إذا كانت مداخل الأعمال الإبداعية ومنها الرواية وعتباتها، معابر أساسية تضيء السرد كما تؤشر على ناصية المنطلقات الرئيسية للحكي ونية الراوي المسبقة، فرواية (حين يزهر اللوز)[1] للكاتب محمد أبوالعلا؛ هذا العنوان/ المؤشر على التفاؤل ما يلبث أن يراوغنا في أول منعطف، إذ تعترض المتلقي إشارات ودلالات نذر وشؤم قادم، علما أن النزوح إلى الجبل علامة انتقال وارتقاء الى الأرقى توقا لأمكنة الصفاء والنقاء. الصعود إلى الأعالي عبر سلم المسالك الجبلية الوعرة والصراع بين طرفي نقيض: السلطة التي يمثلها القائد والمقدم وأزلامهم من جهة، والجبلي رمز الصمود من جهة أخرى على أرض المنجم الذي أوى وأكرم وعاند وأودى بحياة أناس كثر، المنجم الذي انزاح من واهب للحياة الى وائد للأحياء. (140)
حيث منذ البداية نجد هذا الشد والجذب والمد والجزر في ثنائية ضدية، ومفارقات تبدو في مجملها منتصرة للحياة وللحرية ضد القهر والجور والعتمة، وللضوء وقوى الخير ضد قوى الشر، وهلم تقابلات بين الأشياء والصفات ونقائضها. الأعلى/ الأسفل، الصعود/ النزول، ضوء/ عتمة، وثلج جاثم يحبس الأنفاس. يبدو الانتصار للحرية والتحرر ظاهرا في الأعالي، لكنه مقيد بشروط الإنتاج المفضي للقيد تحت رحمة السلطة، فكلما بدت شبكة الصيد واسعة جدا، كلما اعتقدت الأسماك أنها حرة طليقة، وكلما طال الحبل اعتقدت الدواب أن كل الأمداء ملكها.
تلك هي ما تروم أحداث الرواية أن تشكله في سياقات متعددة وفي إطار تقابلات ضدية مفضية الى طرح تساؤلات حارقة، لأن الأصل في الأدب عامة كونه يبنى أساسا على المفارقة والمقابلة بين الشيء ونقيضه في صراع دائم وقائم، مسلطا الضوء على مكامن حقيقة الأشياء وطبيعتها وتركيبة السلوك البشري المعقد. ولكون الرواية تمنح الكاتب فضاء شاسعا لامتزاج الفنون الأدبية وتلاقحها فقد جاءت رواية "حين يزهر اللوز" حافلة بالشعر الشعبي والتاريخ والإحالات الدرامية حد التفنن في تشريح الحدث على خشبة مسرح ساد ثم باد، كما حفلت الرواية بطريقة فنية مزجت بين السرد والوصف للمحكيات، مقدمة لوحات تشكيلية تنبض بالحركية والحياة. منها ما غاص في الذوات ومنها ما هو طبيعي جميل فرضته طبيعة المكان الساحرة.
وباعتبار الرواية شكلا أدبيا قابلا لاحتواء العديد من الأجناس الأدبية يتم بناؤها واشتغالها على اللغة كنمط تعبيري أدبي يقدم تصورا عن الذات والعالم، فقد استدعى الكاتب مستندا الى لغة ثرّة لفن المسرح – وهو الكاتب والمبدع والمنظر والممارس للفعل المسرحي – في العديد من تمفصلات الرواية لإعادة تشكيل عوالم بديلة للواقع وفق فكر ونظرة ثاقبة، وكسارد خبير بالعوالم الحكائية، وذلك من خلال صور ومشاهد تعكس جوانب مهمة من الصراع الأزلي القائم بين الأعلى والأسفل، والسلطة والعوام، في أزمنة وأمكنة متعددة تختلف من حيث المواقف وتأتلف بأساليب تتفق وتتناغم في الأحاسيس والمشاعر، لتأخذ الرواية منحى مشوقا بين الألم واليأس والنصر والهزيمة والتغير والتحول، بدل الركون للثبات والارتهان الى الواقع، حيث يتبدى الصراع منذ البداية راشحا بالتوجس المريب من "هول الآتي المريب" ص 18 وكأن كل "الاحتمالات واردة" وهي إشارة تنذر بها أسراب غربان تحوم "في الأفق القريب وقرع الطبول" أرخى الليل سدوله كما شرع البرد مبكرا في قرع طبول حرب تصطك لهولها الأسنان" .ص:20.
في هذه الأجواء المشحونة منذ البداية بالقلق والتوتر يزج السارد بالمتلقي في أتون أحداث كبرى تبدأ بتوقف المنجم وتوقف الحياة، هناك في الأعالي حيث يطول الحصار الأبيض، وتتفكك عرى التواصل بين السهل والجبل، في وصف مدهش لفضاء الأحداث ما يلبث ان يطمر المتلقي في مسارب تخييلية ممتعة موصولة بالأسفل مربط الأحداث. ويبدأ محكي المنجم الذي نُذِرت له الأجساد من أجل لقمة تحت التراب، مع شخصية "جبيلو" في حكيه العفوي والحماسي عن حروب لم يخضها.
حكي ليس كالحكي الذي اعتدنا سماعه من جنود عجزة ، بل كان على توافق تام مع ما جاء "في مذكرات أوغسطين ليون كيوم" كل ذلك بتشخيص عنيف "لكائن حربي خلق للنزال" لينعطف السرد في تناوب وانتقال سردي سلس على لسان الفاكتور "رسول الرسائل" في صراع مع أطياف السلطة، لتندلع الأحداث بطريقة مخاتلة وبسرود فرعية موصولة بالحدث الرئيس، حيث تظهر النزعة المسرحية وحضور المسرح، وقد أشر الكاتب إلى ذلك في ص 64 "رسوخ كعب السهلي في المسرح" غير أنه كان ميالا للسرد"، حيث حكى وسرد وأفلح في ذلك لدرجة الاستمتاع بمشاهد مرئية بل مسموعة، في أحايين ومواقع عديدة من الرواية، باحثا عن حقيقة أخرى هاربة وجد نفسه يُسَود لأجلها بياضات السرد، ململما الحكايا المسربلة بالدهشة والإمتاع. وفي سرود ساعي البريد هناك دائما خيط ناظم بين العقل والجنون وآخر في الحياة فاصل بين الحمق والتعقل.
من بين شخصيات الرواية الرئيسة نلفي "العالية" وهي كناية بالتأكيد على العلو والشموخ والإباء، تلك التي التحقت بالصاعدين صوب منجم الجبل وهي مزنّرة بنياشين الاعتزاز والفخر، وبانتمائها لرجالات المقاومة الأشاوس، لتجد لها رفيق العمر "جبيلو" في إشارة إلى الجبل، ليشكلا ثنائيا صلبا محتجا ضد آلة الغطرسة والاستبداد، حيث يظهر خطاب المنسيين والمهمشين في وجه السلطة "استمعنا لكم بزاف هاذي شحال، جات الوقت تسمعوا لنا ص 79" في اشارة قوية الى أن أهل المنجم وكل المهمشين أينما وجدوا، ليسوا في حاجة الى إعانات بقدر، ما هم في حاجة إلى الإحساس بهم؛ لأن الناس هنا تموت كل يوم. ص 80
نشير هنا إلى أن جل شخصيات الرواية تحمل في طياتها قضية، فالجبلي يحمل قضية، والعالية تحمل قضية، وادريس الفاكتور يقبض على قضية، والسهلي يحمل قضية، وأحيوض له من القضايا ما لايحصى، والمنيرو رحل فحمل معه قضيته، ورحال تأبط مع الرحل قضاياهم، وغادروا مسرح الأحداث إلى وجهة غير معلومة في نهاية الرواية.
وفي تساوق مع ما تحيل عليه أسماء وألقاب الشخصيات من سمو وعلو "الجبلي"، "العالية " نجد أيضا الفضاءات المركزية في الرواية ومنها "سوق الأعالي" وذرى الجبال العالية، وهو ما يجعل ملمح علو الشخصيات موصولا بهذا الانتساب الى الجبل في صموده وقوته وصلابته ونقائه، شخصيات عالية شامخة فيها إباء وعزة نفس وتواضع شامخ، سواء في حضرة السلطة أو مع البسطاء. مقابل ذلك يقلب السارد الأدوار فيزج بالسلطة وأزلامها في أتون العوالم السفلى للمنجم حيث الهوان والضعف، من خلال مقلب ساخر عزّز به مشاهد الرواية، وذلك من خلال موقف بطولي للعالية وهي تحتجز رجال السلطة حيث الوقوف على قدم المساواة كما لو كانوا هناك في العالم الآخر "تزاحم الجميع كبغال ممرغة بفضلات اصطبل لتتوارى السلط والرتب أمام التشبث الرهيب بالحياة." ص 109
وهو ما يعني أن في الجبل وفي بلدة المنجم بالذات لا سلطة إلا سلطة القوة والسلاح، ولا مقاومة الا مقاومة أعداء الوطن والمستوطنين الجدد، كل ذلك في تصاعد سردي درامي مثير حيث المسرح في أوج درجات التجلي؛ ليصبح السرد هناك في الأعالي شبيها بالتطهير الأرسطي/ الكاترسيس. ص 108 وهو ما يسوغ السؤال: هل العلو والسمو في هذا المرتفع المطل على العالم دليل على البحث عن السُلم المفضي للأولمب؟ للتمسرح ؟ حيث السرود الشاعرية تغدو أناشيد طالعة من جوف الطبيعة الساحر مع بشائر اشتعال شجرة اللوز مجسدة في لوحات تشكيلية رسمتها أنامل فنان نذر نفسه للطبيعة. ص 131
إلى ذلك تبدو لغة الرواية مكثفة امتزج فيها الواقع بالخيال والتاريخ، علاوة على الإحالات الفكرية والتاريخية والفنية التي أتت لتُعضّد المسرود المستند في العديد من مفاصل الرواية إلى مرجع واقعي. وقد اتخذ الكاتب من الهامش (الذي انتهت به الرواية)؛ (المجد لك أيها الهامش) مرجعا تخييليا زاخرا بالمتناقضات المتشعبة والمعقدة، في محاولة منه لإعادة اكتشاف واقع مترد منذور للعزلة والهشاشة والنسيان، وهو المقتنع أيما اقتناع أن الجبل مازال محبرة غزيرة العطاء لم تستكشف ولم تستثمر بعد. لذا فقد جاءت رواية "حين يزهر اللوز" رواية واقعية اجتماعية نفسية سعت لكشف علاقة المهمش بالسلطة ومعوقات الصراع من أجل البقاء، فحتى وإن أتلف المنجم مصدر الرزق وباد فهناك شيء مازال يعرش على القلوب، وفي دواخل شخصيات الرواية، حيث الحفر عميقا وتجشم امتطاء الجبل مهما كانت الحقيقة قاسية موجعة والواقع واش بالعدم.
في ثنايا الرواية، وعلى امتداد الفصول تضطرم أسئلة حارقة تحرك السواكن وتدعو للريبة من المجهول من خلال جدلية الحضور والغياب، كل ذلك في سياق قلق وجودي بائن يسيطر على الألباب، ليبقى السؤال من أين إذن تَولَّد هذا الواقع الأقسى؟ طرح لا يحتاج فيه اللب إلى إجابات بقدر ما يحتاج إلى تكرار السؤال ووضع الأصبع على مكمن الداء بقوة وبعنف أحيانا. ص 138 في إحالة جميلة أُسقِطها على قصة عنزة السيد سوغان حيث نشدان الموت وطلبها في الأعالي هناك مع أو ضد الأبطال الشجعان، خير من الموت في الدير تحت سلطة القيد الحقير والذل، وحوافر الفقر والعوز وترهيب السلطة والجور والظلم والتنكيل، فهم أبطال "كلامهم فعل وصمتهم كلام، سالمهم واحذرهم، فهم لا يظلمون ولكن جبارون حين يُظلمون." ص 141 ولأن الأرض لا تسعهم ولا سماء، فقدرهم الترحال والتنقل ص 136 يخرجون للموت أبطالا، على أن يموتوا في البيوت كالحريم.
وفي كل هذه الانتقالات السردية السلسة، نرى أن السارد قد فتح عنوة صفحات من سفر ملحمة الجبل التي قهر فيها الرجال الجبل قبل الرجال، فأطلّت نفحات الأطلس الفنية والطبيعية بشكل جلي غاص بنا في حقيقة الأمكنة، بعبق تاريخها ونضالاته وحاضرها ومستقبلها في سمفونية متفردة باللغة والتشبيه والوصف، حيث يستوقفنا السارد بين الفينة والأخرى، لنلوذ معه بالذات والعالم في أحلام عابرة وتأملات عميقة، ترصد المجال المرئي والمتخيل في عوالم الأطلس الساحرة الطافحة بالدهشة والجمال والأسرار. خصوصا حين يحدثنا عن الموت المخاتل، وعن الوجه الآخر للطبيعة حينما تتمرد فتكشف عن حتف داهم في مشهد فيضان النهر الثائر المحمل بالجيف وبجثة علال المينورو، وذلك من خلال وصف دقيق جدا يجعل الأحداث صاخبة بالحركية وكأنما نفخ فيها روحا.
تفاصيل دقيقة ملتهبة مضمّخة بالحب واللوعة والاشتياق تارة، والألم والقسوة الجارحة تارة أخرى، لتتصاعد أحداث الرواية تصاعدا ملحميا دراميا إلى ذروة الدهشة والإبهار والجاذبية، حيث لكل شخصية من شخصياتها قصة وهمّا ومهمّة، قبل أن ترحل مودعة وفي قلوبها حسرات وخيبات وأشجان وفجيعة لا تندمل ذكرياتها، شكلت جلها طبقا حافلا بالحكايا المشوقة تغري بالمتابعة بل والإصغاء أيضا، حيث أضفى كل هذا على الرواية درجة عالية من الإثارة والتساؤل واستقراء واقع الهامش من منطلقات مغايرة لعبت فيها مؤثثات الجبل والمنجم والموظف البسيط (ساعي بريد الجبل) والتاريخ والجغرافيا والمقاومة الدور البارز حيث كانوا لها عنوانا.
بعد كل ما قدمناه من كوى أبرزنا من خلالها بعض الأسئلة التي تستبطنها الرواية عن حياة الهامش، ومناوشة بعض قضاياه التي بدت لنا كقمة جبل الثلج العائم، في حين تبقى بالتأكيد زوايا أخرى من الرواية منطوية على أفكار ومضمرات مختلفة ومتعددة؛ ساكنة وراقدة، تستحق المزيد من الاستقراء والنبش والاستغوار. لذا نختم بما جاء على لسان السارد "لكن لا أحد منا فتح كوة على عتمة كواليسيهما يعني (المقدم وموحى الدرامي) فكشف عن المتواري خلف القناع، عن الحقيقة وعن دور الزمن ما بعد إنهاء الادوار."
[1] محمد أبوالعلا – رواية حين يزهر اللوز – دار الفاصلة للنشر – طنجة – 2020.