يقدم الناقد والجامعي المصري هنا مراجعته النقدية لرواية عمانية حازت اهتمام القراء والكتاب في الوطن العربي وخارجه، ويكشف لنا كيف استطاعت الكاتبة الموهوبة أن تكتب النساء بصورة جميلة تستحق الاهتمام والثناء، وأن تضفر حياة هذه الشخصيات النسائية الثرية بعملية التحول الاجتماعي والتاريخي التي عاشتها عمان.

جُوخَة الحارثي في «سيّدات القَمَر»

التاريخ الاجتماعي لعمان مضفورا مع شخصيات نسائية معجبة

إبراهيم منصـور

 

في الصفحة ١٩٢ من رواية "سيدات القمر" لجوخة الحارثي ، يقول الراوي، على لسان خالد عن أبيه عيسى المهاجر "كل ليلة، أتلو كتاب "تحفة الأعيان في تاريخ أهل عمان" للشيخ السالمي، بين يديه، حتى حفظته عن ظهر قلب، يأخذني معه إلى كورنيش النيل في العصاري، ويطلب مني إلقاء نونية أبي مسلم البهلاني  كاملة"

وأبو مسلم البهلاني الذي نقلت الكاتبة أبياتا من شعره، وحكى الراوي طرفا من حياته، هو شخصية حقيقية، اسمه ناصر بن سالم، عاش بين عامي ١٨٥٧ و١٩٢١م ، وجاء في الرواية أن ديوان شعره أول ديوان مطبوع، وله إسهام في النهضة العمانية، فقد أسس "جريدة النجاح" وهي أول جريدة عمانية ، أصدرها من زنجبار.

تكتب جوخة الحارثي (مواليد ١٩٧٨م) عن ناس بلدها عمان، وقد أخرجت حتى الآن ستة أعمال سردية، ثلاث مجموعات قصص قصيرة، وثلاث روايات، فضلا عن عملها أستاذا مشاركا للأدب العربي في جامعة السلطان قابوس، وأشهر أعمالها رواية "سيدات القمر" الصادرة ٢٠١٠م، فقد نالت عنها جائزة مان بوكر الدولية International booker prize فكانت بذلك أو كاتبة من العالم العربي تحصل عليها.

الشخصيات في رواية "سيدات القمر" نساء ورجال، يعيشون اليوم بين العاصمة مسقط، وفي منطقة "العوافي" ووادي عديّ،  وفي أوربا وكندا ودبي، حيث تتطور الحياة، وتنحو نحو القيم العصرية، من تعليم وتحرر وثقافة حديثة واقتصاد مُعَولَم، لكن تاريخ الشخصيات متجذر في تربة كانت يوما تنطوي على تشوّش حضاري، فالسّحر والطب الشعبي واتخاذ الكي للبشر كما تُكوى الإبل سبيلا للشفاء، كان ملازما لاضطهاد المرأة، واستعباد السود، وغياب ثقافة التسامح.

في السطور الأولى من الرواية مشهد يشدّ القارئ شدا "ميّا التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء، ماركة الفراشة، استغرقت في العشق" (الرواية ص ٧) حياة ميّا، مع أمها وأبيها وأخواتها، وانتقالها من العكوف على ماكينة الخياطة في منطقة العوافي إلى "مسقط" التي تنطق هناك "مسكد" حيث تسكن في بيت أنشأه زوجها، وتعلّم أبناءها اللغة الإنجليزية، وتترك حرفة الخيّاطة، وتسمي ابنتها البكرية "لندن"

لسوف تنجح الكاتبة في التوفيق بين سرد حياة النساء والرجال في ضفيرة محكمة مع سرد تاريخ عُمان السياسي والاجتماعي الحديث، وهو تاريخ مليء بالعقبات والمحطات والتحولات، مثلما كان تاريخ الشخصيات المحاربة والمجاهدة من أجل الاستقلال والوحدة، ومثلما كان تاريخ البلد كله في انتقاله من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. لقد جاء عنوان الرواية "سيّدات القمر" موفقا تماما، فالنساء في رواية الحارثي، لا يقمن بأدوار موازية لأدوار الرجال فحسب، بل إن أدوارهن تعد المقياس وعلامة الطريق نحو الحرية والتقدم، فالفتاة التي عاشت في المنفى مع أبيها المهاجر، حينما ماتت كان جثمانها هو الجسر والرابط الذي أعاد المهاجرين إلى بلدهم، وأعاد بلدهم إليهم. لذلك لم يكن غريبا أن تطلق الكاتبة اسم "غالية" على تلك الشخصية الرمزية، تلك الابنة العزيزة التي فارقت الحياة في القاهرة العامرة بالحياة، ودُفنت في مقبرة (العوافي) المقفرة.

أما القمر فهو جوهر بين الكواكب وليس مجرد تابع لها "فالقمر هو الخازن لما في العلوّ والسّفل، والقمر أشبه الكواكب بأمور الدنيا، ولشدة مشابهته لها صار دليلا على كل الأمور، واحفظ حال القمر فإن صحته صحة كل شيء، وفساده فساد كل شيء." ( ص ١٩٨) كأن الرواية حين تتحدث عن القمر تعني النساء، وحين تتحدث عن النساء تقصد القمر، فسيدات القمر هن دنيا عمان في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

وعمان هي بلد التاريخ، وهي بلد البحر والصيد والسفر والتجارة، فكانت تجارة التمور رائجة فلما أصابها البوار حلت محلها "تجارة الأسلحة." ولأن عمان بلد ساحلي متصل بالعالم الخارجي فقد تاجر العمانيون في الأسلحة يبيعونها للأفغان، واتسعت التجارة فكانت الأسلحة تباع أو تُهرّب إلى الهند وزنجبار، ثم أصيبت تجارة الأسلحة بالبوار مدة قصيرة، وعادت مع بداية القرن العشرين بالتعاون مع تجار هنود، وحين جاء العام ١٩٠٨م استطاع تاجر اسمه "هلال" أن يحقق ربحا وفيرا من صفقة سلاح جاءت من أوربا وبيعت في ميناء مسقط، التاجر هلال سوف يُخْلف ولدا اسمه سليمان، قد جاءه بعد أن أثرى وصاهر عائلة من شيوخ العوافي، ولسوف يتاجر سليمان بن هلال في التمور ثم ينتقل إلى "تجارة العبيد" ويصير غنيا، فيسميه الناس "سليمان التاجر" بالألف واللام، وكأن التجارة قد اختُصِرَت كلها في تجارة العبيد.

ترصد رواية "سيدات القمر" هذا التطور الاقتصادي وانعكاسه على ثقافة المجتمع وحركته ونموه، فنرى في الرواية تطور الحياة والعلامات السيميوطيقية القاهرة: من بيوت الشعر إلى بيوت الأسمنت، ومن الأسماء القديمة: عزّان وسويد، ونجية وخزينة وغزيلة، ومسعودة، إلى لندن وأسماء وميرفت ورباب. ومن رعي الغنم والجمال، إلى البورصة والصحف والمدارس واللغات الأجنبية.

سوف تترك تجارة العبيد أثرها الاجتماعي والثقافي، فالتاجر سليمان له من العبيد العدد الوفير ومن عبيده ظريفة، ففي عامها السادس عشر ستباع ظريفة، المولودة عام ١٩٢٦م، هي ابنة عنكبوتة الملقبة بالخيزران، التاجر سليمان سيتخذها عبدة له وسريّة وحبيبة في بلدة العوافي، ولن يكون التسرّي إلا المظهر الأقل ظلما من بين مظاهر العبودية الأكثر بشاعة، ومنها الجَلْد بالسياط ، والحمل السفاح. سوف يخصص المجتمع للعبيد أسماء للرجال منهم وأسماء للنساء، ومن أسماء العبيد في رواية "سيدات القمر" سنجر ومرهون وحبيب، ومن أسماء العبدات عنكبوتة وظريفة وشنّة.

في رواية "سيدات القمر" رجال طيبون، لكن نموذجين من نماذج الرجال قد أظهرا أن الرجل في مجتمع عمان، كما في سائر البلدان العربية والإسلامية، يتجبّر ويظلم ويصول ويجول، لا يرعى حرمة النساء، لذلك جاء نموذج أحمد خطيب لندن وهو طبيب مثلها، ونموذج ناصر زوج خولة، هما الأكثر بروزا في فضح هذا الظلم للنساء واللعب بعواطفهن. ولكن لحسن الحظ فإن كلا من لندن وخولة لم تقبلا باستمرار تلقّي الإهانات. فاتخذت كل منهما قرارا بالانفصال، لندن انفصلت مبكرا قبل الدخول إلى قفص الزوجية، وبرغم إتمام عقد الزواج. وخولة تأخرت كثيرا، بسبب وقوعها في الحب من غير حسابات ولا تدابير، ولأنها كانت واقعة في الحب حدّ الجنون فقد تأخرت في قرار الطلاق، حتى صار أصغر أبنائها من ناصر يدرس في الثانوية العامة، أي صار رجلا.

نجحت جوخة الحارثي في تضفير التاريخ الساسي والاجتماعي لعمان، مع حياة الشخصيات في الرواية التخييلية، واستطاعت أن تصنع رواية تتعدد فيها أصوات الساردين والساردات، فالسرد التاريخي مضَفّر مع السرد التخييلي، في انتقالات سريعة بين الماضي والحاضر والمستقبل، واستعانت الكاتبة بطرائق للسرد عديدة منها الوصف، والحوار. وتضمن السرد موضوعات من الشعر العربي والتاريخ، والتصوف والسحر، والحكايات الشعبية.

بدأت الرواية بـ"خولة" مجنونة ناصر، تصلّي وتطلب من الله شيئا واحدا "والله العظيم يا رب لا أريد شيئا ... فقط أراه .. والله العظيم يا رب لا أريده أن يلتفت لي .. فقط أراه." (ص ٧) ولا تنتهي الرواية إلا وقد طلبت خولة الطلاق من ناصر طالب البعثة الفاشل، بعد عشرين عاما من الزواج، فظن الناس أنها مجنونة.

يقدم الراوي مقطعا رائقا يلخص المسألة  فيجملها ويفسرها "لم تعد تحتمل الماضي، كل شيء فيه يتضخم، ويخنقها، كل ليلة تكبر صورة البنت الكندية  في علّاقة مفاتيح السيارة وتنام على وسادة خولة." (ص ٢١٨) هنا تصل بلاغة السرد إلى ذروتها بالاستعارة التي جعلت من صورة المعشوقة القديمة للزوج "عفريتا" يطار الزوجة العاشقة القديمة ويقض مضاجعها. لذلك نقول ما أجمل سرد النساء عن النساء، وخاصة إذا قارفت هذا الفعل روائية موهوبة مثل جوخة الحارثي.

 

أستاذ النقد والأدب الحديث، جامعة دمياط