتها، ولم يكن باستطاعة أحد أنْ يوقف (زحف الموت) وفى تلك اللحظات خرجتْ الطفلة من أحشاء أمها. ماتت الأم وتركتْ الطفلة على الأرض عارية. وما من أحد من الناس يهتم بها. ولا أحد فكــّـر فى تقديم جرعة ماء من أحل طفلة صينية تحتضر. فزحفتْ على ركبتيها فى الغابة حيث تركتها أمها. وهنا تتوقف لتقول للكاتب الأمريكى الذى يــُـسجــّـل حكايتها: إننى بعد أنْ كبرتُ. وكلــّـما تذكرتُ نشأتى فى الغابة: فإنكم أيها الأمريكيون لم تروا الغابات الحقيقية. وإنما تعرّفتم عليها من الأفلام الأمريكية المـُـضللة. أما الغابة التى انحفرتْ فى عقلى الصغير، فهى رطبة ومميتة. ومليئة بالحيات والثعالب. ولكم أنْ تتصوّروا فزع طفلة وسط هذا الرعب. وكل ما أستطيع قوله: هكذا كانت إرادة الحياة العمياء البلهاء. ولم يكن فى مقدورى أنْ أفعل للحصول على الطعام. كما تفعل النمور الأمريكية. ولاحتى تسلقى للأشجار مثلما تفعل القرود والنسانيس.
وتتوقف لتــُـملى على الكاتب: هل أثقلتُ عليك أيها الأمريكى المدلل؟ هل أحسستَ بالغثيان. وأنا أحكى عن تناولى للسوس ونشارة الخشب والحشرات؟ وهل جرّبتَ الجوع؟ إننى أكره الأمريكيين. ولا أكره الكاريبيين، لأنّ دماءهم تجرى فى عروقى ضمن دماء ستة من العناصر البشرية. ولهذا فإنّ تعبير (فتاة ملوّنة) غير ملائم على حالتى. والسبب أنّ والدى لم يكن صينيـًـا (فقط) حيث كانت فى عروقه دماء (جامايكية) و(سيخية) انحدرتْ من جدوده، أما والدتى فهى منحدرة من أصول هندية وإسبانية وأيرلندية وأمريكية. وأنا أزحف للبحث عن الطعام فى الغابة، لم أفكرفى هذه العناصر، لأننى كنتُ (معدة خاوية).
إنّ إرادة القدر التى وصفتها بالحمق. هى التى أرسلتْ إليها السيدة (ماما جارسيا) وأنقذتها ليس من الجوع (فقط) وإنما من القذارة والتسول. وأخذتها معها إلى بيتها الفخم. ونظــفتها وأطعمتها. وسألتها: هل أنت صينية حقــًـا؟ قالت الطفلة بفخر: نعم في عروقي دماء صينية. فنظرتْ إليها المرأة بكثير من الحب والحنان. ولكن هذه المرأة التى أرسلها القدر لإنقاذ الطفلة. هي التي قادتها ودرّبتها على (ممارسة الدعارة) ومن دخل هذه المهنة انتقلتْ بطلة الرواية من أسفل درجات السلم الاجتماعى، إلى أعلى قمة فيه، لدرجة التأثير على القرارات السياسية، مستخدمة فى ذلك كل ما يسمح به النظام الرأسمالى من وسائل مشروعة .. وغير مشروعة.
كان الثمن الذى دفعته البطلة (فى سبيل ارتقاء السلم الاجتماعى) باهظــًـا، فذكرتْ وهى تحكى للكاتب الأمريكى: هل تعرف كم كان عمرى عندما (ضاجعنى) أول رجل؟ ولكنه طلب منها الاكتفاء بتعبير (كنتُ صغيرة جدًا) دون ذكر التفاصيل، تنفيذًا لتعليمات (قانون المطبوعات) فقالت له: إنكم أيها الأمريكيون متناقضون، لأنّ القانون لديكم يعترف بأنّ السن القانونى للفتاة هو 21 سنة، سواء للزواج أو للعشق، بينما في حالة الفتيات غير الأمريكيات، مثل الكوبيات والبنميات .. إلخ لاتهمون بسن وجنسية الفتيات اللائى تــُـعاشرونهنّ جنسيـًـا، لاعتقادكم أنّ هنّ من (طينة) غير طينتكم. كانت ماما جارسيا تدير بيتــًـا صخمـًـا من بيوت الدعارة، المرخــّـص بمعرفة الجهات الحكومبة. وتقتسم مع صاحبه نسبة من كل مبلغ تحصل عليه الفتاة (من الزبون) مقابل استخدام الغرف التى جهــّـزها صاحب المكان.
استمرّتْ الفتاة (رانى لين) عدة سنوات على هذا الوضع. ولكنها عملتْ فى خدمة سيدة أخرى (من وراء ظهرماما جارسيا) وبالرغم من أنّ هدفها كان في البداية هو شراء الفساتين .. ومساحيق التجميل إلخ، فإنها فضــّـلتْ أنْ تدخر كل دولار للمستقبل. وبالمال الذى ادّخرته أصبحتْ تمتلك بيتــًـا للدعارة باسمها. وهى التى تجلب الفتيات. وهى التى تستقبل (الزبائن) وبالتالى يعود النصيب الأكبرمن الدخل لها. ومع تضخم ثروتها .. وتعدد عشاقها ومعارفها من ضباط الشرطة وكبارالمسئولين، توســّـعتْ أعمالها وتنوّعتْ: تجارة المخدرات .. وخاصة البودرة إلى تجارة السلاح. وبدأ نشاطها مع أحد الضباط الأمريكيين، المسئول عن أحد مخازن الجيش الأمريكى، تستلم منه الأسلحة والذخائر (مقابل مبلغ من المال) وتبيعها لمن يطلب، سواء (مرتزقة) يعملون لحساب دولة من الأنظمة الدكتاتورية، أو لفرق متناحرة في دولة (مصابة بمرض الحروب الطائفية) سواء الدينية، أوالمذهبية، باختصار كل أشكال الحروب الأهلية. أويتم البيع لبعض الثوار كما حدث عندما زارها بعض أعضاء (ثورة كوبا) بقيادة فيدل كاسترو. وخصوصــًـا بعد أنْ قال لها مندوب كاسترو: إنّ كثيرًا من النساء ساهمنَ في حركتنا. ونحن نعاملهنّ معاملة الرجال، فلا فرق بينهنّ وبين الرجال. والمرأة مساوية تمامًـا للرجل. وقد تطول ثورتنا يا سيدتى. وربما تنتشر في كل أمريكا اللاتينية، مثل فنزويلا وتشيلى والإكوادور.. ونيكاراجوا.. وأشار الكاتب الأمريكى (مؤلف الرواية) إلى أنّ الفلاحين الكوبيين يكرهون الولايات المتحدة الأمريكية. كما يكرهون أتباعهم و(ذيولهم) في كوبا. وأنهم تمرّدوا على سادتهم (ملاك الأرض) وطالبوا بتحسين أجورهم، ووقف التعامل مع أميركا الاستعمارية.
كانت بطلة الرواية (رانى لين) قد تعرّضتْ لأكثرمن موقف من المواقف التى يتبيــّـن منها (مظاهر العنصرية العرقية) بسبب أصولها الصينية. وأنها ليست (بيضاء) مثل الأمريكيين المنحدرين من أصول أوروبية. وهذه المواقف جاءتْ نتيجة تعرّفها على أكثرمن شاب أمريكى. وبعضهم من الجيش الأمريكى، أومن البحرية الأمريكية. وبعد قصص الحب القوية التى مرّتْ بها. ونظرًا لرغبتها (رانى لين) أنْ تندمج داخل المجتمع الأمريكي. وأنّ السبيل إلى ذلك الزواج من (مواطن أمريكى) وعندما (تخيلتْ) أنّ أحدهم أحبها بالفعـل. وطلبتْ منه الزواج، فإنه اعتذر بلباقة. وقال لها إنه لا يستطيع تقديمها لأسرته. والأفضل أنْ تستمر العلاقة بينهما على أنها (علاقة صداقة وغرام وعشق) فقالت له: أنت تــُـدرك ما يدور عن علاقتي. وأنها (علاقة عشق) فما الذى يجعلك تخجل من صحبتي؟
عضّ الضابط الأمريكى على شفتيه وقال لها: إننى لستُ خجلا من صحبتك يا رانى .. هنا فى (بنما) رغم كل ما يقال عنك أنك (عاهرة) سابقة. كما أنّ الهمسات لاتتعدى الحديث عن الطرق التى حصلتِ بها على ثروتك الضخمة، وعلى الرجال الذين كنت تربطتين بهم فى علاقات. وهذا كله لايهمنى. ولكن فى أميركا. وفى ولاية (فرجينا) التى أعيش فيها، فإنّ الأمر مختلف .. و.. وقبل أنْ يــُـكمل حديثه بصقتْ على وجهه. وسألته: ماذا فى فرجينيا؟ قل لى أيها الملعون؟ قال بصوت (حيادى) وكأنه يتكلم مع إنسانة لم يسبق له معرفتها، طوال عدة شهور. وتبادل معها العشق .. وممارسة الحب، قال: إنك ملوّنة يا رانى. والناس هناك سيدعونك بالملوّنة. وسيقولون عنى أننى.. وقبل أنْ يستطرد أكملتْ هى حديثه، فقالت: سيقولون لك: إنك تزوّجتَ (زنجية) أليس كذلك؟ فقال لها: رانى، ألا تعرفين أننى لا أفكر فيك على هذا النحو؟ ولكن حاولى أنْ تفكرى فيما سيحدث لو أننى صحبتك معى إلى فرجينيا؟ ردّتْ عليه بعنف وقسوة وقالت: اذهب إلى الجحيم أيها الأمريكى الحقير الملعون. ولما حاول أنْ يمسك كفها أضافتْ بسخرية: دعنى، إنك أرقى وأسمى من أنْ تــُـدنس يدك بلمسى، أو أنْ تضاجعني في الفراش. دعنى أيها الأبيض. واذهب لتبحث لك عن امرأة بيضاء مثلك. قال بتودد حقيقى: رانى إنّ كلا منا يحب الآخر. وقد استمتعنا كثيرًا معـًـا وباستطاعتنا أنْ نستمركذلك. ولننس ونتجاهل فكرة الزواج. قالت له: عليك أنْ تصغى إلىّ جيدًا. أنا رانى لين أيها الأمريكى الأبيض. أنا رانى لين الدُمية الصينية التى تتداول سمعتها الأقاويل. وأننى عاهرة .. وبائعة هيروين .. ومهربة أسلحة. وباستطاعتي أنْ أقتلك قبل أنْ تعود إلى زملائك الضباط. وإذا أحببتَ أنْ تتأكد من صدق كلامى، عليك أنْ تستمر فى القبض على كفى. وسوف ترى ما يحدث لك، عندما أنزع معدتك من جسدك. والآن ابتعد عنى. ولا تحاول أنْ تقترب من منزلى. وإلاّ غرستُ سكيني في بطنك.
ولما تركها وابتعد عنها.. وهو في شدة الرعب والذعر، قالت رانى لنفسها: زال غشاء الحب الذى حجب حقيقته عنى. وتبخروهم الحب، أو وهم العشق وتهاوتْ الأحلام. ولم يبق فىّ إلاّ فتاة الغابة الملعونة، المشحونة بالنقمة والكراهية لكل الناس، الكراهية التى أحسّ فمى بمرارتها. ونطقتْ بها عيناي .. ولم تستطع النوم بعد خداع كلٍ من الضابطيْن الأمريكييْن (جيم تايلور) و(بيتى جرانت) اللذيْن أوهماها (بصدق المشاعر) وبالتالي رسمتْ لنفسها مستقبلا جديدًا .. وتــُـغلق صفحة الماضي، بكل ما فيه من مثالب مضادة للأخلاق الإنسانية. ولذا أسلمتْ نفسها لتيار مشاعرها. وهى تتساءل: تــُـرى كم عدد الرجال الذين سيستمتعون بجسدى، ثـمّ يحاولون محو ما علق بأجسادهم من لونى الأصفر؟ واستطردتْ فى تيار مشاعرها: لقد كدتُ أجن من التفكير في هذا الموضوع، لأنه لم يكن هناك أكثر إيلامــًـا لنفسي منه. والسبب هو أنّ قطرة واحدة من دماء الزنوج (رغم شرف الانتماء إليها) لم تكن فى عروقى. ولكن كيف أثبتْ ذلك للأمريكيين؟
وأضافتْ: فى ذلك الحين كنتُ مستعدة لجلد العالم كله. لو استطعتُ. ولأول مرة أدركتُ لمَ كانت تثور الفتيات غير الأمريكيات، من معاملة الأمريكيين .. ولذا كنتُ أتعاطف معهنّ. اللعنة على الأمريكيين المتعجرفين المتعصبين لبشرتهم البيضاء. وبسبب ثروتها الضخمة ونفوذها ومشاركتها في العديد من الأنشطة التجارية، نجحتْ فى التسلل إلى المناصب الحساسة والمهمة، داخل الإدارة الأمريكية. وقالت لنفسها وهى تبتسم: هؤلاء الحمقى نسوا، أوتغافلوا عن (طبيعة الحية الناعمة فى تكوينى النفسى والعقلى) ولكنها- بالرغم من ذلك- كانت تشعر بالمرارة والأسى. كلما تذكرتْ ماضيها الملوث بالدعارة والمخدرات والتجارة بأعراض البنات. ولذلك كانت تهمس لنفسها فى وحدتها: لقد أصبحتُ محنطة الشعور وجامدة الإحساس. وعندما لجأتْ إلى طبيب أمراض نفسية، لعلاج كآبتها وتعاستها، وبعد أنْ عرف منها (نظرة المجتمع الأمريكى العنصرية بسبب أصلها الصينى) قال لها: علاجك الوحيد هو أنْ تفخري بجنسيتك وتدافعي عنها.
وبعد فترة صمت أضاف: ولكن لوفعلتِ ذلك ثـمّ عدتِ لماضيكِ .. ولعلاقاتك مع الأمريكان، الذين احتقروا جنسيتك وأصلك، فقد تتعرّضين لانتكاسة شديدة يصعب علاجها، فقالتْ لنفسها بين الجد والهزل: تمنيتُ لو أطلقتُ النار على طبيبي النفسي. وفى الصفحات الأخيرة من الرواية، فإنّ مؤلفها الأمريكى جعل بطلته تتذكر أنّ الإدارات الأمريكية المتعاقبة هى التى ساندتْ وشجــّـعتْ الحكومات الدكتاتورية فى (بنما) التى روّج الإعلام الأمريكى والغربى عنها أنها إحدى (جمهوريات الموز) فى أمريكا الوسطى..وبعد تجربة بطلة الرواية مع الأمريكان قالت: إنكم يا أبناء المجتمع الأمريكى (من البيض) أعجز من الانتصار علىّ. وأنّ أرضكم لم تعد أرضــًـا للحرية .. وإنكم تتظاهرون بتقديم المساعدات (وهى ليست مساعدات) لأنكم تحصلون على أضعافها بأساليب أخرى، مثل قبول التعامل مع صندوق النقد الدولى .. واستخدام الأجواء والمياه الإقليمية للأنظمة التابعة لكم، لتسهيل الأغراض اللوجستية. وهناك فرق واحد بينى وبينكم أيها الأمريكيون. وهوأننى أمتلك الشجاعة للاعتراف، بأننى تاجرتُ بجسدى. وبأعراض البنات الفقيرات. وهم مهما كان عددهم لن يزيد عن المئات، أوحتى الآلاف. ولكنكم تتاجرون وتسرقون وتنهبون خيرات الملايين من البشر. وهذا ما يجعلنى أشعر بأننى أشرف منكم .. وأحتفظ بوجودي في القمة، بالرغم من أننى انحدرتُ من الغابة.. وأنا على وشك الموت من الجوع .. وأعترف بأننى أفسدتُ نفسى، بواسطة بيعى لجسدى (من ص266- 296)